أتعاب المحاماة
بعد ستة أشهرٍ، في أمسية لطيفة أتت خاتمةً مناسبةً لعصر أحدِ أيام شهر مايو، نزل بريريتون من أحد قطارات لندن السريعة في نوركاستر واستقلَّ قطارًا صغيرًا مضى في طريقه عبر مسار فرعيٍّ إلى قلب التلال. لم يكن قد عاد مطلقًا إلى تلك الأقاليم الشمالية منذ الأحداث المأساوية التي كانت الظروفُ قد أجبرتْه أن يكون شاهدًا عليها، وعندما وصل القطارُ الصغير إلى مرحلةٍ من مساره المتعرِّج وسط تُخوم المرتفعات الداخلية والوديان التي كان يمكن منها رؤية هاي ماركت، وفوقها تلة شول المتوَّجة بالأشجار، أدار وجهه بحزمٍ ونظر في الاتجاه المعاكس. لم تكن لديه رغبةٌ في أن يرى البلدة ثانيةً؛ كان سيُسَرُّ لو اقتُطِع ذلك الفصل من كتاب ذكرياته. ومع ذلك، نظرًا إلى أنه كان قريبًا منها، لم يستطع أن يتجنَّب الذكريات التي أقبلَت متزاحمةً في ذهنه بسبب عِلمه بأن الأسطحَ المثلَّثة والأسقف الحمراء لمنازل هاي ماركت كانت هناك، على بُعد ميلٍ أو ميلَين، لو كان يرغب في أن يُلقيَ نظرةً نحوها على وميض الشمس الغاربة. لا، لن تطأَ قدمه مجددًا تلك البلدة طوعًا أبدًا! فلم يكن يوجد حينئذٍ أحد هناك لديه أيُّ رغبة في أن يراه. لقد باع بينت مشروعَه التِّجاري، عندما وَلَّت أصعب الأوقات، وكُتِبَت كلمة النهاية في الحكاية الغريبة والوضيعة، وفي هدوءٍ تزوَّج ليتي وأخذها بعيدًا ليُقيما مدةً طويلةً خارج البلاد، قبل أن يعودا ليستقرَّا في لندن. كان بريريتون قد التقى بهما ساعةً أو ساعتَين عندما مرَّا بلندن في طريقهما إلى باريس وإيطاليا، وأذهله أكثرَ من ذي قبل تقبُّلُ السيدة بينت المتفلسِفُ للحقائق. كانت وجهة نظر ليتي أن والدها كان دومًا رجلًا مظلومًا ومكلومًا بشدة، وكان قدَرُه أن يُعانيَ جرَّاء ارتباطه الذي دام طيلة حياته بذلك الرجل الأثيم الفاسد؛ مالاليو، وللأسف فقد لقي جزاءه في النهاية، ولم يكن يوجد ما يُقال حول ذلك أكثر من هذا. ربما كان من الجيد، هكذا فكَّر بريريتون في نفسه، أن زوجة بينت كانت بهذا القدر من الهدوء واعتدال المِزاج؛ لأن بينت، لدى عودته إلى إنجلترا، عمد إلى دخول معترَك السياسة، ومن شأن ليتي بلا شكٍّ أن تكون زوجةً مُعِينة مثالية لرجل مشتغلٍ بالشأن العام. ستُواجه المواقف بهدوء أعصاب ورأي متزن؛ وهكذا، من تلك الناحية، كان كل شيء على ما يُرام. ومع ذلك، كان بريريتون يعتقد اعتقادًا راسخًا أنَّه لا السيد بينت ولا زوجته سيُعاودان زيارة هاي ماركت أبدًا.
أما هو، فمضت أفكاره متجاوزةً هاي ماركت، إلى ذلك المكان وسط التلال الذي لم يكن تكن عيناه قد وقعتا عليه من قبل. بعد براءة هاربورو المستحقة، كان بريريتون، بعدما أدى مهمَّته، قد عاد إلى لندن. ولكن منذ ذلك الحين حافظ على تواصُل منتظم مع أفيس عبر المراسلات، وعرَف كلَّ تفاصيل الحياة الجديدة التي كانت آفاقها قد فُتِحَت أمامها هي ووالدها بمجيء السيد رايثويت سليل آل راي. كانت رسائلها مفعَمةً بوصفٍ نابض بالحياة لضيعة راي ذاتها، ومنزل الوكيل الذي صار مقرَّ إقامتها هي ووالدها الذي عُيِّن وكيلًا وقائمًا بأعمال ضيعة أخيه في الرضاعة. كانت تتمتع بموهبة الوصف، وكان بريريتون قد كوَّن فكرةً جيدةً عن ضيعة راي من رسائلها؛ كانت مكانًا عتيقًا ورومانسيًّا، يقع وسط التلال البرية لإقليم «ذا بوردر»، منعزلًا بين الأراضي السبخة، ويتميَّز بإطلالة واسعةٍ على مشاهد النهر والبحر. كان من الجليِّ أنه مكانٌ من النوعية التي يمكن لعاشق للأماكن المفتوحة والخلاء أن يعيشَ فيها حياةً مثالية. لكن بريريتون كان قد سافر قادمًا من لندن في الجنوب بغرض أن يطلب منها أن تتركَ ذلك المكان.
