الأراضي السَّبخة المنعزلة
خلال الساعات الثلاث التي انقضَت منذ مغادرته دارلينجتون، كان ستونر مستغرقًا في التفكير في الأمور. لقد قد قابل صديقه مايلر مرةً أخرى في ذلك الصباح؛ وتناولا مشروبًا أو اثنَين معًا في غرفة المرطبات بالمحطة قبل أن يُغادر قطار ستونر، وكان مايلر قد حثَّ ستونر مرةً أخرى على استخدام ما توصَّل إليه عن طريق الحظ بالطريقة الصحيحة. قال مايلر إنه لا يشكُّ في أنه يستطيع أن يُقنع مالاليو وكوذرستون أن يُعطوه رِشوة؛ لا شك في أنهما سيدفعان الآلاف بسرورٍ في حينِ أن المكافأة لم تكن سوى مئاتٍ من الجنيهات، ولكن، عندما أخذ كل شيء في الاعتبار، هل كان الأمر يَستحق؟ قال مايلر: لا! وألفَ مرةٍ لا. كانت الحقيقة المجردة أنه بما أن ستونر قد اكتشف كل هذا فذلك دليلٌ مؤكد على أن شخصًا آخر قد يكتشفُه. قال مايلر إن الشرطة اعتادت على العمل مثل حيوانات الخُلْد، تحت الأرض. كيف يمكن لستونر أن يعرف أن بعض محقِّقي نوركاستر ولندن لا يبحثون في الأمر بالفعل؟ كانوا يعرفون بالفعل أن كايتلي كان محقِّقًا سابقًا؛ وبالتأكيد سوف يُراجعون مهامَّه السابقة، في محاولةٍ لتتبُّع أي صلةٍ بين أي مهمةٍ منها ومقتله. ومن المؤكد أن قضية ويلشستر القديمة تلك ستُعاود الظهور، على الرغم من أن وقائعها جرَت منذ زمن بعيد. وعلَّق مايلر بقوة وجِدية قائلًا إنه عندما تظهر … ستكون خيبةً على ستونر إن اكتُشِف أنه قَبِل رِشوة من رَبَّي عمله ليصمت. في الواقع — أبدى مايلر ذلك باعتباره رأيه الباتَّ، على الرغم من أنه، كما أوضح، لم يكن محاميًا — لم يكن يعرف إلا أن ستونر، في تلك الحالة، سوف يُقبَض عليه بصفته شريكًا في الجريمة بعد وقوعها.
نصحه مايلر، وهما يفترقان: «التزِم بالقانون، يا بيرت، يا صديقي!» وتابَع: «ستكون بخير حينها. التزِم بنصيحتي؛ قابل تالينجتون على الفور — اليوم بعد الظهر! — واطلب الحصول على الخَمسمائة جنيه. ستكون في أمانٍ تامٍّ بفعلك ذلك، لكن إن اخترتَ التصرُّف الآخر ستكون المخاطرة فظيعة، يا بيرت. تصرَّفْ بحكمة! لن تحصل على نصيحة أفضل من هذه!»
عرَف ستونر أن صديقه الحصيف كان على حق، وكان مُستعدًّا لأن يَمتثل لنصيحته، بينما كان مايلر بجواره. ولكن بعدما تركِه، بدأ عقله في التذبذب. خَمسمائة جنيه! ما هذا بالمقارنة مع ما قد يحصل عليه بالقليل من اللعب بمهارةٍ بأوراقه؟ كان يعرف مالاليو، وكان يعرف كوذرستون؛ كان يعرف الكثير عنهما أكثرَ مما كانا يتصوَّران. كان يعرف أنهما ثريَّان، ثريان جدًّا. لقد كانا يَجْنيان المال لسنوات، وفي الآونة الأخيرة، زادت بعض العقود الناجحة والمربحة للغاية من ثروتهما بطريقة مُدهشة. كان كل شيء قد سار كما تمنَّيا؛ كل عقد كانا يستحوذان عليه كان يتحوَّل إلى منجم ذهب. خَمسة آلاف جنيه لن تكون شيئًا يُذكر لكلِّ واحد منهما منفردًا، فضلًا عمَّا لو كانا مُتشاركَين. في رأي ستونر، لم يكن عليه سوى أن يطلب من أجل أن يحصل على ما يُريده. كان يعتقد اعتقادًا راسخًا أنهما سيدفعان، سيدفعان على الفور، مبالغَ جيدة. وإن فعَلا، حسنًا، فسيَحرص جيدًا على ألَّا يحدث له مكروه! إذا تحصَّل على خمسة آلاف جنيه إسترليني، فسيخرج من هاي ماركت في غضون خمس ساعات، وسيكون في منتصف الطريق عبر المحيط الأطلسي في غضون خمسة أيام. لا … كان ديف مايلر شخصًا صالحًا، ومن أفضل الناس، لكنه كان إلى حدٍّ ما متزمتًا أخلاقيًّا ومحافظًا، خاصةً منذ أن تزوَّج، ومع ذلك، لكل إنسان الحق في بذل قُصارى جهده من أجل صالحه. وهكذا، عندما قابل ستونر مالاليو وجهًا لوجه في الأرض البور المنعزلة بين هاي جيل وهاي ماركت، كان قد اتَّخذ بالفعل قراره بالابتزاز.
