الجريمة والنجاح
للحظاتٍ بعد أن تَركَه كايتلي، وقف كوذرستون يُحدِّق بنظرةٍ خاوية في الكرسي الذي كان يجلس فيه ذلك المُبتَز. كان حتى تلك اللحظة لا يزال عاجزًا عن استيعابِ ما حدث. كان فقط مفعمًا بدهشةٍ غريبة وغامضة بشأن كايتلي نفسه. بدأ يسترجع صِلاتِه بكايتلي. كانت صِلاتُهما حديثة، حديثة جدًّا؛ فقد كانت بالأمس فقط، كما يُقال. لقد زاره كايتلي في أحد الأيام قبل ثلاثة أشهر، وأخبره أنه جاء إلى هذه المنطقة لقضاء عُطلةٍ قصيرة، وأنه أُعجِب بشدة بكوخٍ كان كوذرستون يَعرض تأجيره، واستفسر عن إيجاره. لقد ذكر في معرض الحديث أنه قد تقاعد من العمل لتوِّه، ويريد مكانًا هادئًا ليقضي فيه بقية أيامه. لقد استأجر الكوخ، وأعطى مالكه تأكيداتٍ مُرضِية عن قدرته على دفع الإيجار، ولم يفكر كوذرستون، الذي كان رجلًا دائم الانشغال، بشأنه أكثر من ذلك. من المؤكَّد أنه لم يتوقَّع أبدًا مثل هذا التهديد الذي وجَّهه كايتلي له للتو؛ ولم يتخيَّل أبدًا أن كايتلي قد تعرَّف عليه وعلى مالاليو بصفتهما الرجلَين اللذَين كان يعرفهما قبل ثلاثين عامًا.
لقد كان كوذرستون يسعى طَوالَ حياته لنسيان كل شيءٍ عما حدَث قبل ثلاثين عامًا، وكان قد نجح إلى حدٍّ كبير في محوه من ذاكرته. ولكنَّ كايتلي أعاد كل شيء ثانيةً، والآن أصبح يتذكَّر كل شيءٍ كما لو كان حديث العهد. تقطَّب جبينُه واكفهَرَّ وجهُه وهو يُفكِّر في شيء من ماضيه كان كايتلي قد أتى على ذكره بسهولة وبغير تكلُّف … قفص الاتهام. رأى نفسه في قفص الاتهام ذاك مرةً أخرى، ومالاليو يقف إلى جانبه. بالطبع لم يَكُنِ اسمهما مالاليو وكوذرستون في ذلك الوقت. تذكَّر ماذا كانت أسماؤهما الحقيقية، وتذكَّر أيضًا أنه لم يُردِّدها — حتى لنفسه — لسنواتٍ طويلة. أجل، تذكَّرَ كل شيء، ورآه أمامه مرةً أخرى. كانت القضية قد أثارت الكثير من الاهتمام في ويلشستر في ذلك الوقت، ويلشستر التي كانت على مدار ثلاثين عامًا بعيدةً عن تفكيره، ومن ناحية المسافة الفعلية، كما لو كانت مكانًا على الجانب الآخر من الكرة الأرضية. لم تكن قضيةً لطيفة، حتى حينئذٍ، عندما ينظر إليها من وجهة نظره الحالية، كانت تجعله يخجل من مجرَّد التفكير فيها. شابَّان عاملان من طبقةٍ اجتماعية جيدة يُتَّهَمان باختلاس أموالِ هيئة بناءٍ كان كلاهما يعمل فيها، واحدٌ أمين خزانة، والآخر سكرتير! إنها قضيةٌ سيئة. وقد اعتبرَتْها المحكمة قضيةً سيئة، وحُكِم على الجانيَين بالسجن لمدة عامَين. والآن لم يكن كوذرستون يتذكَّر فترة السجن تلك إلا كما يتذكَّر المرء حُلمًا مُريعًا. أجل … كان هذا حقيقيًّا.
كانت عيناه واجمتَين ونَكِدتَين، ولكنه حوَّل نظره فجأةً من الكرسي المريح إلى يدَيه … كانتا ترتعشان. دون تفكير أخذ زجاجة الويسكي من على مكتبه، وسكب بعضًا من محتوياتها في كأسه التي أحدثَت حافتُها رنينًا عندما اصطدمَت بزجاجة الخمر. غَمغَم في نفسه قائلًا، أجل، لقد كانت صدمةً فعلًا، ولن تنجح كل زجاجات الويسكي التي في العالم في تخليصِه منها. ولكن من شأن شرابٍ مُركَّز قوي أن يُهدِّئ من رَوعِه ويُلملِم شتاته؛ لذا شرب، مرةً، ومرتَين، وجلس وهو يحمل الكأس في يده … ليمعن في التفكير.
