اليد التي تعمل في الظلام
كانت ساعات هاي ماركت تدقُّ مُعلنةً وقت الظهيرة عندما قُبِض على مالاليو. ظلَّ محتجَزًا ثلاث ساعات، في غرفةٍ في مبنى البلدية، وكان معظمَ ذلك الوقت وحده. أُحضِر له غَداؤه؛ وأُبدِيَت له كلُّ صور المراعاة. أراد رجال الشرطة أن يُرسِلوا في طلب مُحاميه الخاصِّ من نوركاستر؛ فطلب منهم مالاليو أن يَهتمُّوا بشئونهم وألا يتدخَّلوا فيما لا يَعنيهم. صَمَّ أذنَيه عن مناشدات رئيس الشرطة بأن يُقابل أيَّ صديق له؛ فقال له مالاليو أن يهتمَّ بشئونه وألا يتدخَّل فيما لا يعنيه، هو الآخر. هو نفسه لن يفعل شيئًا حتى يرى أن ثمة حاجةً إلى فعل شيء. فليسمع ما يمكن أن يُوجَّه إليه من اتهام، وسيُوجد ما يكفي من الوقت للكلام والفعل عندئذٍ. تناول طعام غدائه، ودَخَّن سيجارًا؛ وخرج من الغرفة والتحدي بادٍ في عينيه ورأسه مرفوعٌ عندما جاءوا ليأخُذُوه للمثول أمام منصَّة عليها عددٌ من رفاقه من قضاة التحقيق الذين استُدعوا بصفةٍ خاصة. ولم يلتقِ هو وكوذرستون إلا حين أدخِلَ إلى قفص الاتهام، على مرأًى من قاعة محكمة مُمتلئةٍ عن آخرها بالحاضرين المُحتشِدين، ووسط انفعالٍ واضطراب.
انتشر خبر القبض على الشريكَين في البلدة الصغيرة كالنار في الهشيم. لم تكن توجد حاجةٌ إلى إبقاء الأمر سرًّا؛ ولم يكن يوجد سببٌ لإبقائه سرًّا. كان من اللازم أن يُجلَب المُتَّهَمان أمام قُضاة التحقيق بأسرع ما يُمكن، ووَلَّت أيام التحقيقات الخاصة منذ زمن بعيد. قبل أن يتمكَّن أهل بلدة هاي ماركت من ازدراد عَشائهم جيدًا، كان كلُّ شارع في البلدة، وكل متجَر، ومكتب، وقاعة حانة، ومكان عام وخاص يرتجُّ بالخبر؛ لقد قُبِض على مالاليو وكوذرستون، العمدة وأمين الخِزانة، بتهمة قتل الكاتب لديهما، وسيَمثُلان أمام قُضاة التحقيق في الساعة الثالثة. تلاشت أهمية قضية كايتلي، عدا فيما بين قلة قليلة من الأشخاص الأذكياء والفطِنين، الذين بدَءوا على الفور يَتساءلون إن كان لجريمة قتل محجر هوبويك علاقةٌ بجريمة القتل على تلة شول.
لو كان قد تسنَّى لمالاليو وكوذرستون النظر من نوافذ المحكمة في دار البلدية، لكانوا قد رأَوا ساحةَ ماركت سكوير مليئة بحشدٍ هائج ومُضطرب من سكان البلدة، الذين كانت أصواتهم كلهم تعلو مُطالبةً بأي أخبار يُمكن أن تتسرب من القاعة المزدحمة التي كانت قلةٌ قليلة من الناس قد تمكنَت من أن تشق طريقها لدخولها بجهدٍ جهيد. لكنَّ الغريب في الأمر أن السجينَين بدَوَا غير مباليَين بما حولهما. لاحظ أولئك الذين راقبوهما عن كثب — مثلما فعل بريريتون وتالينجتون — أن أيًّا منهما لم يُولِ أيَّ انتباه إلى الآخر. وُضع كوذرستون في قفص الاتهام أولًا. عندما أُحضِر مالاليو إلى هناك، بعد لحظة، تبادل الاثنان نظرةً سريعةً ولا شيء أكثرَ من ذلك، تحرك كوذرستون على الفور مُبتعدًا إلى الركن الأيسر البعيد، وظل مالاليو في الركن المقابل، ووضع يدَيه في جيبَي معطفه، وشدَّ كتفيه وانتصب بجسده الضخم وألقى نظرةً هادئة وبادية الاحتقار فيمن حوله.
