الحركة
لا بد أن مقولة «للطبيعة أنياب ومخالب مخضَّبة بالدماء.» هي واحدة من أكثر المقولات المنسوبة إلى داروين ورودًا على الألسنة. وهذه المقولة — على أي حال — تمسُّ المعنى المطلوب إبرازه، فحتى إذا لم تتعلَّق بالانتقاء الطبيعي نفسه فإنها تتعلَّق على الأقل بالإدراك العام لهذا الموضوع. وقد أُخذت أصلًا عن قصيدة تأملية بعنوان «في ذكراه» للشاعر تنيسون، الذي أنهاها في عام ١٨٥٠ قبل نشر كتاب داروين «أصل الأنواع» بتسع سنوات. كانت القصيدة استجابة لوفاة صديق تنيسون، الشاعر آرثر هالام، ويعتمد السياق المباشر للأبيات على مفارقة كئيبة بشكل صادم للمشاعر بين حب الرب ولامبالاة الطبيعة. وقد قال تنيسون على لسان الطبيعة إنه ليس الأفراد وحدهم هم مَن يهلكون، وإنما الأنواع الأخرى من الكائنات أيضًا: «لقد ضاع ألف نوع؛ فلماذا أهتم وكل شيء في الدنيا سيذهب؟!» في حالتنا نحن تعني عبارةُ «كل شيء» كلَّ ما نعتبره عزيزًا في هذه الدنيا؛ الغاية والحب والحقيقة والعدالة والرب. ومع أن تنيسون لم يفقد إيمانه، فإنه في بعض الأوقات كانت تعصف به الشكوك والأوهام.
هذه النظرة القاسية للطبيعة، التي صارت تُعزى فيما بعد إلى الضغوط الطاحنة للانتقاء الطبيعي، حدث هجوم عليها من عدة محاور. وإذا أخذنا الفكرة حرفيًّا فسنجد أنها — حتى في أحسن صورها — تتجاهل الحيوانات العاشبة والنباتات والطحالب والفطريات والبكتيريا وغيرها، وتختزل الحياة كلها في ذلك الصراع المحموم بين المفترس والفريسة. وحتى إذا أخذناها مجازيًّا، باعتبارها تُعَبِّر عن صراع أعمَّ من أجل البقاء — الذي يراه داروين — فإنها تَمِيل لأن تقلِّل من أهمية التعاون بين الأفراد وأنواع الكائنات، بل والجينات التي داخل الفرد نفسه؛ أي أهمية التكافل في الطبيعة. لا أريد أن أسهب في الحديث عن التعاون هنا، بل سأضع نصب عينيَّ أهمية عملية الافتراس؛ وتحديدًا الطريقة التي أدَّتْ بها إلى دفع خاصية الحركة، التي غيَّرت شكل العالم الذي نعيش فيه منذ زمن بعيد.
إن مقولة «للطبيعة أنياب ومخالب مخضبة بالدماء.» تشي بفكرة الحركة؛ فعلى أي مفترس أن يمسك بفريسته أولًا، وهذا ليس بفعل سلبي. ثم بعد ذلك عليه أن يُطْبِق فكَّيْه عليها، وهو ما يتطلب حركة فتح ثم إغلاق للفم بقوة؛ فالعضلات هنا ضرورية. والمخالب أيضًا لا يمكنها التمزيق بسهولة إن لم تكن تعمل بشراسة تدفعها حركة العضلات. وأفترض أننا إذا حاولنا أن نتخيَّل صورة سلبية للافتراس فقد نأتي بشيء مثل الفطر، لكن حتى في هذه الحالة يُوجَد شكلٌ ما من الحركة، حتى لو كانت مجرد الالتفاف البطيء لخيوط الفطر. ولكن فكرتي الأساسية هي أننا لا يمكن أن نتخيَّل الافتراس كوسيلة للحياة بدون حركة. ومن ثم، فإن الحركة هي الإبداع الأكثر عمقًا والأشد غورًا. فلِكَيْ يمسك المفترس بالفريسة ويلتهمها؛ فلا بد أولًا أن يتعلم الحركة، سواء أكان المفترس وحيد الخلية كالأميبا الدقيقة التي تزحف وتبتلع دقائق الطعام، أم كان حيوانًا مفترسًا كالفهد بقوته وسرعته ورشاقة حركته.
لقد غيَّرَت الحركةُ شكلَ الحياة على الأرض بطرق قد لا تكون واضحة بشكل فوري، بدءًا من تعقيد الأنظمة البيئية إلى سرعة واتجاه النشوء والتطور بين الكائنات. وهذه القصة يدل عليها سجل الحفريات، الذي يمنحنا نظرة متعمقة — وإن كانت غير مثالية لشبكات التفاعلات بين أنواع الكائنات، والطريقة التي تتغير بها تلك التفاعلات بمرور الزمن. ومما يبدو خادعًا أن سجل الحفريات يُشِير إلى حدوث تغيُّر مفاجئ في درجة التعقيد إثر حالة الانقراض الجماعي الأعظم للكائنات في تاريخ كوكبنا، التي حدثت عند نهاية العصر البرمي، منذ ٢٥٠ مليون سنة؛ إذ يُعتقَد أن ٩٥ بالمائة من جميع أنواع الكائنات اختفت في ذلك الحين. وبعد حدوث هذه الحالة الشاملة من الانقراض، لم يَبْقَ أي شيء على حاله مجددًا.
لقد كان العالم معقدًا بما يكفي بالطبع قبل العصر البرمي؛ فعلى الأرض كانت تُوجَد أشجار عملاقة ونباتات سرخسية وعقارب ويعاسيب وبرمائيات وزواحف. وكانت البحار تعج بثلاثيات الفصوص والأسماك، والقروش وأصداف الأمونية والأصداف المصباحية البائدة، وزنابق البحر (وهي أشباه الزنابق البحرية المسوقة، التي اختفت تمامًا تقريبًا في حركة الانقراض البرمية) والمرجانيات. وقد يوحي الفحص المتعجل لهذه الحالة بأن بعض «أنماط» الكائنات تلك قد تغيَّرت، مع أن الأنظمة البيئية لم تكن مختلفة تمامًا، إلا أن البيان التفصيلي يقول شيئًا آخر.
يمكن تقدير درجة تعقيد أحد الأنظمة البيئية عن طريق العدد النسبي لأنواع الكائنات؛ فإذا ساد عدد قليل من الأنواع، بينما لم تنَلْ بقية الأنواع إلا وجودًا هامشيًّا، يقال إن النظام البيئي بسيط. ولكن إذا وُجِدَت أعداد كبيرة من الأنواع معًا بأعداد متماثلة، فإن النظام البيئي حينئذٍ يُعتبَر أكثر تعقيدًا بكثير، مع وجود شبكة أوسع من التفاعلات بين الأنواع. ويمكن عن طريق إحصاء عدد الأنواع التي تعيش معًا في وقت معين في سجل الحفريات أن نتوصَّل إلى «مؤشر» للتعقيد، ونتائج هذا الإحصاء تُثِير الدهشة بعض الشيء. فبدلًا من أن يحدث تعقيد تدريجي على مَرِّ الزمن، فقد حدث على ما يبدو تغيُّر مفاجئ بعد حركة الانقراض البرمية الهائلة. فقبل الانقراض على مدى حوالي ٣٠٠ مليون سنة، انقسمت الأنظمة البيئية البحرية مناصفةً تقريبًا بين البسيط منها والمعقد. وفيما بعد رجحت كفة الأنظمة المعقدة على البسيطة حتى صارت النسبة ثلاثة إلى واحد، وهو تغيُّر مستقر ومستمر؛ إذ استمرَّ ٢٥٠ مليون سنة أخرى حتى اليوم. ومن ثم، بدلًا من أن يكون التغيُّر تدريجيًّا، كانت النقلة فجائية. فلماذا؟
يقول عالم الحفريات الأمريكي بيتر واجنر، من متحف فيلد للتاريخ الطبيعي في شيكاجو، إلينوي إن الإجابة هي انتشار الكائنات المتحركة. وتلك النقلة التي حدثت حوَّلَتْ عالم كائنات المحيطات من وضع التعلُّق بالموقع الثابت — مثل الأصداف المصباحية والزنابق البحرية … إلخ، التي تقوم باستخلاص الطعام بالترشيح للحصول على معيشة هزيلة قليلة الطاقة — إلى عالم جديد أكثر نشاطًا تسوده حيوانات تتحرك هنا وهناك، حتى وإن كانت الحركة بطيئة، مثل القواقع وقنافذ البحر والسرطانات. كانت هناك حيوانات كثيرة تتحرك بنشاط قبل الانقراض بالطبع، ولكنها لم تَسُدْ في عالمها إلا فيما بعد. ليس معروفًا سبب حدوث هذا التحوُّل بعد انقراض العصر البرمي الشامل، ولكن ربما كانت له علاقة بعملية مواجهة عالم يضم نمطًا متحركًا للمعيشة. فالبيئات سريعة التغيُّر تفرض عليك التحرك بنشاط؛ ومن ثم تحتاج قَدْرًا أكبر من المرونة البدنية. لذا، فربما الذي حدث أن الحيوانات الأكثر تحركًا كانت لها أفضلية في النجاة من التغيرات البيئية الشديدة التي صاحبت وقوع الكارثة (تجد المزيد عن هذا في الفصل الثامن) ولم تستطع الكائنات البائسة التي ترشح طعامها أن تصنع شيئًا في مواجهة هذه الضربة القاصمة.
