التكاثر الجنسي
كان لدى شو وجهة نظر صائبة؛ فالتكاثر الجنسي هو أكثر العوامل المعروفة بثًّا للعشوائية في الجينات الناجحة، وربما كانت تلك القوة العشوائية هي التي أدَّتْ في المقام الأول إلى ظهور شخصية نابغة مثل شو أو ممثلة فاتنة مثل تلك المرأة. ولكن مثلما يقدر التكاثر الجنسي على هندسة توليفة ناجحة من الجينات وتجميعها، يمكن بنفس الدرجة ألا يحقق إلا تركيبة فاشلة أو مُخيِّبة للآمال. وقد وقعت منظمة سيئة السمعة، تُسمَّى «بنك نوبل للسائل المنوي»، في ذلك الفخ تمامًا؛ فهو بنك يجمع السائل المنوي للحاصلين على جوائز نوبل. فلما دُعِيَ عالم الكيمياء الحيوية جورج والد كي يتبرع بسائله المنوي للبنك باعتباره ممن فازوا بجائزة نوبل في الكيمياء، رفض قائلًا إنهم ربما كانوا بحاجة لأناس مثل أبيه، الذي كان خياطًا من المهاجرين الفقراء ولم يكن يفكر لحظة أنه سيخرج من صلبه ينبوع للعبقرية. واستطرد قائلًا: «ولكن بماذا جاء سائلي المنوي للعالم؟ لقد أنجبت ولدين، كانا مجرد عازفَيْ جيتار عاديين!» صحيح أن صفة العبقرية، أو الذكاء والألمعية بصفة عامة، قابلة للتوارث بالتأكيد (بمعنى أن الجينات الوراثية تؤثِّر على نتاج الإنجاب، ولا تحدِّد ماهيته بشكل مؤكد) إلا أن التكاثر الجنسي يجعل الأمر كله بمنزلة يانصيب لا يمكن التنبؤ بما سيُسفِر عنه.
معظمنا يشعر أن سحر الجنس (بوصفه صورة من صور التكاثر) يكمن في هذه القدرة تحديدًا على تحقيق التنوع والاختلاف، وإخراج كائن فريد من القبعة في كل مرة. ولكن بدراسة الأمر من منظور أحد أخصائيي علم الوراثة والرياضيات يكون من الواضح للغاية أن مراعاة التنوع لمجرد التنوع هو أمر غير محمود. فلماذا نخاطر بإفساد مزيج ناجح؟ لمَ لا نستنسخه وحسب؟ إن استنساخ شخصية فذَّة لامعة مثل موتسارت أو برنارد شو ربما يصدم مشاعر معظم الناس، معتبرين إياه تحدِّيًا للرب، وتلاعبًا بكائناته، وأنه مظهر خطر لغرور الإنسان وتفاخره بنفسه، وزهوه بقدراته التي منحه الرب إياها. ولكن هذا ليس ما يفكر به علماء الوراثة، فوجهة نظرهم أكثر التصاقًا بالدنيا؛ إذ يقولون إن ذلك التنوع غير المحدود وغير المحسوب، الذي يُحْدِثه الجنس، يمكن أن يؤدي بشكل مباشر إلى مشكلات البؤس والمرض، ثم الموت نتيجة لهما. أما الاستنساخ البسيط فلا يُنتظَر منه هذا. فالاستنساخ، عن طريق حفظ توليفات جينية تُوضَع في بوتقة الانتقاء، غالبًا ما يكون الرهان الأفضل.
ولنضرب مثالًا واحدًا: هو مرض أنيميا الخلايا المنجلية. هذا المرض مرض جيني (وراثي) خطير؛ إذ تلتوي خلايا الدم الحمر في شكل يشبه المنجل الصلب، الذي لا يمكنه أن ينضغط داخل الشعيرات الدموية الرفيعة. وينتج هذا المرض عن وراثة نسختين «معيبتين» من أحد الجينات. لماذا لا يقوم الانتقاء الطبيعي بطرد الجين المعيب؟ الإجابة هي أن وجود نسخة واحدة من هذا الجين المعيب أمر مفيد حقًّا! فإذا ورثنا نسخة «سليمة» وأخرى «معيبة» من أبوَيْنا، فلن تقتصر النتيجة على «عدم» معاناتنا أنيميا الخلايا المنجلية، بل إننا سنكون أيضًا أقل قابلية للإصابة بالملاريا، وهو مرض آخر يؤثر على خلايا الدم الحمراء؛ إذ إن وجود نسخة سيئة معيبة واحدة من جين الخلايا المنجلية يؤدي إلى تغيير طبيعة أغشية خلايا الدم الحمراء، بما يمنع دخول طفيليات الملاريا من خلالها، وذلك دون تحويل الخلايا إلى الشكل المنجلي الضار. والاستنساخ (أي التكاثر اللاجنسي) يمكنه توريث هذا النمط الجيني «المختلط» والمفيد في كل مرة، أما التكاثر الجنسي فيخلط (أو بالأحرى «يلخبط») الجينات عشوائيًّا دون هوادة. فإذا افترضنا أن كلا الأبوين لديه هذا النمط الجيني المختلط، فإن حوالي نصف عدد أطفالهما يرث هذا النمط الجيني، ولكن يتلقى الربع نسختين «معيبتين» من الجين؛ مما يتسبب في إصابته بأنيميا الخلايا المنجلية، بينما ينتهي الأمر بالربع الآخر بحصوله على نسختين «جيدتين» من الجين؛ مما يجعله مُعرَّضًا بدرجة عالية للإصابة بالملاريا، على الأقل إذا عاشوا في أي مكان من الأماكن الكبيرة من العالم التي تستوطن فيها بعوضة الأنوفيليس (التي تنقل المرض). وبتعبير آخر، فإن التنوع الكبير يعرض ما لا يقل عن نصف تعداد السكان لخطر الإصابة بأمراض خطرة؛ فالتكاثر الجنسي يمكن أن يُعَرِّض حياة البشر للخطر بشكل مباشر.
وهذا ليس العيب الوحيد للتكاثر الجنسي، بل في الواقع إن قائمة عيوبه وأضراره ينبغي أن تجعل أي شخص عاقل يُبْعِد عن عقله هذه الفكرة للأبد. ولقد ألَّفَ جاريد دياموند ذات مرة كتابًا بعنوان «لماذا يكون الجنس ممتعًا؟» ومن الغرابة أنه أغفل تقديم الإجابة. فلا بد أنه فكَّرَ أنها بديهية واضحة؛ فلو لم يكن الجنس ممتعًا، لَمَا أَقْبَل أحدٌ سليمُ العقل عليه، وربما لَمَا أَقْبَل الناس على الزواج، ومِنْ ثمَّ ما كنا أتينا إلى هذه الدنيا.
ولنتخيَّل الآن أن شو ألقى بحذره المعهود أدراج الرياح، وغامر بحظه للحصول على طفل ذي عبقرية وجمال. وسوف نتخيَّل أيضًا — ربما بشكل غير عادل، ولكن لغرض التوضيح — أن تلك الممثلة قد عاشت طبقًا للسمعة الشائعة (المشبوهة) عن مهنتها. من المرجح أنها أُصِيبَتْ بمرض تناسلي، وليكن الزهري وأن لقاءهما تمَّ قبل اكتشاف المضادات الحيوية، وقبل أن يفقد الزهري الكثير من تأثيره المخيف في نفوس أناس محطمين من جنود وموسيقيين وفنانين، الذين كانوا يترددون على نساء على شاكلتهم من نساء الليل. في ذلك العصر الماضي كانت الإصابة بمضاعفات الزهري المخيفة مثل الجنون — التي لحقت رموزًا مثل نيتشه وشومان وشوبرت — بمنزلة عقوبة حقيقية على الانغماس في الشهوات الجنسية. وفي تلك الأيام كانت العلاجات غير المجدية — مثل الزرنيخ أو الزئبق — مقاربة في أضرارها للمرض الأصلي. حتى كان يُقال في ذلك الزمن إن ليلةً يقضيها المرء في أحضان امرأة قد تنتهي به إلى قضاء باقي حياته مريضًا.
لكن دَعْنا نعود إلى شو، فلو كان قد واقَعَ الممثلةَ دون تحرُّز لكان من المحتمل أن ينتج طفلًا فيه أسوأ صفات والِدَيْه، وربما أدَّى به ذلك إلى المرض والجنون. إلا أن شو كان كذلك يتمتع ببعض المميزات بخلاف ظروف الكثيرين من الناس. فحينما غازلته تلك الممثلة، كان بالفعل غنيًّا ومشهورًا، فلم يكن محورًا للحكايات فحسب، ولكن — كما يقولون في الأسلوب الحديث — كان مغناطيسًا للآنسات صغيرات السن أيضًا. وإذا أذعن لغريزة الجنس فستجد جيناته أرضًا خصبة في تلك النسوة، ولن يُضطَر لملاقاة الهوان والعذاب اللذين يعانيهما الكثيرون في بحثهم عن الشريك المناسب أو أي شريك على الإطلاق.
لا أريد أن أدخل في نقاش عن التكاليف العالية للممارسة الجنسية؛ فمن الواضح أن هناك تكلفة ما للعثور على شريك، ومن ثم لنَقْل الجينات إلى الطرف الآخر. ولا أعني التكلفة المالية — وإن كان هذا ملاحظًا تمامًا لكل من يواعد فتاة للمرة الأولى، أو يسعى جاهدًا لإنهاء إجراءات طلاقه — ولكن هناك تكلفة يتعذر تعويضها فيما أُهدِر من وقت وعواطف، وتظهر جلية في عمود «القلوب الوحيدة» بالصحف والمجلات، وفي انتشار صفحات المواعدة على الإنترنت. إلا أن التكلفة الحقيقية، وهي التكلفة البيولوجية، يصعب إدراكها في المجتمعات الإنسانية؛ لأنها مدفونة تحت طبقات من الثقافة وآداب السلوك. وإذا كنت تشكك في وجود تكلفة بيولوجية، فلنفكر فقط في ذيل الطاووس، بريشه الرائع، الذي هو رمز لخصوبة الذكر ولياقته، فإنه بلا شك يُمثِّل — بحجمه الكبير وألوانه الخلابة — مشكلة تعوق بقاءه على قيد الحياة، ونفس الأمر ينطبق على سائر الطيور الكثيرة التي تستعرض جمالها الرائع وألوانها الزاهية. ولعل أقوى مثال من بين كل الأمثلة هو طائر الطنان؛ فهذا الطائر العجيب يَصِل عدد أنواعه إلى ٣٤٠٠ نوع جميعها تدفع ثمن العثور على شريك للحياة، ليس للطائر الطنان نفسه (وإن كان هذا الأمر صعبًا عليه بلا شك) ولكن للنباتات المزهرة.