راقب بريريتون هذَين الرجلَين بعنايةٍ وباهتمام كبير من أول لحظة إلى آخرِ لحظة، بينما كان جالسًا على زاوية من طاولة المحامي العام، دون أن يكون لديه ما يفعله سوى لعب دور المُشاهد. سرعان ما أدرك المشاعر المختلفة اختلافًا شاسعًا التي كانا يُتابعان بها الإجراءات. كان كوذرستون مُتلهفًا ومُضطربًا، ولم يستطع أن يظلَّ ساكنًا، وغيَّر مكانه، وبدا كما لو كان على وشك أن يَنبريَ في خطبةٍ غاضبة أو توضيحية بين الحين والآخر، إلا أنه، في واقع الأمر، كبَح أيَّ غريزة كانت لدَيه في ذلك التوجُّه. أما مالاليو فلم يتحرَّك البتَّة، ولم يُغير مسلكه أبدًا. لم يتخلَّ مُطلقًا عن تعبير الترقُّب المتَّسم بالازدراء والاحتقار، بعد اللحظات الأولى وانتهاء الشكليات، أبقى عينَيه مسلَّطتَين على منصة الشهود وعلى الأشخاص الذين دخَلوها. منذ لقائه الأول مع مالاليو كان بريريتون يقول لنفسه كثيرًا إن عمدة هاي ماركت كان يتمتَّع بأمكرِ عينَين رآهما على الإطلاق، لكنه اضطُرَّ إلى الاعتراف الآن أنه، مهما كانت عيون مالاليو ماكرةً، فيُمكن، في بعض الأحيان، أن تكون ثابتةً ثباتًا غير عادي.
كانت حقيقة الأمر هي أنَّ مالاليو كان يتظاهَر. لقد أوضح ذلك، دون وعيٍ منه، عندما قال لرئيس الشرطة إنه سيكون أمامه ما يكفي من الوقت لفعلِ شيء عندما يَعرف ما يُمكن أن يوجَّه إليه من اتهام. والآن كان كل اهتمامه منصبًّا على الشاهدَين أو الثلاثة شهود الذين ارتأى الادِّعاءُ أن من الضروري استدعاءَهم. أراد أن يعرف مَن هم. كبَح نفاد صبره أثناء تقديم الأدلة الرسمية للاعتقال، لكنه أرخى أذنَيه قليلًا عندما سمع أحد شهود الشرطة يتحدَّث عن أمر الضبط والإحضار الذي أُصدِر بناءً على المعلومات التي تلقَّتها الجهات المسئولة. قال في نفسه: «أي معلومات؟ وتُلُقِّيَت ممَّن؟» والتفت قليلًا عندما نادى صوت حادٍّ بلهجة رسمية على اسم الشاهد المهم الأول.
«ديفيد مايلر!»
حدَّق مالاليو في ديفيد مايلر كما لو كان سيَخترقُ عقله بنظرة مدقِّقة ويستخرج منه السرَّ الذي لديه، أيًّا كان ذلك السر. من هو ديفيد مايلر؟ ليس من سكان هاي ماركت؛ كان ذلك مؤكَّدًا. فمَن هو إذن؟ وما الذي يعرفه؟ أهو محقِّقٌ كان يَسبُر أغوار هذه القضية في سريَّة؟ على أي حال، كان يبدو رجلًا هادئًا ساكنًا باديَ العزم. عليه اللعنة! ما علاقته بهذه القضية؟
سرعان ما أُجيب عن تلك الأسئلة التي طرحها مالاليو في ذهنه. ظلَّ على وضعيته الساكنة، وعلى تعبيرات وجهه الجامدة، بينما كان مايلر يروي حكاية زيارة ستونر لدارلينجتون، وما أدَّت إليه من افتضاح الأمر. وأفضل ما برهنَ على سيطرته الفائقة على انفعالاته ومشاعره كان حقيقة أنه بينما كان مايلر يسرد أمرًا لعينًا تلو الآخر، لم يُظهِر مطلقًا أدنى قلق أو انزعاج.
ولكن في أعماق مالاليو كان صدرُه يختلجُ بمشاعر كثيرة. عرَف الآن أنه كان مخطئًا حين تصوَّر أن ستونر احتفظ بما كان يَعرف لنفسه. وعرَف أيضًا المسار الذي يسلكه ممثِّل الادعاء. كان يسعى إلى أن يُبين أن ستونر قُتِل على يد كوذرستون ويده، أو على يد أحدهما أو الآخر، منفصلَين أو متواطئَين، حتى يُمكن إسكاته. لكنه عرَف أكثر من ذلك. كانت تجربة مالاليو الطويلةُ واستعداده الطبيعي جدًّا قد علَّماه فنَّ التفكير الاستباقي، وكان بوسعه أن يتوقع بنفس براعة أيِّ رجل بمثل درايته. توقَّع اتجاه مُجريات الأحداث في هذه المسألة. كان هذا مجردَ تمهيد. كان ممثِّل الادِّعاء يتَّهمه اليوم هو وكوذرستون بقتل ستونر، وغدًا سيتَّهمُهما بقتل كايتلي.
