شيء يؤدي إلى آخر
مع أن ستونر كان من دارلينجتون، إلا أنه لم يَعُد لديه أُسرة هناك؛ فقد تُوفُّوا جميعًا. ومن ثَم أقام في فندق رخيص، وبعدما تناول ما أسْماه مالكُ الفندق «وجبة المساء»، خرج مُيمِّمًا وجهه شَطْر هذا الجزء من المدينة الذي أسَّس فيه صديقه مايلر مَسكنًا للزوجية في مبنًى صغير حيث كان يوجد بصعوبةٍ متَّسَع لشخصين للالتفاف. كانت السُّكنى فيه، بالفعل، مثقَلةً بحمل ثقيل في هذا الوقت؛ وذلك لأن والدَي زوجة مايلر قد جاءا لزيارته هو وابنتهما، وعندما دخل ستونر إلى المكان مُضيفًا شخصًا خامسًا، امتلأت حجرة الجلوس الصغيرة لأقصى طاقتها.
قال مايلر بفرح، وهو يُرحِّب بصديقه القديم، ويُقدمه إلى العائلة: «من كان يظن أنني سأراك، يا ستونر!» وأردف: «على أيِّ حال، ما الذي أتى بك إلى هنا؟ أهو العمل؟»
أجاب ستونر: «قليلٌ من العمل فقط.» وتابع: «ليس الكثير؛ فقط مُكالمة سأُجريها في وقتٍ لاحق. ومع ذلك سأُمضي الليلة في البلدة.»
قال مايلر بحزن: «كنتُ أتمنى لو كان بوُسعنا أن نستضيفَك هنا، يا صديقي!» واستطرَد: «لكننا لا نعيش في قلعة، ليس بعد. المكان ممتلئٌ هنا! إلا إذا كنت ترغب في عمل تعديل على طاولة المطبخ، أو في السقيفة الخشبية. أو يمكنك تجرِبة الحمام، إن أردت.»
وسط الضحك الذي أعقبَ هذه المزحة، قال ستونر إنه لا يُريد تعكيرَ صفوِ سلامهم العائلي؛ فقد حجز غرفتَه بالفعل. وبينما انغمس مايلر — الذي، كشأن مندوبي المبيعات، عَمِل على تكوين سُمعة لنفسه بأنه شخصٌ خفيف الظل — في المزيد من النكات، تفحَّص ستونر والد الزوجة خِلسة.
يا لها من صدفة سعيدة! قالها لنفسه؛ يا لها من ضربة حظ! كان يرغب بشدة في أن يعرف شيئًا عن ويلشستر، وها هو يجلس جنبًا إلى جنب معه، أحد رجالات ويلشستر! ها هو رجل من ويلشستر، ومسنٌّ أيضًا؛ إنه بلا شكٍّ يتذكَّر كل شيء عن ويلشستر لسنوات طويلة مضَت. كانت تلك ضربةَ حظٍّ أخرى؛ لأن ستونر كان متأكدًا تمامًا من أنه إن كان لكوذرستون أيُّ علاقة بويلشستر، فلا بد أنها كانت منذ زمن طويلٍ جدًّا؛ إذ كان يعرف، من المعلومات التي حصل عليها، أن كوذرستون كان مستقرًّا في هاي ماركت طيلة ثلاثين سنة.
ألقى نظرةً خاطفة على حَمي مايلر مرةً أخرى بينما كان مايلر — وهو يُعلق قائلًا إنه عندما يلتقي الأصدقاء القدامى يجب أن تتدفَّق الخمر — يُخرج زجاجةَ ويسكي من خِزانة جديدة تمامًا، ويُناشد زوجته أن تأتيَ بما وصفها بطريقة شِعرية بكئوس الكريستال والسائل الفوار. كان والد الزوجة رجلًا عجوزًا صغير الحجم ذا وجهٍ يُشبه التفاحة وعيونٍ مشرقة وابتسامة حاضرة، وكان من الواضح أنه اعتبر صِهره مَرِحًا بالفطرة، فكان مُستعدًّا للضحك على كل تعليقاته. كان رجلًا ذا ذاكرةٍ جيدة، كما قرر ستونر، وتساءل كيف يمكن أن يقود السيد بورسي بطريقة دبلوماسية للحديث عن البلدة التي أتى منها. ولكن السيد بورسي كان سيتحدَّث حالًا عن ويلشستر لغرضٍ ما، ودون أن يُجَرَّ للحديث من قبل ستونر أو أي شخص آخر.
