دون تفكير في العواقب
كان كل شيء هادئًا للغاية في المنزل حيث كان مالاليو يرقد مستيقظًا ومترقبًا. بدا له أنه لم يجد المنزل بمثلِ هذا الهدوء من قبل. لقد كان هادئًا في كل الأوقات، ليلًا وكذلك نهارًا؛ لأنه كان من عادة السيدة أن تتحرَّك بلا صوتٍ مثل القطة، وكان كريستوفر بلا شكٍّ ممن يمشون بخِفَّة، فدائمًا ما كان يتنقَّل من غرفة إلى أخرى كما لو كان يخاف من إيقاظ أحدٍ أو من أن تُلامس قدَماه الأرض. ولكن في هذه الليلة بالذات بدا الصمتُ غير عادي، وكان أشدَّ من أي وقت مضى لأنه لم يأتِ من الخارج أيُّ صوت، ولا حتى صوت هَبَّات الريح الخافتة وهي تعبث بأشجار التنوب والصنوبر، ليكسرَ هذا الصمت التام. صارت أعصاب مالاليو — التي ازدادت تدريجيًّا حدتُها وسهولة استثارتها بسبب مغامراته الأخيرة وحبسه المشدَّد — أسهل استثارة؛ لذا أجبر نفسه بصعوبة على أن يَستلقيَ دون حَراك ويُرهف سمعه. علاوةً على ذلك، كان يشعر بحاجةٍ ملحَّة إلى الشراب الذي كان يُهدئه حتى يغطَّ في نوم عميق كلَّ ليلة منذ أن أصبح تحت رحمة الآنسة بِيت، وكان يعرف تمام المعرفة أنه على الرغم من تخلُّصه منه، كان جسده كلُّه يصرخ من الافتقار إليه.
ما الذي كان هذان الشيطانان يسعَيان إليه؟ هكذا كان يتساءل وهو راقدٌ في الظُّلمة. شرٌّ بكل تأكيد. والآن بعدما فكَّر في الأمر، وجد أن سلوكهما خلال وقتِ ما بعد الظهر والمساء لم يكن مُطمْئِنًا. فقد تجنَّبه كريستوفر تمامًا؛ إذ لم يرَه مالاليو على الإطلاق منذ المناقشة التي جرَت بعد الظهيرة، والتي أنهَتها الآنسة بِيت باقتضابٍ بالغ. لقد رأى الآنسة بِيت مرتين أو ثلاثَ مرات، وفي كل مرة كانت تتصرَّف ببراءة مَن جُرِح كبرياؤه. فأحضرَت له الشاي في صمت، وأحضرت له عَشاءه دون أن تنطق بأكثرَ من كلمة واحدة. كان عشاءً رائعًا، وقد وضعته أمامه وعلى وجهها تعبيرٌ بدا كأنه يقول إنها مهما تعرَّضَت لسوء المعاملة، فستؤدي واجبها تجاهَ الآخرين. وعندما رأى مالاليو ذلك التعبير، لم يَستطع أن يمنعَ نفسه من قول إحدى ملاحظاته الساخرة.
صاح قائلًا وهو يضحك: «تظنِّين أنكِ تعرَّضتِ للظلم، يا آنسة!» وأضاف: «تظنين أنني رجل وضيع؟»
أجابت الآنسة بيت ببرودٍ وصبر: «لن أُبدِيَ أيَّ رأي، يا سيد مالاليو.» ثم تابعَت وهي تتجه نحو الباب: «أظن أنه من الأفضل للناس أن يُفكروا بأنفسهم. فالتفكير ليلًا، يجلب الحكمةَ في كثير من الأحيان، حتى لمَن لا يسعَون إليها عادةً.»