كان المكان الذي تقابلا فيه مُلائمًا، لغرض ستونر. كان قد عبر الأرض المرتفعة بين خط السكة الحديد والأرض السبخة دون مسار محدَّد، ولكنه كان قد سار في خطٍّ مُستقيم عبر نباتات اللِّنج والسَّرخس والخَلَنْج. كان يَحوطه من كل جانبٍ أميالٌ وأميال ممتدَّة من العزلة، لا شيء سوى أراضٍ سبخة متموجة، تقطعها كتلٌ ضخمة من الحجر الجيري ومن حينٍ لآخَر تجمُّعات وأغطية من أشجار التنوب والصنوبر؛ لا شيء سوى خطِّ التلال الأزرق في الغرب؛ ولا شيء سوى السماء الرمادية الشمالية فوق رأسه؛ ولا شيء سوى صياح الكروان وثغاء خراف الجبل. ووسط كل هذا قابل ربَّه في العمل، عند زاوية أيْكة رفيعة امتدَّت على حافَة محجرٍ مَهجور. كان مالاليو، كما كان ستونر يَعرف جيدًا، بارعًا في التريُّض في هذه الأراضي السبخة، وكان دائمًا ما يَمشي وحيدًا. كان يتريَّض للحفاظ على وزنه؛ وها هو يأتي، مؤرجِحًا عصا مَشيِه الثقيلةَ المصنوعة من خشب البلوط، مستغرقًا في أفكاره، وكاد هو وستونر أن يَصطدم أحدُهما بالآخَر، إذ لم يسمع أيٌّ منهما وقع خطوات الآخَر على العُشب الناعم. فوجئ ستونر واحمرَّ وجهه من هذه المفاجأة.
لكن مالاليو، الذي كان منشغلًا بأفكاره، لم يكن يُفكر في ستونر، ومن ثَمَّ لم يبدُ عليه أنه فُوجئ بمُقابلته. لقد عمل على تنمية علاقات ودِّية مع كل مَن عملوا لحسابه، وابتسم ابتسامةً عريضةً لكاتبه.
صاح بودٍّ: «مرحبًا!» وتابع: «هل تتريَّض وحدك؟ هه؟ كنتُ أظنُّ أن شابًّا مثلك سيأخذ واحدةً من الفتيات صانعاتِ قبعات الآنسة فيزرباي للتنزُّه على ضفة النهر، أليس كذلك؟»
ابتسم ستونر، ولكن ليس كمثلِ ابتسامة مالاليو. لم يكن في حالة مِزاجية تسمح بالتظاهر؛ وإذا كان قد ابتسم فذلك لأنه كان يظنُّ أن الأمور كانت تسير في مصلحته، وأنه كان يتحكَّم في خيوط اللعبة. وفجأةً اتخذ قراره.
أجاب بوقاحة: «لديَّ أمور أهمُّ من ذلك لأفعلها، يا سيد مالاليو.» واستطرد: «أنا لا أُضيع وقتي على المتدرِّبات من صانعات الملابس. لديَّ أمور أهم من ذلك لأفكر فيها، يا سيدي.»
قال مالاليو: «أوه!» وتابع: «آه! ظننتُ أنك منغمسٌ بشدة في التفكير. فيمَ تفكر؟»
كان شيءٌ ما بداخل ستونر يستحثُّه على الدخول مباشرةً في الموضوع. قال له مُرشده الداخلي أن يدخل مباشرةً في الموضوع، بلا تحوُّط، ولا كثيرِ كلام. أدخل ستونر يدَه في جيبه، وأخرج نسخةً من إعلان المكافأة. فتحَها أمام ربِّ عمله، وهو يراقب وجه مالاليو.