«حسنًا»، علَّق مايلر، بعد أن أمدَّ ضيوفه بالمرطبات الروحية، وأخذ رشفةً من كأسه. وتابع قائلًا: «أنا سعيدٌ برؤيتك، يا ستونر، وكذلك زوجتي، ونأمُل أن تأتيَ مجددًا كثيرًا بقدر ما يَذهب الضِّفدع إلى المياه. لقد حَظِيتَ بالإثارة في تلك البلدة النائية عن العالم، أليس كذلك؟ معارك وجرائم قتل وموت مُفاجئ! مَن كان يظن أن بلدة ريفية عتيقة مملَّة على تلةٍ مثل هاي ماركت يَصدُر منها كلُّ هذا القدر من الإثارة! ماذا حدث لذلك الرجل الذي قبَضوا عليه؟ لم يكن لديَّ الوقت للاطلاع على الصحف في اليوم أو اليومين الماضيَين؛ كنت مشغولًا للغاية.»
أجاب ستونر: «ينتظر المحاكمة.» وأردف: «سيأتي إلى محكمة جنايات نوركاستر الشهرَ المقبل.»
سأل مايلر: «هل يظنُّون أنه فعلها؟» وأضاف: «هل الأمر أكيد؟»
قبل أن يَتمكَّن ستونر من الرد، انضمَّ السيد بورسي إلى ساحة النقاش. وظهرَت على وجهه أماراتُ السعادة التي تبدو على وجه رجلٍ لديه معلومات خاصة.
قال بصوت عالٍ حاد: «إنه أمرٌ غريب، يا ديفيد، غريب جدًّا، أن يحدث هذا عندما أدنو من أماكن تكاد تكون غريبةً عليَّ بقدر جزر فيدجي. حقًّا، يا سيدي»، وتابع، مستديرًا إلى ستونر: «إنه أمرٌ غريب جدًّا! كنت أعرف ذلك الرجل كايتلي.»
كاد ستونر أن يقفز من مقعده، لكنه كبَح جماح نفسه، وحاول ألا يُظهِر انفعالًا يَزيد عن اهتمام مهذَّب.
ثم قال: «حقًّا يا سيدي؟» وأردف: «الرجل البائس الذي قُتِل؟ كنت تعرفه؟»
صادق السيد بورسي على قوله، قائلًا: «أتذكَّره جيدًا جدًّا.» واستطرد: «نعم، مع أني التقيتُ به مرةً واحدة فقط، إلا أنني أتذكر ذلك الرجل جيدًا. أمضيتُ أمسيةً ممتعةً جدًّا معه ومع رجل أو رجلَين آخرَين من مهنتِه، من أفضل رجال الشرطة والمحقِّقين، في منزل صديق لي كان أحد مسئولي شرطة ويلشستر، أوه، إنه … نعم، لا بد أن ذلك كان منذ ثلاثين عامًا. كانوا قد أتوا من لندن، بالطبع، لإنجاز بعض العمل الجنائي. يا إلهي! يا لها من حكايات تلك التي بوُسع هؤلاء الرجال أن يحكوها!»
علَّق ستونر بأدبٍ: «ثلاثون سنةً زمنٌ طويل يا سيدي.»
قال السيد بورسي بإيماءةٍ واثقة: «صحيح، لكني أتذكَّر ذلك جيدًا.» وأضاف: «أعرف أن ذلك كان منذ ثلاثين عامًا؛ لأن محكمة ويلشستر هي التي كان تُنْظَر أمامها قضية مالوز وتشيدفورث. نعم، ثلاثون عامًا. كان ذلك عام ألف وثمانمائة وواحد وثمانين. مالوز وتشيدفورث … نعم!»
سأله ستونر: «أتلك قضيةٌ مشهورة يا سيدي؟» كان حينئذٍ لا يكاد يسيطر على انفعالاته، وأخذ جرعةً كبيرةً من الويسكي والماء لتهدئة نفسِه. وأضاف: «شيء خاصٌّ يا سيدي؟ جريمة قتل؟»
أجاب السيد بورسي: «لا، احتيال، اختلاس، نسيتُ ما هو المصطلح القانوني الصحيح.» وتابع: «لكنها كانت قضيةً سيئة، فسادٌ حقيقي. كان لدينا جمعيةٌ للعاملين في التشْييد والبناء في ويلشستر في تلك الأيام — ما زالت موجودةً حتى الآن لذلك الغرض، ولكن تحت مسمًّى آخر — وكان يوجد اثنان من أفضل نوعيةٍ من العاملين الشباب، شابان ذكيَّان، كان أحدهما سكرتيرًا والآخر أمينًا للخِزانة. كان لهذين الاثنين كاملُ التصرف في كل شيء، وكانا موثوقَين، كما لو كانا بنكَ إنجلترا! وفجأةً، تكشَّف شيءٌ ما، وتبيَّن أن هذين الاثنين، مالوز، أمين الخِزانة، وتشيدفورث، السكرتير، قد اختلسا ألفَي جنيهٍ من أموال الجمعية. ألفَي جنيه!»
