الدم الحار
تقول كلمات أغنية من أغنيات الأطفال إن الوقت يمر سريعًا حينما تكون سائقًا لقطار. أيضًا ما من أحد منا ينسى ذلك الشعور المناقض، شعور مرور دقائق كثيرة من الملل الذي يكاد يُوقِف العقل، وهو جالس في المقعد الخلفي للسيارة يسأل أباه مرة تلو الأخرى: «أَلَمْ نَصِلْ إلى وجهتنا بَعْدُ يا أبي؟» وأتخيَّل أن معظم القراء سيتذكَّرون أيضًا الضيق الذي كانوا يشعرون به وهم يشاهدون أجدادهم المسنين أو آباءهم وقد بطؤت حركتهم حتى صارت بسرعة السلحفاة، ثم يجلسون، بشكل غير مفهوم، والساعات تمر بهم كأنها دقائق. كلا النقيضين بعيدٌ جدًّا عن سرعة عالمنا الخاص، إيقاع حياتنا المعتدل بوصفنا بشرًا ناضجين.
ما من موضع تتجلَّى فيه أهمية المعدل الأيضي أكثر من الفارق بين الكائنات ذات الدم الحار والكائنات ذات الدم البارد. صحيحٌ أنَّ هذين اللفظين يُثِيران اعتراض علماء الأحياء، إلا أنهما لفظان مفعمان بالحيوية والمعاني الواضحة لغالبية الناس، ويُوصلان المعاني المطلوبة تمامًا مثلما تفعل الألفاظ التقنية المقابلة المعقَّدة مثل ثبات الحرارة وتغيُّر الحرارة (المقابلين للدم البارد والدم الحار على الترتيب). إنه لأمر يثير الاهتمام، ولكني لاحظت أن هناك أوجهًا قليلة في علم الأحياء نشعر حيالها بالتعصُّب الزائد نحن أصحاب الدم الحار. ومن الصعب تبرير ذلك الغضب الذي يظهر في الدوريات وعلى شبكة الإنترنت عند الحديث عن الديناصورات وعمَّا إذا كانت في زمانها من ذوات الدم الحار أم البارد؛ فيبدو أن هناك فارقًا انفعاليًّا، ربما كانت له علاقة باعتزاز البشر بأنفسهم، بين تعرُّض أسلاف البشر للالتهام من جانب تلك العظايا العملاقة، أو من جانب وحوش ماهرة ماكرة سريعة الحركة كان علينا أن نبذل أقصى ما في وسعنا كي نظل أحياء في وجودها. يبدو أننا معشر الثدييات ما زلنا نحمل في قلوبنا الضغينة والمرارة بسبب ما قضاه أسلافنا من الحيوانات الصغيرة ذات الفراء في كهوف وجحور تحت الأرض منكمشين ومرتعدين خوفًا من المفترسات الشرسة الكبيرة التي كانت سائدة في الزمن الماضي. ولكن هذا حدث من ١٢٠ مليون عام، وهو وقت طويل جدًّا وفق أي حساب.
إن ما يُسمَّى الدم الحار إنما يتعلَّق أساسًا بسرعة الأيض، وبسرعة إيقاع الحياة. إن خاصية الدم الحار تُفِيد في حد ذاتها؛ إذ تسرع جميع التفاعلات الكيميائية مع تزايد درجة الحرارة، بما فيها التفاعلات الكيميائية الحيوية التي تدعم الحياة. وعلى امتداد ذلك النطاق المحدود من درجات الحرارة ذات الدلالة البيولوجية من حوالي صفر إلى ٤٠ درجة مئوية في الحيوانات نَجِد الفارق في الأداء الوظيفي شديدًا؛ إذ يتضاعف استهلاك الأكسجين، على سبيل المثال مع كل زيادة قَدْرها ١٠ درجات مئوية في درجة الحرارة في هذا المدى؛ وهو ما يعني زيادة في النشاط والقوة. ومن ثم يكون لدى حيوان ما درجة حرارته ٣٧ درجة مئوية ضعف قوة حيوان آخر درجة حرارته ٢٧ درجة مئوية، وأربعة أضعاف قَدْر قوة حيوان درجة حرارته ١٧ درجة مئوية.
لكن نجد إلى حدٍّ بعيد أن درجة الحرارة لا تلتزم بهذا النظام في كل الأحوال. فالحيوانات ذوات الدم الحار ليست بالضرورة أكثر حرارةً من ذوات الدم البارد؛ فمعظم الزواحف بارعة في امتصاص الطاقة من الشمس، فتدفئ أجسامها وترفع درجة حرارتها الداخلية إلى مستويات مماثلة للطيور والثدييات. من المؤكَّد أنها لا تحافظ على درجة الحرارة المرتفعة هذه بعد حلول الظلام، ولكن لا تَنْسَ أنَّ الطيور والثدييات غالبًا ما تكون خاملة بالليل كذلك. بل ربما تقتصد في الطاقة أيضًا بخفض درجة حرارتها الداخلية، ولكنها نادرًا ما تفعل هذا، أو على الأقل لا تفعل هذا كثيرًا (وإن كانت طيور الطنان كثيرًا ما تدخل في حالة غيبوبة لتحافظ على طاقتها). وفي عصرنا هذا الذي صرنا فيه أكثر وعيًا بقضايا الطاقة، قد تدفع الثدييات المهتمين بالبيئة إلى البكاء؛ إذ نَجِد منظم درجات حرارة الجسم في المخ مضبوطًا عند ٣٧ درجة مئوية، على مدى ٢٤ ساعة يوميًّا، سبعة أيام أسبوعيًّا، بغضِّ النظر عن الاحتياجات. ولا تَسَلْ عن الطاقة البديلة؛ فنحن لسنا ممن يمتصون طاقة الشمس كالعظايا، ولكننا نولِّد الحرارة بشكل مدهش عن طريق محطات توليد الطاقة الحارقة للكربون داخليًّا؛ مما يجعلنا نُخلِّف آثارًا كربونية عملاقة أيضًا. ومن ثم فالثدييات هي الكائنات الأصلية المستنزفة للبيئة.
وقد تظن أن استمرار الثدييات بأقصى طاقتها خلال الليل يعطيها دفعة لبدء العمل في الصباح، إلا أن العظايا لا تضيع الكثير من الوقت في رفع درجات حرارتها لتعود إلى مستويات النشاط المطلوبة. فالعظاءة عديمة الأذنين، على سبيل المثال، لديها جيب دموي في أعلى رأسها، يمكنها من خلاله تدفئة جسمها بكامله سريعًا. وفي الصباح، تطل برأسها خارج جحرها، وتتطلع بعينين حذرتين خوفًا من وجود حيوانات مفترسة؛ لتكون على استعداد للعودة سريعًا إلى جحرها عند الضرورة، وبعد نصف ساعة يكون جسمها في الغالب قد صار دافئًا لدرجة تكفي لكي تغامر بالخروج من الجحر، وإنها لطريقة آمنة تبدأ بها يومها. بطبيعة الحال الانتقاء الطبيعي لا يقنع بوجود وظيفة واحدة لأي سمة. فبعض العظايا، إذا وقعت في الأسر أو أمسك بها حيوان مفترس، تستخدم وسيلة دفاعية هي وصلة من الجيب الدموي برأسها إلى جفنيها؛ ومن خلال الجفنين يمكنها بخُّ الدم على مفترسات، مثل الكلاب، حتى تجد طعمها كريهًا فتلفظها.
من الواضح أن الكثير من الديناصورات لا بد أنها تجاوزت عتبة الحجم هذه بقدرٍ كافٍ؛ مما يجعلها — في واقع الأمر — من ذوات الدم الحار، لا سيما وهي تتمتع بدرجات الحرارة البيئية الدافئة التي كانت تسود جزءًا كبيرًا من كوكب الأرض في تلك العصور المزدهرة. فلم تكن ثمة جبال جليدية، على سبيل المثال، حينئذ، كما كانت مستويات ثاني أكسيد الكربون الجوي أعلى بعشرة أضعاف مما يُوجَد اليوم. بتعبير آخر نقول إن بعض المبادئ الجسمانية البسيطة تعني أن الكثير من الديناصورات لا بد أنها كانت من ذوات الدم الحار بغضِّ النظر عن حالتها الأيضية. بل إن الديناصورات العملاقة التي كانت نباتية الغذاء ربما كانت تجد صعوبة أكثر في فقدان الحرارة مما تجده في اكتسابها. كما أن بعض التراكيب التشريحية الغريبة — مثل الصفائح الدرعية الهائلة التي كانت تُغطِّي جسم الأستيجوصورس — ربما كانت تلعب دورًا ثانويًّا في تبديد حرارة الجسم، دورًا لا يختلف كثيرًا عن دور أذنَيِ الفيل.
لكن لو كان الأمر بهذه البساطة، لما كان ثمة خلاف حول ما إذا كانت الديناصورات من ذوات الدم الحار أم لا؛ فقد كانت كذلك بالتأكيد بهذا المفهوم المحدود، أو على الأقل كان الكثير منها كذلك. والذين يُغرَمون بالألفاظ الرنانة نقول لهم إن هذه الظاهرة يُطلَق عليها اسم «الاحتفاظ بالحرارة بالقصور الذاتي». فلم تكن تلك الحيوانات تحافظ على ارتفاع درجة حرارة أجسامها الداخلية فحسب، بل كانت تُولِّد الحرارة داخليًّا بنفس الطريقة التي تحدث في الثدييات الحديثة، من خلال حرق الكربون. إذن كيف لا تُعتبَر الديناصورات، بالمعنى الأوسع نطاقًا، من ذوات الدم الحار؟ حسنًا؛ إن بعضها قد ينطبق عليه هذا حقًّا كما سنرى لاحقًا. ولكن لكي نفهم التفرد الحقيقي للثدييات أو الطيور بالدم الحار، يلزمنا أن نقوم بعكس الاتجاه الحجمي لنرى ما يحدث في الحيوانات الأصغر حجمًا التي دون «عتبة الدم الحار».