قال: «في ذلك.» وأضاف: «فقط في ذلك، يا سيد مالاليو.»
ألقى مالاليو نظرةً خاطفةً على المنشور، واختلجَ قليلًا، ثم نظر نظرةً حادةً بعضَ الشيء، وغاضبةً بعض الشيء، إلى كاتبه.
زمجَر، قائلًا: «وماذا عنه؟» كان مِزاجه، كما كان ستونر يعرف جيدًا، يحتدُّ بسرعة، وبدَت عليه أماراتُ الانتباه الآن. واستطرد يسأل: «لأيِّ سبب تُريني تلك الورقة؟ كن مهذبًا، أيها الشاب!»
ردَّ ستونر بهدوء: «لا أقصد الإساءة.» نظر حوله فلاحظ حاجزًا مُريحًا، قديمًا وباليًا، كان يُسيِّج المحجر، فتراجع إليه، وأسند ظهره بهدوء إلى جزئه العلوي، ووضع يدَيه في جيبَيه، ونظر إلى مالاليو نظرةً كان يهدف منها أن يُظهِر أنه يَشعر أن الغلبة ستكون له في أي مواجهة قد تحدث. وقال: «أريد أن أتحدث معك حديثًا قصيرًا، يا سيد مالاليو.»
بغضبٍ حدَّق مالاليو في ستونر، وبدَت عليه الدهشة من هذا السلوك الغريب.
صاح مندهشًا: «أنت تُريد … أنت تتحدَّث معي … حديثًا قصيرًا؟». وأردف يسأل: «لماذا؟ ولماذا هنا؟»
قالها ستونر، بضحكة شريرة: «المكان هنا مناسب.» وأضاف: «نحن بمُفردنا تمامًا. ولا يوجد أيُّ أحدٍ بالقرب منا. لن تودَّ أن يَسمع أحدٌ ما أريد قوله.»
حدَّق مالاليو في كاتبه في صمتٍ دقيقةً كاملة. كان مُعتادًا على أن يُمارس حيلة التحديق بصمتٍ في الناس دون تعبير على وجهه. لكنه وجد أن ستونر لن يُشيح بناظِرَيه، وفي النهاية تكلم.
قال: «سأُخبرك أمرًا يا ولدي!» واستطرد: «لا أعرف إن كنتَ ثملًا، أو إن كان لديك هوَس، لكنَّني لا أسمح لأي أحد، ولا سيَّما رجلًا أدفع له أجره، بالتحدث إليَّ بهذه اللهجة! ماذا الذي تَعنيه بقولك هذا؟»
أجاب ستونر، وهو لا يزال يُحدق في الرجل بثبات، ويحضر نفسه للمواجهة: «سأقول لك ما أعنيه يا سيد مالاليو». وأضاف: «ما أعنيه هو أنني … أعرف مَن قتل كايتلي!»
شعر مالاليو بجسده يختلج مرةً أخرى؛ وشعر بوجهِه يتورَّد بحرارة. ولكنه تمكَّن من إظهار التماسك، واستطاع بجهدٍ جهيد أن يبتسم بسخرية.
قال، وهو يَلْوي فمَه في سخرية: «أوه.» وأردف يسأل: «هل تعرف حقًّا؟ يا إلهي! يا له من رائعٍ ذكاءُ بعض الشباب! إذن أنت تعرف مَن قتل كايتلي، أليس كذلك يا ولدي؟ آه! ومَن قتل كايتلي إذن؟ دعنا نعرف! أم أنك تفضل الاحتفاظ بهذا السرِّ الخطير لنفسك، إلى أن تتمكن من أن تَجنيَ شيئًا من ورائه؟»
أجاب ستونر، الذي كان ذكيًّا بما يكفي لكي يفهمَ تظاهر مالاليو بالسخرية: «يمكنني أن أجنيَ شيئًا من ورائه الآن.» وتابع: «عليك فقط أن تَفهم أهميةَ ما أقوله. أقول لك مرة أخرى؛ أعرف من قتل كايتلي!»
سأله مالاليو بحدَّة: «ومَن قتله إذن؟» وأردف: «أف! أنت لا تعرف شيئًا عن ذلك!»
ضحك ستونر، ونظر حوله، ثم أحنى رأسَه إلى الأمام.