كانت قد راودَته أخيرًا نزوةٌ مفاجئة، مجهولةٌ للجميع، ومِن ثَمَّ كانت غيرَ منتظَرة. بعدما ترك حقيبته في المحطة الصغيرة في الوادي الذي ترجَّل فيها من القطار في اللحظة نفسِها التي كانت فيها الشمس تحطُّ رحالها خلف التلال المحيطة، سار بسرعة صاعدًا طريقًا متعرجًا بين غابات التنوب والصنوبر نحو المنزل الرماديِّ الضخم الذي كان يعرف أنه لا بد أن يكون المكانَ الذي كان الرجلُ القادم من أستراليا قد أتى إليه مؤخرًا بداعٍ من ملابسات خياليَّة. على قمة تلة صغيرة تَوقفَ وأجال النظر فيما حوله، متبينًا المشاهد التي عرَفها من الوصف الذي كانت أفيس قد قدَّمَته له في رسائلها. هناك كانت ضيعة راي ذاتها؛ بُقعة كبيرة من العالم القديم، واقعة وسط الأشجار على قمة فسحة ممتدَّةٍ شبيهة بالحدائق من أرض منحدرة؛ تلال في الخلفية، والبحر يلوح في الأفق على مسافة بعيدة. كانت أنقاض برج قديم واقعةً بالقرب من المنزل؛ وعلى مسافةٍ أقربَ إلى بريريتون كان منزل أصغر يقف منتصبًا في حديقة زهور عتيقة الطِّراز، شُكِّلَت باقتطاع منطقة منبسطة على سفح التل، عرَف — أيضًا من وصف سابق — أنه منزل الوكيل. أخذ يتطلَّع طويلًا إليه قبل أن يدنوَ منه، آمِلًا في أن تلتقطَ عيناه رفرفةَ عباءة وسط أشجار الورد المتألقة بورودٍ قد تفتَّحَت. وأخيرًا، مارًّا عبر أشجار الورد اتجه إلى المدخل المسقوف الحجري وطرَق الباب، خائفًا قليلًا من أن تكون أفيس هي مَن يفتح له الباب. ولكن أتت شابةٌ طويلة قوية البنية متوردة الخدين، عليها سِمات سكان شمال إنجلترا، أخذت تُحدق في المسافر الذي كان واضحًا بجلاءٍ أنه قادمٌ من مناطقَ بعيدة قبل أن تُحِيرَ نطقًا. قالت إن الآنسة أفيس لم تكن بالداخل، وإنها في الحديقة، في الطرف القصي.
أسرع بريريتون الخطى إلى الحديقة؛ وبينما كان ينعطف عند زاوية، التقيا على نحوٍ غير متوقَّع. وعلى نحو غير متوقع بالمثل، كانت طريقةُ لقائهما. وذلك لأن هذين الاثنين كانا متحابَّين منذ مرحلةٍ مبكرة من تعارفهما، وبدا أنه من الطبيعي أن تتلامس أيديهما، وأن تظل الأيدي متعانقة. وحينما تتعانق أيدي شاب وشابة، وخاصةً في أمسية ربيعية، وفي ظل أكثر الظروف والأطُر رومانسية، يكون تلاقي الشفاه أميلَ إلى التعبير أكثر مما يمكن للألسنةِ أن تقوله؛ وهو ما يعني أنه من دون المزيد من المقدمات عَبَّر هذان الاثنان عن كل ما كانا يُريدان قوله بقُبلتِهما الأولى.
ومع ذلك، تمكن بريريتون أخيرًا من أن يجد الكلمات. لأنه بعدما أخذ يتطلَّع إلى الفتاة بنظرة طويلة ومتفحِّصة ووجد في عينَيها ما كان يبحث عنه، استدار ونظر إلى الغابة والتل والبحر.
قال، وذراعاه تُطوِّقان خصرها: «كل هذا مثلما وصَفتِ، ومع ذلك أول شيء حقيقي يتعين عليَّ أن أقوله لكِ بعدما صرت هنا … أن أطلب منكِ أن تُغادريه!»
ابتسمَت لقوله، ومجددًا وضعت يدها في يده.
قالت: «ولكن … سنعود إليه من وقت لآخر … معًا!»