تفكَّرْ في العظاءة. هي من ذوات الدم البارد، بمعنى أنها لا تستطيع أن تحافظ على حرارة جسمها الداخلية على مدار الليل. وبينما يستطيع التمساح الكبير أن يقترب من هذا الهدف على الأرجح، فإن الحيوان كلما كان أصغر حجمًا كان من الأصعب عليه أن يُحقِّقه. أما عزل جسم الحيوان حراريًّا بالفراء أو الريش فلا يفيد إلا إلى حدٍّ معيَّن، ويمكن بالفعل أن يعوق امتصاص الحرارة من البيئة المحيطة. فإذا جرَّبْنا أن نُلبس عظاءةً معطفًا من الفراء (ولا حاجة بنا أن نقول إن بعض الباحثين الجادِّين فعلوا هذا بالضبط)، فسنجد أن العظاءة تزداد برودة باستمرار، ولا يمكنها أن تمتص حرارة الشمس كذلك، ولا أن تولِّد ما يكفي من حرارة داخلية في جسمها لتعوِّض النقص. وهذا بعيدٌ عما يحدث في الثدييات أو الطيور، وهذا يَجُرُّنا إلى التعريف الحقيقي للدم الحار.
تُولِّد أجسام الثدييات والطيور قَدْرًا من الحرارة الداخلية يَصِل إلى عشرة أضعاف أو خمسة عشر ضعف ما تولِّده عظاءة متوسطة الحجم. وهذا يحدث بغضِّ النظر عن الظروف المحيطة. فإذا وضعت عظاءة وحيوانًا ثدييًّا في جو شديد الحر، فستجد أن جسم الحيوان الثديي يستمر في توليد الحرارة الداخلية في جسمه قَدْرَ عشرة أضعاف ما يُولِّده جسم العظاءة، حتى يُصاب بالضرر ويكاد يهلك. وسيُضطَر للخروج من هذا الجو ليبرد جسمه؛ بأن يشرب الماء أو يأخذ حمَّامًا، أو يلهث، أو يلجأ إلى الظل أو يستخدم المروحة أو يشرب مشروبًا باردًا، أو يستخدم مكيف الهواء. أما العظاءة فستستمتع بهذا الجو. فلا غرو أن نجد العظايا والزواحف عامةً تَطِيب معيشتها في الصحاري والأجواء الحارة.
والآن جرِّب وضع العظاءة والحيوان الثديي في أجواء باردة، وليكن قريبًا من درجة التجمُّد، حينئذٍ ستدفن العظاءة نفسها في أوراق الشجر، وتكوِّر جسمها وتذهب في نوم عميق. وللحقِّ نقول إن الكثير من الثدييات الصغيرة تفعل هذا أيضًا، ولها العذر في ذلك. ولكن الوضع المعتاد للثدييات هو العكس تمامًا؛ فإننا حينئذٍ نحرق المزيد من السعرات من الطعام. إن تكلفة المعيشة بالنسبة لحيوان ثديي في الجو البارد تزيد مائة ضعف عن تكلفتها بالنسبة للعظاءة. وحتى في الأجواء معتدلة البرودة، وليكن حوالي ٢٠ درجة مئوية (أي في يوم ربيعي معتدل في جزء كبير من القارة الأوروبية) يكون الفارق هائلًا؛ حوالي ثلاثين ضعفًا. ولدعم سرعة الأيض الهائلة هذه، يتعيَّن على الحيوان الثديي أن يحرق الطعام بما يزيد ثلاثين ضعفًا عمَّا يحرقه الحيوان الزاحف. وينبغي أن يأكل في يوم واحد، وفي كل يوم، قَدْر ما تأكله العظاءة في شهر كامل. فإذا وضعنا في الاعتبار أنه لا يُوجَد غذاء مجاني، فإن التكلفة حينئذٍ تكون عالية حقًّا.
هكذا تجري الأمور، فتكلفة أن يكون الحيوان من الثدييات أو الطيور تبدأ من حوالي عشرة أضعاف تكلفة أن يكون عظاءة، وغالبًا ما تكون أعلى بكثير. فما الذي نَجْنِيه من نمط حياتنا هذا ذي التكلفة العالية؟ الإجابة واضحة هي توسيع نطاق البيئة الملائمة؛ ففي حين أن الدم الحار قد لا يُفِيد في شظف البيئة الصحراوية، فإنه يُتِيح السعي الليلي في طلب الرزق أو الوجود النشط على مدار الشتاء في الأجواء المائلة للبرودة، وكلا الأمرين لا تستطيعه العظايا. ثمة ميزة أخرى وهي القدرة المخية، وإن كان من الصعب عليَّ أن أفهم السبب في وجوب أن تكون هناك علاقة ضرورية. لا شك أن الثدييات لديها مخاخ أكبر حجمًا بالنسبة لأحجام أجسامها، تليها الزواحف. وإذا كان كِبَر حجم المخ ليس ضمانًا ضروريًّا للذكاء في رأيي، ولا حتى لسرعة البديهة، فإنه يبدو أن سرعة الأيض تُعَدُّ دعمًا قويًّا لمخ أكبر حجمًا، دون أن يتم تخصيص الموارد له بالتحديد. ومن ثم، إذا كان يتم في أجسام كلٍّ من العظايا والثدييات تخصيص حوالي ٣ بالمائة من الموارد للمخ، ولكن لدى الثدييات وتحت تصرُّفها موارد تزيد على عشرة أضعاف ما لدى العظايا، فيمكنها أن تفي باحتياجات مخاخ تزيد عن مخاخ العظايا بعشرة أضعاف، وعادةً ما يكون لديها هذا بالفعل. وعلى قمة الثدييات نَجِد أن الرئيسيات، ولا سيما البشر تُخصَّص لديها نسبة كبيرة من مواردها للنشاط المخي. ففي البشر، على سبيل المثال، تُخصَّص نسبة ٢٠ بالمائة تقريبًا من الموارد للمخ، مع أن المخ لا يُمثِّل سوى نسبة صغيرة من الجسم. ولذا فإنني أشك أن تكون الطاقة المخية الزائدة ليست أكثر من إضافة زائدة للإنسان تحقَّقَتْ دون تكلفة إضافية، لأجل أسلوب حياة كائن ذي دم حار. فهناك طرق أقل تكلفة لبناء مخاخ أكبر حجمًا.
باختصار، إن توسيع الملاءمة البيئية والنشاط الليلي والقدرة المخية الإضافية كلها أمور لا تبدو كعائد مُجْزٍ في مقابل التكاليف الأيضية الباهظة للدم الحار. يبدو لي أن ثمة شيئًا مفقودًا في هذا الصدد. ففي الجانب المدين (أي جانب العيوب إذا صحَّ التعبير) هناك تكلفة الأكل، ثم الأكل، ثم الأكل، حتى التخمة. وهناك تكلفة الوقت والجهد المبذولين في التجوُّل طلبًا للرزق أو الصيد أو حصاد الزرع، والوقت الذي يُقضَى في الهرب من المفترسات أو مواجهة المنافسين. وهكذا يُستهلَك الطعام ويبدأ في النضوب. فمن الواضح أنك كلما أسرعت في الأكل، أسرع طعامك في النفاد. وكذلك يقل عدد السكان. فثمة قاعدة عملية تقول إن معدل الأيض يتحكَّم في عدد السكان، وغالبًا ما يَصِل عدد الزواحف إلى عشرة أضعاف أعداد الثدييات. ولنفس السبب يكون عدد ذرية الثدييات أقل (وإن كان باستطاعتها أن تخصص المزيد من الموارد لهذا العدد الأقل). وحتى مدة الحياة المتوقعة تختلف باختلاف سرعة الأيض. ولقد كان كليمنت فرويد محقًّا بشأن البشر ومخطئًا بشأن الزواحف. فربما كانت حياتها بطيئة ومملة، ولكنها أطول، ولا سيما السلاحف العملاقة التي تصل أعمارها إلى مئات السنين.
وهكذا يفرض الدم الحار ضريبة قاسية؛ إذ يُبشِّر بحياة أقصر، يقضيها الحيوان في الأكل بشراهة ضارة، ويُقلِّل عدد السكان وعدد النسل، وهما عاملان يجب ألا يغفلهما الانتقاء الطبيعي. وتعويضًا عن هذا نَجِد في الجانب الدائن (أي جانب المزايا) أن يكون لدى الحيوان فرصة السهر ليلًا طلبًا للرزق وتحمُّل الجو البارد. ولكني أرى أنها أمور ليست عظيمة القيمة. فإننا ننام في كل الأحوال. ولكننا في رؤيتنا للحياة عادةً ما نضع الثدييات والطيور في أعلى مرتبة في عالم الحيوان. فما الذي نمتلكه نحن ولا تمتلكه الزواحف؟ يجدر به أن يكون شيئًا قيِّمًا.
•••
ويكمن الفارق بين الزواحف والثدييات في هذا الصدد في التركيبة العضلية. فهناك أنماط مختلفة من العضلات، كما رأينا في الفصل السادس. وهي تتفاوت من حيث التوازن بين ثلاثة مكوِّنات رئيسية: الألياف العضلية، والشعيرات الدموية، والميتوكوندريا. وباختصار نقول: إن الألياف العضلية تنقبض لتولِّد القوة، والشعيرات الدموية تمد بالأكسجين وتزيل النفايات، بينما تقوم الميتوكوندريا بحرق الطعام بالأكسجين لإنتاج الطاقة الضرورية للانقباض. والمشكلة أن كلًّا من هذه العناصر الثلاثة تشغل حجمًا مهمًّا ومؤثرًا، وهكذا إذا زادت كمية الألياف العضلية قَلَّ الحجم المتاح للشعيرات الدموية أو للميتوكوندريا. والعضلة المكدَّسة بالألياف تتمتَّع بقوة هائلة، ولكنها سرعان ما تفتقد الطاقة اللازمة للانقباض. إنه اختيار ذو عواقب واسعة النطاق؛ فإما قوة عالية مع درجة تحمُّل ضعيفة، وإما قوة منخفضة مع درجة تحمُّل عالية. ولْتُقارِنْ بين عدَّاء للمسافات القصيرة ذي عضلات ضخمة، وبين عدَّاء للمسافات الطويلة أو الماراثون، ذي عضلات ضامرة، وستكتشف الفارق.