صاح ستونر، الذي اتجهت أفكارُه كالبرق إلى نصف ورقة الفولسكاب: «ألفَي جنيه؟» وأضاف: «حقًّا!»
قال الرجل العجوز: «نعم، حسنًا، ربما كان المبلغ أكثرَ أو أقلَّ بجنيهٍ أو جنيهين، ولكنهم قالوا إنه كان ألفَين. وبالطبع حُوكم مالوز وتشيدفورث، وحُكم عليهما بعامَين. أوه، نعم، نحن نتذكر تلك القضية جيدًا جدًّا في ويلشستر، أليس كذلك، يا ماريا؟»
وافقت السيدة بورسي بحرارة: «ولسبب وجيه!» وتابعت: «كان يوجد الكثير من الفقراء الذين كاد يُدمِّرهم هذان الشابان السيئان.»
أكد السيد بورسي: «فعلًا!» وأردف: «نعم … أوه، نعم! كثيرًا ما تساءلتُ عما حدث لهما، أعني مالوز وتشيدفورث. لأنه منذ خروجهما من السجن لم نسمع عنهما شيئًا في منطقتنا. ولا كلمة! لقد اختفيا تمامًا. يقول البعض، بالطبع، إنهما أخفيا تلك الأموالَ في مكان آمن، ثم رجعا إليه ليأخذاها. أنا لا أعرف. ولكنهما ذهبا.»
قال مايلر: «أُفٍّ!» وأضاف: «تلك مسألة سهلة. رحَلا إلى أيِّ مستعمرة من المستعمرات، بالطبع. هذا أمر شائع، يا حَمي. بيرت، يا صاحبي، ما رأيك في أن ننهض ونذهب لنلعب البلياردو في حانة «ستاج أند هنتر»؛ توجد طاولة جيدة هناك.»
تبع ستونر صديقه إلى خارج المنزل الصغير، وما إن خرجا حتى جذبه من ذراعه.
قال، وهو يكاد يرتجفُ من الإثارة المكبوتة: «دعك من البلياردو، يا ديف، يا صاحبي!» وتابع: «اسمع! أتعرف ركنًا هادئًا في حانة «ستاج» يُمكننا التشاور فيه بجدِّية لساعة؟ أتعرف؟ إذن تعالَ، وسأخبرك بأغربِ قصة سمعتَها على الإطلاق منذ وُلِدت!»
أخذه مايلر، الذي استهواه الأمر على الفور، إلى قاعة صغيرة وخالية في الجزء الخلفي من نُزُلٍ مُجاور، وطلب مرطبات، وأمر الفتاةَ التي أحضرَتها أن تتركه وصديقَه وحدهما، ودون استئذان من أحدٍ أغلق الباب على خَلْوتهما. وبعدما فعل ذلك أبدى حُسن إصغاء حتى إنه لم ينبس ببنتِ شَفة إلى أن انتهى ستونر من بسطِ كل شيءٍ أمامه بالتفصيل. وبين الفَينة والأخرى كان يومئ برأسه، وبين الفينة والأخرى كان يَفتح عينَيه الذكيتَين على اتساعهما، وبين الفينة والأخرى كان يُصفق بيدَيه. وفي النهاية ضرب ستونر على كتفه.
وصاح: «ستونر، يا صاحبي!» وتابع: «إنه أمرٌ مؤكَّد! يا إلهي، لم أسمع أبدًا شيئًا أوضحَ من هذا. تلك الخَمسمائة جنيه لك … أجل، أنا متأكد من ذلك مثلما أنا متأكِّد من أنَّ هذا هو أنفي! هذا ما يُسمونه الاستدلال الاستقرائي. الحرفان الأولان إم وسي؛ مالوز وتشيدفورث؛ مالاليو وكوذرستون؛ الألفا جنيه؛ حقيقة أن كايتلي كان في محكمة ويلشستر عام ١٨٨١؛ وأنه أصبح مُستأجِرًا لدى كوذرستون بعد ثلاثين عامًا؛ أوه، أرى كلَّ شيء، وكذلك سيفعل القاضي وهيئةُ المحلَّفين! ستونر، أحدهما أو كلاهما قتل ذلك الرجل لإسكاته!»