بسبب ثباتها في الأرض بفعل الجذور، قد تكون النباتات أبعد الكائنات عن المخيلة من حيث الاهتمام بالجنس، ومع ذلك فالسواد الأعظم منها يهتم بالجنس اهتمامًا بالغًا، باستثناء الهندباء البرية، ومعها قليل من الأنواع الأخرى، التي تُضرِب عن الجنس صفحًا. أما باقي النباتات فتجد لها سبيلًا لذلك، وأروعها تلك النباتات المزهرة ذات الجمال الخلاب التي ملأت العالم منذ حوالي ٨٠ مليون عام، حوَّلَتْ خلالها الغابات بلونها الأخضر الرتيب إلى لوحة مفعمة بألوان الأزهار المبهجة التي نراها اليوم. ومع أن أول نشوء لها كان في أواخر العصر الجوراسي، منذ نحو ١٦٠ مليون عام، فإن انتشارها في أنحاء العالم تأخَّرَ كثيرًا، ثم ارتبط في نهاية الأمر بظهور الحشرات اللاقحة، مثل النحل. وتُعَدُّ الأزهار تكلفة إضافية للنبات؛ إذ يتعيَّن عليها أن تجتذب الحشرات اللاقحة بألوانها الفاقعة وأشكالها الجميلة، وأن تنتج رحيقًا حلوًا لتشجع الكائنات اللاقحة على زيارتها (يحتوي رحيق الأزهار على ربع وزنه سكرًا)، وأن تتوزع في الحقول بدقة وبراعة؛ فلا تكون شديدة التقارب (وإلا زاد معدل التلقيح الذاتي وصار التكاثر الجنسي بلا معنى) ولا شديدة التباعد (حتى لا تنفر الكائنات اللاقحة فلا تأتي لأداء مهمتها). وما إن يستقر النوع الزهري على كائن لاقح معين حتى يتطوَّرا معًا يدًا بيد، وكلاهما يفرض عبئًا وكلفة على الآخر ويمنحه فوائد بالمقابل. ولا تُوجَد كلفة أو ثمن أفدح مما يدفعه ذلك الطائر الضئيل المسمى بالطنان من أجل الحياة الجنسية للنباتات الساكنة.
هذا الطائر الطنان يجب أن يكون ضئيلًا، فلو كان أكبر حجمًا لما تمكَّن من التحويم دون أن ينتقل من مكانه في حلق الزهرة، مرفرفًا بجناحيه بمعدل ٥٠ ضربة في الثانية. وهذا الجمع بين الحجم الدقيق لأصغر الطيور جميعًا وبين معدل أيضه الهائل والضروري لكي يرفرف باستمرار يعني أن الطيور الطنانة ينبغي عليها أن تتزود بالوقود باستمرار تقريبًا. إنها تقوم باستخراج أكثر من نصف وزنها رحيقًا كل يوم، وتزور من أجل ذلك مئات الزهور. وإذا اضطرت للتوقُّف عن الأكل مدة طويلة نسبيًّا (أكثر من ساعتين)، فإنها تسقط مغشيًّا عليها وتروح في حالة سبات تشبه الغيبوبة، يتدهور خلالها معدلا دقات القلب والتنفس إلى أقل بكثير مما يكون أثناء النوم الطبيعي، بينما تنخفض درجة الحرارة الأساسية لأجسامها بشدة. فكأن تلك الطيور الضئيلة قد غَوَتْها الأزهار برحيقها اللذيذ فارتبطت بها ارتباطًا لا ينفصم، وهي تُحلِّق بلا كلل من زهرة إلى زهرة، وتوزِّع حبوب اللقاح أثناء ذلك، ولو حرمت الرحيق لسقطت في غيبوبة قد تنتهي بموتها.
فإذا كان كل هذا ليس سيئًا بدرجة كافية، فلا يزال هناك المزيد من الغموض يكتنف الجنس. فحتى كلفة العثور على شريك لا تُعَدُّ شيئًا يُذكَر إذا قُورِنَتْ بكلفة الاحتفاظ بهذا الشريك؛ فتلك هي الكلفة المزدوجة المشهورة للجنس. وإن المناصرات الغاضبات لحقوق المرأة اللاتي ينتقدن مجرد وجود الرجال في هذه الدنيا يستندن إلى منطق يبدو معقولًا من الظاهر. فظاهريًّا، يُعَدُّ الرجال تكلفة ثقيلة حقًّا، والمرأة التي حلت مشكلة التوالد البِكري تستحق التقدير. وإذا كان ثمة رجال قليلون يحاولون تبرير وجودهم بتحمل أعباء رعاية الأطفال وتربيتهم، وتوفير الاحتياجات المادية، فإن هذا لا ينطبق على كثير من تلك الكائنات الأقل مستوى، سواء الذكور من البشر أو غيرهم من الكائنات؛ إذ يهرب أغلبهم من تحمُّل المسئوليات. ومع ذلك فلا تزال الأنثى الحامل تلد ذكورًا وإناثًا بنِسَب متساوية. وهكذا يضيع خمسون بالمائة من جهودها هباء في إنجاب وتنشئة ذكور عاقين في هذا العالم، يساهمون في إطالة أمد المشكلة. وأي أنثى، من أي نوع حي، وليس لها ذكر يرعاها، تستطيع أن تمضي في حياتها دون ذكور على الإطلاق وعلى طول الأمد، من شأنها أن تضاعف نجاحها التكاثري. ومن شأن سلالة من الإناث اللاتي تولدن بالاستنساخ أن تتضاعف عدديًّا في كل جيل، بحيث تمحو شركاءها الجنسيين (من الذكور) من مجموع السكان على مدى أجيال قليلة. ومن منظورٍ حسابيٍّ بَحْتٍ، تستطيع أنثى واحدة خاضعة للاستنساخ أن تحل محل عدد من السكان يصل إلى مليون من الذكور القادرين على التكاثر على مدى خمسين جيلًا فقط.
تدبَّرْ هذا الأمر على مستوى الخلايا. ففي التكاثر الاستنساخي، أو التوالد البكري، تنقسم الخلية إلى اثنتين. أما في التكاثر الجنسي فيحدث العكس؛ إذ تلتحم خلية ذكرية (الحيوان المنوي) بخلية أنثوية (البويضة) لإنتاج خلية واحدة متكاملة (البويضة المخصبة). وهكذا نجد أن خليتين جنسيتين قد أنتجتا خلية واحدة؛ أي إنه تضاعف عكسي. وتظهر التكلفة المضاعفة للتكاثر الجنسي جليًّا في أعداد الجينات. فكل من الخليتين الجنسيتين، الحيوان المنوي والبويضة، ينقل ٥٠ بالمائة فقط من الجينات حينما تندمج الخليتان الجنسيتان. وهكذا تتم استعادة النصيب الكامل من الجينات حينما تندمج الخليتان الجنسيتان. في هذا السياق، فإن الكائن الذي يجد طريقة لنقل ١٠٠ بالمائة من جيناته إلى جميع ذريته، عن طريق الاستنساخ، تكون لديه ميزة مضاعفة. ونظرًا لأن كل مستنسخ ينقل عددًا من الجينات يعادل ضعف عدد ما ينقله الكائن الممارس للجنس، فإن جينات المستنسخين لا بد أن تنتشر سريعًا بين مجموع السكان، بحيث تحل في نهاية الأمر محل جينات من يتكاثرون جنسيًّا.
بصفة عامة، ثمة عوامل كثيرة تحتشد ضد الجنس بصفته طريقة للتكاثر. ربما يفكر عالم بيولوجيا مبدع في ظروف خاصة فريدة قد يكون فيها الجنس مفيدًا، ولكن أغلبنا، في مواجهة هذا الرأي، يشعر أنه مجبر على إغفال الجنس باعتباره شيئًا مثيرًا للاستغراب. فإنه يعرضنا لتكلفة مضاعفة معروفة، مقارنة بالتوالد البكري، وهو ينقل جينات طفيلية أنانية يمكنها أن تصيب جينومات بأكملها بالعجز، وهو يفرض عبئًا للعثور على شريك؛ وهو ينقل أشد الأمراض التناسلية إثارة للفزع، كما أنه يدمر، بشكل منتظم، جميع التوليفات الجينية الأكثر نجاحًا.
ولكن بالرغم من كل ذلك، فإن ما يثير الشعور بالإحباط أن التكاثر الجنسي يكاد يكون عالميَّ الانتشار بين جميع صور الحياة المُعقَّدة. فجميع حقيقيات النوى تقريبًا (أي المكونة من خلايا بها نوى؛ انظر: الفصل الرابع) تنغمس في التكاثر الجنسي في وقتٍ ما من دورات حياتها، والغالبية العظمى من النباتات والحيوانات تُعتبَر جنسية إجباريًّا، بمعنى أنها تعجز عن التكاثر إلا عن طريق الجنس. وليس هذا هو الاستثناء؛ فالأنواع غير الجنسية التي تتكاثر بالاستنساخ بشكل عملي نادرة بالتأكيد، ولكن بعضها، مثل الهندباء البرية، موجود أمام أعيننا. والحقيقة العجيبة أن كل هذه المستنسخات تقريبًا تُعتبَر أنواعًا حديثة نسبيًّا؛ إذ يميزها أنها انبثقت منذ آلاف وليس ملايين السنين. إنها أصغر الفروع في شجرة الحياة، ومحكوم عليها بالفناء. فكثير من الأنواع تعود إلى الاستنساخ، ولكن لا تكاد تصل إلى سن ناضجة في فترة حياتها كنوع حي؛ إذ تموت دون سبب واضح. ولا يعرف سوى عدد قليل من المستنسخات القديمة، وهي أنواع نشأت منذ عشرات الملايين من السنين وتمخضت عنها مجموعات كبيرة من الأنواع ذات الصلة. والأنواع التي فعلت هذا، مثل حيوانات مجهرية تُسمَّى الدوارات العَلَقيَّة، صارت مشهورة بيولوجيًّا بوصفها استثناءات غير جنسية في عالم مغرم بالجنس، وكأنها رهبان يمرون بحي للبغاء مرور الكرام.
•••
كان داروين من أوائل مَن تأمَّلوا فوائد الجنس، وكان براجماتيًّا كما هو العهد به دائمًا. فقد رأى الفائدة الرئيسية للتكاثر الجنسي باعتباره نشاطًا تهجينيًّا تكون فيه ذرية أبوين لا قرابة بينهما أصلًا أقوى وأصح وأنسب للحياة وأقل عرضة لمعاناة أمراض وراثية — مثل الهيموفيليا أو مرض تاي-ساكس — مما لو كان بين الأبوين صلة قرابة. الأمثلة كثيرة، وما على المرء سوى أن ينظر إلى الملكيات الأوروبية القديمة والمنتمين إليها مثل آل هابسبورج ليجد أناسًا مرضى ومعتوهين ومجانين، ويدرك الآثار الضارة للإسراف في زواج الأقارب. والجنس بالنسبة لداروين كان كله يعني تزاوج الأباعد وليس الأقارب، وإن كان هذا لم يمنعه من أن يتزوج ابنة عمه الأولى «رمز الفضيلة» إيما ويدجوود، التي أنجب منها عشرة أطفال.
