صفحات من الماضي
قبل أن يتمكَّنَ المحامي ورفيقاه من الجلوس على الطاولة حيث كان الأخير قد قدَّم تفسيره الأوَّلي، نهض السيد رايثويت وأشار إلى أفيس أن تتبعَه.
وقال: «كارفاكس، لا حاجة بي إلى سماع إلى كلِّ ما عليك قولُه للسيد بريريتون؛ فأنا أعرفه بالفعل. ولا أظن أنه سيُثير اهتمام الآنسة هاربورو كثيرًا في الوقت الحاليِّ، فهي ستَسمع الكثيرَ عنه لاحقًا. سنَتركُك أنا وهي لتُقدم تفسيراتك وترتيباتك للسيد بريريتون، وسننضمُّ إليكم لاحقًا.»
تقدَّم الطريق إلى الباب، وأشار إلى أفيس أن تُرافقه. ولكن أفيس توقفَت والتفتَت إلى بريريتون.
وقالت: «هل أنت متأكِّد من أن كل شيء على ما يُرام الآن فيما يتعلَّق بوالدي؟» واستطردت: «هل أنت متأكِّد؟ إذا كنت كذلك …»
أجاب بريريتون، الذي عرَف ما يعنيه سؤالُها: «أجل، بالتأكيد.» وأردف: «وسنُعلِمه بذلك».
صاح كارفاكس: «إنه يعلم!» وأضاف: «إنه يعلم أن السيد رايثويت هنا، وأن كل شيء على ما يُرام. اذهبي يا عزيزتي وابتهجي، سيُخبركِ السيد رايثويت كلَّ ما تُريدين معرفته. والآن يا سيدي العزيز»، هكذا تابع، وهو يُغلق الباب خلف السيد رايثويت وأفيس، ويعود إلى الطاولة بسرعة، «ثمة أشياءُ يلزم أن تعرفها، وستعرفها … مني ومن هذين السيدَين. أقدم لك السيد ستوب والسيد ليكين. كلاهما كان محقِّقًا سابقًا في سكوتلاند يارد، ويعملان الآن محققَين خاصَّيْن. إنهما ذكيَّان، وأنا أقول هذا أمامهما مباشرةً.»
قال بريريتون: «أفهم من ذلك أنكم كنتم تُجْرون بعض التحقيقات الخاصة؟ فيما يخصُّ أي مسألة؟»
أجاب كارفاكس، وهو يَجلس على رأس الطاولة ويضمُّ أصابعه معًا بطريقة القضاة: «دعونا نشرَع في الأمر بالترتيب.» وتابع: «سأفتتحُ القضية. عندما سمع رايثويت — وهو رجل مُحترم، وأقول لك فيما بيننا، إنه سيفعل أشياءَ عظيمةً لهاربورو وابنته — عندما سمع رايثويت، كما قلت، بما حدث هنا، كان بالطبع مُنزعجًا للغاية. كانت رِدَّة فِعله الأولى هي أن يُهرَع إلى هاي ماركت في الحال ويُفصح عن كل شيء. ومع ذلك، بدلًا من أن يفعل ذلك، أتاني، وهو تصرفٌ حكيم جدًّا. وبعدما سمعت كلَّ ما قاله، نصحته، بما أنه كان من المؤكَّد تمامًا أنه لا يمكن أن يُلحق أيَّ ضرر بهاربورو في نهاية المطاف، أن يترك الأمور تهدأ في الوقت الحالي، حتى نُتمم الإجراءات الأخيرة التي تخصُّ مسألة ميراثه. ومع ذلك، أصرَّ على إرسال هذه الأموال إليك، وقد فعل؛ فلم يكن أي شيء آخر ليُرضِيَه. ولكن الآن ظهر على السطح جانبٌ مثير للاهتمام للغاية في المسألة برُمَّتها، وهو ما ظلَّ حتى الآن سرًّا بيني وبين رايثويت والسيد ستوب والسيد ليكين. أدعوكم الآن إلى الانتباه لما سأقوله بشأنه.»
وهنا، أخرج السيد كارفاكس دفتر مذكرات من جيبه، وبعد أن وضع نظَّارته، ألقى نظرةً سريعة على صفحة أو اثنتَين فيه.