«تلك هي فكرتي»، وافقه ستونر، الذي كان سعيدًا جدًّا بنفسه، وصار حينئذٍ مقتنعًا بأن إمكانياته هو، وليس مزيجًا من الظروف السعيدة الحظ، هي التي جلبَت النتيجة المرجوَّة. وأردف: «بالطبع، لقد توصلتُ إلى ذلك. والأمر الآن هو: ما هو أفضل سبيل يُمكن اتخاذُه؟ ما الذي تقترحه يا ديف؟»
استحضر مايلر كلَّ ما لديه من فِطنةٍ اكتسبها من العمل؛ للتعامل مع المشكلة الماثلة أمامه.
سأل أخيرًا، مشيرًا إلى الاسم الموجود أسفلَ منشور المكافأة: «تالينجتون هذا، أيُّ نوع من الأشخاص هو؟»
أجاب ستونر على الفور: «المحامي العامُّ الأكثر احترامًا في هاي ماركت.»
سأل مايلر: «هل سُمعته جيدة؟»
قال ستونر مؤكدًا: «كجودة الذهب.»
قال مايلر: «لو كنتُ مكانك، لكنتُ قدمتُ ملخَّصًا لما أعرفه، بعناية، على الورق، كما ينبغي أن أحصل على فرصةِ مُقابلة خاصة مع تالينجتون وأخبره … بكل شيء. يا رجل! لقد ضمنتَ تلك الخَمسمائة جنيه! فلا يوجد شكٌّ في الأدلة يا ستونر، لا شك على الإطلاق!»
جلس ستونر في صمتٍ يُفكر مَليًّا في الأمور بعضَ الوقت. ثم رمَق صديقه بنظرةٍ ماكرة، وعصبية إلى حدٍّ ما. ومع أنه ومايلر كانا صديقَين حميمَين منذ الصغر، لم يكن ستونر متأكدًا تمامًا مما سيقوله مايلر عما كان ستونر يُفكر فيه في هذا الوقت.
فجأة قال: «انظر.» وتابع: «الأمر كما سأقول لك. كل هذا حسنٌ جدًّا، ولكن يجب على المرء أن يُفكر بنفسه، يا ديف، يا صاحبي. لا يُهمني كايتلي على الإطلاق، لا يُهمني لو كان قد تعرَّض للقتل مرتين؛ ليس لديَّ شكٌّ في أنه يستحق ذلك. لكن سيهمُّ إم وسي كثيرًا إن اكتشَفا ذلك. أستطيع الحصول على هذه الخَمسِمائة جنيه بسهولة كرَمْشةِ عين … لكن … هل تَفهم ما أعنيه؟ أظن أن إم وسي سيَزيدان المبلغ إلى خَمسة آلاف إذا أبقيتُ فمي مغلقًا. ما رأيك؟»
أدرك ستونر على الفور أن مايلر لا يُوافق على ذلك. صار وجه مندوب المبيعات الوَدود جادًّا، وهز رأسه بإشارة لا تُخطئها عين.
قال: «لا، يا ستونر.» وأردف: «لا شيء من هذا! العب بنَزاهة يا فتي! لا رِشوة. التزِم بالقانون، يا ستونر، التزم بالقانون! علاوة على أنه يُوجد آخرون يمكنهم اكتشافُ كل ذلك. ما أنت بحاجةٍ إلى أن تفعله هو أن تتقدَّم أولًا. اذهب لمقابلة تالينجتون بمجرد عودتك.»
قال ستونر معترفًا: «أظن أنك مُحِق.» وأضاف: «لكني … أعرف إم وسي، وأعرف أنهما سيدفعان نصف ما يملكان، وهو كثير! لإبقاء هذا الأمر في الخفاء.»
ظلت تلك الفكرة تُراوده كلما استيقظ في الليل، وبينما كان يتجوَّل في دارلينجتون في صباح اليوم التالي، وكانت لا تزال تُراوده عندما تناول عَشاءً مبكرًا، وانطلق عائدًا في قطار الظهيرة المبكر الذي أقلَّه إلى محطة السكك الحديدية الرئيسية بهاي جيل؛ ومن هناك كان عليه أن يسير خَمسة أميال عبر الأراضي السبخة والتلال إلى هاي ماركت. وكان لا يزال مستغرقًا في التفكير فيها عندما كان ينعطف عند زاوية غابة صَنوبر صغيرة، في واحدٍ من أكثر الأجزاء التي كان يعبرها عُزلةً، وإذا به يَتقابل وجهًا لوجه مع مالاليو.