إن لدينا جميعًا خليطًا من الأنماط العضلية، ويتفاوت هذا الخليط باختلاف الظروف والأحوال، وما إذا كنَّا، على سبيل المثال، نعيش بمستوى سطح البحر أو في أعالي الجبال. كما يمكن أن يُحقِّق أسلوب المعيشة فارقًا كبيرًا. فإذا تمرنت لتكون عدَّاء للمسافات القصيرة فسوف تتكوَّن في جسمك عضلات ضخمة سريعة الانقباض فيها الكثير من القوة والقليل من درجة التحمُّل. وإذا تمرنت لتكون عداء للمسافات الطويلة فسيحدث العكس. ولأن هذه الفروق تتفاوت بشكل طبيعي بين الأفراد والسلالات البشرية، فإنها تكون عرضة للانتقاء الطبيعي على مدى أجيال، إذا حتَّمَت الظروف ذلك. ولهذا السبب نَجِد بين سكان نيبال وشرق أفريقيا وجبال الأنديز صفات وراثية كثيرة مشتركة، وهي صفات جعلتهم يعتادون ويتأقلمون مع الحياة في المناطق المرتفعة. بينما تكون أوزان سكان المناطق المنخفضة أثقل وعضلاتهم أضخم.
وفي بحث كلاسيكي أجراه عام ١٩٧٩ كلٌّ من ألبرت بنيت وجون روبن اللذين كانا حينئذٍ بجامعة كاليفورنيا، بمدينة إرفين، يقول الباحثان إن تلك الفروق تكمن في أساس فكرة الدم الحار. لا يتعلَّق الأمر بدرجات الحرارة، بل يتعلَّق الفرق بين الكائنات ذوات الدم الحار وذوات الدم البارد بقابلية التحمُّل أساسًا. وتعرف فكرتهما بفرضية «القدرة الهوائية»، وحتى إذا لم تكن تلك الفرضية صحيحة تمامًا فإنها غيَّرَت الطريقة التي كان يفكر بها المهتمون بهذا المجال في الحياة.
إن المزايا الانتقائية لزيادة النشاط ليست شيئًا خفيًّا، بل هي أساسية للبقاء والتكاثر. والحيوان الذي يتمتَّع بقدرة أكبر على التحمُّل تكون لديه ميزة يمكن إدراكها بسهولة من الناحية الانتقائية؛ إذ يمكنه أن يتحمل درجات أكبر من التعقب والسعي، أو الطيران والانطلاق لجمع الطعام أو تجنُّب الوقوع فريسة للأعداء. كما يكون أفضل في الدفاع عن مناطق النفوذ أو غزو مناطق أخرى. ويكون أكثر نجاحًا في مغازلة الإناث والتزاوج.
كل هذا يبدو أمرًا غير قابل للنقاش. ثم قدَّمَ عالم بولندي في علم الحيوان يُدعَى باول كوتيجا تنقيحًا لهذه الفكرة يثير الاهتمام؛ إذ يضع التركيز في الرعاية الأبوية المركزة، المصحوبة بإطعام الصغار لشهورٍ أو سنوات؛ مما يفصل الثدييات والطيور عن الحيوانات ذوات الدم البارد. يتطلب هذا التخصيص قدرة قوية جدًّا على التحمل ويمكن أن يكون له أثر كبير في بقاء الحيوان حيًّا في أشد أوقات حياته ضعفًا. وبغضِّ النظر عن الأسباب المحددة، فإن الجزء الثاني من فرضية القدرة الهوائية هو الأكثر إثارة للتفكير والاهتمام. ونعني بهذا الرابط بين قدرة التحمل والراحة؛ إذ يقول بنيت وروبن إنه يُوجَد ارتباط ضروري بين سرعة الأيض القصوى وسرعته عند الراحة. دعني أشرح لك هذا.
تُعرف سرعة الأيض القصوى بأنها كمية الأكسجين المستهلكة عند أقصى سرعة لنا، تلك السرعة التي لا نستطيع أن نزيد عنها. وهي تعتمد على أشياء كثيرة، منها اللياقة البدنية، والجينات الوراثية بطبيعة الحال. ومن ثم، تعتمد سرعة الأيض القصوى على معدل استهلاك الأكسجين من قبل تلك البنى التي تُعتبَر آخر من يستخدم الأكسجين: الميتوكوندريا التي في العضلات. فكلما أسرعت في استهلاك الأكسجين، كانت سرعة الأيض القصوى أكبر. ولكن حتى التفكير المتعجل يجعل من الواضح أنه تُوجَد عوامل كثيرة لا بد من اشتراكها، وكلها عوامل مترابطة؛ إذ تعتمد سرعة الأيض القصوى على عدد الميتوكوندريا، وعدد الشعيرات الدموية التي تغذيها، وضغط الدم، وحجم القلب وبنيته، وعدد خلايا الدم الحمراء والتركيبة الجزيئية المحددة للصبغ الناقل للأكسجين (وهو الهيموجلوبين)، وحجم الرئتين وبنيتهما، وقطر القصبة الهوائية، وقوة عضلة الحجاب الحاجز. وهكذا. فإذا اختلَّ أو نقص أيٌّ من هذه العوامل أو المظاهر، فستنخفض سرعة الأيض بالتبعية.
ومع كل ما سبق، فلا يزال ثمة أسباب وجيهة تجعلنا نعتقد أن بنيت وروبن على حق. وربما أقواها يتعلَّق بمصدر الحرارة في معظم الحيوانات ذوات الدم الحار؛ فهناك طرق كثيرة لتوليد الحرارة مباشرةً، ولكن أغلب الحيوانات ذوات الدم الحار لا تأبه بها؛ إذ يُعَدُّ إنتاجها للحرارة نتيجة غير مباشرة للأيض. والثدييات صغيرة الحجم التي تفقد حرارتها سريعًا، مثل الجرذان، هي وحدها التي تُولِّد الحرارة مباشرةً. فالجرذان (وصغار الكثير من أنواع الثدييات الأخرى) تستخدم نوعًا من الأنسجة المتخصصة يُعرَف بالدهن البني، وهو يكتظ بالميتوكوندريا «الحارة». والحيلة التي تستخدمها بسيطة، ففي الأحوال العادية تُولِّد الميتوكوندريا تيارًا كهربائيًّا يتكوَّن من البروتونات عَبْر أغشيتها، وهذا يُستخدَم لتوليد ثلاثي فوسفات الأدينوسين، الذي يُعَدُّ عُملة الطاقة بالنسبة للخلية (انظر الفصل الأول). وتتطلَّب هذه الآلية بكاملها أغشية ميتوكوندرية سليمة لتعمل كمادة عازلة. وأي تسرب في هذه الأغشية يُسبِّب قصرًا في الدوائر الكهربية لتيار البروتونات؛ مما يؤدِّي إلى تبديد طاقته في هيئة حرارة. وهذا هو بالضبط ما يحدث في الدهن البني؛ إذ تُوجَد ثغور بروتينية بشكل مقصود في أغشية الميتوكوندريا؛ مما يجعلها قابلة للتسريب. لذلك تُولِّد هذه الميتوكوندريا الحرارةَ بدلًا من ثلاثي فوسفات الأدينوسين.
إذن، إذا كانت الحرارة هي الهدف الأوَّلي، فإن الحل هو الميتوكوندريا القابلة للتسريب. فإذا جُعِلَتِ الميتوكوندريا كلها قابلةً للتسريب بمعنى الكلمة، كما في الدهن البني، فإن كل الطاقة في الطعام ستتحوَّل إلى حرارة بشكل مباشر. وهي عملية بسيطة وسريعة، ولا تتطلب فراغًا كبيرًا؛ إذ يمكن أن تُولِّد كميةٌ قليلةٌ من النسيج حرارةً بكفاءة. ولكن ليس هذا هو ما يحدث في الأحوال العادية؛ فهناك فرق ضئيل في درجة التسريب الميتوكوندري بين العظايا والثدييات والطيور. وخلافًا لهذا، يكمن الفارق بين الكائنات ذوات الدم البارد وذوات الدم الحار في أغلبه في أحجام الأعضاء الداخلية وعدد الميتوكوندريا. فمثلًا يكون كبد الجرذ أكبر كثيرًا من كبد عظاءة مساوية له في حجم الجسم. ويكون مكدَّسًا بقدر أكبر بكثير من الميتوكوندريا. وبتعبير آخر نقول: إن الأعضاء الحشوية للكائنات ذوات الدم الحار تُشحَن شحنًا سريعًا بكفاءة عالية. وهي تستهلك كميات هائلة من الأكسجين، ليس لتوليد الحرارة مباشرةً، ولكن لحفز الأداء الوظيفي. وتُعَدُّ الحرارة حينئذٍ مجرد ناتج ثانوي يتم التقاطه فيما بعد ليُستخدَم بشكل جيد، مع نشوء عوامل جيدة للعزل الخارجي، مثل فراء الثدييات وريش الطيور.
وهكذا يبدو السيناريو العريض لفرضية القدرة الهوائية مُقْنِعًا. لا شك أن الحيوانات ذوات الدم الحار لديها قدرة على التحمُّل أكثر بكثير من ذوات الدم البارد، ولديها نمطيًّا قدرة هوائية تزيد على عشرة أضعاف. وفي كلٍّ من الثدييات والطيور، يقترن بهذه القدرة الهوائية المرتفعة جدًّا أيض مشحون شحنًا سريعًا عند الراحة — أي وجود أعضاء حشوية كبيرة بها قوة ميتوكوندرية عالية — مع قليل من التوليد المتعمد للحرارة. وبالنسبة لي على الأقل، يبدو منطقيًّا أن القدرة الهوائية العالية يجب أن تقترن بمنظومة داعمة ومنشطة. وهذه الفكرة يمكن اختبارها بسهولة؛ فإذا تم إحداث قدرة هوائية عالية، فيجب أن تتبعها سرعة الأيض عند الراحة بشكل متناسب. وعلى أقل تقدير، يجب أن يتوافق الاثنان، حتى إذا كان من الصعب إثبات العلاقات السببية.