وأيًّا كانت الأسباب، فإن نشوء تلك الحيوانات بعد زمن الانقراض البرمي قد غيَّرَ شكل الحياة. كان من تبعات الحركة الإيجابية أن صارت الحيوانات تتصارع فيما بينها كثيرًا جدًّا، حرفيًّا ومجازيًّا، مما أتاح بدوره استحداث شبكة من التفاعلات القوية بين الأنواع، لا يعني هذا مجرد زيادة في معدل الافتراس، وإنما المزيد من الرعي والسعي وراء الطعام، وحفر الجحور للاختباء بها. كانت تُوجَد أسباب وجيهة دائمًا للحركة، ولكن طرق المعيشة الجديدة التي جاءت معها الحركة منحت الحيوانات سببًا معينًا لتكون في مكان معين في وقت معين، وتحديدًا أن تُوجَد في مكان مختلف في وقت مختلف. يعني هذا أنها منحتها هدفًا؛ أي سلوكًا مقصودًا وموجهًا إلى هدف منشود.
إلا أن فوائد الحركة تتجاوز طريقة المعيشة؛ إذ إن الحركة أيضًا تؤثِّر في وتيرة التطور والمعدل الذي تتغيَّر به الجينات وأنواع الكائنات على مدى الزمن التطوري. ففي حين أن أسرع الكائنات تطورًا هي الطفيليات والبكتيريا المسببة للأمراض، التي يتحتم عليها أن تتعامل مع ما يُستحدَث في جهاز المناعة من ابتكارات ووسائل قوية ومستمرة لمكافحة تلك الكائنات الضارة — فالحيوانات بهذا تضغط عليها بقوة أجهزتها المناعية — فعلى النقيض من هذا نجد الكائنات التي تتغذى بالترشيح والنباتات بصفة عامة تكون ثابتة في أماكنها فلا تتطور بسرعة. وعلى هذا تكون فكرة الملكة الحمراء التي تُضطَر للجري في مكانها، على الأقل بالنسبة لمنافسيها، هي فكرة غريبة عن عالم المتغذيات بالترشيح التي تبقى بالضرورة دون تغيُّر على مدى دهور قبل أن تصيبها جائحة. إلا أن هناك استثناء لهذه القاعدة الذهبية تركز مجددًا على أهمية الحركة؛ هذه هي النباتات الزهرية.
قبل كارثة الانقراض في العصر البرمي، لم تكن ثمة نباتات زهرية يمكن رؤيتها، فكان عالم النبات ذا لون أخضر خالص، مثل الغابات الصنوبرية في يومنا هذا. ثم جاء تفجُّر الألوان في الأزهار والثمار بكاملها استجابةً لعالم الحيوان؛ فالأزهار — بطبيعة الحال — تجذب الكائنات اللاقحة، والحيوانات المتحركة، التي تنقل حبوب اللقاح من نبات لآخر، فتنشر على نطاق واسع فوائد التكاثر الجنسي للنباتات اللاسويقية، كما أن الثمار تحتاج إلى حركة الحيوانات والتهامها لها ثم طردها مع فضلاتها لنشر البذور. ومن ثم سايرت النباتات الزهرية الحيوانات في تطورها، مع ترابطهما معًا، فالنباتات تشبع أعمق رغبات الكائنات اللاقحة وآكلات الثمار، بينما الحيوانات، دون إدراك منها، تنجز حِيَل النباتات الصامتة، على الأقل إلى أن بدأنا نحن البشر في إنتاج ثمار بلا بذور. وهذا التشابك في المصائر زاد في وتيرة التطور بين النباتات الزهرية لتتلاءم مع شركائها من الحيوانات.
ومن ثم فإن الحركة تجلب معها الحاجة للتعامل مع البيئات المتغيرة سريعًا، والمزيد من التفاعلات بين النباتات والحيوانات الأخرى، وطرق حياة جديدة مثل الافتراس، وأنظمة بيئية أكثر تعقيدًا. وجميع هذه العوامل شجعت على استحداث حواس أفضل (وهي وسائل أفضل ﻟ «معايشة» العالم الخارجي)، والإسراع بوتيرة التطور؛ وذلك من أجل الاستمرارية، ليس بين الحيوانات فحسب ولكن بين النباتات أيضًا. وفي قلب هذا الإبداع كله يقع ابتكار محدد جعل كل هذا ممكنًا؛ وهو العضلات. مع أن العضلات قد لا تُحدث نفس انطباع المثالية الذي تُحدثه أعضاء أخرى مثل العين، فحين ننظر إلى العضلات من خلال المجهر نجدها عبارة عن حزم من الألياف التي تؤدِّي وظائف محددة مفيدة بدرجة مذهلة وتعمل في تناغم لتوليد القوة والحركة، وهي بمنزلة آلات تحوِّل الطاقة الكيميائية إلى طاقة ميكانيكية. وهذا إبداع أعظم من إبداعات ليوناردو دافنشي، ولكن كيف صارت هذه الآلة المفيدة الهادفة إلى ما هي عليه؟ سوف ننظر في هذا الفصل في أصل وتطور الآلية الجزيئية التي تدفع إلى الانقباض العضلي، الذي مكَّن بدوره الحيوانات من أن تغيِّر شكل العالم بمعنى الكلمة.
•••
بشكلها المميز، تجذب العضلات الانتباه إليها أكثر من أشياء أخرى كثيرة، وتثير الصورة الذكورية المرتبطة بها الشعور بالانجذاب (من ناحية الإناث) أو الحسد (من جانب الذكور)، بدءًا من أخيل الإغريقي إلى أبطال كمال الأجسام في يومنا هذا. ولكن المظاهر الخارجية ليست كل شيء. وعلى مر التاريخ اجتهد بعضٌ من أعظم المفكرين والتجريبيين في محاولة فهم الكيفية التي تعمل بها العضلات بالفعل. ومن أرسطو إلى ديكارت، كانت الفكرة السائدة لديهم أن العضلات لا تنقبض بالأساس وإنما تنتفخ، مثل الغرور المرتبط بالأشخاص الذين لديهم عضلات قوية. وكانوا يعتقدون أن هناك سيلًا من الأرواح الحيوانية غير المرئية وعديمة الوزن تتدفق من تجاويف المخ خلال الأعصاب المجوفة وصولًا إلى العضلات فتجعلها تقصر مع انتفاخها. بل إن ديكارت نفسه بنظرته الآلية إلى الجسم، زعم وجود صمامات دقيقة في العضلة؛ مفترضًا أنها تمنع التدفق العكسي للأرواح الحيوانية، بنفس الطريقة التي تعمل بها الصمامات في الأوعية الدموية.
لم تستمر هذه الأفكار المغلوطة كثيرًا؛ فبعد مرور ثماني سنوات من الملاحظات المبكرة للوفنهوك، قام مرة أخرى بفحص «كرياته» المزعومة مجددًا بعدسات جديدة محسنة، وبناءً على ذلك قدَّم اعتذارًا عما قاله سابقًا؛ إذ اكتشف أن ألياف اللحم لم تكن سلاسل طويلة من مثانات دقيقة بل هي ألياف تقطعها بالعرض ما أسماها «حلقات وتجاعيد» منتظمة، وهذه الخطوط هي التي أعطت الانطباع بوجود الكريات. الأدهى من هذا أن لوفنهوك حينما فتَّتَ الألياف ونظر إلى محتوياتها تحت عدساته أدرك أنها أيضًا تمتلئ بخيوط أشد دقة، قد تصل إلى مائة أو نحو ذلك في كل ليفة. تتغيَّر المصطلحات، ولكن القطع التي وصفها لوفنهوك تُعرَف اليوم باسم «القُسيمات العضلية»، بينما تُعرَف الخيوط أو الشعيرات الدقيقة الموجودة داخل الليفة العضلية باسم «اللييفات العضلية». ومن الواضح أن الانقباض العضلي لا علاقة له بالمثانات المنتفخة، بل إن كل شيء فيه إنما يتعلَّق بالألياف العضلية وحسب.
وحتى في هذه الحالة، ومع أن العلماء افترضوا أن الألياف الحركية في العضلات يمكن بطريقة ما أن «ينزلق» بعضها على بعض، فلم تكن لديهم فكرة حقيقية عن القوة التي تدفعها إلى الحركة. ثم مَرَّ قرن كامل تقريبًا قبل أن تبزغ قوة جديدة لعلها هي التي تبثُّ النشاط في كل تلك الألياف؛ وهي الكهرباء.