أحدثَت شهادة مايلر مشاعرَ عميقة في قاعة المحكمة، ولكن المشاعر والإثارة تصاعدَت أكثر عندما جاء حَمو مايلر عَقِبَه في منصة الشهود. ساد صمتٌ تامٌّ واحتبست الأنفاس حرفيًّا بينما كان الرجل المسنُّ يروي قصة الجريمة التي وقعَت منذ ثلاثين عامًا؛ كانت لحظةً دراميةً مؤثرةً عندما صرَّح بأنه على الرغم من الوقت الطويل الذي كان قد انقضى فقد تعرف على مالاليو وكوذرستون، وتبيَّن أنهما مالوز وتشيدفورث اللذان عرَفهما في ويلشستر.
حتى حينئذٍ لم يَجفل مالاليو. تورد وجهُ كوذرستون، وازداد توتُّرُه، ورفع رأسه قليلًا، وبدا كأنه يرغب في أن يُوضِّح الأمور. لكن مالاليو ظل يُحدق بثباتٍ عبر قاعة المحكمة. لم يهتمَّ على الإطلاق بأن الأمر قد افتُضِح أخيرًا. فالآن بعد أن افتُضِح، على رءوس الأشهاد، لم يكن يُهمُّه ولو بمقدار حبة خردل لو عرَف كلُّ رجل وامرأة في هاي ماركت أنه كان سجينًا سابقًا. كان ذلك أمرًا وَلَّى وصار من الماضي؛ ما كان يُهمه هو الحاضر والمستقبل. وأنبأه ذكاؤه الحادُّ أنه إن كانت شهادتا مايلر والعجوز بيرسي هما كل ما يستطيع ممثِّل الادعاء أن يأتيَ به بحقه، فهو في أمان. لم تكن مسألةُ أنه كان يوجد سر، وأن ستونر اكتشفه، إثباتًا على أنه هو وكوذرستون، أو أيًّا منهما، قد قتل ستونر. لا … إن كان ذلك هو كل شيء …
ولكن في لحظة أخرى عرَف مالاليو أن ذلك لم يكن كلَّ شيء. حتى تلك اللحظة كان يعتقد اعتقادًا راسخًا أنه قد أفلتَ من محجر هوبويك دون أن يُلاحظه أحد. وقد كان مخطئًا في هذا. كان قد عرَف الآن أن شابًّا من نوركاستر كان قد أتى إلى هاي ماركت عصر يوم الأحد ذاك ليزورَ حبيبته؛ وأنَّ هذين الحبيبين كانا قد ذهبا إلى الأرض السبخة؛ وأنهما كانا في الجهة المقابلة من محجر هوبويك عندما نزل فيه بعد سقوط ستونر؛ وأنَّهما كانا قد شاهَداه يتحرك في أنحاء المكان وأخيرًا مضى مبتعدًا؛ والأكثر من ذلك، أنهما كانا قد شاهدا كوذرستون ينزل إلى المحجر ويَستخرج العصا، وكان كوذرستون قد مرَّ بجوارهما بينما كانا يقفان متواريَين بين الشجيرات، وأبصَرا العصا في يده.
عندما سمع مالاليو بكل هذا ورأى عصاه تُعرَض ويُتعَرَّف عليها، توقَّف عن إيلاء أي اهتمام آخَر بتلك المرحلة من وقائع سَير الدَّعوى. عرَف الآن أسوأَ ما في الأمر، وبدأ يُفكر في خُططه وتدابيره. وفجأةً، بعدما انتهى الإدلاء بكل الشهادات في الوقت الحالي، وبينما كان قُضاة التحقيق والمسئولون في خضمِّ مُداولات هامسة حول التأجيل، تكلم مالاليو للمرة الأولى.
قال بصوت مُرتفع: «سوف أردُّ على كل هذه المسائل في الوقت المناسب والمكان المناسب.» وتابع: «يُمكن لشريكي أن يفعل ما يحلو له. كل ما أملك قوله إنني أطلب الإفراج عنِّي بكفالة. يُمكنكم أن تُحددوها بأيِّ مقدار تشاءون. أنتم جميعًا تعرفونني.»