لكن هنالك مشكلة. فمنذ أن قُدِّمَتِ الفرضية منذ ثلاثين عامًا، جَرَتْ محاولات كثيرة لإثباتها تجريبيًّا، لكنها لم تُحقِّق سوى نجاح متفاوت. فهناك حقًّا ميل عام لارتباط بين سرعتَي الأيض: القصوى وعند الراحة، ولا يزيد الأمر عن هذا إلا قليلًا، وهناك استثناءات كثيرة لهذه القاعدة. لعل الاثنتين كانتا مرتبطتين في مسيرة التطور، حتى إذا لم يكن هذا الارتباط ضروريًّا من الناحية الفسيولوجية. ومن الصعب علينا الجزم بالأمر بصفة مؤكدة في ظل عدم وجود فكرة أكثر تحديدًا لدينا عن التاريخ التطوُّري. ولكن من قبيل المصادفة يمكن في هذه المرة أن يحمل سجل الحفريات الحل لهذه المشكلة. ربما لا نصل إلى الحلقة المفقودة عن طريق الفسيولوجيا، وإنما عن طريق التعاقبات التاريخية.
•••
تُعنى فكرة الدم الحار أساسًا بالأعضاء الحشوية مثل الكبد. ولكن الأنسجة الرخوة لا تظل محفوظة فترات طويلة، وحتى الفراء نادرًا ما يُحفظ في الصخور. لذا لوقت طويل كان من الصعب أن نتوصَّل إلى أصول الدم الحار من سجل الحفريات، وحتى في وقتنا الحالي ليس من الغريب أن تحتدم خلافات شديدة بين العلماء. ولكن إعادة تقييم سجل الحفريات في ضوء القدرة الهوائية مهمة أكثر سهولة؛ إذ يمكن جمع معلومات عديدة من البنية الهيكلية.
يمكن تتبُّع أسلاف كلٍّ من الثدييات والطيور حتى العصر الترياسي الذي بدأ منذ ٢٥٠ مليون سنة. جاء هذا العصر في أعقاب أكبر حالة انقراض شاملة في تاريخ كوكبنا الأرضي بكامله؛ الانقراض البرمي، الذي يُعتقَد أنه استأصل حوالي ٩٥ بالمائة من جميع أنواع الحيوانات. وكان من بين الناجين القليلين من هذه المذبحة مجموعتان من الزواحف: الثيرابسيدات (زواحف شبيهة بالثدييات) وهي أسلاف الثدييات الحديثة، والأركوصورات (لفظة يونانية معناها «العظايا الحاكمة»)، وهي أسلاف الطيور والتمساحيات، فضلًا عن الديناصورات والزواحف المجنَّحة.
كانت الليستروصورات أنفسها من العواشب، ولعلها كانت العواشب الوحيدة في ذلك الزمن البعيد. ولم تكن تخشى أي مفترسات وقتئذ. ولكن بعد ذلك خلال العصر الترياسي ظهرت مجموعة من الثيرابسيدات ذات صلة تُسمَّى السينودونتات (لفظ يوناني معناه «أسنان الكلب») وبدأت تحل محل الليستروصورات، التي انقرضت في نهاية الأمر في أواخر العصر الترياسي، منذ ٢٠٠ مليون سنة. وشملت السينودونتات حيوانات من العواشب ومن اللواحم أيضًا وكانت هي الأسلاف المباشرة للثدييات، ونشأت قبيل نهاية العصر الترياسي. أظهرت السينودونتات الكثير من علامات القدرة الهوائية العالية، بما فيها الحنك العظمي (الذي يفصل المسالك الهوائية عن الفم؛ ليتيح التنفُّس والمضغ في آنٍ واحد) وصدر عريض به قفص صدري مُعدَّل، ويُرجَّح أنه كان له حجاب حاجز عضلي. وليس هذا فحسب، بل كانت مسالكها الأنفية واسعة وتضم شبكية دقيقة من العظم تُعرَف بالمحارات التنفُّسية. بل ربما كانت السينودونتات مغطاة بالفراء، ولكنها كانت تضع البيض كالزواحف.
وهكذا، يبدو من المحتمل أن السينودونتات كانت لديها قدرة هوائية عالية، وهذه لا بد أنها أعطتها درجة تحمُّل كبيرة. ولكن ماذا عن سرعة الأيض لديها عند الراحة؟ وهل كانت من ذوات الدم الحار كذلك؟ يقول جون روبن إن المحارات التنفسية هي من الدلائل القليلة القوية على وجود سرعة أيض عالية عند الراحة. فهي تحد من فقدان الماء، والذي يمكن أن يكون أمرًا جوهريًّا أثناء التنفس الكثيف المستمر، بعكس ما يحدث أثناء الدفعات القصيرة من النشاط. ونظرًا لأن الزواحف لديها سرعة أيض منخفضة عند الراحة فإنها تتنفَّس بخفة شديدة حينما تكون مرتاحة ولا تحتاج إلى الحد من فقدان الماء إلا قليلًا. ونتيجة لهذا لم نعرف أن الزواحف لديها محارات تنفسية بل على العكس من هذا، فإن جميع الكائنات ذوات الدم الحار — تقريبًا — لديها محارات تنفسية، وإن كان ثمة استثناءات قليلة تتضمَّن الرئيسيات وبعض الطيور. من الواضح أن تلك التراكيب مفيدة، حتى إذا لم تكن ضرورية بصفة مطلقة، ويُعَدُّ وجودها في الحفريات دليلًا جيدًا، مثل أي دليل مادي آخر، على منشأ صفة الدم الحار. فإذا قَرَنَّا هذا مع الوجود المحتمل للفراء (الذي تَمَّ تخمينه ولم يُلاحَظ بالتأكيد في الحفريات) فإنه يبدو وكأن السينودونتات قد نشأت بها صفة الدم الحار في نقطة ما على خط التطوُّر؛ وانتقلت من ثم إلى الثدييات.
لكن بالرغم من كل هذا، فسرعان ما وجدت السينودونتات أنفسها في موقف ضعف، وانتهى الأمر بها إلى الانزواء في حياة ليلية مرتعدة إزاء الأركوصورات القاهرة في أواخر «فترة السيادة في العصر الترياسي». فإذا كانت السينودونتات قد نشأت عنها صفة الدم الحار بالفعل، فماذا عن الحيوانات القاهرة لها؛ وهي مجموعة سرعان ما نشأت منها أوائل الديناصورات؟ إن آخر من نجا من فترة العصر الأركوصوري، وهما التماسيح والطيور، هما من ذوات الدم البارد والدم الحار على الترتيب. وعند نقطة ما في المسيرة المؤدية لظهور أوائل الطيور، نشأت صفة الدم الحار لدى الأركوصورات. ولكن أي تلك الكائنات، ولماذا؟ وهل شملت الديناصورات؟
هنا نَجِد الموقف أكثر تعقيدًا، بل مثيرًا للجدل بشدة في بعض الأوقات. فالطيور، مثل الديناصورات، تجتذب آراء انفعالية، وتلك تتنكَّر بالكاد في هيئة علمية. فبعد أن اعتُبِرَت الطيور فترة طويلة ذات علاقة ما بالديناصورات، وتحديدًا بمجموعة تُسمَّى الثيروبودات — التي تشمل الديناصور الشهير تيرانوصورس ركس (تي ركس اختصارًا) — أُعِيدَ تعيين موضعها ضمن خط الثيروبودات عن طريق سلسلة من الدراسات التشريحية المنهجية، المعتمدة على الشكل والمقارنة، التي تعود إلى منتصف الثمانينيات من القرن العشرين. وكان الاستنتاج الكبير هو أن الطيور ليست على علاقة قرابة بالديناصورات وحسب، بل إنها من الديناصورات بالفعل، وتحديدًا: الثيروبودات الطيرية. وفي حين أن معظم الخبراء مقتنع بهذه الفكرة، فإن هناك أقلية عالية الصوت يتزعمها عالم متخصص في علم الطيور القديمة وحفرياتها، ويُدعَى آلان فيدوتشيا، بجامعة نورث كارولينا، يؤكِّد أن الطيور تنحدر من مجموعة أكثر قدمًا انفصلت قبل نشوء الثيروبودات. وبناء على هذه الفكرة، لا تكون الطيور من الديناصورات، وإنما تشكِّل رتبة فريدة في أصولها.
أثناء كتابتي لهذه السطور، تركز آخر دراسة ظهرت في هذا الطابور الطويل من الدراسات على البروتينات وليس الصفات الشكلية. ويُظهر هذا الاكتشاف المذهل الذي تَمَّ في عام ٢٠٠٧، على يد فريق بكلية الطب بجامعة هارفرد الأمريكية تحت قيادة جون أسرا، أنَّ عظمةً من ديناصور تي ركس تَمَّ حفظها بصورة جيِّدة — وبدرجة استثنائية؛ إذ يرجع عمرها إلى ٦٨ مليون عام مَضَتْ — ما زالت تحتوي على فتات من الكولاجين وهو المكوِّن العضوي الرئيسي للعظم. وقد نجح هذا الفريق في تحديد تسلسل الأحماض الأمينية في قليل من هذا الفتات، ثم ضمها معًا للحصول على تسلسل لجزء من بروتين التي ركس. وفي عام ٢٠٠٨ قارنوا هذا بالتسلسلات المناظرة في الثدييات والطيور والتماسيح الأمريكية. كانت تسلسلات التي ركس التي حصلوا عليها قصيرة، ومن ثم يمكن أن تكون خادعة، ولكن في مقابل هذا، اكتشفوا أن أقرب قريب حي للتي ركس هي الدجاجة العادية (التي نعرفها ونأكلها) وتتبعها مباشرةً النعامة. ولا يثير العجب أن نجد أن تلك التقارير كانت محل ترحيب عدد كبير من المصفقين والمؤيدين في الصحف؛ إذ سعدوا أخيرًا بمعرفة ما يمكن أن يكون طعم شريحة من التي ركس. لكن المهم في الأمر أن دراسة الكولاجين تُعزِّز بدرجة كبيرة الصورة التشريحية للطيور باعتبارها ديناصورات ثيروبودية.