ففي عقد الثمانينيات من القرن الثامن عشر ذُهِل لويجي جلفاني — أستاذ التشريح بجامعة بولونيا — حينما انقبضت عضلة ساق أحد الضفادع بقوة حينما لمسها بمبضع في نفس الوقت الذي انطلقت فيه شرارة من آلة كهربائية على الجانب الآخر من الحجرة، مع أن الضفدع كان ميتًا. وقد حصل على نفس ردِّ الفعل حينما أحدث قطعًا بجسم الحيوان ومس خطافًا نحاسيًّا بمبضع مع إمرار شحنة كهربائية، كما حدث هذا في أحوال أخرى مختلفة بما فيها العاصفة الكهربائية. وقد جذبت فكرة الحركة العضلية بفعل الكهرباء، التي سريعًا ما سُمِّيَت الجلفانية، الكاتبة ماري شيلي، التي درست تقارير جلفاني قبل أن تؤلِّف روايتها المرعبة «فرانكنشتاين» في عام ١٨٢٣. وفي الواقع إن ابن أخي جلفاني، وهو جيوفاني ألديني، كان رجلًا سبَّاقًا. إذ طاف في أرجاء أوروبا في بدايات القرن التاسع عشر ليظهر «إعادة تنشيط جثث الموتى باستخدام الكهربية الجلفانية»، وفي مناسبة مشهورة قام ألديني بصعق رأس مفصول لرجل ميت أمام الحاضرين من الجراحين والأطباء والأدواق، بل وأمير ويلز، في كلية الجراحين الملكية بلندن. ويقول ألديني إنه حينما وضع قضبانه الكهربائية على فم الميت وأذنه: «بدأ الفك يرتعش، والعضلات المجاورة له تلتوي بشكل مخيف، وانفتحت العين اليسرى بالفعل.»
كما تأثَّر أيضًا الطبيب الإيطالي أليساندرو فولتا من جامعة بافيا باكتشافات جلفاني، ولكنه لم يتفق معه على سببها؛ فقد أصر فولتا على عدم وجود أي عامل كهربائي فيما يتعلَّق بالجسم نفسه، وأن الجلفانية هي مجرد رد فعل للشحنات الكهربية الخارجية التي تولدت من المعادن. وذهب إلى أن الساق يمكن أن توصل الكهرباء بنفس الطريقة مثل المياه المالحة؛ فهي مجرد خاصية سلبية. وقد دخل جلفاني وفولتا في خلاف استمرَّ عقدًا كاملًا، وانقسم مؤيدو كلٍّ منهما إلى فريقين على النمط الإيطالي الحقيقي؛ فمؤيِّدو المذهب الكهربي الحيواني ضد مؤيِّدي المذهب المعدني، وعلماء الفسيولوجيا ضد علماء الفيزياء، وبولونيا ضد بافيا!
كان جلفاني مقتنعًا بأن «كهربيته الحيوانية» تأتي بالفعل من الداخل، ولكنه وجد صعوبة في إثبات هذا، وهو ما أرضى فولتا. يُظهِر هذا النزاع بجلاءٍ قدرةَ التشكُّك على تحفيز التفكير التجريبي. وحينما كان جلفاني يبتكر تجاربه لإثبات نظريته، توصَّل إلى أن العضلات في جوهرها «قابلة للتهيج»؛ أي إنها قادرة على توليد رد فعل لا يتناسب مع شدة العامل المؤثر بل يتجاوزه. بل إنه افترض أن العضلات يمكن أن تولِّد الكهربية داخل نفسها بتراكم شحنات سالبة وموجبة عَبْر سطحيها الداخليين، وقال إن التيار الكهربي يتدفق عَبْر مسام تنفتح بين السطحين.
وفي القرن التاسع عشر، عادت أفكار جلفاني إلى دائرة الضوء بشكلٍ جادٍّ من جديد، وكان من تبنَّاها بالأساس المدرسة الألمانية لأبحاث الفيزياء الحيوية التي كان أشهر أعضائها العالم الكبير هيرمان فون هلمهولتز. لم تقتصر هذه المدرسة على إثبات أن العضلات والأعصاب مشحونة بكهربية حيوانية، بل إن هلمهولتز حسب سرعة انطلاق النبضة الكهربائية خلال العصب، مستخدمًا طريقة استحدثها الجيش لتقدير سرعة إطلاق قنابل المدافع. وقد تبيَّن أن سرعة إرسال النبضات العصبية بطيئة بشكل ملحوظ؛ فهي بضع عشرات من الأمتار في الثانية، وليست مئات الكيلومترات في الثانية كالكهربية العادية؛ مما أوحى بوجود شيءٍ ما مختلف فيما يتعلَّق بالكهربية الحيوانية. وسرعان ما عُزيَ هذا الفارق إلى الحركات المتثاقلة للذرات المشحونة، أو الأيونات، مثل البوتاسيوم والصوديوم والكالسيوم؛ التي ليست مثل الإلكترونات الكهربية في انطلاقاتها السريعة كالسراب. وإن مرور الأيونات عَبْر غشاء ما ينتج موجة من إزالة الاستقطاب، التي هي تأرجح عابر لشحنة سالبة خارج الخلية. وهذا يؤثر على الغشاء المجاور؛ ومن ثم تندفع الشحنة إلى الأمام على طول العصب، أو إلى داخل العضلة فيما يُسمَّى «جهد الفعل».
ولكن خلاف ذلك، نكص بومان عن اكتشافاته. فقد رأى أن الأعصاب داخل العضلة لم تتفاعل مباشرةً مع القسيمات العضلية مطلقًا؛ لذا يتحتَّم أن يكون بدء التنبيه الكهربائي غير مباشر على الأقل. والأسوأ من هذا أنه كان قلقًا فيما يتعلق بالعضلات الملساء، التي تُوجَد ضمن العضلات العاصرة وفي الشرايين. فهي غير مخططة؛ أي خالية من الأشرطة التي تُميِّز العضلات الهيكلية تمامًا، إلا أنها يمكن أن تنقبض بشكل جيِّد تمامًا أيضًا. وتبعًا لذلك ظنَّ بومان أن تلك النظرية لا علاقة لها بالانقباض العضلي إلا قليلًا، وأنَّ سر الانقباضية يكمن بالضرورة في البنية غير المرئية للجزيئات التي ظنَّ أيضًا أنها ستبقى إلى الأبد بعيدة المنال عن الحواس. وقد كان محقًّا فيما يخص أهمية التركيبة الجزيئية، ولكنه كان مخطئًا فيما يخص الأشرطة، وكذلك ما قاله عن الحواس بالتأكيد. ولكن أوصاف بومان للبنية العضلية شاركه فيها كل من جاءوا بعده تقريبًا.
•••
في جامعة كامبريدج عام ١٩٥٠ في وحدة علم الأحياء التركيبي الوليدة التابعة لمعمل كافندش، شهد تاريخ العلوم لحظة تاريخية؛ إذ اجتمع اثنان من علماء الفيزياء واثنان من علماء الكيمياء يعملون على تطوير تقنية من شأنها تغيير مسار علم الأحياء في النصف الثاني من القرن العشرين — تقنية التصوير البلوري بالأشعة السينية. إنه لعمل مرهق أن تركز على بلورات هندسية الشكل متكررة، وحتى في يومنا هذا يُعتبَر هذا فنًّا رياضيًّا شاقًّا عند تطبيقه على الجزيئات البيولوجية الكروية.
إن جزءًا من قلة نصيب هكسلي هذا من الشهرة كان بسبب الخلط الذي حدث بسبب تشابه اسمه مع شخصية أخرى أكثر شهرة بكثير وهو أندرو هكسلي، الحاصل على جائزة نوبل، وحفيد مُرافق داروين الشهير تي إتش هكسلي. وقد حقَّق أندرو هكسلي شهرته في سنين ما بعد الحرب العالمية الثانية لدراساته عن التوصيل العصبي، قبل أن يحوِّل اهتمامه إلى العضلات في بدايات الخمسينيات، وصار هو كذلك شخصية رئيسية في الأبحاث العضلية في العقود التالية. وقد توصَّل هيو وأندرو هكسلي — كلٌّ منهما على حدة — إلى نفس الاستنتاج، ونشرا نتائجهما في مجلة «نيتشر» بالاتفاق مع المجلة، على نفس الورقة، وجهًا وظهرًا، في عام ١٩٥٤. وقد افترض كلاهما ما صار يُعرَف باسم «نظرية الشعيرات المنزلقة». كان هيو هكسلي بصفة خاصة متمكِّنًا من التعامل مع تقنيتين قويتين ورائعتين هما التصوير البلوري بالأشعة السينية والمجهر الإلكتروني (وكان في العشرين من عمره فحسب في تلك الآونة). وقد كشف المزج بين التقنيتين عن نتائج رائعة، مبينًا الوظائف العضلية بتفاصيل أدق فأدق على مدى العقود التالية.