نظر قضاة التحقيق والمسئولون عبر الجزء المنخفض من القاعة في اندهاش، وهزَّ رئيس الجلسة، الذي كان سيدًا مُسنًّا قليلًا بدا عليه بجِلاء الانزعاجُ الشديد مما جاهر به السجين، رأسه باستهجان.
احتجَّ قائلًا: «مُستحيل!» وأضاف: «مستحيل تمامًا! لا نملك سلطةَ أن …»
ردَّ مالاليو بسرعة، وبتسلُّط وإصرار كحاله دومًا: «أنت مُخطئ!» واستطرد: «لديكم السلطة! أتظن أنني كنت قاضيَ صلحٍ طيلة اثنتَي عشرة سنة ولا أعرف القانون؟ لديكم سلطة الموافقة على الكفالة في كل التهم الجنائية، حسَب تقديركم، فافعلوا ذلك إذن!»
نظر قاضي التحقيق إلى كاتبه، فابتسمَ الكاتب.
قال بهدوء: «ما يقوله السيد مالاليو صحيحٌ من الناحية النظرية.» وأردف: «ولكنَّ قاضيَ التحقيق ليس ملزمًا بالموافقة على الكفالة في الجرائم الجنائية والجُنَح، ومن الناحية العمَلية لا يُسمَح مُطلقًا بالكفالة في الحالات التي تكون فيها التهمة — مثل هذه الحالة — متعلِّقةً بجريمة قتل. مثل هذا الإجراء لم يسبق له مثيل.»
قال مالاليو بتهكُّم: «اجعلوها سابقة، إذن!» وتابع: «اسمعوا! يُمكنكم أن تأخذوا عشرين ألفَ جنيه على سبيل الضمانة، إن شئتم.»
ولكن هذا العرض لم يلقَ ردًّا، وبعد مُضيِّ خمس دقائق أخرى سمع مالاليو القرارَ بتأجيل القضية لمدة أسبوع وبإيداعه هو وكوذرستون في سجن نوركاستر خلال تلك المدة. دون أن ينظر إلى رفيقه السجين استدار وخرج من قفص الاتهام، واقْتِيد عائدًا إلى الغرفة الخاصة في مبنى البلدية التي كان قد أُحضِر منها.
قال في ثورةٍ، مخاطبًا رئيسَ الشرطة، الذي كان قد رافقه: «اللعنة على تلك الطُّغْمة من الحمقى!» وأضاف: «أيظنُّون أنني سأهرب؟ أمرٌ محتمل … في حالة تهمة ملفقة كهذه. اسمع! متى ستُريدون التحرك إلى ذلك المكان؟»
نظر رئيس الشرطة — الذي كان فيما مضى يُكِنُّ احترامًا كبيرًا لمالاليو، وكان منزعجًا مُغتمًّا بشدةٍ لهذا التحوُّل المفاجئ في أقدار العمدة — إلى سجينه وهزَّ رأسه بأسًى.
أجاب: «توجد سيارتان أُمِر بأن تكونا مستعدَّتَين في خلال نصف الساعة، يا سيد مالاليو.» وأضاف: «واحدة لك، وواحدة للسيد كوذرستون.»
قال مالاليو بتهكُّم: «مع مرافقين مُسلَّحين في السيارتين، على ما أظن!» وتابع: «حسنًا، انظر … لديك متَّسَع من الوقت لتُحضر لي فنجانًا من الشاي. اخرج خِلسة واطلب من أحد رجالك أن يذهب بسرعة إلى الحانة ويُحضرَه؛ فنجان من الشاي الجيد القوي، وشريحة أو شريحتان من الخبز بالزبد. أحتاج إلى ذلك.»
ألقى بنصف جنيه ذهب على الطاولة، وخرج رئيسُ الشرطة من الغرفة دون احتياطاتٍ سوى أنه أدار المفتاح في قُفل الباب ما إن خرج منه، دون أن يظنَّ سوءًا، وراغبًا في أن يَصنع جميلًا في رجل كان دومًا وَدودًا ولطيفًا معه. لم يَدُر بخلَده أن السجين يمكن أن يحاول أن يلوذ بالفرار، ولم يَخطر على باله أنه كان أمام مالاليو أيُّ فرصة للهرب. مضى مبتعدًا عبر الممر ليجد واحدًا من رجاله يمكنه أن يُرسله إلى حانة هاي ماركت آرمز.