قال، بسخريةٍ فاقت سخريةَ صاحب العمل في المغزى والمعنى: «لا أعرف؟» وأضاف: «لكنَّك مخطئ، فأنا أعرف! لقد قُتِلَ كايتلي إما على يدك أو على يد كوذرستون! ما رأيك في هذا، يا سيد مالاليو؟»
نظر مالاليو مرةً أخرى إلى كاتبه في صمت. أضحى الآن يعلم أن هذا الشابَّ يملك بعض المعلومات، وكان يميل بحكم طبيعته إلى أن يُراوغه. وبذَل جهدًا جهيدًا ليلمَّ شتات نفسه، ليتعامل بطريقةٍ أفضل مع كل ما قد ينتظره.
كرَّر بسخرية: «إما أنا أو السيد كوذرستون!» وأردف يسأل: «أوه! وأيٌّ منا الذي ستَميل إلى أن تُقرر أنه القاتل، يا سيد ستونر؟»
أجاب ستونر: «ربما كان أحدكما، وربما كان الآخر، وربما كان كلاكما، لا أعرف.» وأضاف: «ولكنْ كلاكما مُذنب، على أي حال! لا فائدة، يا سيد مالاليو — أعرف أنكما قتلتُماه. وأعرف لماذا!»
مرةً أخرى ساد الصمت، ومرة أخرى تبادل كلٌّ منهما التحديقَ في الآخَر. وفي النهاية ضحك مالاليو مجدَّدًا، وهو لا يزال يتكلَّف مشاعر السخرية والرِّيبة.
ثم سأله بحدة: «حقًّا؟ ولماذا قَتَلَه أحدُنا أو الآخر أو كِلانا — اختر ما شئت — هذا السيد العجوز؟» وأردف: «لماذا يا صاحب حاسة الشم القوية؟»
أجاب ستونر: «سأقول لك، وعندئذٍ ستَعرف ما أعرفه.» واستطرَد: «لأن السيد العجوز كان مُحققًا سابقًا، وكان حاضرًا عندما حُوكمتَ أنت وكوذرستون، باسمَيكما الحقيقيَّين، مالوز وتشيدفورث، بتهمة الاحتيال في محكمة ويلشستر، قبل ثلاثين عامًا، وحُكم عليكما بالسجن لمدة عامَين! لهذا السبب، يا سيد مالاليو. الرجل العجوز كان يعلم ذلك، وقد أخبركما بأنه يعلم، فقتَلتُماه لإسكاته. لأنكما لم ترغبا أن يشيع أن العمدة وأمين خِزانة هاي ماركت، المحترمَين جدًّا، والمقدَّرَين جدًّا، سجينان سابقان!»
فجأةً احتدَّ غضب مالاليو، الذي كان تحت السيطرة جيدًا حتى ذلك الحين، بينما كان ستونر يتلفَّظ بوصفِه الأخير باحتقار. كان واقفًا ويدُه اليمنى خلفه، ممسكًا بعصا البلوط الثقيلة؛ وفي هذه اللحظة، عندما استعر غضبه فجأة، أرجح يده وعصاه من خلفه، وهوى بضربةٍ وحشية على جلاده، واصطدم مقبضُ العصا بصُدغ ستونر. كانت الضربة سريعة جدًّا، والهجومُ مفاجئًا جدًّا، لدرجة أن الكاتب لم يكن لديه وقتٌ لأن يفعل أي شيء أكثر من التلويح بذراعه لأعلى. وبينما كان يرفعها، وبينما كانت الضربة الشديدة تسقط، انهار الحاجز القديم المهترئ الذي كان ستونر يتَّكئ عليه دون أيِّ مبالاة، ليسقط ستونر من خلاله عبر حافة المحجر دون أن يُصدر صوتًا. سمع مالاليو صوت اصطدام عصاه بصُدغ ضحيَّته؛ وسمع صوت طقطقة الحاجز، لكنه لم يسمع صراخًا ولا تنهُّدًا ولا أنينًا يَصدر من ستونر. سقط ستونر إلى الوراء واختفى، وبعد ذلك (بدا وكأنَّ دهرًا قد مر) أدركَت حواسُّ مالاليو الخائفة صوت الارتطام المكتوم في مكان سحيقٍ ما، في الأعماق التي سقط فيها. ثم سرى الصمت، صمتٌ عميق وثقيل، كسَره أخيرًا صياح كروان وهو يطير عبر الأرض البور المنعزلة.