لكلام داروين فضيلتان رائعتان، ولكن يعيبه جهله التام بالجينات. والفضيلتان الرائعتان هما أن النشاط التهجيني يكون مفيدًا بصفة مباشرة وأن الفوائد تتركز على المستوى الفردي؛ فتزاوج الأباعد يكون أكثر قابلية لإنتاج أطفال أصحاء، فلا يموتون في طفولتهم، ومن ثم يبقى عدد أكبر من الجينات إلى الجيل التالي. وهو تفسير دارويني حسن له أهمية أوسع سوف نعود إليه فيما بعد. (الانتقاء الطبيعي يعمل هنا على مستوى الأفراد وليست المجموعات الكبيرة.) المشكلة أن هذا يُعَدُّ بحق تفسيرًا لتزاوج الأباعد وليس للجنس. ومن ثم فإنها ليست حتى نصف القصة.
توجَّبَ على الناس الانتظار عدة عقود حتى يصلوا إلى الفهم السليم لآليات الجنس، حينما أُعِيدَ اكتشاف الملاحظات المشهورة للراهب النمساوي جريجور مندل عن خصائص نبات البازلاء في مستهل القرن العشرين. ويجب أن أعترف بأنني حينما كنت طالبًا بالمدرسة كنت دائمًا ما أجد قوانين مندل فجَّةً لدرجة الغموض، وهذا الأمر أتذكره الآن مصحوبًا بإحساس طفيف بالخجل. وحتى في هذه الحالة، أظن أن من الأسهل علينا أن نفهم أوليات علم الجينات إذا أغفلنا قوانين مندل كلية؛ فلقد تَمَّ شرحها بغير معرفة حقيقية لتركيبة الجينات والكروموسومات. دَعْنا ندخل مباشرة إلى التفكير في الكروموسومات باعتبارها أشرطة من الجينات، وحينئذٍ سنرى بوضوح ما يحدث في الجنس، ولماذا يُعتبَر تفسير داروين قاصرًا.
إن الخطوة الأولى في التكاثر الجنسي هي اندماج خليتين جنسيتين — الحيوان المنوي والبويضة — كما رأينا سابقًا. وكلٌّ منهما يأتي لعملية الاندماج بمجموعة واحدة من الكروموسومات؛ مما يعطي البويضة المخصبة مجموعتين كاملتين. ومن النادر أن تكون النسختان متطابقتين تمامًا، ويمكن أن تخفي النسخة الجيدة آثار النسخة المعيبة. هذا هو أساس النشاط التهجيني؛ فتزاوج الأقارب يرفع اللثام عن أمراض مخفية؛ لأنك تكون أكثر عرضة لوراثة نسختين «معيبتين» من نفس الجين إذا كان والداك قريبين، ولكن هذا لا يُعتبَر في الحقيقة عيبًا لزواج الأقارب وليس ميزة للتكاثر الجنسي. ولكن ميزة النشاط التهجيني تكمن في الحصول على نسختين مختلفتين قليلًا من كل كروموسوم بحيث يمكن أن «تغطِّي» كلٌّ منهما الأخرى، إلا أن هذا ينطبق على المستنسخات التي تكون لديها نسختان مختلفتان من كل كروموسوم بالقَدْر الذي يحدث للكائنات الجنسية. وهكذا، فإن النشاط التهجيني تأتي فائدته من الحصول على مجموعتين مختلفتين من الكروموسومات، وليس من التكاثر الجنسي في حد ذاته.
أما الخطوة الثانية — التي هي تجديد الخلايا الجنسية، وبكلٍّ منها نسخة واحدة من كل جين — فهي التي تُعتبَر مفتاح التكاثر الجنسي، والأكثر صعوبة في التفسير. تُعرَف هذه العملية باسم «الانقسام الاختزالي»، الذي يبدو من الظاهر رائعًا ومحيرًا في الوقت نفسه. فهو رائع؛ لأن الكروموسومات ترقص جذلًا حينما تجد شركاءها، وتحتضنها بقوة لفترة ما، ثم تنطلق مهتاجة نحو القطبين المتقابلين من الخلية؛ لكي تؤدي رقصتها بمثل هذا الجمال والإتقان، لدرجة أن رواد العمل المجهري كان من الصعب عليهم أن يكتموا شعورهم بالذهول وهم يعدُّون أصباغهم المجهرية، المرة تلو الأخرى ليصبغوا الكروموسومات الراقصة بها، ويحملقون فيها مشدوهين وكأنها صور فوتوغرافية قديمة الشكل لفرقة رقص أكروباتي في ذروة نشاطها. والانقسام الاختزالي مُحيِّر؛ لأن خطوات الرقص فيه تكون أكثر تعقيدًا مما كان يتوقعه أي شخص من تلك الأم الرءوم الأكثر عطاء بين واضعي الألحان؛ أمُّنا الطبيعة.
والانقسام الاختزالي يبدأ بخلية لديها نسختان من كل كروموسوم، وفي النهاية تخصص نسخة واحدة لكل خلية جنسية. وهذا أمر منطقي؛ فإذا كان التكاثر الجنسي يعمل على دمج خليتين معًا لإنتاج فرد جديد لديه مجموعتان من الكروموسومات فمن الأسهل كثيرًا لو حصلت الخليتان الجنسيتان على مجموعة لكلٍّ منهما. وما يثير التعجب أن الانقسام الاختزالي يبدأ بمضاعفة جميع الكروموسومات لإنتاج أربع مجموعات لكلٍّ من الخليتين. وهذه يحدث بينها حينئذٍ خلط وملاءمة — والمصطلح التقني هو أنها «تتأشب» أي يُعاد تجميعها — لإنتاج أربعة كروموسومات جديدة تمامًا، وكل كروموسوم منها يأخذ قطعة من هنا وقطعة من هناك، وهذا التأشيب هو اللب الحقيقي للجنس؛ ومعناه أن الجين الذي جاء من أبيك من قبل يجد نفسه الآن مستقرًّا على نفس الكروموسوم الذي يُوجَد عليه جين قادم من أمك. وقد يتم تكرار هذا العمل البارع عدة مرات على كل كروموسوم؛ لإعطاء تسلسل من الجينات التي تكون بالترتيب التالي، على سبيل المثال: أبوي – أبوي – أمي – أمي – أمي – أبوي – أبوي. وتصير الكروموسومات المتكونة حديثًا الآن فريدة في كيانها؛ فهي لا تختلف بعضها عن بعض فحسب، بل تختلف أيضًا — بصفة مؤكدة تقريبًا — عن أي كروموسوم آخر كان موجودًا من قبل (إذ تكون عمليات التحويل عشوائية، وتتم عادة في أماكن مختلفة). وفي النهاية تنقسم الخلية إلى نصفين، وتنقسم الخليتان الوليدتان مرة أخرى لإنتاج «علَقة» مكوَّنة من أربع خلايا «حفيدة»، كلٌّ منها مُزوَّد بمجموعة واحدة من الكروموسومات الفريدة؛ وهذا هو الجنس.
من الواضح إذن أنَّ ما يفعله التكاثر الجنسي هو خلط الجينات لصياغة تراكيب جديدة، وهي توليفات ربما لم تُوجَد من قبل قط. وهو يفعل هذا بطريقة منظمة عَبْرَ الجينوم بكامله، وهذا يشبه خلط رزمة من أوراق اللعب مع تفكيك المجموعات السابقة للتأكد من حصول جميع اللاعبين على نصيب عادل إحصائيًّا من تلك الأوراق. والسؤال هو: لماذا؟
•••
الإجابة التي تبدو معقولة بالبديهة لمعظم علماء الأحياء، حتى اليوم، تعود إلى أوجست فايسمان، المفكر الألماني المبدع وخليفة داروين، الذي افترض في عام ١٩٠٤ أن التكاثر الجنسي يُولِّد تباينًا أكبر لكي يؤدي الانتقاء الطبيعي عمله عليه. كانت إجابته مختلفة جدًّا عن إجابة داروين؛ إذ افترضت أن فائدة التكاثر الجنسي ليست للفرد ولكن لمجموع السكان. وقال فايسمان إن التكاثر الجنسي يُحتمَل أن ينتج توليفات «جيدة» أو «معيبة» من الجينات بنفس الدرجة؛ فبينما قد تكون التوليفات الجيدة مفيدة بشكل مباشر لحاملها، فإن التوليفات المعيبة تكون ضارة بشكل مباشر أيضًا. وهذا يعني أنه لا تُوجَد ميزة خالصة ولا عيب خالص في التكاثر الجنسي بالنسبة للأفراد من أي جيل. ومع هذا، فإن المجتمع ككلٍّ يستفيد منه. وكان هذا ما افترضه فايسمان على أساس أن التوليفات الضارة يتم التخلص منها بفعل الانتقاء الطبيعي، تاركًا في نهاية الأمر (بعد أجيال كثيرة) التوليفات الجيدة في الأغلب الأعم.
بطبيعة الحال، فإن التكاثر الجنسي في حد ذاته لا يدخل أي تنويع في المجموعة السكانية. فدون حدوث طفرات، لا يفعل التكاثر الجنسي سوى خلط الجينات الموجودة بالفعل، مزيلًا الجينات المعيبة من طريقه، وبهذه الطريقة فإنه يُقَيِّد التنويع. ولكن إذا أُضِيفَ القليل المتناثر من الطفرات الجديدة إلى المعادلة، كما فعل عالم الوراثة الإحصائية الكبير رونالد فيشر في عام ١٩٣٠، فإن ميزات التكاثر الجنسي تزداد حدة ووضوحًا. ونظرًا لأن الطفرات تُعتبَر أحداثًا نادرة، فقد افترض فيشر أن الطفرات المختلفة يُحتمَل أن تحدث بدرجة أكبر في أشخاص مختلفين. وبنفس الطريقة، يكون من المحتمل بدرجة أكبر أن يضرب البرق شخصين مختلفين بدلًا من أن يضرب شخصًا واحدًا مرتين (وإن كان كلاهما — أي الطفرات والبرق — أحيانًا ما يضربان نفس الشخص مرتين).