أمضى هيو هكسلي فترة الحرب مشتغلًا بالرادار. ولدى عودته ليكمل دراسته بجامعة كامبريدج بعد ذلك شعر مثل الكثيرين من دارسي الفيزياء من جيله، مدفوعًا بأهوال القنبلة الذرية، بالاضطرار إلى هجر الفيزياء وتحويل اهتمامه إلى شيء أقل استفزازًا من الناحيتين الأخلاقية والنفسية، وكأن ما فقدته الفيزياء من اهتمام يصب في صالح علم الأحياء. وحينما انضم هكسلي إلى مجموعة بيرتس الصغيرة عام ١٩٤٨ دُهِش لقلة ما وجده من معلومات لدى علماء الأحياء عن تركيبة العضلات ووظائفها؛ فآلى على نفسه أن يكافح حتى يضع الحق في نصابه ويصحِّح تلك الأوضاع. فأجرى تجاربه على سيقان الضفادع، كما فعل جلفاني قبله، ولكن كانت نتائجه الأولية مخيِّبة للآمال؛ إذ كانت الأنماط المستقاة من عضلات ضفادع التجارب تلك ضعيفة. ولكنه وجد بعد ذلك أن الضفادع البرية أفضل بكثير مما دفعه إلى خوض سلسلة من الرحلات بدراجته بجوار المستنقعات ليمسك بالضفادع قبل تناوله وجبة الإفطار. ومن تلك الضفادع البرية استمدَّ أنماطًا غنية بالتفاصيل مستخدمًا الأشعة السينية، وإن كانت غامضة في معناها. ومما يثير التعجب أن هكسلي في عام ١٩٥٢ واجه دوروثي هودجكين، وهي من رواد التصوير البلوري لدى امتحانه لنيل درجة الدكتوراه. وحينما قرأتْ رسالته تفتَّقَ ذهنها عن فكرة أن معطياته قد تُوحي بوجود الشعيرات المنزلقة وناقشَتْ هذا الأمر بحماس مع فرانسيس كريك، الذي قابلتْه مصادفةً على السلالم. ولكن هكسلي، متحليًا بروح الشباب القتالية، جادلها عن حقٍّ قائلًا إنها لم تقرأ قسم طرق البحث بعناية في رسالته كما يجب، وأن معطياته لا تدعم استنتاجها النظري. وبعد ذلك بعامين توصَّل هكسلي بنفسه — مستخدمًا صور المجهر الإلكتروني — إلى استنتاج مماثل، ولكنه صار مدعومًا بالتجربة العملية.
ولكن حينما رفض هكسلي أن يقفز إلى استنتاجات مبكرة، مؤجلًا اكتشافه لنظرية الشعيرات المنزلقة مدة عامين، كان محقًّا في اعتقاده المبكِّر أن الجمع بين التصوير البلوري بالأشعة السينية واستخدام المجهر الإلكتروني له القدرة على الكشف عن التفاصيل الجزيئية للانقباض العضلي؛ فكلتا الوسيلتين لهما أوجه نقص. وعلى حد قول هكسلي: «إن استخدام المجهر الإلكتروني يعطي صورًا حقيقية ملموسة، ولكن بها جميع عيوب المصنوعات البشرية، بينما يعطي استخدام حيود الأشعة السينية معطيات حقيقية ولكن في شكل مبهم.» فأدرك ببصيرته أن عيوب إحدى التقنيتين يمكن التغلُّب عليها بقدرات التقنية الأخرى ومزاياها، والعكس بالعكس.
كان هكسلي محظوظًا كذلك؛ إذ لم يتمكَّن أحدٌ وقتها من التنبؤ بما سيتحقق من تقدُّم ملحوظ على مدى نصف القرن التالي، لا سيما في مجال التصوير البلوري بالأشعة السينية، ولم تكن ثمة صعوبة إلا فيما يتعلَّق بشدة حزمة الأشعة؛ فحصولك على نمط قابل للرصد عن طريق حيود الأشعة السينية (أو تشتتها) عَبْر بنية ما، يتطلب كمية كبيرة من الأشعة. وهذا إما أنه يستغرق وقتًا — قد يكون بالساعات أو حتى بالأيام، في ذلك الوقت المبكر من الخمسينيات، حينما كان هكسلي وآخرون منهمكين طوال الليل في إنعاش مصادر الأشعة السينية الضعيفة — أو أنه يتطلب مصدرًا متطرفًا في شدته، يمكنه إنتاج حزمة قوية من الأشعة السينية في لمحة سريعة. فعاد علماء الأحياء مجددًا إلى الاعتماد على ما تحقَّق من تقدُّم في علم الفيزياء، لا سيما استحداث ما يُسمَّى السنيكروترون، وهو معجل دوراني دون ذري يستخدم المجالات المغناطيسية والكهربية المتزامنة لتعجيل البروتونات أو الإلكترونات حتى تصل إلى سرعات فلكية، ثم إجراء تصادمات فيما بينها. وتكمن قيمة المعجل الدوراني التزامني لعلماء الأحياء فيما يُعتبَر تأثيرًا جانبيًّا منغصًا لعلماء الفيزياء. فمع حركة الجسيمات المستمرة في دوائرها الإجبارية، تطلق إشعاعًا كهرومغناطيسيًّا، أو ما يمكن تسميته «ضوء المعجل الدوراني التزامني»، وكثيرٌ منه يكون في نطاق الأشعة السينية. وهذه الحزم القوية بشكل مذهل يمكنها أن تولِّد أنماطًا حيودية في كسور قليلة من الثانية، وهي أنماط كانت تستغرق ساعات أو أيامًا في الخمسينيات لتُحدِث هذا التأثير. وكان هذا أمرًا مهمًّا؛ إذ إن وقائع الانقباض العضلي تتم خلال أجزاء من مائة جزء من الثانية. ومن ثم لا تكون دراسة التغيُّرات في التركيب الجزيئي التي تحدث أثناء الانقباض العضلي مجدية إلا باستخدام ضوء المعجل الدوراني التزامني.
وحينما وضع هكسلي نظرية الشعيرات المنزلقة، اضْطُر إلى أن يجعلها في شكل افتراض مبني على معطيات غير كافية إلى حدٍّ ما. ومع ذلك، فمنذ ذلك الحين وباستخدام وسائل تدقيق لنفس التقنيات، تمَّ إثبات الكثير من التنبؤات الآلية التفصيلية على يد هكسلي وآخرين، مقاسة وصولًا إلى مستويات ذرية على مدى كسور من الثانية. وبينما لم يتمكَّن علماء العصر الفيكتوري من رؤية التراكيب المجهرية سوى إجمالًا، فقد تمكَّن هكسلي من تحديد الأنماط الجزيئية التفصيلية، ومن ثمَّ وضع افتراضاته للآلية العضلية. وفي يومنا هذا، وبالرغم من بقاء بضعة أمور غير محسومة، فإننا نعرف كيف تنقبض العضلة بدقة ذرية تقريبًا.
•••
يعتمد الانقباض العضلي على خصائص جزيئين؛ هما: الأكتين، والميوسين. وكلاهما يتكوَّن من وحدات بروتينية متكررة تكوِّن شعيرات طويلة (بوليمرات). وتتكوَّن الشعيرات السميكة من الميوسين، الذي أطلق عليه الفيكتوريون هذا الاسم بالفعل، بينما تتكوَّن الشعيرات الرفيعة من الأكتين. وهذان النوعان من الشعيرات يتَّخذان شكل حزم جنبًا إلى جنب، ترتبط معًا بجسور مستعرضة عمودية دقيقة (كان هكسلي أول من شاهدها في الخمسينيات باستخدام المجهر الإلكتروني). وهذه الجسور ليست صلبة ولا عديمة الحركة، بل إنها تتأرجح، ومع كل حركة أرجحة تدفع شعيرات الأكتين قدمًا قليلًا، وكأنه طاقم سفينة طويلة يدفعون سفينتهم في البحر بالمجاديف. لكنها لا تشبه سفن الفايكنج تمامًا؛ إذ لا تستجيب ضربات المجاديف القوية لأمر واحد. إذ يبين المجهر الإلكتروني أن من بين الآلاف الكثيرة من الجسور المستعرضة، لا يقوم بحركة الجذب منها في انسجام إلا أقل من نصفها، بينما يكون أغلبها دائمًا في حالة فوضى حركية كحركة المجاديف المضطربة. إلا أن الحسابات تثبت أن هذه النقلات الدقيقة، حتى وإن كانت تعمل بعدم انسجام، تكون معًا قوية بدرجة تكفي لتحقق القوة الكلية للانقباضات العضلية.
وفيما يلي شرح لكيفية عمل الجسور المتأرجحة. في البداية يرتبط الجسر المتأرجح بشعيرة الأكتين، وبمجرد أن يتم هذا يحدث ارتباط لمادة ثلاثي فوسفات الأدينوسين، التي تعمل بدورها على الإمداد بالطاقة اللازمة لتشغيل العملية برمتها، وبمجرد ارتباط ثلاثي فوسفات الأدينوسين ينفصل الجسر المتأرجح عن الشعيرة الرفيعة، وحينئذٍ يتأرجح الجسر المتحرر بزاوية حوالي ٧٠ درجة (من خلال منطقة «عنقية» مرنة) ثم يرتبط بشعيرة الأكتين مجددًا. وحالما يحدث هذا، تتحرر الفتات المستعملة من ثلاثي فوسفات الأدينوسين ويرتد الجسر المستعرض عائدًا إلى وضعه الأول. وهو في حركته هذه يعمل كرافعة تسحب الشعيرة الرفيعة بكاملها، وهذه السلسلة الدورية من التحرر والأرجحة والارتباط والسحب تضاهي حركة الضرب بالمجداف، وفي كل مرة تتحرك الشعيرة الرفيعة بأجزاء قليلة من مليون جزء من المليمتر. وثلاثي فوسفات الأدينوسين مهم في هذه العملية؛ فبدونه لا يمكن أن يتحرر الرأس الميوسيني عن الأكتين ولا أن يتأرجح، والنتيجة هي حدوث تيبُّس، كما يحدث في حالة التيبس الرِّمِّي، حينما تتيبس العضلات بعد الموت بسبب نقص ثلاثي فوسفات الأدينوسين (ثم يزول التيبس بعد يوم أو نحو ذلك حينما يبدأ النسيج العضلي في التحلل).