ثم تابع قائلًا: «لاهتمام رايثويت الشديد بقضية كايتلي؛ كان يشتري الصحف المحلية، صحف نوركاستر وهاي ماركت كما تعلمون، حتى يقرأ كلَّ شيء عن القضية. وقد نُشِرَ في تلك الصحف تقريرٌ كامل عن الإجراءات الأولى التي تمَّت أمام قُضاة التحقيق، وقد صُدم رايثويت كثيرًا من تحقيقك مع الآنسة بِيت. في الواقع، صُدم كثيرًا من أسئلتك وإجاباتها لدرجة أنه أحضر هذه الصحف إليَّ، وقرأناها معًا. وعلى الرغم من أننا كنا نعلم جيدًا أنه لا يَنبغي لنا في نهاية الأمر أن نُواجه أيَّ صعوبة تُذكَر في إثبات حُجة غياب هاربورو، قرَّرنا أننا، لمصلحته، سنُجري بعض التحقيقات المتَّسمة بالحذَر والدقيقة في الوقت نفسِه حول سوابق الآنسة بِيت.»
جفل بريريتون. الآنسة بِيت! آه! كانت لديه أفكارٌ تتعلَّق بالآنسة بِيت في بداية القضية، ولكنَّ أمورًا أخرى ظهرَت، وتحركت القضية وتطورَت بسرعةٍ كبيرة لدرجة أنه كان تقريبًا قد نسيها.
تابع كارفاكس، مُبتسِمًا: «لقد دفعك ذلك إلى التفكير.» وأردف: «بالضبط! وما حدث في جلسة قُضاة التحقيق دفعَني أنا ورايثويت للتفكير. وكما قلت، فقد استعنَّا بستوب وليكين، وهما رجلان يتمتَّعان بخبرة كبيرة، من أجل … فقط لمعرفة القليل عن الآنسة بِيت. وبالطبع فقد أعطتنا الآنسة بِيت نفسُها خيطًا نتتبَّعه. لقد أخبرتك ببعض التفاصيل عن حياتها المهنية. فقد كانت مدبِّرة منزلٍ لدى الميجور ستيلمان في قندهار كوتيدج، ببلدة ووكينج. وكانت قد شغلت وظائفَ في فندقَين بلندن. لذا، ذهب ستوب إلى ووكينج، وكَرَّس ليكين جهدَه على الجزء الخاصِّ بلندن.»
اختتم المحامي حديثَه، ملتفِتًا إلى أحد المحققَين وقال: «وأظنُّ يا ستوب، أظن أنه من الأفضل أن تُخبر السيد بريريتون بما اكتشفتَه في ووكينج، وبعد ذلك يمكن أن يُخبرنا ليكين بما اكتشفه في أماكن أخرى.»
التفت ستوب، وهو رجلٌ ضخم ذو وجهٍ مبتهج، بدا كأنه موظفٌ حكومي محترم للغاية، إلى بريريتون بابتسامة.
وقال: «لقد كانت مُهمةً سهلة للغاية يا سيدي.» وتابع: «لقد اكتشفتُ كل شيء عن السيدة وعلاقتها ببلدة ووكينج في غضون ساعات قليلة جدًّا. يوجد الكثير من الناس في ووكينج الذين يتذكَّرُون الآنسة بِيت؛ لقد أعطتك بطريقة صحيحة جدًّا الحقائقَ المجرَّدة عن إقامتها هناك. ولكن، بطبيعة الحال، لم تُخبرك أكثرَ من هذه الحقائق المجرَّدة، القشور، إن جاز التعبير. وقد حصلتُ على كل المعلومات. كانت الآنسة بِيت مدبرةَ منزل في ووكينج لدى الميجور ستيلمان، وهو ضابطٌ متقاعِد من سلاح المشاة. طوال المدَّة التي قضَتها في خدمته، وقد كانت مدةً طويلة، كان مريضًا، وكان معروفًا أنه يُعاني معاناةً شديدة من نوع من أنواع الألم الحادِّ في الأعصاب. كان يَحصُل على أدوية للتخفيف من آلام هذا المرض من كل الصيادلة في المنطقة من وقتٍ لآخَر. وفي أحد الأيام، عُثِرَ على الميجور ستيلمان ميتًا في سريره، وبعض هذه الأدوية بجانب سريره. بالطبع أُجري تحقيقٌ، وبالطبع أيضًا، بناءً على أدلة الأطباء والصيادلة، تقرَّر أن موته كان وفاةً ناتجة عن حادث مؤسِف؛ جرعة زائدة من الأدوية. يبدو أنه لم يكن يوجد أيُّ اشتباه في الآنسة بِيت في ووكينج لم تكن مُشتبهًا فيها في ذلك الوقت؛ وفيما يتعلَّق بذلك»، هكذا اختتمَ السيد ستوب حديثه بفتور، «لا أعرف إن كان يوجد الآن.»