ولكن في اللحظة التي تُرِك فيها مالاليو بمفرده بدأ يُباشر العمل. بحكم كونه عمدةَ هاي ماركت طيلة عامَين، وعضوًا في مجلس بلديتها قرابةَ عشرين عامًا، كان يعرف مداخل ومخارج مبنى البلدية. وبمجرَّد أن تركه رئيس الشرطة بمفرده أخرَج من جيبه مفتاحًا وعبَر الغرفة إلى بابٍ كان في ركنٍ من الغرفة خلف ستار، ففتَحه برفق، ومرَّ منه إلى رِواق بالخارج، وعاد وأوصد الباب خلفه، وبعد لحظةٍ أخرى كان ينزل مُتسللًا بهدوء على سلالم خاصة كانت تؤدي إلى مدخلٍ يقود إلى حديقة قديمة أنيقة في مؤخِّرة المبنى. بعد لحظة أخرى، من الترقبِ والنظر حوله، كان قد خرج بأمان إلى تلك الحديقة وصار خلف شجيراتٍ كثيفة امتدَّت بطول أحد جُدرانها العالية. وبعد لحظة أخرى صار خارج الحديقة، في بستانٍ عتيق الطراز كثيفِ الأشجار كان يمتدُّ إلى الأجمات الواقعة عند سفح تلةِ شول. ما إن أصبح في ذلك البستان، مستترًا بفروعه الكبيرة التي كانت متشابكة الأغصان وممتدة على مستوًى مُنخفِض، ولكنها كانت خاليةً من الأوراق في ذلك الوقت من السنة، حتى توقَّف ليلتقطَ أنفاسه، ويتهلَّل بنجاحه في تدبيره. فكَّر في نفسه قائلًا إنه كان من التساهل ومن الخير له أنهم لم يُفتشوه عندما قبَضوا عليه! وكذلك أنهم كانوا قد أجَّلوا ذلك الإجراء المهمَّ إلى حين ترحيله! كان يعرف أنهم كانوا قد تغاضَوا عمدًا عن هذا التقصير، ونتيجةً لذلك ظلَّ محتفظًا بصدريته الثمينة، ومسدَّسه، والمفتاح الذي فتَح به باب محبسه.
كان الغسَق قد أسدل أستاره على هاي مارك قبل أن تَنتهيَ جلسة الاستماع، وكان الظلام قد حلَّ حينئذٍ. كان مالاليو يَعرف أنه لم يكن أمامه وقت ليُضيعه، لكنه كان يعرف أيضًا أن مُطارديه سيُلاقون صعوبة بالغةً في القبض عليه. كان قد وضع خُططه بينما كان آخرُ شاهدَين على منصة الشهود: كانت معرفته التفصيلية بالبلدة والمنطقة المُتاخمةِ لها ذاتَ نفع كبير له. علاوةً على ذلك، كان الموقع الجغرافي لمبنى البلدية عونًا عظيمًا. لم يكن يتعيَّن عليه سوى أن يَتسلَّل خارجًا من البستان إلى الأجمات، ويَمضيَ في طريقه بحذرٍ عبرها إلى الغابة الأبعد التي كانت تحفُّ بتلة شول، ويمر عبرها إلى قمة التلَّة، ويصلَ إلى الأرض السبخة. وبمجرد أن يصل إلى الأرض السبخة سيَمضي حثيثًا في طرقٍ مُلتوية إلى نوركاستر؛ كان يعرف مكانًا آمنًا في وسط المدينة يمكنه أن يظلَّ مختبئًا فيه مدة شهر، أو ثلاثة أو ستة شهور، دون خوفٍ من العثور عليه، ومن هناك يُمكنه أن يهرب على متن سفينة.
كان السكون يسودُ كلَّ ما حوله وهو يمرُّ عبر فُرجة في سياج البستان ويتسلَّل إلى الأجمات. تابع المضيَّ في طريقه بخِلسة، ولكن بسرعة، عبر أشجار الصنَوبر والتنوب حتى وصل إلى الغابة التي كانت تُغطِّي الجزء العلوي من تلة شول. كانت الأشجار أكثرَ كثافةً هناك، وكذلك كانت الأجمات والشجيرات، وكان الظلمةُ أشد. كان مُضطرًّا إلى أن يتحرك بوتيرةٍ أبطأ، وفجأةً سمع أصواتَ رجال على المنحدَرات السُّفلى تحته. توقف ليلتقط أنفاسه ويُصغِي. بعد ذلك، بَغتةً مثلما فُوجئ بالأصوات التي كان قد سمعها، شعر بيدٍ قوية ثابتة مُتوترة تُمسك برسغه وتُطبِق عليه.