حتى وإن كان معدل استهلاك الميوسين لثلاثي فوسفات الأدينوسين هو ما يحدِّد السرعة التي تنقبض بها العضلات؛ فإن نضوب ثلاثي فوسفات الأدينوسين لا يعني أبدًا نهاية الانقباض العضلي. فلو حدث هذا النضوب لأنهينا جلسات التدريب في الصالات الرياضية في حالة من التيبس العضلي، تشابه التيبس الرِّمي، ونحتاج لأن نُحمَل على نقالة عائدين إلى البيت في كل مرة. ولكن الذي يحدث، بدلًا من هذا، أن العضلات تُصاب بالإجهاد، الذي يُفترَض أنه عملية تأقلم لمنع حدوث التيبُّس. ويعتمد بدء الانقباضات العضلية ونهايتها على مستوى الكالسيوم داخل الخلية، وهذا تحديدًا هو ما يربط الانقباض العضلي بكهربية جلفاني الحيوانية؛ فحينما تَصِل النبضة المؤثرة (الآتية من الأعصاب) فإنها تنتشر سريعًا خلال شبكة من الأنيبيبات الدقيقة، التي تطلق أيونات من الكالسيوم إلى الخلية. ومن خلال عدد من الخطوات التي لا تعنينا في هذا المقام، يعمل الكالسيوم في نهاية الأمر على كشف المواقع التي ترتبط عندها الجسور المتأرجحة على شعيرة الأكتين، وهذا يمكِّن العضلة من الانقباض. وقبل أن تُغمَر الخلية العضلية بالكالسيوم تنغلق بوابات الفيضان وتنشط المضخات، فتسحب الزائد منه مجددًا، توطئةً للاستدعاء التالي للعمل. وحينما تتدنى مستويات الكالسيوم تتغطَّى مواقع الارتباط التي على شعيرة الأكتين مجددًا، ولا تتمكَّن الجسور المتأرجحة من الارتباط حينئذٍ ويتحتَّم على الانقباض أن يتوقَّف. وتضمن المرونة الطبيعية للقسيمات العضلية لها أن تعود إلى حالتها المسترخية الأصلية سريعًا.
•••
هذه بالطبع نبذة مبسَّطة جدًّا، مع اختزال الأجزاء العاملة إلى ما يكاد يصل إلى حد أدنى مقتضب. ارجع إلى كتاب متخصص وستجد صفحات فيها تفاصيل عن البروتينات، مع شرح معتدل لدور كلٍّ منها من الناحيتين البنيوية والتنظيمية. إن الكيمياء الحيوية للعضلات معقَّدة بشكل هائل، ولكن يخرج من خلال التعقيد بصيص من نور التبسيط. وهذه البساطة ليست مجرد حيلة مساعدة، بل إنها أساسية في تطور النظم المعقدة؛ إذ تُوجَد في الأنسجة وأنواع الكائنات المختلفة طرق كثيرة للتحكم في ربط الميوسين بالأكتين. وكل هذه التفصيلات الكيميائية الحيوية تُذكِّرنا بزخارف الروكوكو في الكنائس القديمة من زمن فن الباروك؛ إذ يمكن اعتبار كل كنيسة منها تحفة فنية في حدِّ ذاتها، بالرغم من اعتبارها كنيسة من الناحية الدينية. وبالمثل، بالرغم من اختلافات الروكوكو في الوظيفة العضلية، فدائمًا يرتبط الميوسين بالأكتين عند نفس الموقع، كما يعطي ثلاثي فوسفات الأدينوسين الطاقة دائمًا للشعيرات العضلية المنزلقة.
ولنأخذ العضلات الملساء مثالًا، تلك العضلات التي أذهلت قُدْرَتُها على قبض العضلات العاصرة والشرايين ويليام بومان ومعاصريه من العصر الفيكتوري. تلك العضلات الملساء تفتقر إلى الخطوط التي تتميَّز بها العضلات الهيكلية، ومع هذا فإنها تعتمد على الميوسين والأكتين في انقباضها، وتتشكل شعيراتها بطريقة أكثر بساطة بكثير، فلا تنبئ عن أي نمط ميكروسكوبي معقد. كما أن التفاعلات بين الأكتين والميوسين تكون مبسطة فيها؛ إذ يحدث تدفق للكالسيوم لينشط رءوس الميوسين مباشرةً، خلافًا للمسار الالتفافي الذي يحدث في العضلات الهيكلية. ومع ذلك، فمن النواحي الأخرى يكون انقباض العضلات الملساء مشابهًا للعضلات الهيكلية. ففي كلتا الحالتين ينتج الانقباض عن ارتباط الميوسين بالأكتين؛ ليدور في نفس الدورة التي يمنحها ثلاثي فوسفات الأدينوسين الطاقة اللازمة.
قد توحي هذه البساطة النسبية بأن العضلات الملساء هي خطوة على مسار تطوُّر العضلات الهيكلية؛ فالعضلات الملساء نسيج انقباضي يؤدِّي وظائفه بشكل جيِّد وبدرجة كافية بالرغم من افتقاره إلى بنية ميكروسكوبية معقدة، إلا أن هناك دراسات أُجريَتْ على بروتينات العضلات في أنواع مختلفة من الكائنات تظهر أن تطوُّر العضلات لم يكن بهذه البساطة التي قد يتصوَّرها البعض. من هذه الدراسات دراسة متأنية ومدققة أجراها عالمان في علم الوراثة، هما ساتوشي أووتا ونارويا سايتو من المعهد القومي لعلم الوراثة بمدينة ميشيما باليابان، وجدت أن نخبة من البروتينات في العضلات الهيكلية للثدييات تكون مماثلة لما يناظرها في عضلات الطيران المخططة في الحشرات لدرجة توحي بأن كليهما نشأ من سلف مشترك للفقاريات واللافقاريات كان يعيش منذ حوالي ٦٠٠ مليون سنة. وذلك السلف المشترك يُرجَّح أنه كانت فيه عضلات مخططة حتى وإن لم يكن يمتلك هيكلًا عظميًّا في جسمه. وينطبق قدر كبير من هذا نفسه على بروتينات العضلات الملساء، فهي أيضًا يمكن تتبُّع أصولها وصولًا إلى سلف مشترك مماثل؛ فالعضلات الملساء لم تكن مطلقًا خطوة على مسار تطوُّر العضلات الهيكلية الأكثر تعقيدًا، بل سلكت مسارًا تطوريًّا منفصلًا.
إنها حقيقة جديرة بالملاحظة: أن يكون الميوسين في عضلاتنا الهيكلية أكثر ارتباطًا بالميوسين المشتق من عضلات الطيران بتلك الذبابة المنزلية المزعجة التي تطن حول رأسك مما هو بالميوسين الذي في العضلات العاصرة التي تتحكم في عملية الإخراج في جسمك. ومما يثير الدهشة أن هذا الاختلاف يرجع إلى أبعد مما قد تتخيل، ويبدو أنه حتى يسبق نشوء خاصية التناظر الجانبي التي يتشارك فيها كل الحشرات والفقاريات. وفيما يبدو، فإن قنديل البحر لديه أيضًا عضلات مخططة يمكن مقارنتها مجهريًّا بعضلاتك. وهكذا فإن كلًّا من العضلات الملساء والعضلات المخططة ينقبضان باستخدام نظام متشابه من الأكتين والميوسين، ولكن كلًّا من النظامين على ما يظهر قد نشأ بشكل مستقل من سلف مشترك كان لديه كلا النوعين من الخلايا، وهذا السلف المشترك يُعَدُّ ضمن أقدم الحيوانات، من زمن تسيَّدت فيه قناديل البحر جميع الكائنات!
لكن بالرغم من هذا الاختلاف التطوري قديم الزمن لدرجة غير متوقعة بين العضلات المخططة والملساء، فمن الواضح أن جميع الأشكال التي لا حصر لها من الميوسين قد نشأت من سلف مشترك؛ فكلها تتشارك في نفس البنية الأساسية، وكلها ترتبط بالأكتين وبثلاثي فوسفات الأدينوسين عند نفس المواقع، وكلها تدور خلال نفس الدورة الحركية. وإذا كانت الميوسينات في كلٍّ من العضلات المخططة والملساء مشتقة من سلف مشترك، فيُرجَّح أن ذلك السلف كان أكثر بدائية من قنديل البحر، ويُرجَّح أنه لم يكن يمتلك عضلات مخططة ولا ملساء، إلا أنه كان يستفيد بشكل ما من الأكتين والميوسين. فما الذي كانت تفعله هاتان المادتان في ذلك السلف العتيق؟ الإجابة ليست جديدة، بل تعود إلى عقد الستينيات من القرن العشرين، ويمكن تحديدها في اكتشاف واحد غير متوقع. ولكن بالرغم من قِدَمها، فإن قلة من الاكتشافات في علم الأحياء ككلٍّ كانت لها قوة واضحة كتلك، بينما تفتح في الآن عينه نافذة على عملية نشوء العضلات وتطورها. فلقد وجد هيو هكسلي أن الأكتين يمكن «تزيينه» برءوس الميوسين وأن يُشاهَد بالمجهر الإلكتروني. دعني أفسر لك هذا.