وفيما بعد جاء عالم الوراثة الأمريكي هيرمان مولر، الذي حصل على جائزة نوبل في الفسيولوجيا أو الطب عام ١٩٤٦ عن اكتشافه أن الأشعة السينية تُسبِّب تطافر الجينات؛ ليعمل على تطوير افتراض فيشر ليشمل الطفرات الضارة. وقد عرف مولر — من خلال تجاربه على ذباب الفاكهة وإحداثه، شخصيًّا، آلافَ الطفرات فيها — أكثر من أي شخص آخر في عصره أن أغلب الطفرات الجديدة تكون ضارة. وقد واجه مولر سؤالًا فلسفيًّا أعمق مفاده: كيف يمكن أن يخلص مجتمع استنساخي نفسه من تلك الطفرات الضارة؟ وللإجابة عن هذا السؤال، قال مولر: تخيَّلْ أن كل الذباب تقريبًا حدث فيه طفرة واحدة أو اثنتان، تاركًا عددًا قليلًا فقط من الأفراد «النظيفين» جينيًّا. فماذا سيحدث بعد ذلك؟ في مجتمع استنساخي صغير بعض الشيء، لا يكون ثمة مفر من حدوث انخفاض لا رجعة فيه في الصلاحية يتم تشبيهه بالسقاطة. المشكلة هي أن احتمالية التكاثر لا تعتمد على الكفاءة الجينية فحسب، بل تعتمد أيضًا على دور الحظ، وعلى أن تكون في المكان الصحيح، في الوقت الصحيح. ولتتصوَّرْ ذبابتين، إحداهما لديها طفرتان والأخرى بدون طفرات. ثم يحدث أن تجد الذبابةُ الطافرةُ نَفْسَها وسط طعام وفير، بينما تتضوَّر الذبابة الأخرى «النظيفة» جوعًا؛ فمع أن الذبابة الطافرة أقل كفاءة، فإنها وحدها هي التي ستعيش حتى تنتقل جيناتها إلى ذريتها. والآن تخيَّلْ أن الذبابة الجائعة كانت آخر ذبابة من نوعها، أي إنها الذبابة غير الطافرة الوحيدة المتبقية؛ فعلى هذا يكون الآن لدى كل ذبابة أخرى تعيش ضمن مجتمع الذباب طفرة واحد على الأقل. فما لم يحدث لإحدى الذبابات الطافرة تحوُّل رجوعيٌّ، وهو حدث شديد الندرة، فإن مجتمع الذباب ككلٍّ سيصير الآن أقل كفاءة بمقدار درجة عمَّا كان في السابق. ويمكن تكرار نفس السيناريو المرة تلو الأخرى، وكل مرة تقل الكفاءة وكأنها تكتكة في السقاطة. وفي نهاية الأمر يحدث تدهور شديد لمجتمع الذباب بكامله لدرجة الانقراض، وهو تطوُّر يُعرَف الآن باسم «سقاطة مولر».
تعتمد «سقاطة مولر» على الحظ؛ فإذا كان مجتمع السكان كبيرًا يَقِلُّ دور الحظ، وتكون الاحتمالية الإحصائية أن يبقى أنسب الأفراد أحياء. أي إنه في المجتمع كبير العدد يُلغى دور الحظ الكبير، وإذا كانت سرعة التكاثر أكبر من المعدل الذي يحدث به تراكم الطفرات الجديدة، فإن المجتمع ككلٍّ يكون آمنًا من تأثير السقاطة. من ناحية أخرى، إذا كان مجتمع السكان صغيرًا أو إذا كان معدل التطافر عاليًا فإن تأثير السقاطة يعمل. وفي هذه الظروف يبدأ المجتمع المستنسخ يذوي ويضمحل، وتتراكم فيه الطفرات بشكل نهائي لا رجعة فيه.
التكاثر الجنسي هو طوق النجاة؛ لأنه يستطيع أن يُعِيد تشكيل الأفراد غير المعيبين بأن يأتي بجينات غير طافرة ويضمها في نفس الفرد. وبنفس الطريقة إذا تعطَّلَتْ سيارتان مثلًا — ولْنَقُل إن في إحداهما صندوق تروس معيب، وفي الأخرى مُحَرِّك تالف، وباستخدام تشبيه جون ماينارد سميث — فإن التكاثر الجنسي يشبه ميكانيكيًّا يقوم بتركيب سيارة صالحة للاستخدام بتجميع الأجزاء العاملة من السيارتين. ولكن التكاثر الجنسي يختلف عن الميكانيكي الذكي في كونه يقع في مشكلة تجميع الأجزاء التالفة أيضًا لينتج حينئذٍ كومة معطَّلة من الخردة. وبفعل التعادل، تُلغى الفوائد الفردية للتكاثر الجنسي على مَرِّ الزمان بفعل ما يحدث من ضرر فردي في المقابل.
إلا أن هناك مهربًا واحدًا فقط من هذا المصير التعادلي للجنس، ورَدَ ضمن افتراض قدَّمَه في عام ١٩٨٣ عالِمُ الوراثة التطورية الروسي الداهية أليكسي كوندراشوف، الذي صار الآن أستاذًا بجامعة ميشيجان الأمريكية. حصل كوندراشوف على درجته العلمية في علم الحيوان في العاصمة الروسية موسكو قبل أن يصبح باحثًا نظريًّا في مركز بوشينو للأبحاث، وكانت قدرات الكمبيوتر هي التي مكَّنَتْه من التوصل إلى نتائجه العلمية المذهلة عن التكاثر الجنسي. تتضمن نظريتُه افتراضين جريئين، لا يزالان يثيران جدلًا كبيرًا بين المهتمين بالنشوء والتطور. ويشير أولهما إلى أن معدل التطافر أعلى مما كان يظن معظم الناس؛ لكي تؤدي نظرية كوندراشوف مهمتها، يجب أن تحدث واحدة أو أكثر من الطفرات الضارة في كل شخص من كل جيل. والافتراض الثاني هو أن أغلب الكائنات تكون مقاومة — تقريبًا — لتأثيرات الطفرات المفردة؛ فإننا لا نبدأ فعلًا في التدهور في مستوى الكفاءة واللياقة إلا حينما نَرِث عددًا كبيرًا من الطفرات في نفس الوقت. وقد يحدث هذا، على سبيل المثال، إذا كان الجسم يتمتَّع بفائض ما. ومثلما يمكن أن يحدث للبعض منا إذا فَقَدَ إحدى كليتيه، أو إحدى رئتيه، أو إحدى عينيه (إذ يستمر العضو السليم في أداء وظيفته لصالح الجسم)، فعلى مستوى الجينات كذلك تُوجَد درجة من التراكب في الوظيفة؛ إذ يمكن أن يؤدِّي أكثر من جين واحد نفس الشيء، وهو ما يُخفِّف العبء والضرر عن الجسم ككلٍّ ضد التلف الشديد. وإذا كان من الصحيح حقًّا أن الجينات يمكن أن يؤدِّي بعضها مهام بعضٍ بهذه الطريقة، فإن حدوث طفرة واحدة لن يكون كارثيًّا، وبهذا يمكن أن تكون نظرية كوندراشوف فعَّالة.
كيف يفيدنا هذان الافتراضان؟ أما عن الافتراض الأول — وهو ارتفاع معدل التطافر — فيعني أن المجتمعات المستنسخة لن تكون أبدًا في أمان من سقاطة مولر، بل ستتعرض لا محالة للبلى والانحلال، وستعاني في نهاية الأمر من حالة «انفجار في الطفرات». وأما الافتراض الثاني فأبرع من ذلك؛ إذ يعني أن التكاثر الجنسي بإمكانه أن يتخلَّص من أكثر من طفرة واحدة في الحال. وقد عَقَد مارك ريدلي قياسًا رائعًا، شبَّهَ فيها الاستنساخ والتكاثر الجنسي بالعهدين القديم والجديد من الإنجيل، على الترتيب. إذ قال إن الطفرات هي مثل الخطيئة؛ فإذا وصل معدل التطافر إلى طفرة واحدة لكل جيل (وهذا يقابل القول إن كل ابن آدم خطاء)؛ فحينئذٍ يكون السبيل الوحيد للخلاص من الخطيئة في مجتمع استنساخي هو أن تمحو المجتمع كله تمامًا بأن تغرقه بالطوفان، أو تحرقه بالنار والكبريت، أو يتفشَّى فيه الطاعون. وعلى العكس من هذا، يمكن أن تكدِّس الكائنات الجنسية عددًا من الطفرات بدون أضرار (وصولًا إلى نقطة اللاعودة)؛ ومن ثم فإن التكاثر الجنسي لديه القدرة على تجميع عدد كبير من الطفرات في كلٍّ من الأبوين السليمين، وأن يركزها كلها في طفل واحد. وهذا ما يمكن تسميته طريقة العهد الجديد؛ إذ يقول ريدلي إن المسيح تعذَّب وتعرَّض للقتل؛ لأنه كان يجمع أوزار البشر، وكذلك التكاثر الجنسي؛ إذ يمكن أن يضم الطفرات المتراكمة لمجتمعٍ ما معًا في كبش فداء واحد، ثم يذبحه.
وقد استنتج كوندراشوف أن التكاثر الجنسي وحده يمكنه أن يمنع انفجار الطفرات في الكائنات المعقَّدة الكبيرة. والنتيجة الطبيعية الحتمية هي أن الحياة المعقَّدة لا تكون ممكنة بغير التكاثر الجنسي، وهو استنتاج يثير الإلهام في النفوس، ولكن لا يمكن قبوله من جميع الأطراف. فما زالت المجادلات تنشب عن كلا افتراضَيْ كوندراشوف، وليس من السهل قياس معدل التطافر ولا التفاعلات التي تحدث بين الطفرات المختلفة بشكل مباشر. وإن كان هناك أي إجماع فهو على أن النظرية قد تكون صحيحة في قليل من الأحوال، وأن الافتراضين كثيرًا ما يكونان خطأ بدرجة تجعلهما لا يُبرِّران ذلك الكمَّ الهائلَ من التكاثر الجنسي الذي يجري في العالم. كما لا تُفَسِّر نظرية كوندراشوف منشأ التكاثر الجنسي لدى الكائنات وحيدة الخلية البسيطة التي لا تقلق بشأن كونها كبيرة أو مُعقَّدة.
•••
وهكذا، فإن التكاثر الجنسي ينفع المجتمعات بأن يأتي بتجميعات مفيدة من الجينات، وبأن يتخلص من التجميعات غير المفيدة. وعلى مدى النصف الأول من القرن العشرين كانت تلك القضية تُعتبَر محسومة تقريبًا، وإن كان السير رونالد فيشر قد أعرب عن بعض التحفظات بخصوص نظريته هو شخصيًّا. وبصفة عامة، كان فيشر — مثل داروين — يعتقد أن الانتقاء الطبيعي يؤثِّر على الأفراد بوصفهم أفرادًا، ولا يعمل لصالح النوع ككلٍّ. إلا أنه وجد نفسه مجبرًا على أن يستثني عملية إعادة تجميع الجينات (التأشيب) التي يمكن تفسيرها على أنها نشأت لصالح النوع وليس لصالح الفرد. وصحيح أن نظرية كوندراشوف هي في صالح غالبية الأفراد، وإن كانت تضحِّي بأحد الأفراد بين الحين والحين، ولكن حتى في هذه الحالة فإن الفوائد المباشرة للتكاثر الجنسي لا يمكن الشعور بها إلا بعد أجيال كثيرة. كما أن هذه الفوائد لا تمس الأفراد بالفعل، بالمعنى التقليدي على الأقل.