المصدر الرئيسي الآخر للخلاف المرير في عالم الطيور هو الريش. فلطالما أكَّدَ فيدوتشيا وآخرون أن الريش نشأ خصوصًا لأجل الطيران في الطيور، وأنه يُضفي عليها نوعًا إعجازيًّا من الكمال. ولكن إذا كان الريش قد نشأ للطيران، فلا بد بالتأكيد ألَّا يُوجَد بين الثيروبودات غير الطيرية مثل التي ركس. يقول فيدوتشيا إن الأمر كذلك بالفعل. ولكن اكتُشِفَتْ في الصين على مدى العقد الأخير سلسلة من الديناصورات المريشة. صحيح أن بعضها مشكوك فيه، إلا أن غالبية الخبراء مقتنعون بأن الثيروبودات غير القادرة على الطيران كان لديها ريش بالفعل، بما فيها سلف صغير للتي ركس نفسه.
وتقول الفكرة البديلة إن «الريش» ليس في حقيقته كما يبدو عليه، بل هو في الواقع ألياف كولاجينية مهروسة، لكن هذا زعم غير مدعوم بالدليل. فإذا كانت مجرد ألياف كولاجينية، فمن الصعب تفسير السبب في وجودها بالضرورة، غالبًا ضمن مجموعة واحدة من الثيروبودات تُعرَف بالرابتورات وهي مجموعة تشمل الفيلوسيرابتور (الرابتور السريع) الذي اشتهر بظهوره في فيلم ستيفن سبيلبرج «الحديقة الجوراسية». أيضًا من الصعب تفسير السبب وراء أنها تبدو تمامًا مثل ريش الطيور مكتملة الريش ومحفوظة في نفس الطبقات الأرضية. ولا يقتصر الحال على أن يبدو الريش حقيقيًّا، بل إن بعض الرابتورات، لا سيما الميكرورابتور (الرابتور الصغير) أمكنها على ما يبدو أن تنسَلَّ بخفة بين الأشجار يساعدها الريش الذي كان ينبت بكثافة من جميع أطرافها الأربعة (أو من الأفضل أن نقول: من جناحيها وساقيها). من الصعب عليَّ أن أُصدِّق أن هذا الريش الذي تَمَّ حفظه جيدًا ليس ريشًا، وحتى فيدوتشيا سيسلِّم بهذا. وتُعَدُّ النقطة المتعلقة بما إذا كان طيران الميكرورابتور المنزلق بين الأشجار له علاقة بأصول الطيران في الطيور الحقيقية، أو بأقرب أقربائها المسمى الطائر البدائي أو الأركيوبتركس، موضع بحث ونقاش.
واستنتاج أن الريش قد نشأ عند الديناصورات الثيروبودية، قبل نشوء خاصية الطيران في عالم الحيوان، تدعمه دراسات عن التطور الجنيني للريش عند الطيور، ولا سيما علاقته بجلد التماسيح في مراحله الجنينية. تذكر أن التماسيح أركوصورات حية؛ أي إنها العظايا الحاكمة التي ظهرت لأول مرة في العصر الترياسي. وقد بدأت التماسيح والديناصورات (متضمنة الطيور) في التشعُّب والتباعد في منتصف العصر الترياسي، منذ حوالي ٢٣٠ مليون سنة. ومع هذا التفرُّق القديم، فما زالت التماسيح تحمل في داخلها بالفعل «بذور» الريش وأصوله. وحتى اليوم ما زالت تحتفظ بالطبقات الجلدية الجنينية نفسها التي تتطوَّر إلى ريش في الطيور، فضلًا عن نفس البروتينات عينها المسماة كيراتينات الريش، التي تكون خفيفة ومرنة وقوية بطبيعتها.
من هذا المنظور، ينبثق الريش الأوَّلي حتى من جلد أقدم الأركوصورات، إذن فليس بالغريب أن بدأ يتكوَّن لدى الثيروبودات زوائد من بشرة جلودها، ويُرجَّح أنها كانت تتراوح بين ما يشبه الشعر السميك الصلب (مثل الذي لدى التيروصورات) وحتى التراكيب المتفرعة البسيطة، التي تضاهي الريش الزغبي. ولكن في أي شيء كانت تُستخدَم، إن لم يكن في الطيران؟ هناك الكثير من الإجابات المعقولة ولكنها ليست دامغة بالكامل، بما فيها لفت الأنظار بهدف التزاوج، أو أداء وظائف حسية، أو الحماية (إذ تعمل الشعيرات الريشية على تضخيم حجم الحيوان، بالإضافة إلى وخز الأعداء كما في القنفذ والشيهم)، وكذلك كعامل عزل بطبيعة الحال. وإن ما كان يحدث من مشاغبات بين الثيروبودات المريشة يزيد احتمال أنها كانت من ذوات الدم الحار، مثل أقربائها الأحياء: الطيور.
•••
ثمة دليل آخر يتسق مع الفكرة التي تعتبر الثيروبودات مجموعة نشطة من الديناصورات، بما يفترض على الأقل أنها كانت تمتلك قدرة على التحمل. وهذا المظهر يتعلَّق بالقلب؛ فالتمساحيات والطيور تختلف عن العظايا ومعظم الزواحف الأخرى في أنها جميعًا لديها قلوب قوية ذات أربع غرف. ومن ثم، يفترض أن القلب رباعي الغرف كان صفة توارثتها جميع الأركوصورات، ومن ثم الديناصورات. ويُعتبَر القلب رباعي الغرف مهمًّا لأنه يقسم الجهاز الدوري إلى قسمين؛ فنصفه يغذي الرئتين، والآخر لباقي الجسم. وهذا يعطي ميزتين مهمتين؛ أولاهما أن الدم يمكن أن يضخ بضغط عالٍ إلى العضلات والمخ … إلخ، دون إتلاف لأنسجة الرئتين الرقيقة (الذي إن حدث فسيؤدِّي إلى استسقاء رئوي واحتمال الوفاة). ومن الواضح أن الضغط الدموي الأكثر ارتفاعًا يمكن أن يعزز المزيد من النشاط فضلًا عن الوصول إلى حجم أضخم بكثير. ولم يكن للديناصورات الضخمة أن تُضَخَّ دماؤها حتى تصل إلى مخاخها دون وجود قلب رباعي الغرف. وثانيهما: إن تقسيم الجهاز الدوري إلى قسمين يعني عدم اختلاط الدم المؤكسج بغير المؤكسج؛ إذ يعود الدم المؤكسج من الرئتين ويتم ضخه فورًا بضغط عالٍ إلى بقية الجسم، موصلًا أقصى قَدْر من الأكسجين إلى الأماكن التي تحتاجه. صحيح أن وجود قلب رباعي الغرف لا يفترض بالضرورة أن يكون الحيوان من ذوات الدم الحار (فالتماسيح من ذوات الدم البارد على أي حال)، إلا أنه يكاد يُعَدُّ ضربًا من المستحيل أن يحصل الحيوان على قدرة هوائية عالية دون أن يكون لديه قلب بهذه الصفة.
ويبدو أيضًا أن الجهاز التنفسي للديناصورات الثيروبودية كان مشابهًا لذلك الخاص بالطيور ويُحتمَل أنه كان يُعزِّز الحصول على درجات عالية من النشاط. تعمل رئتا الطائر بشكل مختلف عن رئتي الإنسان، وهما أكثر كفاءة حتى في المناطق المنخفضة، وفي المناطق المرتفعة يكون الفارق مذهلًا. فالطيور يمكنها أن تستخرج قَدْرًا من الأكسجين يزيد بمقدار ضعفَيْ أو ثلاثة أضعاف ما تستخرجه الثدييات من الهواء المخلخل. ولهذا يستطيع الإوز المهاجر أن يطير لارتفاع آلاف الأقدام، فوق قمة إفرست، بينما تلهث الثدييات لكي تتنفس عند ارتفاعات أقل بكثير.
إنَّ رئتَيِ الإنسان أشبه بشجرة جوفاء، يدخل فيها الهواء عن طريق الجذع الأجوف (القصبة الهوائية) ثم يتَّجِه إلى إحدى شعبتين (تُسمَّيان الشعبتين الهوائيتين) وكلٌّ منهما تنقسم بدورها إلى شُعَبٍ صغيرة (شُعَيْبات هوائية) تستدق أكثر كلما تفرَّعَتْ، ولكنها لا تنتهي بنهايات حادة، وإنما ببالونات نصف منفوخة تُسمَّى الحويصلات الهوائية، التي تمتلئ جدرها الرقيقة بشعيرات دموية دقيقة، والتي تحدث عندها عملية تبادل الغازات. في هذه الحويصلات يعطي هيموجلوبين خلايا الدم الحمراء ما فيه من غاز ثاني أكسيد الكربون ويلتقط غاز الأكسجين قبل أن يُسحَب ليعود أدراجه إلى القلب. ويتم نفخ المجموعة البالونية بكاملها بالهواء ثم تفريغها — مثل المنفاخ — عن طريق التنفُّس، الذي تحث عليه عضلات في القفص الصدري والحجاب الحاجز. وتكمن نقطة الضعف التي لا مفر منها في أن الشجرة التنفسية ككلٍّ تنتهي بفراغات مقفلة؛ حيث يحدث امتزاج للهواء بالكاد، ويحدث هذا في نفس الحيِّز الذي تكون فيه الحاجة إلى الهواء النقي أشد ما يمكن. وحتى حينما يصل الهواء النقي، يكون قد امتزج بالفعل بالهواء الراكد وهو في طريقه للخروج في صورة هواء زفير.