يمكن استخراج جميع الشعيرات المختلفة من العضلات وتكسيرها إلى أجزائها المكونة لها. فرءوس الميوسين، على سبيل المثال، يمكن فصلها عن ذيولها الطويلة وإعادة ربطها بالأكتين في أنبوبة اختبار. وفي ضوء الظروف المناسبة يعيد الأكتين تشكيل نفسه سريعًا إلى شعيرات طويلة، فالبلمرة خاصية تُوجَد في صميم تكوين الأكتين. حينئذٍ تلتصق رءوس الميوسين بالشعيرات، كما يحدث تمامًا في العضلة السليمة، وتصطف مثل رءوس السهام الصغيرة جميعًا على طول الشعيرة. وكل رءوس السهام هذه تشير إلى نفس الاتجاه؛ مما يظهر قطبية الشعيرات الأكتينية. فهي دائمًا تتجمع في هيئة واحدة فحسب، ودائمًا ما يرتبط الميوسين في نفس الاتجاه، ومن ثم تتولَّد القوة العضلية. (وفي القسيمات العضلية ينعكس وضع هذه القطبية عند نقطة المنتصف، مع سحب كلتا النهايتين تجاه المنتصف؛ ومن ثمَّ يحدث انقباض لكل قسيم عضلي كوحدة واحدة. ويؤدي انقباض القسيمات العضلية المتتابعة إلى تقصير العضلة ككلٍّ.)
•••
في عالم الموسيقى، ثمة شيء أحبه للغاية في التنويعات. فحينما كان الموسيقار الألماني بيتهوفن شابًّا يافعًا يؤدي عزفًا أمام الموسيقار النمساوي موتسارت، يُقال إن موتسارت لم يُعجَب بعزفه بصفة خاصة، باستثناء مهارته في الارتجال؛ بمعنى قدرته على إصدار تقاسيم إيقاعية ولحنية منوَّعة من جملة موسيقية بسيطة. وفي مشوار حياته بعد ذلك، وجدت موهبتُه تلك مَثَلَها الأعلى في التنويعات اللحنية الرائعة للموسيقار ديابللي. وكانت تنويعات بيتهوفن صارمة التكوين تمامًا مثل تنويعات مقطوعة جولدبرج الرائعة للموسيقار باخ الذي سبقهم. وقد حافظ على الخطة التناغمية الأساسية للحن كله؛ مما أكسبه ككلٍّ توحدًا وانسجامًا يمكن إدراكه فورًا وتقديره. وبعد بيتهوفن، هبط لدى الكثيرين مستوى هذه الدقة والصرامة، وغلب على الملحنين الموسيقيين تركيزهم على الحالات المزاجية والانطباعات، إلا أن موسيقاهم تفتقر إلى الحس الرياضي المتسم بالجلال والفخامة، وتفتقر إلى الشعور بأن كل فارق دقيق خفي في النغمات تم استخراجه، وكل بُعد سري جُعل واقعًا، وكل قدرة ممكنة تحققت.
هذه القدرة على صنع جملة موسيقية أساسية وعزف تنويعات لحنية يمكن إدراكها وتذوقها، مع الحرص دائمًا على إبقاء اللبنات البنائية للتركيبة الموسيقية، لها صدى يتوافق في علم الأحياء. فهناك جملة أو فكرة أساسية، وهي التفاعلات الحركية بين الميوسين والأكتين مثلًا، يتم تنويعها حسب التصور اللانهائي للانتقاء الطبيعي، وصولًا إلى نظام مذهل من حيث التركيب والوظيفة. ويُعتبَر العالم الداخلي لأي خلية معقدة دليلًا على هذه القدرة غير العادية على التنويع الدقيق.
التفاعلات بين البروتينات الحركية وشعيرات الهيكل الخلوي مسئولة عن عالم الحركة بكامله في الخلايا المعقدة؛ داخليًّا وخارجيًّا. هناك الكثير من الخلايا التي تنزلق زاحفة على سطح صلب دون جهد ملحوظ، ولا أطراف ضاربة، ولا التواءات وتمعجات جسمية. وهناك خلايا أخرى تكوِّن بروزات تُسمَّى الأقدام الكاذبة؛ وهذه تمتد ساحبة الخلية إلى الأمام، أو تبتلع فرائسها في ثنياتها البروتوبلازمية. وهناك خلايا أخرى لديها أهداب أو أسواط تعمل حركاتها الانثنائية المتموجة والإيقاعية على تحريك الخلايا هنا وهناك. وداخل الخلايا يدور السيتوبلازم محرِّكًا محتويات الخلية في حركة دائرية موجية مستمرة. وفي عالم الخلية الدقيق جدًّا، تسرع الأجسام الكبيرة نسبيًّا مثل الميتوكوندريا جيئةً وذهابًا، وتؤدي الكروموسومات رقصتها المهيبة ثم تنسحب إلى ركنيها المنفصلين. وسرعان ما تنقسم الخلية بعدها إلى اثنتين؛ بحدوث اختناق في منتصف الخلية وكأنه بفعل مشد خصر شديد الضيق. وكل هذه الحركات تعتمد على عدة أدوات جزيئية يكون فيها الأكتين والميوسين العنصرين النموذجيين. وتعتمد هذه الأمور كلها على تنويعات صارمة لجملة «موسيقية» واحدة.
وإذا استطعت أن تنكمش وتُصغِّر حجمَك إلى حجم جزيء من ثلاثي فوسفات الأدينوسين على سبيل المثال، فستجد الخلية كأنها مشهد لمدينة شاسعة من مدن المستقبل. في جميع الاتجاهات تمتد مجموعة هائلة مذهلة من الكبلات، مدعومة بالمزيد أيضًا من الكبلات، بعضها يبدو رقيقًا ورفيعًا، بينما يبدو البعض الآخر سميكًا. في هذه المدينة الخلوية تكون الجاذبية بلا معنى، بينما تسود اللزوجة، وكذلك الذرات التي تهتز عشوائيًّا. حاوِلْ أن تتحرك وستجد نفسك عالقًا كأنك في وعاء من العسل، ولكنك في الوقت عينه تتعرض لصدمات عنيفة تجعلك تهتز من جميع الجهات. ثم فجأة وأنت في داخل هذه المدينة الصاخبة تأتي آلة مميزة تتحرك بسرعة مفزعة، بتقدم سريع متواصل، وبطريقة آلية مستخدمة واحدًا من الكبلات مسارًا لها. ويتصل بهذه الآلة المندفعة من خلال أداة وصل معقدة جسم شاسع حقًّا يتم جره بسرعة. إذا كنت في طريقها فستشعر كأنك ضُربت بمحطة طاقة طائرة. وهي حقًّا كذلك، فهذا هو الميتوكوندريون وهو في طريقه لتزويد الأشغال الرئيسية الموجودة في الجانب الآخر من المدينة بالطاقة. ثم ترى أجسامًا أخرى عديدة، تنطلق كلها في نفس الاتجاه، بعضها على نحوٍ سريع والبعض الآخر على نحوٍ بطيء، ولكنها جميعًا يتم جرها على طول تلك المسارات في السماء بآلات مشابهة. ثم فجأة! … مع مرور الميتوكوندريون تجد نفسك أسير تيار يجعلك تدور في دوامة. لقد صرت الآن جزءًا من الدورة المستمرة التي تقلِّب محتويات جميع الخلايا المعقدة؛ إنه التيار السيتوبلازمي.
هذا وصف بالغ الصغر لكمٍّ هائل من التعقيد يصعب علينا للغاية استيعابه، ولكن بالرغم من غرابة هذه المدينة الكبيرة المستقبلية، لا بد أن يكون هناك شيء من الألفة في هذا الأمر. فهذا الوصف قد ينطبق على أي خلية من خلايا جسمك، أو خلية نبات أو فطر أو حيوان أولي وحيد الخلية يسبح في بركة قريبة منك. فإن هناك وحدة رائعة لعالم الخلايا تجعلك تحس بشعور عميق بالارتباط والانتماء للعالم الذي حولك. ومن وجهة نظر الخلية، فأنت مجرد تعديل آخر في خطة الجسم، أو مجرد وسيلة أخرى لبناء شيء رائع بلبنات متشابهة، ويا لها من لبنات! وتلك المدينة الكبيرة اللاهثة، أي الخلية المعقدة، التي تُوجَد في جميع حقيقيات النوى (كائنات تتكوَّن من خلايا معقدة بكل منها نواة؛ انظر: الفصل الرابع) تختلف عن العالم الأكثر بساطة بكثير الذي في داخل البكتيريا. وإن جانبًا كبيرًا من هذا الاختلاف يمكن أن يُعزى إلى وجود ذلك الهيكل الخلوي الرائع وحركته المرورية المستمرة التي تدير بلا كلل جميع محتويات الخلية. ودون تدفق تلك الحركة المرورية التي لا تتوقف ستكون المدينة الخلوية العظيمة مثل مدننا الكبيرة إذا خلت شوارعها من زحام المارة والسيارات.