كان الفتيل الذي أشعله فيشر بطيء الاشتعال، ولكن القنبلة الموقوتة انفجرت في النهاية في منتصف عقد الستينيات، حين بدأ التطوريون التشبث بأفكار الجينات الأنانية ومفارقة السلوك الإيثاري. ظهرت بعض الأسماء الكبيرة في نظرية التطور؛ مثل: جورج سي ويليامز، وجون ماينارد سميث، وبيل هاملتون، وروبرت تريفرز، وجراهام بل، وريتشارد دوكينز؛ ليضطلعوا بالمشكلة. ولقد صار واضحًا أن السلوك الإيثاري يندر في عالم الأحياء؛ فنحن حقًّا — كما قال دوكينز — دمى عمياء لجينات أنانية لا تعمل في الغالب إلا لمصالحها الشخصية. وقد كان السؤال، من وجهة النظر الأنانية تلك هو: لماذا لا يفوز المحتالون على الدوام؟ ولماذا يضحِّي أي فرد بأفضل مصالحه الآن (وهو التكاثر بالاستنساخ) من أجل فائدة (الصحة الجينية) لا يمكن أن يكتسبها نوعه إلا في مرحلة بعيدة ما في المستقبل؟ فبالرغم من كل ما نتمتع به من بصائر، فإننا بوصفنا بشرًا نجد صعوبة في العمل من أجل مصالح ذرياتنا في المستقبل القريب، ولتفكر فيما يحدث من تدمير الغابات، وارتفاع حرارة الأرض، والانفجار السكاني. فكيف إذن يمكن أن يعلي التطور الأناني الأعمى (حسبما يقولون) فوائد التكاثر الجنسي طويلة الأمد للناس فوق مستوى تكاليفه وأعبائه المضاعفة قصيرة الأمد، بكل عيوبها الواضحة الحاضرة؟
تُوجَد إجابة واحدة ممكنة، هي أن استمرار وجود التكاثر الجنسي إنما راجع إلى صعوبة أن يختفي بفعل عملية تطوُّر عكسية. وإذا كان الأمر كذلك فإن الكلفة قصيرة الأمد للتكاثر الجنسي هي أمر غير قابل للمناقشة. تتسم هذه الحجة بقدر من الوجاهة. كما ذكرت سابقًا فإن جميع الأنواع المستنسخة نشأت مؤخرًا، أي منذ آلاف، وليس ملايين السنين. وهذا هو بعينه نوع النمط الذي نتوقعه إذا كانت الأنواع المستنسخة تنشأ بصفة نادرة، ثم تستمر فترة وتضمحل بعدها باضطراد إلى أن تنقرض على مدى آلاف السنين. وبالرغم من «ازدهار» الأنواع اللاجنسية أحيانًا فإن التكاثر اللاجنسي لم يحل محل التكاثر الجنسي بالكامل إلا نادرًا؛ لأننا في أي لحظة بعينها لا نجد إلا القليل من الأنواع اللاجنسية حولنا. وفي الواقع إن هناك بعض الأسباب القوية التي جعلت من الصعب على الكائنات الجنسية أن تنتقل إلى التكاثر بالاستنساخ. ففي الثدييات على سبيل المثال، تُوجَد ظاهرة تُعرَف باسم الدمغ (يتم بمقتضاها تعطيل بعض الجينات الأمومية أو الأبوية) وتعني أن أي ذرية يجب أن ترث الجينات من كلا الأبوين، وإلا فلن تكون قابلة للحياة. ويبدو من العسير من الناحية التقنية التخلي عن ذلك الاعتماد على وجود جنسين؛ فلم يحدث أن تخلَّى حيوان ثديي عن الاتصال الجنسي. وبالمثل في النباتات الصنوبرية، من الصعب إبطال وجود الجنسين؛ لأن الميتوكوندريا تورث في البويضة، بينما يتم توريث بلاستيدات الكلوروفيل في حبة اللقاح. ولكي تكون الذرية قابلة للحياة، يجب أن ترث كليهما؛ مما يتطلب وجود أبوين. ونؤكد مرة ثانية أن كل النباتات الصنوبرية المعروفة جنسية.
لكن هذه الحجة تتوقف عند هذا الحد. فهناك أسباب عدة تجعلنا نعتقد أن التكاثر الجنسي لا تقتصر فائدته على المجتمع عمومًا، بل يجب أن تكون له منافع مباشرة للفرد أيضًا. فأولًا، هناك عدد كبير من الأنواع — بل أغلب الأنواع إذا وضعنا في اعتبارنا العدد الهائل من الكائنات وحيدة الخلية — يُعتبَر جنسيًّا «اختياريًّا»؛ بمعنى أنه لا ينخرط في التكاثر الجنسي إلا بين الحين والآخر، بل قد لا يحدث هذا إلا مرة كل ثلاثين جيلًا أو نحو ذلك. وفي الواقع، بعض الأنواع مثل طفيلي الجيارديا لم يحدث مطلقًا أن رُصِد وهو ينخرط في عملية تكاثر جنسي، ولكنه مع ذلك يحتفظ في داخله بكل الجينات اللازمة للانقسام الاختزالي، بما يوحي بأنه ربما يلجأ إلى اختلاس التزاوج حينما يكون بعيدًا عن أعين المراقبين وحسب. وهذا المنطق لا ينطبق على الكائنات وحيدة الخلية العجيبة فقط، بل على بعض الكائنات الكبيرة أيضًا، مثل القواقع والعظايا والحشائش، التي تنتقل من الاستنساخ إلى التكاثر الجنسي حينما تملي عليها الظروف ذلك. ومن الواضح أنها يمكن أن تعود إلى الاستنساخ كلما شاءت، ومن ثم لا يُعتبَر حاجز «الصدفة» هو الجواب.
ويُوجَد افتراض مماثل ينطبق على منشأ عملية التكاثر الجنسي. فحينما تمَّ «اختراع» التكاثر الجنسي للمرة الأولى من قِبَل أول حقيقيات النوى (وسنذكر المزيد عن هذا فيما بعد)، فلا بد أن كان ثمة عدد قليل من الخلايا التي تتكاثر جنسيًّا ضمن مجتمع أكبر من الخلايا التي تتكاثر لا جنسيًّا. ولكي تنتشر في أنحاء ذلك المجتمع (كما لا بد أن يكون قد حدث؛ لأن جميع حقيقيات النوى تنحدر من سلف كان جنسيًّا بالفعل) لا بد أن تكون عملية التكاثر الجنسي نفسها قد أعطت ميزة لذرية الخلايا المتكاثرة جنسيًّا. وبتعبير آخر نقول إن التكاثر الجنسي لا بد أن يكون قد انتشر أصلًا لأنه نفع أفرادًا ضمن مجتمع ما وليس المجتمع ككلٍّ بصفة عمومية.
هذا الإدراك الواضح — بأن التكاثر الجنسي لا بد أن ينفع الأفراد، بالرغم من كلفته المضاعفة — ورد على لسان جورج سي ويليامز في عام ١٩٦٦. وقد بدا وقتها كأنَّ المشكلة قد حُلَّتْ، لكنها الآن برزت مجددًا في أعقد صورة. فلكي ينتشر التكاثر الجنسي في مجتمع لا جنسي، كان حتمًا على الأفراد الجنسيين أن ينجبوا أكثر من ضعف عدد الذرية الباقية على قيد الحياة من كل جيل. ومع ذلك، فقد كانت آليات التكاثر الجنسي العادلة مفهومة جيدًا؛ فمقابل كل فائزٍ هناك خاسرٌ، ومقابل كل مجموعة جيدة من الجينات هناك واحدة معيبة. وقد تحتَّمَ أن يكون التفسير دقيقًا وهائل الأثر في الآن عينه، بحيث يكون ماثلًا أمامنا ومع ذلك خفيًّا علينا فلا نراه. ولا غرو أنَّ جذب هذا اللغز بعضًا من أرقى العقول في ميدان علم الأحياء.
نقل ويليامز بؤرة التركيز من الجينات إلى البيئة، أو تحديدًا إلى علم البيئة. وطرح تساؤلًا: لماذا يكون من الخير أن تكون مختلفًا عن والديك؟ وأجاب قائلًا: قد يكون هذا مهمًّا إذا كانت البيئة تتغيَّر، أو إذا كانت الكائنات تغزو منطقة جديدة، وتوسَّعَ نطاق نشاطها؛ بالانتشار أو الهجرة. ومن ثم خلص ويليامز إلى أن التكاثر بالاستنساخ يشبه شراء مائة تذكرة يانصيب، كلها بنفس الرقم، لكن من الأفضل أن تشتري خمسين تذكرة، كلٌّ منها برقم مختلف، وهذا هو الحل الذي يُقدِّمه الجنس.
تبدو الفكرة معقولة، وبالتأكيد هناك حالات تكون فيها صحيحة، ولكنها كانت الأولى من بين فرضيات بارعة كثيرة تَمَّ وزنها في مقابل المعطيات وتبيَّن ضعفها. فإذا كان التكاثر الجنسي هو الحل لمشكلة تقلُّب البيئة، فلا بد أن نجد المزيد من الممارسة الجنسية في المناطق المرتفعة أو البعيدة عن خط الاستواء المُعَرَّضة للأحوال المتقلِّبة، أو في مجاري المياه العذبة التي تتعرَّض للفيضانات أو للجفاف بشكل متناوب. ولكن كقاعدة عامة فإننا لا نجد هذا يحدث، بل إن هناك المزيد من التكاثر الجنسي في البيئات المستقرة المكتظة بالسكان، مثل ضفاف البحيرات أو البحار والمناطق المدارية. وبصفة عامة، إذا تغيَّرَت البيئة سلبيًّا فإن النباتات والحيوانات تتتبع الأحوال الأفضل لها؛ بحيث تنتقل شمالًا — على سبيل المثال — بعد ذوبان الثلوج في الشمال. ومن النادر أن تتغير البيئة بسرعة لدرجة تجعل الذرية تحتاج إلى أن تختلف في كل جيل. من المفترض أن تكون الممارسة الجنسية المتباعدة أفضل؛ فالنوع الذي يتكاثر بالاستنساخ أغلب الوقت، لكنه يتزاوج مرة كل ثلاثين جيلًا على سبيل المثال، يستطيع أن يتغلب على الكلفة المضاعفة للتكاثر الجنسي دون أن يفقد فائدة التأشيب. ولكن هذا ما لا نجده في الواقع في أغلب الأحوال، على الأقل بالنسبة للكائنات الكبيرة كالنباتات والحيوانات.