والسؤال الذي أثار خلافًا وشقاقًا على مدى عقود هو: ما نوع الرئات التي كانت لدى الثيروبودات؟ أهي رئات مكبسية مثل رئات التماسيح، أم أنها رئات بالتدفق المستمر كالتي في الطيور؟ جدير بالذكر أن جهاز الأكياس الهوائية في الطيور يغزو الأنسجة الرخوة في الصدر والبطن، بل إنه يدخل في مادة العظام، بما فيها الضلوع والعمود الفقري. ولطالما عرف الخبراء أن الثيروبودات لديها تجاويف في عظامها بنفس الأماكن التي لدى الطيور. وقد استخدم عالم الحفريات روبرت باكر هذا الاكتشاف مع آخرين؛ لكي يُعِيدَ تقييم الديناصورات باعتبارها حيوانات من ذوات الدم الحار في منتصف السبعينيات من القرن العشرين، وهي وجهة نظر ثورية ألهمت مايكل كرايتون بتأليف روايته «الحديقة الجوراسية» التي تحوَّلَتْ لاحقًا إلى فيلم بالاسم نفسه. إلا أن جون روبن وزملاءه أعادوا دراسة رئات الثيروبودات بشكل مختلف؛ باعتبارها أقرب إلى رئات التماسيح بما فيها من حجاب حاجز مكبسي، وهو أمرٌ أمكَنَ الكشف عنه بشكل غير حاسم في حفرية أو اثنتين. لا ينكر روبن وجود الجيوب الهوائية في عظام الثيروبودات، ولكن الخلاف هو بشأن الغرض منها؛ إذ يقول إنها ليست موجودة بهدف التنفس وإنما لأسباب أخرى هي تخفيف الوزن أو تعزيز التوازن في حيوانات تسير على قدمين. وقد احتدم الجدل، دون حلٍّ حقيقي، مع عدم وجود معلومات جديدة مؤكدة، إلى أن نُشِرَ بحثٌ مهمٌّ في مجلة «نيتشر» في عام ٢٠٠٥ من جانب كلٍّ من باتريك أوكونر وليون كلايسنس، وكانا في تلك الآونة بجامعتي أوهايو وهارفرد على الترتيب.
وقد بدأ أوكونر وكلايسنس بإجراء فحص دقيق لأجهزة الأكياس الهوائية لدى مئات عدة من الطيور الحية (أو بالأحرى، على حدِّ قولهما، فإنهما فحصَا عينات تم إنقاذها أُخِذَتْ من مراكز إعادة تأهيل الحيوانات البرية ومن المتاحف.) وقامَا بحقن الأكياس الهوائية في تلك الطيور باللاتكس؛ ليتمكَّنا من تبيُّن الصفة التشريحية للرئتين بشكل أفضل. وكان أول ما أدركاه أن هذا الجهاز أكثر تغلغلًا في جسم الطائر مما كانَا يظنان في السابق؛ إذ لا يحتل أجزاء من الرقبة والصدر فحسب بل الجزء الكبير من التجويف البطني أيضًا. ومن ثم يغزو أسفل العمود الفقري؛ وهو من التفاصيل المهمة لتأويل التركيبة التشريحية الهيكلية للثيروبودات. فهذا الكيس الهوائي الخلفي (الذيلي) هو القوة الدافعة الحقيقية من وراء الجهاز الرئوي للطيور بكامله؛ فأثناء التنفس يصير منضغطًا دافعًا الهواء إلى الرئتين من الخلف. وحينما يتمدد الكيس الهوائي الذيلي مجددًا يسحب الهواء من الأكياس الهوائية المرتبطة بها في الصدر والرقبة، وبلفظ آخر نقول إنها مضخة ماصة. وهي تعمل بشكل ما مثل مزامير القرب؛ حيث يُسبِّب ضخ الهواء من القربة تدفقًا مستمرًّا للهواء خلال البوق الخارجي.
تشترك الطيور مع الثدييات في أن لدى معظمها ما تُسمَّى المحارات التنفسية، إلا أنها لا تتكوَّن من العظم كما في الثدييات، ولكن من الغضاريف، التي تقل قابليتها للحفظ ضمن الحفريات. ومن ثم، ليس هناك إلى الآن ما يدل على وجود تلك التراكيب لدى الثيروبودات بالرغم من وجودِ قليلٍ من الحفريات حُفِظَتْ بحالة جيدة ويمكن فحصها. لكنَّ ثمة دليلًا مهمًّا كما يذكر جون روبن يتمثَّل في أن المحارات التنفسية في الطيور دائمًا ما تكون مصحوبة بتضخم طبيعي في المسالك التنفسية. فمن المفترض أن المحارات التنفسية بشكلها اللولبي تَعُوق تدفق الهواء إلى حدٍّ ما، الأمر الذي يمكن تعويضه أو مقابلته بتضخيم المسالك التنفسية. إلا أن الثيروبودات لا تتسم بمسالك أنفية متضخمة بشكل خاص. وهذا يوحي بأن الغياب الظاهري للمحارات التنفسية لديها هو أمر حقيقي، وليس راجعًا إلى مجرد عدم حفظ تلك التراكيب الأنفية ضمن الحفريات. فإذا لم يكن لدى تلك الحيوانات محارات تنفسية، فهل يُحتمَل مع ذلك أنها كانت من ذوات الدم الحار؟ حسنًا؛ إننا معشر البشر ليست لدينا محارات تنفسية كالتي لدى غيرنا من الثدييات، ولكننا من ذوي الدم الحار. ومن ثم تكون الإجابة عن السؤال ﺑ «نعم». ولكن هذا يثير بدوره بعض التساؤلات.
يعتقد روبن نفسه أن الثيروبودات كانت لديها قدرة هوائية عالية، ولكنها لم تكن من ذوات الدم الحار، مع أن فرضيته عن القدرة الهوائية تفيد بأن الأمرين يجب أن يترابطا. ومع أننا حتى الآن لا نعرف ما يكفي لكي نُؤكِّد هذا القول، فإننا نقول إن هناك إجماعًا، حتى وقتنا هذا، على أن الثيروبودات على الأرجح كان لديها أيض مرتفع عند الراحة، ولكنها لم تكن بَعْدُ من ذوات الدم الحار. هذه على الأقل القصة التي تخبرنا بها الحفريات، ولكن هناك في الصخور ما هو أكثر من الحفريات؛ ومن ذلك سجل عن المناخ والأجواء في العصور القديمة. وثمة شيء ما بخصوص الهواء في العصر الترياسي من شأنه أن يضع سجل الحفريات في موضعه الصحيح. ولا تقتصر فائدته على تفسير القدرة الهوائية العالية للسينودونتات والثيروبودات، ولكن أيضًا تفسير السبب في وصول الديناصورات إلى وضع السيادة في ذلك العصر القديم.
•••
إن معظم ما يتم من مناقشات في علم الفسيولوجيا يكون في قالب خالٍ من الأبعاد التاريخية؛ لوجود افتراض عقلي بأن الماضي مثل الحاضر، وأن ضغوط الانتقاء مثل الجاذبية الأرضية لا تتغيَّر بمرور الزمن. ولكن هذا غير صحيح، بدليل ما وقع من أحداث الانقراض الكبرى. وكان أكبرها ما حدث في نهاية العصر البرمي، منذ حوالي ٢٥٠ مليون سنة، ومثَّلَتْ علامة مباشرة على رفع الستار إيذانًا بظهور العظايا المهيمنة وتزايدها وتسيدها وبزوغ عصر الديناصورات.
جَرَتْ محاولات كثيرة لتحديد العامل المتسبِّب في واقعتَيِ انقراض العصر البرمي. ومن ضمن العوامل المشتبه بها: الاحترار الكوكبي، واستنزاف طبقة الأوزون، وانبعاث غاز الميثان، والاختناق بثاني أكسيد الكربون، وتناقص الأكسجين، والتسمم بكبريتيد الهيدروجين … إلخ. وكانت الحالة الوحيدة التي تكاد تُستبعَد أن تكون مُسبِّبًا لهذه الأضرار هي سقوط أحد النيازك الضخمة واصطدامه بالأرض؛ إذ لا يُوجَد سوى القليل من الأدلة على حدوث اصطدام مثل ما حدث بعد ذلك بحوالي ٢٠٠ مليون سنة وأدَّى إلى إسدال الستار على عصر طويل من هيمنة الديناصورات على الأرض. أما باقي قائمة المسببات فتُعتبَر مقبولة بدرجة كبيرة، وقد حدث تقدُّمٌ كبير في الأعوام القليلة الأخيرة تمثَّلَ في معرفة أن كل تلك المسببات يجمعها رابط وثيق لا يمكن فصمه. فأي نوبة بركانية على مستوى ما حدث في الفخاخ الإيميشانية تسبب سلسلة من الظروف التي تظهر بزخم قويٍّ وبشكل متزايد وشديد الضرر. وتحدث في الوقت الحاضر سلاسل مشابهة مترابطة تُهدِّد عالمنا، إلا أنها حتى الآن لم تَصِل إلى حدٍّ يمكن مقارنته بما حدث في السابق منذ ملايين السنين.
لقد أطلقَتِ البراكينُ غازَيِ الميثان وثاني أكسيد الكربون عاليًا نحو طبقة الاستراتوسفير الجوية مع غازات ضارة أخرى، وكلها دمرت طبقة الأوزون وأدَّتْ بالتبعية إلى احترار العالم وجفافه. وانتشرت الأراضي المجدبة عَبْرَ قارة «بانجايا» القديمة الشاسعة. وجفَّتْ مستنقعات الفحم الكبرى التي كانت موجودة في العصرين السابقين: الكربوني، والبرمي. وتصاعد منها الكربون الذي استهلك الأكسجين؛ مما أدَّى إلى الإضرار الشديد بحيوية الهواء. وعلى مدى أكثر من ١٠ ملايين عام تدهورت مستويات الأكسجين كثيرًا، وببطء شديد من مستوى ٣٠ بالمائة إلى نقطة دنيا تقل عن ١٥ بالمائة. وأدَّى تجمُّع عوامل سخونة المياه (مما يقلل من قابلية الأكسجين للذوبان فيها) ونقص الأكسجين الجوي وزيادة ثاني أكسيد الكربون إلى خنق مظاهر الحياة في البحار. ولم يزدهر منها سوى البكتيريا، وكانت من نوعٍ سامٍّ سادَ كوكبنا زمنًا ما في العصر السابق على ظهور النباتات والحيوانات؛ مطلقًا غاز كبريتيد الهيدروجين السام بكميات هائلة في المحيطات والبحار، فتحوَّلَت البحار إلى اللون الأسود وغابَتْ عنها الحياة. وأدَّى انطلاق الغازات السامة من المحيطات المميتة إلى إفساد الهواء أكثر فأكثر؛ ممَّا أدَّى إلى خنق الحيوانات على الشواطئ. ثم جاء حينئذٍ — وحينئذٍ بالتحديد — آخر ضربات القَدَر؛ وهو ثوران الفخاخ السيبيرية البركانية الكبرى، وهو نذير للموت، ظلَّ يضرب ضربته على دفعات متكررة على مدى يربو على ٥ ملايين عام. وعلى مدى تلك الفترة الزمنية لم يكن أي شيء حي يتحرَّك، إلا القليل على الأرض أو في البحار، ثم ظهر بعدها أول بصيص نور لتعافي الحياة.