وكل حركة المرور داخل الخلية يتولى أمرها محركات بروتينية تعمل بطريقة متشابهة بصفة عامة. أول هذه المحركات هو الميوسين الذي يشغِّل شعيرات الأكتين لأعلى وأسفل، تمامًا كما يفعل في العضلات. ولكن هنا تبدأ التنويعات والاختلافات؛ ففي العضلات تقضي رءوس الميوسين تسعة أعشار وقتها منفصلة عن شعيرات الأكتين، فإذا لم تفعل هذا وبقيت مرتبطة بها فسوف تسبب إعاقة مادية للرءوس الأخرى مانعة إياها من التأرجح، وسيكون هذا الأمر مثل سفينةٍ رفض مجدفوها أن يسحبوا مجاديفهم من الماء. وفي العضلات يعمل هذا النظام بشكل جيِّد لأن رءوس الميوسين تكون مجاورة لشعيرات الأكتين بذيولها الطويلة، التي تتضافر معًا في الشعيرة السميكة. ولكن بالنسبة لشعيرات الأكتين السلكية المعلقة، التي تجوب الخلية جيئةً وذهابًا، سيكون هذا النظام أكثر تسببًا للمشكلات. فما إن تنفصل المحركات عن الشعيرة، فإنها تُضرَب بعنف في هذا الاتجاه أو ذاك، وتناضل حتى تستعيد قبضتها (وإن كانت في بعض الحالات، تعمل التفاعلات الكهربائية على إبقاء تلك البروتينات الحركية مقيدة بالقرب من كبلاتها).
•••
والسؤال الآن: من أين جاءت هذه المجموعة الرائعة من البروتينات الحركية؟ لا يُوجَد شيء يماثلها في عالم البكتيريا. كما أن الأكتين والميوسين ليسا مسببَي التحريك الوحيدين في الخلايا حقيقية النوى، بل تُوجَد عائلة ثانية من البروتينات الحركية تُسمَّى الكينيزينات، ولكن الأسلاك العالية المرتبطة بها ليست أسلاك الأكتين الرفيعة، ولكن أنابيب أخرى أكبر سمكًا تُسمَّى الأنيبيبات الدقيقة، وهي تتركب من وحدات فرعية من بروتين يُسمَّى التيوبيولين. وتُعتبَر الكينيزينات مسئولة أيضًا، ضمن مهام أخرى كثيرة، عن الفصل بين الكروموسومات على مغزل من الأنيبيبات الدقيقة أثناء انقسام الخلية. وثمة أنماط أخرى من البروتين الحركي أيضًا ولكن لا حاجة بنا لأن نخوض في تفاصيل كثيرة عنها.
على المستوى التفصيلي للتسلسلات الجينية، لا يُوجَد شيء مشترك تقريبًا بين النوعين الرئيسيين من البروتينات الحركية؛ وهما: الميوسينات، والكينيزينات. قد تُوجَد في هذا الموضع أو ذاك بعض نقاط التشابه، ولكنها اعتُبِرت لفترة طويلة مجرد مصادفة أو حالة من التطور المتقارب. وحقًّا لقد بدت الكينيزينات والميوسينات حالةً تقليديةً من التطور المتقارب؛ حيث يصير نوعان لا علاقة بينهما من البروتينات متخصصَيْن في أداء مهمة متماثلة. ومن ثم صارت البنية الأساسية لهما متشابهة، تمامًا كما نشأت أجنحة الخفافيش والطيور بصفة مستقلة بحيث وجدا حلولًا متشابهة للتحديات الشائعة للطيران.
وقد تمَّتْ معرفة التراكيب ثلاثية الأبعاد لتلك البروتينات باستخدام تقنية التصوير البلوري. ففي حين يعطي التسلسل الجيني تتابعًا ثنائي الأبعاد للحروف — مثل كلمات للأوبرا بدون موسيقى — يعطي التصوير البلوري طوبوغرافيا ثلاثية الأبعاد للبروتين، مثل أوبرا كاملة رائعة الجمال. وقد حدث ذات مرة أن قال الموسيقار الألماني فاجنر إن الموسيقى يجب أن تنشأ من الكلمات في الأوبرا؛ أي إن الكلمات يجب أن تأتي أولًا ويتم تركيب الموسيقى عليها. ولكن لا أحد يتذكر فاجنر لمشاعره التيوتونية (أي الألمانية العتيقة) الجياشة وحدها، ولكن موسيقاه هي التي عاشت لتسعد الأجيال التالية. وكذلك فإن التسلسل الجيني يضاهي الكلمة في الطبيعة، إلا أن الموسيقى الحقيقية للبروتينات تكون مختفية في أشكالها، وتلك الأشكال هي التي تعيش بالرغم من الانتقاء الطبيعي. فذلك الانتقاء لا تعنيه التسلسلات الجينية ولا بمثقال ذرة، ولكن تعنيه الوظيفة. ومع أن الجينات هي التي تحدد الوظيفة، فغالبًا جدًّا ما يتم هذا عن طريق تحديد شكل البروتين، من خلال قواعد الطي أو الانثناء التي لا تزال لا يُعرَف عنها إلا القليل. ونتيجة لذلك، يمكن أن تنجرف التسلسلات الجينية المختلفة بعيدًا لدرجة تجعلها لا يحمل بعضها لبعض أي تماثل، كما في حالة الميوسينات والكينيزينات. إلا أن الموسيقى الأكثر عمقًا للكرات البروتينية ظلت باقية، وقد كشفت عنها تقنية التصوير البلوري.
لقد منحتنا تقنية التصوير البلوري اكتشافات مبهرة بشأن نشأة وتطور الهيكل الخلوي أيضًا؛ تلك الأسلاك العالية المحلقة من الأكتين والتيوبيولين. وقد يسأل البعض: لماذا تنشأ لدى خلية ما شبكة من الأسلاك العالية ومسارات سريعة للبروتينات الحركية في غياب تلك البروتينات الحركية نفسها؟ ألا يكون هذا بمنزلة وضع للعربة أمام الحصان؟ والإجابة: إن هذا لا يكون صحيحًا إذا كان الهيكل الخلوي قيِّمًا في حدِّ ذاته. وتكمن قيمته في خصائصه البنيوية. يتم الحفاظ على أشكال جميع الخلايا حقيقية النوى — من الخلايا العصبية الطويلة والمغزلية إلى الخلايا الطلائية المسطحة — بفضل ألياف الهيكل الخلوي، وقد تبيَّن أن الكثير من هذا ينطبق أيضًا على البكتيريا. على مدى أجيال سابقة كان علماء الأحياء يعزون الكثير من أشكال البكتيريا (كالعصوية واللولبية والهلالية … إلخ) إلى الجدر الخلوية الصلبة التي تحيط بالخلية. ومن ثم كانت مفاجأة في منتصف التسعينيات من القرن العشرين أن يكتشف العلماء أن للبكتيريا هيكلًا داخليًّا خلويًّا أيضًا، وهو يتكون من ألياف رفيعة تبدو إلى حد بعيد مثل الأكتين والتيوبيولين، وهي ألياف تعرف اليوم أنها مسئولة عن الحفاظ على الأشكال البكتيرية الأكثر تعقيدًا (يؤدي حدوث طفرات في الهيكل الخلوي إلى عودة تلك الأشكال البكتيرية المعقدة إلى أشكالها الكروية البسيطة).
وكما هو الحال بالنسبة للبروتينات الحركية، لا يُوجَد سوى القليل من التماثل الجيني بين البروتينات البكتيرية والبروتينات حقيقية النوى. إلا أن البنى ثلاثية الأبعاد التي فُحصت باستخدام التصوير البلوري في حوالي بدايات الألفية الحالية كانت أكثر إثارة للذهول حتى من البروتينات الحركية؛ فلقد وجد أن البنى البروتينية البكتيرية وحقيقية النوى تكاد تكون منطبقة بعضها على بعض. فلها نفس الأشكال، ونفس الفراغات، وقليل من نفس الأحماض الأمينية المهمة في نفس الأماكن. فمن الواضح أن هيكل الخلية حقيقية النواة نشأ من هيكل مشابه في البكتيريا. ومع حفظ الشكل تحفظ الوظيفة؛ فكلاهما يؤدي دورًا بنيويًّا واسعًا، ولكن في كلتا الحالتين، يكون هيكل الخلية قادرًا على أداء أكثر من مجرد الدعم الاستاتيكي. فهو ليس مثل هيكلنا العظمي الصلب، بل هو ديناميكي، يتغير ويُعاد تعديله بصفة مستمرة، فهو غير ثابت بل يتحرك دائمًا مثل سحب في يوم عاصف. ويمكنه بذل القوة وتحريك الكروموسومات هنا وهناك، وتقسيم الخلايا إلى نصفين أثناء التكاثر بالتضاعف، ويمكنه في حالة الخلايا حقيقية النوى — على الأقل — مد بروزات خلوية، بدون مساعدة من أي من البروتينات الحركية على الإطلاق. وبمختصر القول، يكون الهيكل الخلوي قابلًا للحركة ذاتيًّا. فكيف يحدث هذا؟
•••
تتكوَّن شعيرات كلٍّ من الأكتين والتيوبيولين من وحدات بروتينية فرعية تترتب في سلاسل طويلة، أو بوليمرات. وهذه القدرة على البلمرة ليست شيئًا غير عادي؛ فالمواد البلاستيكية ما هي إلا بوليمرات تتركب من وحدات أساسية تتكرر في شكل سلاسل جزيئية مطوَّلة. أما الأمر غير العادي المتعلق بالهيكل الخلوي فهو أن بنيته تخضع لتوازن ديناميكي؛ بمعنى أنه يُوجَد اتزان يتغيَّر باستمرار بين وحدات تُضاف ووحدات تُحذَف، وبين التبلمر وإزالة البلمرة. ونتيجة لهذا يُعاد تعديل الهيكل الخلوي باستمرار، بناءً وهدمًا. ولكن هنا مكمن السحر؛ إذ إن الوحدات البنائية تُضاف فقط عند أحد طرفي السلسلة البوليمرية وتنفصل من الطرف الآخر (وهي تتركب على بعضها البعض بشكل متناسب مثل قطع الليجو، أو بالأحرى، مثل كومة من كرات لعبة الريشة الطائرة) وهذا يمنح الهيكل الخلوي القدرة على توليد القوة، وإليك السبب.