كايتلي العجوز ذاك كان داهية، داهيةً بحق! لقد أصاب على الفور كبد حقيقةٍ لم يشُكَّ فيها أهل ويلشستر قبل ثلاثين عامًا مُطلقًا. وقد قيل في ذلك الوقت إنَّ المجرمَين خسرا أموال هيئة البناء في القمار والمضاربة، وكان يُوجد أساسٌ لذلك الاعتقاد. ولكنَّ الأمر لم يكن كذلك. لقد وضع المتآمِران معظم الأموال بمهارة وعنايةٍ حيثما يُمكنهما الحصول عليها وقتما شاءوا، وعندما انتهت مدة السجن لم يكن لديهما أي شيءٍ يفعلانه سوى الاستيلاء عليها لأغراضهما الخاصة. لقد خطَّطا كل شيء ببراعة؛ فقد أقر كوذرستون، العقل المُدبِّر الأساسي، فيما يتعلَّق بأفعالهما من موقعِ أفضلية فارق ثلاثين عامًا، أنهما كانا لطيفَين وماكرَين وحذرَين إلى درجة كمالٍ مثيرة للإعجاب. لقد اختفَيا تمامًا، بهدوء وبصورةٍ غير ملحوظة إطلاقًا، من مقاطعتهما في أقصى جنوب إنجلترا عندما انتهت مدة عقوبتهما. كانا قد أشاعا أنهما ذاهبان إلى قارَّةٍ أخرى، لإصلاح الماضي وبدء حياةٍ جديدة؛ حتى إنه كان معروفًا أنهما سافرا إلى ليفربول كي يستقلَّا سفينةً متجهة إلى أمريكا. لكنَّهما في ليفربول تخلَّصا من كل شيء من الماضي؛ الأسماء والعلاقات والسجل الجنائي. لم يكن يُوجَد سبب يدعو أي شخص إلى مراقبتهما خارج البلاد، ولكنهما كانا قد اتخذا احتياطاتهما إزاء ذلك إن حدث. انفصلا واختفَيا، والتقيا مجددًا في أقصى الشمال، في ريفٍ قليل السكان ومُنعزلٍ ذي تلال وأودية، قادهما إليه إعلانٌ كانا قد طالعاه في صحيفةٍ محلية بمحض الصدفة في أحد فنادق ليفربول. كانت شركة قديمة معروضة للبيع كمنشأةٍ قائمة، في بلدة الوادي، هاي ماركت، فاشتراها المُدانان السابقان. منذ ذلك الحين أصبحا أنتوني مالاليو وميلفورد كوذرستون، وأصبح الماضي خامدًا.
خلال الثلاثين عامًا التي كان الماضي فيها خامدًا، كثيرًا ما كان كوذرستون يَسمع رجالًا يقولون إن هذا العالم صغيرٌ جدًّا، وكان يسخر منهم في سرِّه. فيما يتعلَّق به وبشريكه كان العالم واسعًا وكبيرًا بما يكفي. كانا حينئذٍ على بُعد أربعمائة ميل من مسرح جريمتهما. ولم يكن يُوجَد أي شيء على الإطلاق يدفع سكان ويلشستر إلى المجيء إلى ذلك الريف الشمالي، وبالمثل، لم يكن يُوجَد شيء مِن شأنه أن يدفع بسكان هاي ماركت إلى المجيء إلى أي مكانٍ قريب من ويلشستر. لم يذهب هو ولا مالاليو أبدًا بعيدًا عن ديارهما؛ وقد حرصا على تجنبِ لندن بخاصَّة، خشية أن يُقابلا أي شخصٍ ممن كانوا يعرفونهما في الأيام الخوالي. لقد استقرَّا في ديارهما، ولم يبرحاها، واهتمَّا بشئونهما، عامًا بعد عام. كانا قد نجحا وازدهرا بكل تأكيد. وسرعان ما عُرِف عنهما أنهما شابَّان مُجتهِدان، ثم باعتبارهما ربَّي عملٍ جيدَين، وأخيرًا بصفتهما رجلَين يتمتعان بمكانةٍ مرموقة في بلدةٍ كان عدد سكانها لا يتجاوز خمسة آلاف نسمة فقط. لقد دُعِيَا للمشاركة في الشئون العامة، حيث انضمَّ مالاليو إلى مجلس المدينة أولًا، وتَبِعه كوذرستون في وقتٍ لاحق. لقد نجحا في إدارة شئون البلدة الصغيرة بقَدْر نجاحهما في إدارة شئونهما الخاصة، وفي الوقت المناسب حصل كلاهما على مناصبَ رفيعة؛ فقد كان مالاليو في الوقت الراهن يتقلَّد منصب العمودية للمرة الثانية، بينما كان كوذرستون، بصفته أمينَ خزانة البلدة، يُدير الشئون المالية لبلدة هاي ماركت لعدة سنوات. وبينما كان جالسًا هناك، يُحدِّق في الجمر الأحمر لمِدفأة مكتبه، تذكَّر أنه لم يكن يُوجَد رجلان في البلدة بأكملها يتمتَّعان بالثقة والاحترام أكثر منه هو وشريكه، شريكه في النجاح … وفي الجريمة.