السؤال الآن: من هم الناجون؟ الجواب ينطبق على سكان البحر مثلما ينطبق على سكان البر؛ فالناجون هم مَن استطاعوا التنفس بدرجة أفضل، والذين استطاعوا تحمُّل نقص الأكسجين وزيادة ثاني أكسيد الكربون ووجود مزيج مؤذٍ من الغازات الضارة، والذين تميَّزوا بإمكانات جعلتهم يلهثون طلبًا للهواء ومع ذلك بقوا نشطين، والذين عاشوا في الجحور والشقوق، وفي الوحل والمستنقعات ورواسب الأنهار، والذين دبروا معيشتهم في أماكن لم يستطع أن يقطنها كائن غيرهم. لقد نجا ألف ألف نوع من هذا المناخ القذر الموحل، ولولا هذا لما جئنا نحن البشر. ولهذا من المهم أن نعرف أن أول الحيوانات البرية التي تعافَتْ بعد تلك «المذبحة» الكبيرة كانت الليستروصورات، تلك الفقاريات الحفارة للجحور التي تتميَّز بصدور برميلية الشكل، وحجاب حاجز عضلي، وحنك عظمي، ومسالك تنفسية واسعة، ومحارات أنفية تنفسية. ولقد برزت من جحورها الزنخة وهي تلهث، واستعمرت الأماكن الخالية من السكان في قارات العالم، مثل السناجب.
هذه القصة المذهلة، المحفورة في قلب التركيب الكيميائي للصخور، استمرت لملايين السنين، وكانت طابعًا مميزًا للعصر الترياسي. اختفت الغازات السامة، ولكن ثاني أكسيد الكربون ارتفع كثيرًا؛ لما يزيد عن مستوياته اليوم بعشرة أضعاف. وبقي الأكسجين بإصرار عند مستواه المنخفض — الأقل من ١٥ بالمائة — وبقي المناخ مجدبًا على طول الأمد. وحتى في الأراضي الواقعة بمستوى البحر بَقِيَتِ الحيوانات تلهث طلبًا للأكسجين؛ إذ كانت مستويات الأكسجين هنالك وقتئذٍ كمستوياتها اليوم في أعالي الجبال. كان ذلك هو العالم الذي عاشت فيه أوائل الديناصورات، التي تغيَّرَتْ أوضاع أجسامها حتى صارت تسير على سيقانها الخلفية؛ فتحررت رئاتها من الضغوط التي كانت تعانيها العظايا الزاحفة على بطونها، التي كانت تَجِد صعوبة في المشي والتنفُّس في الآن عينه. أضِفْ إلى هذا وجود أكياس هوائية ومضخة ماصة تنفسية، وستجد أنَّ ظهور الديناصورات بدا أمرًا حتميًّا. هذه القصة رُوِيَتْ بتفاصيل مُقْنِعة في كتاب مهم بعنوان «عاشوا في هواء شحيح» ألَّفَه عالم الحفريات بجامعة واشنطن بيتر وارد. ويقول وارد (وإنني أصدق ما يقول) إن الأركوصورات حلَّتْ محل السينودونتات؛ لأن ما لدى الأولى من رئات بها حواجز فاصلة حملت في داخلها سر النجاح، وهي القدرة الكامنة الغامضة على التحوُّل إلى الرئات الرائعة ذات التدفُّق المستمر للهواء باتجاه واحد؛ التي تتميَّز بها الطيور. وكانت الثيروبودات هي الحيوانات الحية الوحيدة التي لم تحتج للهاث طوال الوقت، ولم تكن لها حاجة ماسة للمحارات التنفسية.
ومن ثم، لم تكن القدرة على التحمُّل شيئًا زائدًا لا لزوم له، بل كانت منقذة للحياة أو بمنزلة تذكرة يانصيب رابحة للنجاة في أوقات الكوارث. ولكن تُوجَد هنا نقطة أختلف عندها مع وارد على مضض؛ فأنا أتفق معه في أن القدرة الهوائية العالية لا بد أنها كانت مهمة للنجاة والبقاء، ولكن هل أدت حقًّا إلى ارتفاع في سرعة الأيض عند الراحة أيضًا؟ إن وارد يفترض هذا (بذكره لفرضية القدرة الهوائية)، ولكن ليس هذا ما يحدث اليوم؛ حيث تعيش الحيوانات في الأماكن العالية. بل على العكس؛ إذ تميل الكتلة العضلية لديها للضمور، وتتفوَّق الأجسام النحيلة. ربما تكون القدرة الهوائية عالية، ولكن لا ترتفع سرعة الأيض عند الراحة بشكل يتسق معها، بل ربما تنخفض. إن فسيولوجية الجسم بصفة عامة تكون شحيحة في الأوقات الصعبة، وليست مسرفة على الإطلاق.
وبالعودة إلى العصر الترياسي، حين كانت النجاة أمرًا عزيزًا، هل رفعت الحيوانات حقًّا سرعة الأيض عند الراحة لديها بغير ضرورة؟ إن هذا يبدو منافيًا للبديهة على أقل تقدير. ويبدو أن الثيروبودات قد ارتفعت لديها القدرة الهوائية دون الحاجة لأن تصير من ذوات الدم الحار بالكامل؛ في بادئ الأمر على الأقل. إلا أن السينودونتات المنقرضة صارت — على ما يظهر — من ذوات الدم الحار. فهل حَدَثَ لها هذا بهدف التنافس — مع قلة الأمل في النجاح — مع الأركوصورات المخيفة؟ أم هل ساعَدَها هذا على البقاء في حالة نشاط بالرغم من انكماشها في الحجم وتكيُّفها للمعيشة الليلية؟ كلا الأمرين يُعَدَّان احتمالين معقولين تمامًا، ولكن هناك إجابة أخرى أُفضِّلها شخصيًّا؛ وهي إجابة قد تُلقي بعض الضوء لمعرفة السبب في أن الديناصورات حَدَثَ لها العكس تمامًا؛ إذ ازدهرت وصارت عملاقة بشكل لم يعرف له العالم مثيلًا بعدها.
•••
من واقع خبرتي أَجِدُ أنَّ الأشخاص النباتيين لديهم مَيْل للنُّبل والطهارة أكثر مني، أو ربما كان هذا مجرد إحساس لديَّ بالذنب لأنني آكل اللحوم. ولكن وفق دراسة مهمة نُشِرَتْ في مجلة مغمورة نوعًا ما تُسمَّى «إيكولوجي ليترز» في عام ٢٠٠٨، فإن النباتيين لديهم الكثير ليتفاخروا به أكثر مما أضفت عليهم من فضل وشرف. فلولا النباتيون، أو على الأحرى أسلافهم من الكائنات نباتية التغذية، ربما لما كنا اكتسبنا خاصية الدم الحار وما يصاحبها من وتيرة سريعة للحياة. وقد أجرى هذا البحث مارسيل كلاسين وبارت نوليت من المعهد الهولندي لعلم البيئة، وهو يُقيِّم على نحوٍ كمِّيٍّ («حسابي قياسي» من الناحية الفنية) الفارق بين اللحوم والنباتات.
إنك إن ذكرت كلمة «بروتين» فستجد معظم الناس يفكرون في شريحة لحم مشوي يسيل لها اللعاب، وفي الحقيقة إن هناك ارتباطًا قويًّا جدًّا في الذهن بين البروتينات واللحوم، نشأ في الأصل بلا شك مما نراه من عروض الطهي ومجلات وكتب الطهي والتغذية وبرامج التليفزيون وغير ذلك. فلتأكل اللحم إذن لتحصل على البروتينات، وإذا كنت نباتيًّا، فاحرص على أن تأكل الكثير من المكسرات والبذور والبقول. والنباتيون بصفة عامة لديهم إدراك للمكونات الغذائية أكثر من آكلي اللحوم. إننا نحتاج إلى تناول البروتينات للوفاء باحتياجاتنا من النيتروجين من الغذاء، الذي نحتاجه بدوره لصنع بروتينات جديدة في أجسامنا، فضلًا عن مادة الدي إن إيه الوراثية وكلاهما غنيٌّ بالنيتروجين. وليس من الصعب كثيرًا أن نؤمِّن لأنفسنا نظامًا غذائيًّا متوازنًا، حتى إذا كنا نباتيين، ولكن لأننا من ذوي الدم الحار؛ فنحن نأكل الكثير بطبعنا. وقد أشار كلاسين ونوليت إلى أن هذا لا ينطبق على الحيوانات ذوات الدم البارد مطلقًا؛ فهي لا تأكل كثيرًا، وهذا يُمثِّل مشكلة لها تثير الاهتمام حقًّا.
القليل جدًّا من العظايا في العصر الحالي نباتية التغذية (عواشب)، وليس هناك من اﻟ ٢٧٠٠ نوع من الثعابين ما هو نباتي التغذية. بطبيعة الحال هناك بعض العظايا نباتية الغذاء، ولكنها تَمِيل لأن تكون إما كبيرة الحجم نسبيًّا مثل الإيجوانا، وإما أكثر نشاطًا ودرجات حرارة أجسامها أعلى من العظايا اللواحم. وعلى العكس من اللواحم التي تنخفض درجات حرارة أجسامها أسرع، وتسقط في حالة من السبات كلما دَعَتِ الحاجة، فإن العظايا العواشب تكون أقل مرونة بكثير ويتعيَّن عليها أن تتدبَّر شئونها. كان هذا يُعزى من قبل إلى صعوبات هضم المواد النباتية، وهذا الهضم تساعد في إنجازه الميكروبات المعوية التي يمكنها تخمير المواد النباتية عسيرة الهضم، وهي عملية تتم بشكل أفضل عند درجات حرارة أعلى. وبالرغم من ذلك يقول كلاسين ونوليت إنه قد يكون هناك سبب آخر يتعلَّق بالمحتوى النيتروجيني للمواد النباتية. وقد أوردا بيانًا تفصيليًّا عن مقادير النيتروجين الغذائي وأثبتا أن العظايا العواشب تعاني بالفعل من مشكلة كبيرة.