فإذا كان المعدل الذي تتم به إضافة وحدات إلى أحد طرفي السلسلة مساويًا لمعدل انفصال الوحدات من الطرف الآخر، فإن البوليمر ككلٍّ يبقى طوله ثابتًا. وفي هذه الحالة تبدو السلسلة متحركة للأمام في الاتجاه الذي تُضاف عنده الوحدات الفرعية؛ فإذا وقف جسم ما في مسار السلسلة المتحركة، فإنه يمكن أن يُدفع ماديًّا للأمام. في واقع الأمر إنه لا يتم تحريكه للأمام بفعل السلسلة نفسها حقًّا، ولكن ما يحدث واقعيًّا هو أن ذلك الجسم يُضرَب بفعل اهتزاز القوى الجزيئية العشوائية؛ وفي كل مرة تنفتح ثغرة صغيرة بين الجسم ونهاية السلسلة النامية تتسلل وحدة فرعية إضافية وترتبط بالسلسلة. ويمنع امتداد السلسلة بهذه الطريقة حركة الجسم إلى الوراء، ومن ثم يميل الاهتزاز العشوائي لدفعه إلى الأمام.
ولعل أوضح مثال لهذا يمكن رؤيته في بعض حالات العدوى البكتيرية؛ حيث تُدمِّر البكتيريا بنية الهيكل الخلوي. فالليستيريا، على سبيل المثال، التي يمكن أن تسبب الالتهاب السحائي في الأطفال حديثي الولادة، تفرز اثنين أو ثلاثة من البروتينات التي تستولي معًا على الهيكل الخلوي لخلية العائل. ونتيجة لهذا تتحرك البكتيريا داخل الخلية المصابة بالعدوى، مدفوعة بطرف الأكتين الذي يُمثِّل «ذيل المذنب»، والذي يرتبط وينفصل وراء البكتيريا دافعًا إياها. ويُعتقَد أن هناك عملية مشابهة تحدث في البكتيريا نفسها لفصل الكروموسومات والبلازميدات (وهي دوائر صغيرة من الدي إن إيه) أثناء التكاثر الخلوي التضاعفي. وهناك شيء مشابه يحدث في الأميبا (بل وفي بعض الخلايا المناعية البشرية مثل الخلايا البلعمية الكبيرة)؛ إذ تتكوَّن البروزات الخلوية التي تُسمَّى الأقدام الكاذبة بقوة الدفع نتيجة لارتباط وانفصال شعيرات الأكتين نفسها، ولا حاجة هنا لأي بروتينات حركية معقدة مطلقًا.
ومن المرجح أن شيئًا مشابهًا قد حدث في حالة الهيكل الخلوي الأصلي منذ زمن بعيد؛ فوحدات ألياف الأكتين والتيوبيولين مشتقة أصلًا من بروتينات عادية كانت تمارس وظائف أخرى تتعلق بالخلية. وقد حدثت تغيُّرات طفيفة قليلة في بنيتها، كما يحدث في حالة الهيموجلوبين المتغير، مكنتها من أن تتشكل تلقائيًّا إلى شعيرات. ولكن من المرجح أن هذا التغير، خلافًا لأنيميا الخلايا المنجلية، كانت له فائدة فورية؛ إذ عضدته عملية الانتقاء الطبيعي. ويُحتمَل أن هذه الفائدة الفورية لم تكن مباشرة أو حتى متعلقة بالحركة. وفي الواقع إن تكوُّن هيموجلوبين الخلايا المنجلية يتم بالانتقاء الطبيعي (أي بشكل مقصود) في المناطق التي يتوطَّن بها مرض الملاريا؛ إذ إن وجود نسخة واحدة من الجين الشاذ يحمي من الملاريا. فمع أن التشكل التلقائي لهيكل خلوي غير مطلوب أصلًا يتسبب في حدوث نوبات مؤلمة وطويلة الأمد (لأن الخلايا المنجلية غير مرنة وتسد الشعيرات الدموية) فإن الانتقاء الطبيعي حافظ عليه ولم يمنعه؛ لأن له فائدة قيِّمة وغير مباشرة؛ إذ يمنع العدوى بطفيليات الملاريا.
وهكذا فإن روعة الحركة — منذ بداياتها الأولية، وحتى القوة الرائعة للعضلات الهيكلية — تعتمد على أنشطة عدد قليل من البروتينات وأشكالها المتغيرة بلا حصر. والمشكلة الباقية اليوم هي إزاحة كل هذه المتغيرات العجيبة للكشف عن الجملة الموسيقية الأصلية، أو اللحن البسيط الذي بدأ ذلك كله. ويُعتبَر هذا من أكثر مجالات البحث العلمي إثارةً للاهتمام والجدل اليوم؛ فذلك اللحن قد غنته أم جميع الخلايا حقيقية النوى من قبل؛ ربما منذ مليارَيْ عام. ومن الصعب استعادة أصداء الأنغام بعد تلك الحقبة البعيدة، وليس من المعروف كيفية نشوء خاصية الحركة لدى أوائل الخلايا حقيقية النوى على التحقيق. ولا نعرف بشكل مؤكد ما إذا كان التعاون المشترك (أي التكافل والتكامل) بين الخلايا قد لعب دورًا مهمًّا كما شدد لين مارجوليس، أو ما إذا كان الهيكل الخلوي قد نشأ من جينات موجودة بالفعل في خلية العائل. وثمة بعض الألغاز المحيِّرة من شأنها حين تجد الإجابة أن تمدنا برؤية أوضح. ففي البكتيريا، على سبيل المثال، يتم فصل الكروموسومات بعضها عن بعض باستخدام شعيرات الأكتين، بينما يتحقَّق الشد الذي يقسم الخلايا أثناء التكاثر التضاعفي باستخدام الأنيبيبات الدقيقة من التيوبيولين. والعكس صحيح بالنسبة للخلايا حقيقية النوى؛ حيث تتكوَّن خيوط المغزل التي تفصل الكروموسومات أثناء انقسام الخلية من الأنيبيبات الدقيقة، بينما يتكوَّن «المشد» المنقبض الذي يقسم الخلية من الأكتين. وحين نعرف كيف ولماذا يحدث هذا الانعكاس الوظيفي سنحصل على فهم أفضل للتاريخ التفصيلي للحياة على الأرض.
إلا أن هذه التحديات الكبيرة أمام الباحثين تُعتبَر في الحقيقة تفاصيل ضمن صورة شاملة صارت الآن واضحة على نطاق واسع؛ فنحن نعرف الآن ماهية البروتينات التي منها نشأ الهيكل الخلوي ونشأت البروتينات الحركية. ولا يهم كثيرًا في إطار هذه الصورة الشاملة مصدر هذه البروتينات، سواء أكانت بكتيريا متكافلة أم خلية عائل؛ فكلاهما مصدر مقبول ظاهريًّا، وحينما نعرف الإجابة لن تنهار أسس علم الأحياء الحديث. وثمة حقيقة مؤكدة: فإذا كانت هناك كائنات حقيقية النوى تعوزها القدرة على التحرك هنا وهناك، وأن تبذل القوى باستخدام هيكل خلوي ديناميكي وبروتينات حركية، فمعنى هذا أنه ليس بالإمكان العثور عليها الآن؛ فلقد ماتت منذ دهور من الزمان، وكذلك ذريتها كلها. لقد كان سلف جميع حقيقيات النوى الحية متحركًا، ويُفترض أن قابلية الحركة جلبت معها مزايا كبيرة؛ ولذا يُحتمَل أن نشوء قابلية الحركة حقَّقَ تغييرًا أكبر من مجرد تعقيد الأنظمة البيئية على طول الزمان. فلربما ساعد هذا على تغيير وجه كوكبنا الأرضي، من عالم بسيط تسوده البكتيريا إلى ذلك العالم الزاهر والزاخر بعجائب الكائنات التي نراها اليوم.