سأله بريريتون: «ألديك بعض الشكوك؟»
أجاب السيد ستوب، بغمزةٍ تكاد لا تُلْحَظ: «لقد تعمَّقت في البحث أكثر.» واستطرَد: «واكتشفتُ كيف كان الوضع عندما مات ستيلمان. لم يكن لديه شيءٌ سوى مَعاشه، ومبلغٍ يُقدَّر بنحو ألفَي جنيه. ترك ذلك المبلغ، وأثاث منزله، إلى الآنسة بِيت. وقد أعِدَّت الوصية قبل نحو سنة من وفاة ستيلمان. أُثبتَ ذلك بأسرع ما يُمكن بعد وفاته، وبالطبع حصلَت الآنسة بِيت على إرثها. وباعت الأثاث … وغادرت المنطقة.»
سأله بريريتون: «ما هي نظريتك؟»
أشار السيد ستوب برأسه عبر الطاولة إلى كارفاكس.
فأجاب: «ليس من شأني أن أقول ما هي نظرياتي يا سيد بريريتون.» وأردف: «كل ما كان يتعين عليَّ فعله أن أكتشف الحقائق وأبلغ بها السيد كارفاكس والسيد رايثويت.»
قال بريريتون بهدوء: «ومع ذلك، هل تعتقد أنه من الممكن جدًّا أن الآنسة بِيت — التي كانت تعلم أن ستيلمان يتناول هذه الجرعات القوية، ولديها دافع مادي — أعطته جرعةً أقوى؟ بربك، تكلم!»
ابتسم ستوب، ومَسَّد ذقنه ونظر إلى كارفاكس. وأشار كارفاكس إلى شريك ستوب، الذي كان رجلًا هادئًا للغاية وقويَّ الملاحظة، وكان يَستمع للحديث وعلى وجهه تعبير يشي بالدهاء.
قال كارفاكس: «دورك يا ليكين.» وتابع: «أخبِرنا بنتيجة تحرِّياتك.»
كان ليكين من أولئك الذين يَمتلكون صوتًا ناعمًا ويتحدَّثون ببُطء. وبعدما دُعِيَ للكلام، نظر إلى بريريتون كما لو كان يَعتذر نوعًا ما عن أي شيء سيقوله.
وقال: «حسنًا، بالطبع يا سيدي، ما أخبرتك به الآنسة بِيت عن الوظائف التي شغَلَتها في فندقَين بلندن كان صحيحًا تمامًا. لقد كانت أمينةَ مخزن في أحدهما، ورئيسةَ قسم المفروشات في الآخر، قبل أن تَنتقل إلى عملٍ لدى الميجور ستيلمان. لم يكن يوجد شيء بحقِّها في أيٍّ من تلك الأماكن. ولكنِّي بالتأكيد أردتُ أن أعرف أكثرَ من ذلك عنها. لقد قالت في إجابتها عن سؤالك إنها قبل أن تعمل في أول فندق كانت تعيش في البيت مع والدها، الذي كان مزارعًا في ساسكس. ولقد كانت بالفعل تعيش معه، ولكن قبل ذلك بوقت طويل. كانت قد أمضت عشر سنوات في الهند في المدَّة ما بين مغادرة منزل والدها والعملِ بفندق «رويال بيلفيدير». لقد سافرَت إلى الهند بصفتِها مُمرضةً في عائلة أحد الضباط. وأثناء وجودها في الهند، اتُّهِمَت بقتل خادمةٍ خنقًا، وهي فتاة أوراسية كانت قد أثارت غيرتها.»
عندئذٍ جفل بريريتون ثانيةً، وألقى نظرة حادةً على كارفاكس، الذي أشار برأسه مؤكدًا، ثم أشار إلى ليكين أن يُتابع حديثه.