ولكن ذلك لم يكن كل شيء. كان كلا الرجلين قد تزوَّج في غضون سنواتٍ قليلة من مجيئهما إلى هاي ماركت. لقد تزوَّجا من شابتَين تتمتَّعان بمكانةٍ طيبة في المنطقة؛ فكر كوذرستون في أنه ربما كان من الجيد أن زوجتَيهما قد ماتتا، وأن مالاليو لم يُرزَق بأطفالٍ قَط. لكن كوذرستون كان لديه ابنة، وكان مغرمًا بها بقَدْر ما كان فخورًا؛ فقد كدح وخطَّط من أجلها، وكان ينوي دومًا أن تكون امرأةً غنية. لقد حرص على أن تتلقى تعليمًا جيدًا؛ حتى إنه سمح لنفسه بأن يُحرَم من صُحبتها لعاميَن عندما ذهبَت إلى مدرسةٍ مُكلِّفة بعيدة؛ كما أنه قد أحاطها بكل سبُلِ الراحة منذ أن كبِرَت. والآن، كما ذكَّره كايتلي، كانت مخطوبة وعلى وشك الزواج من شابٍّ، من أكثر شابٍّ واعد في هاي ماركت، ويندل بينت، وهو صاحبُ مصنعٍ ثري، كان قد نجح نجاحًا كبيرًا في تطوير عملٍ تجاري رائع، كما أنه كان قد وضَع بصمتَه بالفعل على مجلس المدينة، وكان معروفًا أنَّ لديه طموحًا في الانضمام إلى البرلمان. كان الجميع يعلم أن بينت تنتظره حياةٌ مهنية عظيمة؛ فقد كان يتمتَّع بكل المواهب اللازمة، وبكل الأشياء المناسبة للنجاح في مثل هذه الحياة. سيُحقِّق نجاحًا؛ فمن المحتمل أن يحظى بلقبٍ، ربما بارونًا أو نبيلًا. كان هذا بعينه هو الزواج الذي أراده كوذرستون لابنته ليتي؛ وكان سيموتُ وهو في قمة السعادة إن أمكنَه أن يسمع ذات مرة مَن يدعوها بالليدي. والآن، ها هي تلك المصيبة!
جلس كوذرستون هناك طويلًا، يُفكِّر مليًّا ويَزِن الأمور. كان الغسَق قد جاء، وتبِعَته الظلمة؛ ولم يتحرَّك نحو حاملة المصباح الغازي كي يُضيئه. لم يكن أيُّ شيء يهمُّ سوى هذه المشكلة. لا بد أن يعالجها. مهما كان الثمن، فلا بد من شراء صمتِ كايتلي … أجل، حتى لو كلَّفه ذلك هو ومالاليو نصف ما يَمتلكانه. وبالطبع، لا بد من إخبار مالاليو … فورًا.
أخيرًا، نبَّهه طَرْق أحدهم على باب الغرفة الخاصة، فنهض وأخذ عُلبة ثقاب، وهو يأذَن للطارق بالدخول. دخل الموظَّف حاملًا حُزمةً من الأوراق، بينما اندفع كوذرستون نحو المصباح ليضيئه.
صاح قائلًا: «يا إلهي!» وتابع: «لقد جعلَني دفءُ نار المدفأة أغفو يا ستونر. ما هذا؟ رسائل؟»
أجاب الموظَّف: «كل هذه رسائلُ تحتاج لتوقيع، يا سيد كوذرستون، وهذه العقود الثلاثة تحتاج للمراجعة. كما تحتاج هذه المواصَفات للفحص أيضًا.»
قال كوذرستون: «لا بد أن يرى السيد مالاليو هذه.» أشعل المصباح الغازي الموجود فوق مكتبه، ونحَّى زجاجة الخمر والكئوس جانبًا، وأخذ الرسائل. قال: «سأُوقِّع هذه، على أي حال، وبعد ذلك يمكنك إرسالها بالبريد في طريق عودتك إلى البيت. سأنتهي من الأوراق الأخرى صباح الغد.»