حظيت نظرية الملكة الحمراء بتأييد قوي في بدايات ثمانينيات القرن الماضي على يد بيل هاملتون، وهو عالم لامع في علم الجينات الرياضية وأحد أنصار المذهب الطبيعي، ويعتبره الكثيرون «أبرز مؤيدي المذهب الدارويني منذ عصر داروين». فبعد أن قَدَّمَ هاملتون سلسلةً من المقالات المهمة في تعضيد النظرية الداروينية (إذ قدَّمَ، على سبيل المثال، نماذجَ لانتقاء الأقرباء لتفسير السلوك الإيثاري) سقط فريسة للطفيليات، ولا سيما طفيل الملاريا الذي غزا جسمه بشراسة في سن ٦٣ عامًا، حينما كان ضمن حملة جريئة في حوض نهر الكونغو بأفريقيا في عام ١٩٩٩؛ إذ كان يبحث عن قرود الشمبانزي المصابة بعدوى فيروس الإيدز، ثم مات في عام ٢٠٠٠. وإثر ذلك نشر أحد زملائه — ويُدعى روبرت تريفرز — نعيًا مؤثرًا في مجلة «نيتشر»، وكتب قائلًا: «إن هاملتون كان عقله أكثر العقول التي صادفتُها في حياتي غموضًا وتعددًا في مستوياتها. فما كان يقوله غالبًا ما يكون له معنيان أو ثلاثة معانٍ، فإذا كان الآخرون يتحدثون ويفكرون بنغمات مفردة، فإنه كان يفكر بنغمات متعددة متآلفة.»
وقبل ظهور هاملتون باهتماماته الحماسية كانت للطفيليات سمعة سيئة، حتى إن عالمًا بريطانيًّا في علم الحيوان كان يعيش في عصر الملكة فيكتوريا وكانت آراؤه ذات تأثير قوي، ويُدعى راي لانكستر، كان يزدري الطفيليات وينبذها باعتبارها نتاجًا حقيرًا للتردي والانحطاط التطوري (وكان يعتقد أن هذا سيكون أيضًا مصير الحضارة الغربية في المستقبل)، واستمرَّتْ آراء لانكستر التشاؤمية تخيِّم بظلالها على علماء الحيوان على مدى قرن كامل بعدها. ونَدُرَ أن يُوجَد باحثون من خارج نطاق علم الطفيليات راغبون في أن يبرزوا ما تتمتع به الطفيليات من قدرات مذهلة على التأقلم؛ إذ يتغير شكلها وطبيعتها من عائل لآخر، وتؤقلم نفسها مع أهدافها بدقة عجيبة، وهي أسس حيَّرَت علماء الطفيليات على مدى عقود عدة. إن الطفيليات بعيدة تمامًا عن فكرة الضعف والتحلل؛ إذ هي من بين أكثر الأنواع المعروفة براعة في التأقلم، بل وأكثر من هذا، فإنها ناجحة بشكل يثير الدهشة؛ فبعض التقديرات تشير إلى أنها تزيد في أعدادها عن الأنواع حرة المعيشة بأربعة أضعاف. وسرعان ما أدرك هاملتون أن التنافس الذي لا يلين بين الطفيليات وعوائلها هو الأرضية التي تجعل التكاثر الجنسي يُقَدِّم مزية عظيمة.
لماذا يكون المرء أحيانًا مختلفًا عن والديه؟ ربما كان السبب هو إصابة الوالدين بالطفيليات بكثافة، وربما كانت إصابتهم تلك طويلة الأمد. وبينما الأشخاص المحظوظون الذين يعيشون في بيئات صحية في أوروبا أو أمريكا الشمالية قد لا يحسون بأضرار العدوى الشنيعة بالطفيليات وأهوالها، فإن باقي أنحاء العالم ليس في أغلبه محظوظًا مثلهم؛ فهناك أمراض خطرة مثل الملاريا ومرض النوم والعمى النهري تُسبِّبها كائناتٌ طفيليةٌ وتجلب للكثيرين البؤس والشقاء، بل يُوجَد في أنحاء العالم ما لا يقل عن مليارَيْ نسمة مصابين بعدوى الطفيليات بنوع أو بآخر. وإننا بصفة عامة أكثر عرضة لأنْ نَقَع فريسة لهذه الأمراض أكثر من وقوعنا فريسة للحيوانات المفترسة، أو الأحوال الجوية المتطرفة أو المجاعات. وبصفة أكثر عمومية، من الشائع أن تكون الحيوانات والنباتات المدارية عوائل لما يصل إلى عشرين نوعًا مختلفًا من الطفيليات دفعة واحدة.
أو هكذا تقول النظرية على أي حال. من الحقيقي بالتأكيد أن التكاثر الجنسي يتفشَّى في المناطق المكتظة بالسكان؛ حيث تزدهر الطفيليات، ومن الحقيقي أيضًا بنفس الدرجة أن التكاثر الجنسي يمنح فائدة فورية واضحة لذرية أولئك الناس بصفة فردية تحت هذه الظروف. لكن حتى في هذه الحالة، هناك شكوك عما إذا كان التهديد الذي تفرضه الطفيليات خطيرًا بالفعل لدرجة تكفي لتبرير نشوء التكاثر الجنسي وتطوره وانتشاره على نطاق واسع. وإن نوع دورات النمط الجيني الذي لا يلين، والذي تنبأت به نظرية الملكة الحمراء، لا يمكن اكتشافه بسهولة في الطبيعة، كما أن نماذج الكمبيوتر المصممة لاختبار الظروف التي تعزز التكاثر الجنسي ترسم صورة أكثر محدودية بكثير من التصور الأصلي المتفجر لهاملتون.
وفي عام ١٩٩٤، على سبيل المثال، اعترف كيرتس ليفلي — وهو أحد الرواد الذي تبنَّوْا نظرية الملكة الحمراء — بأن عمليات المحاكاة المعتمدة على الكمبيوتر أظهرت أن الطفيليات لا تعطي ميزة مؤكدة وواضحة للتكاثر الجنسي إلا حينما تكون احتمالات العدوى بالطفيليات مرتفعة (بنسبة أكبر من ٧٠ بالمائة) وتكون أضرار الطفيليات على كفاءة العوائل فادحة (بنسبة نقصان للكفاءة تزيد عن ٨٠ بالمائة). ومع أن هذه الظروف والشروط تنطبق في حالات قليلة، فإن أغلب حالات العدوى بالطفيليات لا تكون بالشدة الكافية لإعطاء التكاثر الجنسي اليد العليا. كما أن حدوث الطفرات يعني أن المستنسخات أيضًا يمكن أن تصير متباينة جينيًّا بمرور الزمن، وتظهر نماذج الكمبيوتر أن المستنسخات المتباينة تميل لأن تصيب نجاحًا أكثر من الكائنات الجنسية. إلا أن عمليات التدقيق البارعة المختلفة تعطي نظرية الملكة الحمراء المزيد من القوة، لكنها ليست قوة كافية. ومع حلول منتصف التسعينيات لم يكن ثمة أحد من أطراف هذه القضية إلا وكان يشعر بشيء من الإحباط، وهو إحباط ناجم عن أنه لا تُوجَد نظرية واحدة استطاعت أن تبرِّر نشوء التكاثر الجنسي واستمراره.
•••
بالطبع ما من شيء يُحَتِّم أن تُفَسِّر نظريةٌ واحدةٌ فقط التكاثرَ الجنسيَّ. فلا تُوجَد نظرية تُقْصِي غَيْرَها من النظريات عن الساحة تمامًا، ومع أن هذا الحل قد يبدو غير منضبط من وجهة النظر الرياضية، فإن الطبيعة يمكنها أن تسير على هذا النحو غير المنضبط كما تشاء. وبدءًا من منتصف التسعينيات بدأ الباحثون في الدمج بين النظريات ليروا ما إذا كان بعضها يدعم بعضًا بطريقة ما. وهذا يحدث بالفعل؛ فمن المهم معرفة النظريات التي قد تتوافق مع نظرية الملكة الحمراء، وهي تتفق مع بعض النظريات بأكثر مما تتفق به مع غيرها. وقد أظهر كيرتس ليفلي أننا إذا استعنَّا بنظريتَيِ الملكة الحمراء وسقاطة مولر معًا، فإن احتمالية نشوء التكاثر الجنسي ترتفع، وهو ما يجعل كلتا النظريتين أكثر قابلية للتطبيق. ولكن حينما عاد الباحثون مجددًا لفحص المعاملات المختلفة، تبيَّنَ أن أحدها خطأ بالتأكيد؛ فقد كان البناء محكمًا من الناحية الرياضية لدرجة لا تُناسِب عالَمَنا الواقعيَّ. ونعني بهذا افتراض أن حجم مجتمع الكائنات لامحدود؛ فأغلب المجتمعات السكانية من الكائنات ليست أبعد ما تكون عن صفة اللامحدودية وحسب، بل إن حتى أوسع المجتمعات السكانية انتشارًا تكون مبنية على أسس جغرافية، ومقسَّمة إلى وحدات محدودة مراعاة للأمان، وتكون معزولة جزئيًّا. وهذا يصنع فارقًا يُثِير الدهشة.
ولعل أكبر مفاجأة هي الشيء الذي تغيَّر بالتحديد. فلقد برزت الأفكار القديمة عن علم جينات السكان التي ترجع إلى فيشر ومولر في الثلاثينيات مجددًا من مرقدها داخل أضابير الكتب؛ لكي تَصِير — في اعتقادي — أكثر النظريات نجاحًا في تفسير انتشار التكاثر الجنسي واستمراره. ومع أن عددًا من الباحثين من عقد الستينيات وما بعده طوَّروا أفكار فيشر — لا سيما ويليام هيل وآلان روبرتسون وجو فلسنشتاين — فإن المعالجات الرياضية الملهمة من جانب نيك بارتون في جامعة إدنبرة، وسارة أوتو في جامعة كولومبيا البريطانية؛ هي التي دفعت الجهودَ قدمًا بالفعل. وعلى مدى العقد الماضي نجح نموذجهما الموضوع في تفسير التكاثر الجنسي سواء فيما يتعلَّق بفائدته للأفراد أو فائدته للمجتمعات. ومما يبعث على السرور أن الإطار الجديد يضمُّ أيضًا نظريات أخرى، بدءًا من يانصيب ويليام وحتى الملكة الحمراء نفسها.