لم يكن لدى مالاليو أيُّ اعتراض على السعي وراء الحكمة، لمصلحته الخاصة، وكان يسعى جاهدًا للتوصل إلى شيءٍ ما من تفكيره بينما كان مستلقيًا في فراشه، ينتظر. ولكنه قال لنفسه إنه كان من السهل أن تكون حكيمًا بعد وقوع الواقعة؛ وفيما يخصُّه، فقد كانت الواقعة قد وقعَت بالفعل. كان في قبضة هذين الشخصين، اللذَين كان قد أدرك منذ مدة طويلة أنهما امرأةٌ عديمة الضمير ورجلٌ ماكر. لم يكونا يَملكان ما يفعلانه سوى تسليمِه إلى الشرطة إن رغبوا في ذلك؛ فعلى قدر معلوماته المحدودة، ربما يكون كريس بيت قد خدَعه بالفعل وأخبر الشرطةَ بما يجري في الكوخ. ولكن، وبعد تفكيرٍ أعمق، لم يظنَّ أن ذلك ممكن؛ لأنه كان من الواضح أن العمة وابنَ أخيها كانا في النهاية يسعَيان للحصول على كل ما يُمكنهما من مال، وإذا أبلغا عنه فلن يَحصلا على أيِّ شيء من الشرطة، في حين أنهما قد يحصلان على مبلغ جيدٍ منه. ولكن، ما الذي كانا يتوقَّعان أن يحصلا عليه منه؟ لقد تحيَّر قليلًا من مسلكهما عندما سألهما عما إن كانا يتوقَّعان أنه يحمل معه الكثير من المال، وهو شخص هاربٌ من العدالة. واتته الفكرةُ كالبرق في الظلام؛ هل كان مُحتملًا أنهما يعرفان، أو لديهما فكرةٌ ما، عما كان بالفعل معه؟ كان الآن متأكدًا تمامًا من أن الآنسة بِيت كانت تُخدره كلَّ ليلة؛ حسنًا، إذن، في تلك الحالة، كيف له أن يعرف أنها لم تدخل غرفته وتُفتش متعلقاتِه، وخاصةً صدريته الثمينة؟
كان مالاليو يضع تلك الصدرية في المكان نفسِه كل ليلة؛ على كرسيٍّ عند مقدمة سريره. كان قد وضعها مطويةً على الكرسي، ووضع ثيابه الأخرى في طبقاتٍ فوقها، ووضع شمعدانه وعلبةَ ثقاب فوق كل تلك الأشياء. وقد كان كل شيء موجودًا دائمًا، تمامًا كما وضعه، كل صباح عندما كان يفتح عينَيه. لكن بحلول هذا الوقت، صار يعرف قدرةَ الآنسة بِيت على التسلُّل خِلسةً، و…
مدَّ يده وتحسَّس بأصابعه كومةَ الملابس التي كانت موضوعة، مطويةً بعناية، على بُعد بِضع بوصاتٍ من رأسه. كان كل شيء على ما يُرام، عندئذٍ، بالطبع، وسحب يده … إلى المسدس، الذي لم يكن يفصله عن خدِّه سوى سُمْك الوسادة. ملمس ذلك المسدس جعله يبدأ في التفكير مجددًا. إن كانت الآنسة بِيت أو كريستوفر قد عبثا بصدريته، فربما عبثا أيضًا بالمسدس. فمنذ أن وطِئت قدَماه الكوخ، لم يفحص صدريته ولا مسدسه قط. بافتراض أن التهمَ قد سُحِبَت، وبافتراض أنه كان أعزلَ، إن تعرَّض لهجوم، فما العمل؟ بدأ يتصبَّب عرقًا؛ خوفًا من مجرد الفكرة، وبدأ يتحسَّس المسدس في الظلام محاولًا اكتشافَ ما إذا كان لا يزال ملقمًا. وحينئذٍ، سمع مالاليو صوتًا؛ وأصابته قُشَعريرةٌ من التوتر.
كان صوتًا خافتًا جدًّا، خافتًا لدرجة أنه لم يكن يتعدَّى صوت خربشة فأر صغير جدًّا في الخشب. ولكن في هذا الصمت الشديد كان من السهل سماعُه، وصاحَبَه وميضُ ضوء خافت. اتسعَت دائرة الضوء، وأتى صوتٌ آخر أعلى قليلًا، فأدرك مالاليو، وهو يسترقُ النظر إلى ما يحدث من بين رموشه، أن الباب كان مفتوحًا، وظهرت معالمُ جسدٍ طويل كان يقف حائلًا بين السرير والضوء الخارجي. وفي ذلك الضوء، خارج الباب، وخلف جسد الآنسة بِيت النحيل، رأى وجهَ كريستوفر بِيت حادَّ الملامح ولمعانَ عينَيه الصغيرتين.