وقف الموظَّف خلف سيدِه بمسافةٍ قليلة بينما كان كوذرستون يُوقِّع رسالةً تلو أخرى، وهو يُلقي نظرةً سريعة على كلٍّ منها. كان شابًّا في الثانية أو الثالثة والعشرين من عمره، وكان يتَّسم بالسرعة، وقوة الملاحظة، والعين الثاقبة، أمَّا وجهه فلم يكن وسيمًا، وبينما كان يقف هناك، كان وجهُه مُنحنيًا على كوذرستون وترتسم عليه نظرة تخمين. كان ستونر قد لاحظ استغراق ربِّ عمله في التفكير، والعتمة التي كان كوذرستون يجلس فيها، وزجاجة الخمر على المنضدة، والكأس التي في يده، وكان يعلم أن كوذرستون كان يكذب عندما قال إنه كان نائمًا. لاحظ أيضًا العملات الذهبية الستة والعُملتَين أو الثلاث العملات الفضية الموضوعة على المكتب، وتساءل ما الذي جعل سيده شاردَ الذهن هكذا لدرجة أنه نسيَ وضعهم في جيبه. فقد كان يعرف كوذرستون جيدًا، وكان كوذرستون شديد الدقة فيما يتعلق بالمال، فهو لم يسمح قَط أن يُوضَع ولو بنسٌ واحد في غير مكانه.
قال كوذرستون وهو يعيد مجموعة الرسائل إلى ستونر: «تفضَّل!» وأردَف قائلًا: «أظُن أنك ستُغادر الآن. ضع تلك الرسائل في صندوق البريد. أنا لن أغادر بعدُ؛ لذا سأغلق أنا المكتب. اترك الباب الخارجي مفتوحًا؛ فالسيد مالاليو سيعود.»
أسدل ستائر الغرفة الخاصة بعدما رحل ستونر، وبعدما فعل ذلك، أخذ يَذرَع الغرفة جيئةً وذهابًا في انتظار شريكه. وبعد قليل، وصل مالاليو وهو يُدخِّن سيجارًا، وكان واضحًا أنه كان في مزاجٍ جيد كالمعتاد.
قال مالاليو وهو يدخل الغرفة: «أوه، أما زلتَ هنا؟» وأردف: «أنا … ماذا بك؟»
توقَّف فجأةً بالقرب من شريكه، وكان الآن يقف مُحدِّقًا فيه. وإذ ألقى كوذرستون نظرةً خاطفة عَبْر كتف مالاليو العريض في المرآة، رأى أنه هو نفسه قد صار شاحبًا ومُنهكًا على نحوٍ مُذهل. بدا أكبر بعشرين عامًا مما كان عليه عندما حلَق ذَقَنه ذلك الصباح.
ألحَّ مالاليو في السؤال: «هل أنت بخير؟» وأردف: «ما الأمر؟»
لم يُجبْه كوذرستون. سار مُتجاوزًا مالاليو ونظر إلى المكتب الخارجي. كان الموظَّف قد غادر، وكان المكان شبه مُظلِم. ومع ذلك، أغلق كوذرستون الباب بحذرٍ شديد، وعندما عاد إلى مالاليو، أخفَض صوتَه حتى صار همسًا.
وقال: «أخبارٌ سيئة!» وأردف: «أخبارٌ سيئة جدًّا!»
تساءل مالاليو: «بخصوص ماذا؟» وتابع: «أمرٌ شخصي؟ أم شيءٌ يتعلَّق بالعمل؟»
اقترب كوذرستون حتى أصبحت شفتاه قريبتَين جدًّا من أذن مالاليو.
وهمس قائلًا: «ذلك الرجل كايتلي … مُستأجري الجديد.» وأضاف: «لقد قابلَنا، أنا وأنت، من قبلُ!»
شَحبَت وجنتا مالاليو الورديتان، واستدار بحدَّة مواجهًا رفيقه.
وصاح قائلًا: «قابلَنا!» وأضاف: «هو! أين؟ ومتى؟»
قرَّب كوذرستون شفتَيه أكثر.
وأجاب: «ويلشستر!» وتابع: «قبل ثلاثين عامًا. إنه … يعرف!»
سقَط مالاليو على أقرب كرسي؛ سقط كما لو كان قد أُصيب برصاصة. وصار وجهه، الذي كانت الحُمرة تكسوه بفِعْل الهواء الشديد في الخارج، شاحبًا مثل وجه شريكه؛ وسقط فكُّه، وفغَر فاه، وبدت نظرةٌ مُتوتِّرة في عينَيه الصغيرتَين.