تعتمد الأفكار الجديدة على تفاعل المصادفة والانتقاء في المجتمعات المحدودة. أما في المجتمعات اللامحدودة، إن وُجِدَتْ، فأي شيء يمكن أن يحدث سوف يحدث. فمن المحتم أن تبرز التوليفة المثالية من الجينات، ومن المرجح ألا يستغرق هذا وقتًا طويلًا. ولكن في المجتمعات المحدودة يختلف الموقف كثيرًا؛ ذلك لأنه بدون إعادة تجميع الجينات على الكروموسومات (أي التأشيب) تكون الجينات مرتبطة معًا على الكروموسوم مثل حبات المسبحة على الخيط. ويعتمد مصير الكروموسوم على الخيط الرابط ككلٍّ، وليس على نوعية الجينات المفردة. أغلب الطفرات الجينية تكون ضارة، ولكنها ليست معيبة لدرجة أن تُودي بكروموسوم جيِّد مباشرة. وهذا يعني أن بإمكانها أن تتراكم وأن تقلل من كفاءة الكروموسومات تدريجيًّا؛ مما يسهم في تكوُّن خلفية كروموسومية معيبة. ومن النادر أن تكون الطفرات الجينية البطيئة خطيرة لدرجة تكفي لأن تُعَطِّل أو تقتل، ولكنها تثبط النشاط الجيني وتقلل كفاءته في المتوسط بشكل غير محسوس.
ومن قبيل المفارقة أن الطفرات المفيدة، حينما تعمل في ظل خلفية كروموسومية معيبة، قد تُسبِّب الفوضى والأضرار. ولنفترض جدلًا أن هناك ٥٠٠ جين على أحد الكروموسومات، فيمكن أن يحدث أحد أمرين: إما أن تتم إعاقة انتشار التطافر الجيني من جراء ضعف الخلفية الكروموسومية، أو لا يحدث هذا. في الحالة الأولى يتبدَّد التأثير الجيِّد للانتقاء الإيجابي القوي لأحد الجينات بفعل الانتقاء الضعيف ﻟﻠ ٤٩٩ جينًا الأخرى. ويكون التأثير الكلي في هذه الحالة متعادلًا، وهناك فرصة لا بأس بها أن يحدث فقدان للطفرة المفيدة مجددًا؛ لأن الجين لا يملك بالكاد مزية يفضلها الانتقاء الطبيعي. بتعبير آخر، فإن التداخل بين الجينات على نفس الكروموسوم، والمسمى «التداخل الانتقائي»، يحجب فوائد الطفرات المهمة ويعوق الانتقاء.
إلا أن البديل الثاني يتميَّز بنوع من البراعة الساحرة. فتخيَّل أن هناك خمسين شكلًا مختلفًا من نفس الكروموسوم موزَّعة عشوائيًّا على مجتمعٍ ما من السكان، فإذا ظهرت طفرة جديدة تكون مفيدة بدرجة تكفي لأن تنتشر في المجتمع بكامله، فلا بد لها تحديدًا أن تزيح جميع الأشكال الأخرى من نفس الجين. وتكمن المشكلة في أنها لا تكتفي بإزاحة جميع الأشكال الأخرى من نفس الجين، ولكن جميع الأشكال الأخرى من جميع الجينات على نفس الكروموسوم، بمقتضى التنافس المحموم. فإذا حدثت الطفرة الجديدة على واحد من هذه الكروموسومات الخمسين، فلا بد حينئذٍ أن يُفقَد التسعة والأربعون كروموسومًا من ذلك المجتمع. وفي الواقع، إن الأمر أسوأ من هذا؛ إذ لا ينطبق هذا المبدأ على الجينات المرتبطة بنفس الكروموسوم فحسب، بل على جميع الجينات التي تتشارك في مصيرها داخل الكائن المستنسخ؛ أي جميع جينات الكائن. وعلى نحوٍ كارثيٍّ يتم هكذا فقدان كل التنوع الجيني عمليًّا.
ولا تتوقَّف البراعة الساحرة عند هذا الحد؛ فكلما كان الانتقاء أقوى كان هناك احتمال أكبر أن تحدث إزاحة انتقائية لأحد الجينات أو غيره. وأي قوة انتقائية قوية يكون لها تأثيرها هنا، سواء أكانت الطفيليات أو المناخ، أو المجاعات، أو الانتقال والتشتت إلى أماكن معيشة جديدة، ومن ثم جاءت الرابطة بنظرية الملكة الحمراء، أو غيرها من نظريات التكاثر الجنسي. ويكون النتاج في كل حالة هو فقدان للتنوع الجيني؛ مما يسبب خفضًا للحجم الفعال للمجتمع السكاني. وبصفة عامة، تحتوي المجتمعات الكبيرة على الكثير من التنوع الجيني، والعكس صحيح. والمجتمعات التي تتكاثر لا جنسيًّا (بالاستنساخ) تفتقد التنوع الجيني، مع كل عملية تطهير انتقائية. ومن منظور الآليات الجينية للمجتمعات السكانية، تتصرف المجتمعات الكبيرة (التي بالملايين) كأنها صغيرة (أي بالآلاف) وهذا يفتح الباب للصدفة العشوائية مجددًا. ومن ثمَّ يحوِّل الانتقاء المكثف حتى المجتمعات الضخمة إلى مجتمعات صغيرة الحجم في فعاليتها؛ مما يجعلها مهيضة الجناح وعرضة للانحلال والانقراض. وقد أظهرت سلسلةٌ من الدراسات أن هذا النوع بعينه من الفقر الجيني واسع الانتشار، ليس في المستنسخات فحسب، ولكن أيضًا في أنواع الكائنات التي لا تتزاوج إلا قليلًا جدًّا. والميزة الرائعة للتكاثر الجنسي هي أنه يسمح للجينات الجيدة بأن تتأشب بعيدًا عن الفوضى الضاربة في خلفياتها الجينية، بينما تحافظ بشكل فوري على قَدْرٍ كبير من التنوُّع الجيني المختفي ضمن المجتمعات السكانية.
وتُبيِّن النماذج الرياضية لبارتون وأوتو أن «التداخل الانتقائي» بين الجينات ينطبق على الأفراد، وليست المجتمعات فحسب. وفي الكائنات التي يمكنها أن تتكاثر جنسيًّا ولا جنسيًّا معًا، يمكن أن يتحكم جين واحد في مقدار الممارسة الجنسية. ويشير التغيُّر في معدل انتشار ذلك الجين الجنسي إلى نجاح التكاثر الجنسي بمرور الزمن. فإذا ارتفع معدل انتشاره يفوز التكاثر الجنسي، وإذا انخفض يفوز التكاثر اللاجنسي. ومن المهم أن نلاحظ أنه إذا ارتفع معدل انتشار ذلك الجين من جيل إلى الذي يليه نقول حينئذٍ إن التكاثر الجنسي ينفع الأفراد. وفي الواقع إنه يرتفع. ومن بين جميع الأفكار التي ناقشناها في هذا الفصل، يُعتبَر التداخل الانتقائي هو الأكثر تطبيقًا على نطاق واسع. ويكون التكاثر الجنسي أكثر نجاحًا من الاستنساخ (بالرغم من تكلفته المضاعفة) تحت جميع الظروف تقريبًا، ويكون الفارق أكبر ما يمكن حينما يكون المجتمع متنوعًا بدرجة عالية، ويكون معدل التطافر عاليًا، وضغط الانتقاء قويًّا؛ وهي ثالوث غير مقدس يجعل النظرية مناسبة بشكل جلي لتفسير منشأ التكاثر الجنسي نفسه.
•••
لقد عانى بعضٌ من أفضل العقول في علم الأحياء في سبيل حل معضلة التكاثر الجنسي، ولكن لم يُقْدِم إلا قلة جريئة على تخمين أصله العميق ومناقشته. فهناك الكثير من الأمور غير المؤكدة بشأن نوعية الكيان أو البيئة التي نشأ التكاثر الجنسي فيها؛ ومن ثم يجب أن ننظر إلى أي تخمينات بشأن هذا الأمر بوصفها محض تخمينات لا أكثر. وحتى في هذه الحالة، وبالرغم من المجادلات التي لا تزال مُستعِرة، فإن هناك نقطتين أعتقد أن أغلب المنتمين لهذا الحقل يمكن أن يتفقوا عليهما.
أولاهما أن السلف المشترك لجميع حقيقيات النوى قد مارس التكاثر الجنسي. بمعنى أننا لو أعدنا بحث الخصائص المشتركة للنباتات والحيوانات والطحالب والفطريات والكائنات الأولية، فسنجد أن التكاثر الجنسي هو واحد من الخصائص الرئيسية التي تُوجَد لدينا جميعًا بصفة مشتركة. إن الحقيقة القائلة إن التكاثر الجنسي سمة أساسية لحقيقيات النوى جلية بدرجة كبيرة. وإذا كنا ننحدر جميعًا من سلف مارس الجنس، والذي بدَوْره انحدر من البكتيريا اللاجنسية، إذن فلا بد أن يكون ثمة عنق زجاجةٍ ما لا يمكن أن تكون قد مرت منها إلا حقيقيات النوى الجنسية. ومن المفترض أن أوائل حقيقيات النوى كانت لا جنسية مثل أسلافها البكتيرية (لم يحدث أن انخرطت البكتيريا في التكاثر الجنسي) ولكنها اندثرت جميعًا.
حاوِلْ أن تتخيَّل الأمر: إنها أول خلية حقيقية النواة، وهي خلية هجينة، بها بكتيريا دقيقة الحجم تعيش داخل خلية عائل أكبر حجمًا. وكل مرة يموت فيها واحد من تلك البكتيريا المحتبسة داخليًّا تتحرر جيناتها؛ فتنهمر كالمطر على كروموسومات خلية العائل. وتدخل بعض شذراتها عشوائيًّا إلى كروموسوم العائل مستعينة بالطرق القياسية التي تتبعها البكتيريا في إدخال الجينات. وبعض هذه الجينات الجديدة يكون ذا قيمة، والبعض الآخر بلا فائدة، وإنما هي نسخ طبق الأصل من الجينات الموجودة بالفعل. ولكن بعضها يعمل كإسفين منحشر وسط جينات العائل فيقطعها قِطَعًا وشظايا. إن الجينات القافزة تلحق الفوضى بالخلايا، ولا تملك خلية العائل سبيلًا لكبح جماحها وإيقاف تناميها؛ ومن ثم نجدها تقفز مطلقة السراح نحو الجينوم، فتحشر أنفسها بين الجينات، فتقطِّع الكروموسوم الدائري لخلية العائل إلى كروموسومات مستقيمة متعددة؛ وهي التي تُوجَد فينا جميعًا معشر حقيقيات النوى التي تعيش اليوم (انظر الفصل الرابع).