تابع ليكين، بنعومةٍ وبطء أكثرَ من ذي قبل، قائلًا: «لديَّ تقريرٌ عن تلك القضية في جيبي.» وأضاف: «إنه يستحقُّ القراءة يا سيد بريريتون، ولعلَّك تتسلَّى بقراءته في وقتٍ ما. ولكن يُمكنني أن أقدِّم لك الخلاصة في كلماتٍ قليلة. من الواضح أن بِيت كانت تحبُّ ممرِّضَ سيدِها. ولكنه لم يكن يحبُّها. فصارت تَغار بجنونٍ من هذه الفتاة الأوراسية، التي كانت ممرضةً تحت التمرين. عُثِرَ على الفتاة الأوراسية بالقرب من المنزل ذات ليلة، وحول رقبتها حبلٌ ملفوفٌ بإحكام، وقد كانت ميتةً بالطبع. لم تكن توجد أيُّ علامات أخرى على العنف، ولكن بعض الحليِّ الذهبية التي كانت الفتاة تَرتديها قد اختفَت. حُوكمت بيت، ولكن أُطلِق سراحها لأنها قدمَت حجة غياب، من نوعٍ ما كانت ستُقنعني أنا شخصيًّا»، هكذا علَّق ليكين بملحوظة جانبية. وتابع: «ولكن كان يوجد دليلٌ غريب قد تظنُّ أنه مفيد في الوقت الحالي. قال أحد الشهود إن بيت كانت مهتمَّةً كثيرًا بقراءة بعض الكتب عن الأساليب التي يتبعها أفرادُ طائفة «ثاجي» الهندية، وإنها كانت قد تحدثت في مساكن الخدم عن الكيفية التي يخنقون بها ضحاياهم باستخدام أوشحةٍ مصنوعة من أجودِ أنواع الحرير. لقد خُنِقَت هذه الفتاة الأوراسية بوشاح حريري؛ ولو كان من الممكن إثباتُ مِلكية بِيت لهذا الوشاح، لكان قد ثبَت عليها الجُرم. ولكن، كما قلت، حُكِمَ ببراءتها، وغادرَت على الفور، وعادت بالتأكيد إلى إنجلترا. ذلك كلُّ شيء يا سيدي.»
قال كارفاكس، وهو يُلقي نظرةً خاطفة على المحقق الآخر: «ستوب لديه مسألةٌ قد يرغب في ذكرها.»
قال ستوب: «حسنًا، إنها ليست ذاتَ أهمية كبيرة يا سيد بريريتون.» وتابع: «كلُّ ما في الأمر أننا تأكَّدْنا من أن كايتلي ترك كلَّ ما كان يملكه لهذه المرأة، وأن …»
قاطعه بريريتون: «أعرف ذلك.» وأضاف: «إنها لم تُخفِ الأمر. أو بالأحرى، ابن أخيها، الذي كان ينوب عنها، لم يُخفِ الأمر.»
علَّق ستوب، بفتور: «صحيح.» وأردف: «ولكن هل تعلم أنَّ ابن أخيها قد أثبت الوصية بالفعل وباع المُمتلكات والعقارات؟ لا تعرف؟ … حسنًا، لقد فعل! كما ترى، لم يُضِيِّع الكثير من الوقت بعد وفاة الرجل المسنِّ، يا سيدي. في الواقع، لقد أُنجِزَت المسألة بأسرعِ ما يمكن في حالاتٍ كهذه. وبالطبع ستكون الآنسة بِيت قد حصلت على إرثها، مما يعني أنها الآن ستكون قد حصلت على كلِّ ما تركه كايتلي.»
التفت بريريتون إلى المحامي، الذي حافظ، خلال سرد المحققَين للوقائع، على أسلوبه القضائي، كما لو كان جالسًا على منصَّة القضاء ويستمع إلى البيانات الافتتاحية للمحامين.
سأل بريريتون: «هل تلمحون جميعكم إلى أنكم تظنُّون أن الآنسة بِيت قتلَت كايتلي؟» واستطرد: «أودُّ الحصول على إجابةٍ مُباشرة عن هذا السؤال.»
صاح كارفاكس: «سيدي العزيز!» وأضاف: «كيف يبدو الأمر لك؟ لقد سمعت السجلَّ الإجرامي لهذه المرأة! الاحتمال المرجَّح أنها قتلَت تلك الفتاة الأوراسية، وأنها استغلَّت استخدام ستيلمان للعقاقير للقضاء عليه. لقد استفادت بالتأكيد من موت ستيلمان، وقد استفادَت بلا شكٍّ من موت كايتلي. أكرر، كيف يبدو الأمر لك؟»
سأله بريريتون: «ما الذي تقترح فعله؟»
تبادل المحققان نظراتٍ خاطفةً فيما بينهما ثم نظرا إلى كارفاكس. وخلع كارفاكس نظارته ببطءٍ وتَباهٍ، وبدا كما لو كان قاضيًا في قاعةِ محكمة أكثرَ من ذي قبل وهو يُجيب عن سؤال المحامي الشاب.
أجاب قائلًا: «سأخبرك بما أقترح فعله.» واستطرد: «أقترح أن تَصطحبَ هذين الرجلين إلى هاي ماركت هذا المساء، وأن تدَعَهما يُخبران شرطة هاي ماركت بكل ما أخبَروك به للتو!»