سيطرَت على مالاليو نوبةٌ من الارتجاف. وبدأ يهتز. ارتجف جسدُه الثقيل كما لو كان تحت تأثير حمَّى شديدة؛ بعُنف اهتزَّت اليدُ التي ضربت الضربة لدرجة أن العصا سقطت منها. ونظر مالاليو إلى العصا، وفي غضبٍ عارم مُفاجئ ركَلها بعيدًا عنه لتسقط من فوق حافة المحجر. رفع قبضته وهزَّها، وفجأةً أسقطها. زال الارتجاف، وتحوَّل إلى عرقٍ باردٍ نابعٍ من الخوف.
تمتم مالاليو: «رُحماك يا رب!» وأردف: «هل قُتِل؟ كان يجب ألا يُثير غضبي؛ كان يجب ألا يتحدَّاني! كان هذا أكثرَ من قدرة أيِّ بشر على الاحتمال، رحماك يا رب، ماذا أفعل؟»
كان شفق الخريف يزحف فوق الأرض السبخة. كانت الشمس قد غربَت خلف التلال الغربية البعيدة مباشرةً قبل أن يَلتقيَ مالاليو وستونر، وبينما كانا يتبادلان الحديث، كان الغسَق قد حلَّ. في ذلك الحين كانت الأراضي البور تزداد عَتمةً وغموضًا، وبدا لمالاليو أنه كلما خبا الضوء ازداد الصمت. نظر حوله، خائفًا من أن يكون أيٌّ من رُعاة المنطقة قد أتى ليُلقيَ نظرةً على قُطعانه يوم الأحد. وما إن ظنَّ أنه رأى هيئةَ شخص على مسافةٍ قصيرة عند حافة الأشجار، نظر مليًّا وأجهدَ عينَيه في النظر، واستنتج أنه لم يكن يُوجد أحد. بعد قليل أجهَد عينَيه في اتجاهٍ آخر؛ إذ تسلَّل بحذرٍ إلى حافة المحجر، ونظر فوق الحاجز المكسور، وعميقًا بالأسفل رأى ستونر مُستلقيًا على ظهره بلا حَراك على صخور الحجر الجيري.
تمكَّن مالاليو بخبرته الطويلة في الأراضي البور وفي كل زاوية وركن فيها من أن يشقَّ طريقه إلى أسفل المَحجر بالنزول، مُمسكًا بشجيرات القندول ونباتات العُلَّيق، حائلًا بينه وبين أن يسقط. زحف عبر الشجيرات إلى الموضع الذي كان فيه الجسد راقدًا، ووضع يده بخوفٍ على الجسد الهامد. كانت لمسةٌ واحدة كافيةً، ووقف يرتجف ويهتزُّ أكثر من ذي قبل.
همهمَ قائلًا: «إنه ميت … ميت!» وتابع مُحدِّثًا نفسه: «يبدو أن رقبته كُسِرَت؛ إنها مسافة خَمسين قدمًا على الأقل إلى الأسفل هنا. يا له من حظٍّ عاثر! وماذا سأقول وماذا سأفعل حيال ذلك؟»
أتاه الإلهام سريعًا؛ بالسرعة نفسِها التي حلَّ بها الظلام على مكان الموت هذا. بذل جهدًا، واستعاد زِمام نفسه، وأصبح الآن قادرًا على التفكير واتخاذ القرار. لن يقول أو يفعل شيئًا، لا شيء على الإطلاق. لم يشهد أحدٌ اللقاءَ بينه وبين ستونر. لم يرَ أحدٌ الضربة ولم يرَ أحدٌ سقوط ستونر. من الأفضل ألا يقول شيئًا، وألَّا يفعل شيئًا؛ والأفضل من كل هذا أن يبتعد ويتركَ الأمور تأخذ مجراها. سيُعْثَر على جثة ستونر، في اليوم التالي، أو اليوم الذي يليه، أو في أي يوم؛ وعندما يُعْثَر عليها، سيقول الناس إن ستونر كان جالسًا على ذلك الحاجز المتداعي، وانهار الحاجز، فسقط؛ وأيًّا ما كانت العلامات التي ستظهر عليه سيعزوها الناسُ إلى سقوطه على الحواف الحادة للمحجر القديم.
وهكذا، غادر مالاليو مبتعدًا من طريق آخَر، ومضى عائدًا إلى هاي ماركت في ظُلمة المساء، مختبئًا وراء الأسوار والجدران حتى وصل إلى منزله. ولم يتذكَّر فقده لعصاه إلا بعد أن استلقى آمنًا في سريره في تلك الليلة.