إنه حقًّا مجتمع سكاني شديد التنوع، يتطور سريعًا. إن الطفرات البسيطة تُكلِّف الخلية جدارها. وهناك طفرات أخرى تؤقلم الهيكل الخلوي البكتيري إلى الصورة الأكثر ديناميكية لحقيقيات النوى. ويُحتمَل أن خلية العائل تشكِّل ما بها من نواة وأغشية داخلية عن طريق نقل غير منظم للجينات الآتية من البكتيريا الداخلية وتستخدمها في تكوين الدهون (اللازمة لتكوين أغشية النواة وغيرها). ولا يحتاج أيٌّ من هذه التغيرات للقفز إلى المجهول؛ فجميع الخطوات يمكن أن تنشأ بإجراء نقلات جينية بسيطة وطفرات صغيرة. ولكن تُعتبَر التغييرات، جميعها تقريبًا، ضارة. فمقابل كل منفعة هناك ألف من الخطوات غير الموفقة، والطريق الوحيد لصياغة كروموسوم لا يقتلك والطريق الوحيد لضمِّ أفضل الإبداعات والجينات معًا داخل خلية واحدة هو التكاثر الجنسي، التزاوج بكامل معناه، وليس مجرد عملية مقايضة ضعيفة وجزئية للجينات. والتكاثر الجنسي وحده يمكنه أن يجمع بين غشاء خلوي من إحدى الخليتين وهيكل خلوي ديناميكي، أو آلية لتوجيه البروتينات من الخلية الأخرى، ويمنع في الوقت نفسه جميع الإخفاقات. إلا أنَّ القدرة العشوائية للانقسام الاختزالي ربما «تسحب» فائزًا واحدًا بالجائزة من بين ألف متسابق (أو من الأنسب أن نقول: باقيًا واحدًا على قيد الحياة) ولكنه على أي حال أفضل بكثير جدًّا من الاستنساخ. ففي مجتمع متنوع ومتغاير، ومع وجود معدل مرتفع في الطفرات الجينية وضغوط انتقائية مكثفة (ناتجة جزئيًّا عن ذلك الوابل من الجينات القافزة الطفيلية) لا يصلح الاستنساخ، بل يُحكَم عليه بالبوار. ولا غرو أن يكون الجنس هو وسيلة التكاثر السائدة؛ فدون هذا التزاوج، لم يكن لنا نحن حقيقيات النوى أن نُوجَد في هذه الدنيا مطلقًا.
والسؤال الآن هو: إذا كان الاستنساخ محكومًا عليه بالبوار كما قلنا، فهل استطاع التكاثر الجنسي أن ينشأ ويتطوَّر بسرعة تكفي ليأخذ دوره ووظيفته في الحياة؟ والإجابة، التي ربما تثير الدهشة، هي «نعم». كان من اليسير أن ينشأ التكاثر الجنسي كآلية ويتطور بسهولة. ومن الناحية الجوهرية للتكاثر الجنسي ثلاثة أوجه هي: الاندماج الخلوي، وفصل الكروموسومات، والتأشيب. ولنُلْقِ نظرة سريعة على كلٍّ منها على التوالي.
الاندماج الخلوي هو أمرٌ يكاد يكون غير ممكن في البكتيريا؛ لأن الجدار الخلوي يُفقَد جزئيًّا في هذه العملية، لكن حين تزول الجُدُر بين الخلايا قد تكون المشكلة معكوسة؛ إذ يصير من العسير تجنُّب الاندماج. فكثير من حقيقيات النوى البسيطة، مثل العفن الغروي والفطريات، تندمج خلاياها معًا لتكوِّن خلايا عملاقة عديدة النوى. وتتكون شبكات مفككة من الخلايا يُسمَّى كلٌّ منها «مدمج خلوي» بانتظام كجزء من دورات الحياة حقيقية النوى البدائية. وتستفيد الجينات القافزة المتطفلة، وكذلك الميتوكوندريا، من اندماج الخلايا معًا؛ إذ يمكنها حينئذٍ أن تصل إلى عوائل جديدة. ولقد تبيَّنَ وجود عوامل عدة تحث على الاندماج الخلوي. وفي هذا السياق، قد تكون المشكلة الأصعب هي استحداث طرق لمنع الاندماج الخلوي. ومن ثم نقول إن أول متطلبات التكاثر الجنسي، وهو الاندماج الخلوي، لم يكن — تقريبًا — يُمثِّل مشكلة.
أما فصل الكروموسومات، فيبدو للوهلة الأولى أكثر إثارةً للتحدِّي. ولتتذكر أن الانقسام الاختزالي هو بمنزلة رقصة معقَّدة للكروموسومات التي تبدأ بشكل غير متوقع؛ إذ يحدث تضاعف في عدد الكروموسومات قبل أن تنفصل إلى أربع خلايا وليدة. فلماذا نصِفُ الانقسام الاختزالي بأنه معقَّد؟ في الواقع إنه ليس كذلك تمامًا؛ فمن المفترض بصفة عامة أنه ليس أكثر من عملية تعديل لطريقة الانقسام الخلوي الموجودة والعادية التي نعرفها باسم الانقسام الفتيلي (غير المباشر)، التي تبدأ أيضًا بمضاعفة عدد الكروموسومات. ويُرجَّح أن يكون الانقسام الفتيلي قد نشأ عن طريق تتابع بسيط للخطوات التي تحدث في عملية الانقسام الخلوي البكتيري، حسبما قال توم كافالير سميث، الذي استطرد في قوله؛ فأشار إلى أنه لا يُوجَد سوى تغيير أساسي ضروري واحد فقط لتحويل الانقسام الفتيلي إلى صورة بدائية من الانقسام الاختزالي، وهو أن يحدث إخفاق في هضم كل مقدار «الغراء» (المتكوِّن من مواد بروتينية تُسمَّى كوهيسين) الذي يربط الكروموسومات معًا. فبدلًا من أن تدخل الخلية في دورة أخرى من التضاعف الخلوي، لمضاعفة الكروموسومات مجددًا، فإن الخلية تتوقف لبرهة، ثم تعاود العمل ولكن في فصل الكروموسومات. وفي الواقع، إن الغراء المتبقي يُربِك الخلية ويجعلها تظن أنها يجري تمهيدها للجولة التالية من الفصل الكروموسومي قبل أن تتم الجولة الأولى.
ويكون نتاج هذا هو خفض عدد الكروموسومات، الذي افترضه كافالير سميث، والذي هو في الحقيقة الفائدة الأساسية للانقسام الاختزالي في المقام الأول. ولو لم تقدر أوائل الخلايا حقيقية النوى على التوقُّف عن الاندماج معًا لتشكيل شبكات خلوية بها كروموسومات متعددة (كما لا يزال يحدث اليوم في العفن الغروي) لكان من الضروري أن يحدث شكلٌ ما من الانقسام الاختزالي لتجديد الخلايا البسيطة بمجموعة واحدة من الكروموسومات. وقد ساعد الانقسام الاختزالي عن طريق إحلاله محل الطريقة القياسية للانقسام الخلوي على تحقيق تجديد الخلايا المنفردة، وقد حقَّقَ هذا بأقلِّ قَدْر من الإزعاج الناتج عن وجود آلية للانقسام الخلوي.
وهذا يأخذنا إلى الوجه الأخير للتكاثر الجنسي وهو التأشيب، أو إعادة تجميع الجينات. ونقول مجددًا إن نشوء التأشيب لا يُمثِّل مشكلة؛ إذ إن جميع التجهيزات اللازمة موجودة في البكتيريا بالفعل، وقد تمَّتْ وراثتها ببساطة. وليست التجهيزات فقط، بل إن طريقة التأشيب بالتحديد هي نفسها التي تحدث في البكتيريا وفي حقيقيات النوى. فقد دأبت البكتيريا على أخذ جينات من البيئة (عن طريق عملية تُسمَّى النقل الجيني الجانبي) وإدخالها ضمن كروموسومها بالتأشيب. وفي حقيقيات النوى الأولى، لا بد أن نفس التجهيزات كانت مسئولة عن إدخال الجينات البكتيرية التي انهمرت كالمطر من الميتوكوندريا؛ مما أدى إلى التوسُّع المستمر في أحجام الجينومات. وكما قال تيبور فيلاي من جامعة إيوتفوس لوراند بالعاصمة المجرية بودابست، فمن المرجح أن فائدة التأشيب في حقيقيات النوى الأولى كانت التحميل الجيني، كما في البكتيريا. ولكن ضغط تجهيزات التأشيب لأداء دور أكثر عمومية في الانقسام الاختزالي كان بالتأكيد إجراء شكليًّا مفروغًا منه.
وهكذا من الأرجح أن نشوء التكاثر الجنسي لم يكن صعبًا؛ فقد كان مقدرًا له من الناحية الآلية أن يحدث. ولكن يعتبر علماء الأحياء أن المفارقة الأكثر عمقًا بالنسبة للتكاثر الجنسي هي أنه مستمر على طول المدى. ليست قضية الانتقاء الطبيعي هي «البقاء للأصلح»؛ إذ إن البقاء لا قيمة له إذا فشل الكائن الأصلح في تحقيق التكاثر. منح التكاثر الجنسي تفوقًا مبدئيًّا عظيمًا للاستنساخ، ولكنه كان له الغلبة بعد ذلك بين جميع حقيقيات النوى تقريبًا. ولم تكن الميزة التي قدَّمَها التكاثر الجنسي في البداية — على الأرجح — مختلفة عما يُقَدِّمه اليوم؛ وهي القدرة على ضَمِّ أفضل تجميعات للجينات في نفس الفرد، والتخلص من الطفرات الضارة، وإدخال عدة ابتكارات قيِّمة. ولعلَّ التكاثر الجنسي في تلك الأيام أنتج فائزًا واحدًا فقط، أو حتى كائنًا ضعيفًا حيًّا، من كل ألف حالة فشل، ولكن هذا لم يزل يُعتبَر أفضل من الاستنساخ، الذي مصيره الهلاك والبوار. وحتى في يومنا هذا قد يُنتِج التكاثرُ الجنسيُّ نصفَ عدد الذرية التي ينتجها الاستنساخ ولكنها أكثر كفاءة وصلاحية بمقدار الضعف.
ومن قبيل المفارقة أن هذه الأفكار بدأت عند بداية القرن العشرين، ثم تراجعت عن الصدارة لتعود في ثوب أكثر قشابة، مع تهاوي النظريات الأنيقة على طول الطريق. إنها تفسر التكاثر الجنسي من حيث فائدته للأفراد، ولكن ما يشرح الصدر أنها تضم أيضًا النظريات الأقدم على نحوٍ مشابهٍ لما يحدث في عملية التكاثر الجنسي ذاتها؛ إذ يتم التخلص من الأفكار المضللة، وتوفيق الأفكار المثمرة معًا في نظرية واحدة، كالجينات التي يُعاد تجميعها على الكروموسوم. فالأفكار أيضًا تتطوَّر بهذه الصورة على نحوٍ أفضل، وكلنا المستفيدون.