تخيَّلْ أنك تأكل النباتات فقط، التي يقل فيها النيتروجين. فكيف يمكنك أن تحصل على كفايتك من النيتروجين من غذائك؟ حسنًا؛ يمكن أن تُجرِّب أكل تنوُّع أكبر من النباتات، وأن تأكل البذور … إلخ، ولكن حتى في هذه الحالة من المرجَّح أن تعاني نقصًا ملحوظًا، أو يمكنك ببساطة أن تأكل كميات أكبر. وإذا كنت تحصل مثلًا على خُمس احتياجاتك اليومية فقط من النيتروجين بأن تأكل دلوًا من أوراق النبات، فأنت بحاجة لأن تأكل خمسة دلاء لكي تحصل على احتياجاتك كلها. ولو أمكنك فِعْلُ هذا فسوف يدخل جسمَك فائضٌ ضخمٌ من الكربون الذي تزداد نسبته كثيرًا في المواد النباتية، وسيتعيَّن عليك أن تَجِد وسيلةً ما للتخلُّص منه، فكيف؟ بأن تحرقه وحسب، على حدِّ قول كلاسين ونوليت. إن الغذاء النباتي الصِّرْف ملائمٌ للحيوانات ذوات الدم الحار؛ إذ إننا نحرق ملء دلاء من الكربون طوال الوقت، ولكنه يمكن دائمًا أن يُسبِّب الضرر للحيوانات ذوات الدم البارد. وفي هذا السياق، قد يكون من المفيد أن نُعِيد النَّظَر إلى الليستروصورات؛ التي كانت من العواشب، والسينودونتات؛ التي كانت خليطًا من العواشب واللواحم. فهل يمكن أن تكون خاصية الدم الحار قد نشأت في السينودونتات بسبب ما كان لديها من قدرة هوائية عالية — وهو شرط ضروري للبقاء في تلك الأزمنة الصعبة — مقترنة بغذاءٍ غنيٍّ بالنباتات. فحينما نشأت خاصية الدم الحار في تلك العواشب المبكرة ربما استفادت بسهولة من الطاقة الزائدة حتى تتعافى سريعًا، ولكي تجول قاطعة أميالًا في أراضي العصر الترياسي القاحلة بحثًا عن الطعام أو هربًا من المفترسات. ولعل تلك المفترسات كانت احتياجاتها الغذائية أقلَّ بالنسبة للدم الحار، ولكن كان يتعيَّن عليها أن تتنافس مع تلك العواشب سريعة الحركة. وربما احتاجت ميزة الدم الحار لكي تجاري سرعة هروب فرائسها العاشبة.
ولكن ماذا عن الديناصورات الهائلة، وهي أشهر العواشب في التاريخ؟ هل اتبعتَ استراتيجية بديلة لتحصل على نفس النتائج؟ إنك إن أكلتَ خمسة دلاء من أوراق النبات، ولم تحرقها فورًا وباستمرار، يمكنك ببساطة أن تختزنها بجسمك، وأن يزداد حجمك، فتصير عملاقًا. والعمالقة لا يقتصر بهم الأمر على وجود قدرة أو سعة تخزينية زائدة لديهم، بل إنهم دائمًا ما تكون لديهم سرعة أيض أبطأ كذلك، تتوازن مع التقلُّب الأبطأ للبروتينات والدي إن إيه؛ مما يُقلِّل من الاحتياج الغذائي للنيتروجين. وهكذا، هناك طريقتان معقولتان لمجابهة مشكلة الغذاء الغني بالنباتات، وهما: أن يكون حجم الحيوان أكبر مقترنًا بأيض أبطأ، أو أن يكون حجمه أصغر مقترنًا بأيض أسرع. ومن الواضح أنهما بالضبط الاستراتيجيتان المتبعتان مِنْ قِبَل العظايا العاشبة في يومنا هذا، وإن كان من المحتمل أن يَحُول هذا دون نَيْلها لميزة الدم الحار بسبب ما لديها من قدرة هوائية منخفضة متأصلة فيها. (وهناك تساؤل آخر عن كيفية نجاة هذه العظايا من الانقراض في العصر البرمي، لكن الإجابة عنه تأتي في موضع آخر.)
لكن لماذا صارت الديناصورات بهذه الضخامة وقتئذٍ؟ لم تتم الإجابة قط عن هذا السؤال بشكل مُرْضٍ بالرغم من محاولات كثيرة. ووفق ما ورد في اقتضاب في دراسة أجراها عام ٢٠٠١ جاريد دياموند وزملاؤه فإن الإجابة — نظريًّا — قد تكمن في ارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون في ذلك العصر؛ مما يرجح أنه حث على حدوث إنتاجية أولية عالية، أي نمو نباتي أسرع. لكن دياموند لم يفطن إلى ما فطن إليه كلاسين ونوليت عن النيتروجين. فصحيح أن ارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون يُسبِّب زيادة في الإنتاجية، إلا أنه أيضًا يُسبِّب انخفاضًا في المحتوى النيتروجيني للمواد النباتية، وهو مجال بحثي نما واتسع بسبب الهموم المتعلقة بالتأثير الذي قد يلحقه ارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون بما في كوكبنا الأرضيِّ من أغذية. ومن ثم كانت المشكلة التي واجهت السينودونتات والديناصورات أكثر حدة وقتئذٍ مما هي اليوم، وهي حصولها على ما يكفي من النيتروجين في غذائها؛ إذ احتاجت حتى للمزيد من النباتات. فالعواشب الصرفة كانت ستحتاج إلى تناول كميات هائلة منها.
ولعل هذا يُفسِّر السبب في أن الثيروبودات لم تحتَجْ إلى ميزة الدم الحار. إذ كانت من اللواحم، ومن ثم لم تُجابِه مشكلة توازن النيتروجين. ولكن على العكس من السينودونتات اللاهثة التي اضطرت إلى التنافس، ندًّا لندٍّ، مع العواشب سريعة الحركة، كانت الثيروبودات فوق كل ذلك؛ إذ كانت لديها رئات مضخية ماصة فائقة الكفاءة، وكان بإمكانها الإمساك بأي شيء يتحرك.
لم تتحوَّل الرابتورات الفريدة إلى التغذية النباتية إلا فيما بعد، في العصر الطباشيري. وكان من أوائلها بالفعل أحد المانيرابتورات من نوع يُسمَّى «فالكاريوس يوتاهنسيس» الذي وُصِفَ رسميًّا بمجلة «نيتشر» في عام ٢٠٠٥ مِنْ قِبَل فريق من ولاية يوتا الأمريكية، وبصفة غير رسمية مِنْ قِبَل كاتبة تُدعى لينزي زانو، بأنه «قمة الغرابة، وأنه هجينٌ من النعامة والغوريلا وإدوارد ذي الأيدي المقصات.» ولكنه كان حلقة مفقودة أصلية — فنصفه رابتور ونصفه عاشب — وكان يعيش تقريبًا في زمن ظهور أوائل النباتات المزهرة اللذيذة؛ وهو زمنٌ حَدَثَ فيه إغراء غير مسبوق لاتباع أسلوبِ حياة نباتيِّ التغذية. ولكن من منظور هذا الفصل لعلَّ أهم حقيقة عن الفالكاريوس أنه كان جزءًا من مجموعة تُسمَّى المانيرابتورات، التي يُعتقَد أن الطيور قد نشأت منها. فهل يُحتمَل أن نشوء خاصية الدم الحار في الطيور كان أيضًا مرتبطًا بتحوُّل في النظام الغذائي نحو التغذية النباتية؛ ومن ثمَّ حدث احتياج غذائي كبير للنيتروجين؟ هذا أمر معقول إلى حدٍّ ما.
وهكذا نختم هذا الفصل بهذا التخمين، بَيْدَ أنَّ التخمين يمكن بسهولة أن يلبس ثوب الفرضية أو النظرية، وقد وصفه مِنْ قَبْلُ بيتر ميداوار بأنه قفزة تخيلية نحو المجهول؛ وهذا هو أساس العلم الصالح كله. أمامنا الكثير مما يجب فحصه أو اختباره، ولكن إذا شئنا أن نكشف اللثام عن أسباب وتيرة حياتنا السريعة، فقد نحتاج إلى أن ننظر لما وراء أسس الفسيولوجيا، وإلى قصة الحياة نفسها، أن ننظر إلى زمن في تاريخ كوكبنا لعبت فيه الظروف المتطرفة دورًا كبيرًا. وربما تكون تلك دراسة تاريخية أكثر منها دراسة علمية، بمعنى أنه لم تكن ثمة ضرورة لسير الأمور على هذا النحو، بَيْدَ أنها سارت كذلك وحسب. وإذا لم تكن كارثة الانقراض في العصر البرمي قد وقعت، أو لم يقع ما تَبِعَها من انخفاض طويل الأمد في الأكسجين، فهل كانت القدرة الهوائية العالية ستصير مسألة حياة أو موت؟ وهل كانت الحياة ستتطوَّر لما بعد مرحلة الرئة الزاحفية البدائية؟ وإذا لم يتحوَّل القليل من تلك الحيوانات المشحونة هوائيًّا نحو المعيشة النباتية، فهل كانت خاصية الدم الحار ستظهر؟ ربما كان هذا مجرد تاريخ، ولكن قراءة ذلك الماضي البعيد هو علم في حَدِّ ذاته، علم يمكن أن يثري فهمنا وتقديرنا للحياة.