تمتَم بصوتٍ خشِن قائلًا: «يا إلهي!» وأضاف: «أنتَ لستَ جادًّا!»
أجاب كوذرستون قائلًا: «إنها حقيقة.» وأردف: «إنه يَعرف كل شيء. إنه مُحقِّقٌ سابق. كان حاضرًا هناك … في ذلك اليوم.»
سأله مالاليو: «هل تعقَّبَنا؟» وتابَع: «هل هذا ما حدث؟»
فقال كوذرستون: «كلَّا.» وأردَف: «محضُ صدفة … مصادفةٌ تامة. تعرف علينا … بعدما جاء إلى هنا. أجل … بعد كل هذه السنوات! ثلاثين عامًا!»
بينما كانت عينا مالاليو تحومان في الغرفة، وقعَتا على زجاجة الخمر. فاجتذَب نفسه من الكرسي، ووجد كأسًا نظيفة، واحتسى جرعةً مركَّزة. ورأى شريكَه، الذي كان يُراقبه، أن يدَيه كانتا تَرتجفان أيضًا.
قال مالاليو: «تلك مُعضلةٌ صادمة!» ازداد صوته قوةً، وعادت الدماء إلى وجنتَيه. وأكمل قائلًا: «مُعضِلةٌ صادمة بحق! أن يَحدث هذا بعد ثلاثين عامًا كما تقول! إنه أمرٌ صعب إنه أمرٌ صعب لعين! و… ماذا يُريد؟ ما الذي سيفعله؟»
أجاب كوذرستون بضحكةٍ جافَّة هازئة: «يُريد ابتزازنا، بالطبع.» وتابَع: «ما الذي ينبغي عليه فِعلُه غير هذا؟ ما الذي يُمكنه فِعله؟ عجبًا، يمكنه إخبار الجميع في هاي ماركت بحقيقتنا، ويُمكنه …»
قاطعه مالاليو قائلًا: «أجل، أجل! ولكن هذا الشيء موجودٌ هنا.»
«بافتراض أننا توصَّلنا لتسوية معه، هل تُوجد أي ضمانة لسكوتِه حينئذٍ؟ ستكون اللعبة القديمة المعتادة فحسب؛ سيَرغب في المزيد من المال.»
علَّق كوذرستون، وهو غارق في التفكير، قائلًا: «قال إنه يريد معاشًا سنويًّا.» وتابع: «وأضاف تحديدًا أنه يتقدَّم في العمر.»
سأله مالاليو: «كم عمره؟»
أجاب كوذرستون قائلًا: «بين الستين والسبعين.» وأضاف: «لديَّ انطباع أنه يمكن الوصول معه لتسوية، يمكن ترضيتُه. لا بد أن يكون راضيًا! لا يمكننا أن ندع الأمر يتسرَّب … لا يمكنني، بأي حال. لديَّ ابنتي التي لا بد أن أفكِّر فيها.»
سأله مالاليو قائلًا: «هل تظن أنني سأدع الأمر يَتسرَّب؟» وتابع: «لا! كل ما أفكر فيه هو إن كان بإمكاننا حقًّا إسكاته. لقد سمعتُ عن حالاتٍ ابتُزَّ فيها أشخاصٌ ودفعوا أموالًا لسنواتٍ طويلة، ولم يُفِدْهم ذلك في شيء في النهاية.»
قال كوذرستون: «حسنًا، سيأتي إلى هنا في وقتٍ ما بعد ظهر الغد.» وأضاف: «من الأفضل أن نقابله معًا. ففي نهاية الأمر، إعطاؤه مائةَ جنيهٍ إسترليني، أو بضعَ مئاتٍ، كل عام، سيكون أفضل من … الفضيحة.»
تجرَّع مالاليو الويسكي ودفع الكأس جانبًا.
وقال: «سأُفكِّر في الأمر.» وتابَع: «الأمر المؤكَّد هو أنه لا بد من إسكاته. يجب أن أذهب؛ فلديَّ موعد. هل ستُغادِر؟»
أجاب كوذرستون: «ليس بعدُ.» وأضاف: «لا بدَّ أن أُراجع كل هذه الأوراق. حسنًا، فكِّر في الأمر جيدًا. إنه رجلٌ يُخشَى منه.»
لم يُجِب مالاليو. ومثل كايتلي، غادر دون كلمة وداع، وبقي كوذرستون وحده مرةً أخرى.