كان مالاليو حادَّ الذهن، وعلى الرغم من ضخامته، فقد كان سريعَ الحركة. كان يعرف هدف الآنسة بِيت، وترَكها تتقدمُ متسللةً حتى منتصفِ المسافة عبر الغرفة في طريقها إلى الصدرية. ولكن بينما كانت تتقدمُ بصمت وبتلك الخطوات التي لا تُسْمَع كخطوات القطط، كان مالاليو قد سحب المسدس بصمت مماثل من تحت وسادته ووجَّه فوهتَه الصغيرة نحوها. كانت ماسورة ذلك المسدس مصقولةً للغاية، وفجأةً لاحظت الآنسة بِيت التماعةً صغيرةً من الضوء عليها، فصرخت. وعندما صرخت، أطلق مالاليو النار، فخفتَت الصرخةُ وتحولت إلى صوتِ اختناق غريب … فأطلق النار مرةً أخرى … وفي الموضع الذي كان يظهر فيه وجه كريستوفر بيت من ثانيةٍ واحدة لم يكن يوجد شيء، عدا صوت اختناقٍ آخَر وسقوط عند المدخل حيثما كان يقف كريستوفر مراقبًا.
أعقب ذلك صمتٌ عميق جدًّا لدرجة أن مالاليو شعر بأن طبلتَي أذنيه تُقاسيان بشدةٍ في محاولة التقاط أيِّ صوت، مهما كان خافتًا. لكنه لم يسمع أي شيء، ولا حتى تنهيدة. بدا كأن كلَّ الصمت المروِّع الذي كان سائدًا منذ الأزل في كهوف العالم قد تبلورَ في صمتٍ مروع واحد ووُضِع في تلك الغرفة.
مدَّ يده أخيرًا ووجد شمعته وأعوادَ ثقابه، وتحصَّل على المزيد من الضوء ومال إلى الأمام على السرير، ينظر.
تمتمَ قائلًا: «لا يمكن أن أكون قد أصبتُ كِليهما!» وأردف: «كليهما؟ ولكن …»
رفع جسده ببطء وخرج من السرير، وارتدى بتعجُّلٍ بعضًا من الملابس الموضوعة مطويةً بعناية على الكرسي، ثم بعد أن ثبَّتَ الشمعة على الأرض، تقدم إلى حيث كانت المرأةُ راقدة. كانت قد سقطت بين نهاية السرير والجدار؛ كان كتفاها مُستندتَين إلى الجدار وفُكَّت العمامة البشعة وتدلَّت على إحدى كتفَيها. وأدرك مالاليو بتلك النظرة السريعة أنها لَقِيَت مصرعها، وتقدَّم ببطءٍ إلى الباب ونظر إلى الجسد الساكن الآخر، الراقد منبطحًا بالكيفية نفسِها في الممرِّ الذي كان يؤدي إلى غرفة المعيشة. أطال النظرَ إلى ذلك الجسد … وفجأةً استدار ودخل غرفة نومه ومعيشته، وبحرصٍ تجنَّب المرأة الصريعة، وانتعل حذاءه ذا الرقبة وبدأ يرتدي ملابسَه بسرعة محمومة.
وأخذ مالاليو يُفكر بينما كان يرتدي ملابسه على عجَل. لم يكن متأكدًا من أنه كان يقصد أن يقتلَ هذين الاثنين. كان بالطبع سيُسَرُّ بأن يقتلهما؛ لبُغضه لهما، ولكن راودَتْه فكرةٌ مفادها أنه عندما أطلق عليهما النار كان يقصد فقط أن يُخيفهما. ولكن ذلك لم يَعُد مهمًّا الآن. كانا قد لقيا مصرعهما، أما هو فكان على قيد الحياة، ويجب أن يخرج من ذلك المكان، وعلى الفور. إلى الأراضي السَّبخة، إلى التلال، إلى أي مكان …
فجأةً سمع مالاليو صوتَ طرق عنيف على الباب الذي في مؤخرة الكوخ، فارتعد خوفًا. اتَّجه نحو مقدمة الكوخ، فسمع طرقًا هناك، أيضًا. ثم سمع أصواتًا تطلب الدخول، وتصيح بصوتٍ مرتفع مناديةً باسم المرأة الميتة. إثر ذلك تسلَّل إلى النافذة الأمامية، وبحذر سحب جانبًا من الستارة ونظر إلى الخارج، ورأى رجالًا كثيرين في الحديقة. كان أحدهم يحمل فانوسًا، وعلى ضوئه الساطع نظر مالاليو فأبصرَ كوذرستون.