قوت القلوب
«يا ألله، يا نور، يا حق، يا مبين. أحييِ قلبي بنورك، وأقمني لشهودك، وعرِّفني الطريق إليك!»
«بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم صلِّ وسلم بجميع الشئون في الظهور والبطون، على من منه انشقت الأسرار الكامنة في ذاته العلية ظهورًا، وانفلقت الأنوار المنطوية في سماء صفاته السنية بدورًا، وفيه ارتقت الحقائق منه إليه، وتنزلت علوم آدم به فيه عليه، فأعجز كلًّا من الخلائق فهم أودع في السر فيه.»
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا.
«لو انقطعت عن الخلق، لفتح لك باب الأنس به تعالى، لأن الأولياء قهروا أنفسهم بالخلوة والعزلة، فسمعوا من الله وأنسوا به، فإن أردت أن تستخرج مرآة قلبك من الأكدار فارفض ما رفضوا، وهو الأنس بالخلق.»
«لا يفُتْك مجلس الحكمة، ولو كنت على معصية، فلا تقل ما الفائدة في سماع المجلس، ولا أقدر على ترك المعصية، بل على الرامي أن يرمي، فإن لم يأخذ اليوم يأخذ غدًا.»
منذ غادر ياقوت العرش للمرة الأخيرة، لم يعد يتردد على جامع أستاذه السلطان، ولا جامع ابن عصره البوصيري. كان يتردد على حضرة الأحمدية الشاذلية في جامع سيدي عبد الرحمن بن هرمز بشارع رأس التين، ومسجد الحامدية الشاذلية في غيط العنب، وزاوية الطريقة في منطقة شماعة وفيكتوريا، يكتفي بالإنصات والمشاهدة. ثم ألف جلسة السماع في مسجد تربانة بشارع فرنسا. واجهته الطوبية تشي برائحة القدم. يختاره لأنه بلا مقام ولا ضريح، فلا يغضب تصرفه أقطاب الحي من أولياء الله. يصعد السلالم المتآكلة، يعبر الردهة الصغيرة إلى صحن المسجد، فرشت أرضيته بالحصير، وتدلت من سقفه الخشبي لمبات خافتة الضوء. شكل الجالسون ما يشبه الحلقة، تحدها أعمدة الرخام الثمانية. خلا المسجد إلا منهم. حتى مصلى الحريم الخشبي غرق في ظلمة شفيفة، ولا صوت سوى حركة الطريق، تتصاعد خلال النوافذ الأربعة المواربة.
التحاب في الله خير صحبة، والأنس بالمريدين والسالكين أنس بالله. لم يعن بالسؤال عن الطريقة التي ينتمي إليها المشاركون في السماع، وما إذا كانوا من الشاذلية، أم من الرفاعية، أم من الجيلانية، أم التيجانية، أم هم من أتباع السيد البدوي؟ لكل صوفي حد محدود، ومقام معلوم، ودرجة مفروضة، لا يستطيع أن يتجاوزها، أو يسبقه من يتبعه، وهو يقف قبل الحدود والمقامات والدرجات. لم تكن الصوفية هي الطريق التي تصور أن قدراته تؤهله للسير في طريقها، ولا الغاية التي يطمح للوصول إليها. غابت عنه مصطلحات الصوفية وأسرارها، ولم يلتقِ في طريقه بما يعرف أن الصوفية يلتقون به: القبض والبسط والهيبة والأنس والوجد والشوق والانزعاج والفناء والبقاء والغيبة والحضور وغيرها من التجارب الروحية. يثق في عدم القدرة على حضور القلب مع الحق، ولا مشاهدة فيوضات النور، ولا التعرف إلى الغائب من الأسرار والأنوار، ولا يتوقع استقبال الواردات والإلهامات والخواطر. ما يشغله أن يدله القطب سيدي ياقوت العرش، أو سواه من الأقطاب العظام، على الموضع الذي يستقر فيه سيدي الأنفوشي. يسأله، فيجيب عليه، يتعرف منه إلى ما ينبغي فعله، تشف المرئيات عن ملامحها الواضحة. يبادئه الحق بالكشوف وأنوار اليقين، فيركن إلى الدفء والحب والملاذ والحنان والرحمة والحماية والوصال والتجدد والانبعاث والتحقق والاهتداء.
هذه الجلسة هي قوت القلوب، تشبعها، وتروي ظمأها. يلتزم السكون وعدم الحركة، وإن أعطى لسماع حودة بدران والرجال في دائرة حوله. هم الصحبة يبدءون بتلاوة الفاتحة، ثم تعلو الأصوات بالقول: لا إله إلا الله، ثلاث مرات، ومحمد رسول الله، مرة واحدة. وتتلى الآية: إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا. ثم تعلو الأصوات — ثانية — بالصلاة على النبي، وتُتلى الأحزاب والأوراد والأهازيج الصوفية ومدائح الرسول والتسابيح والأدعية والابتهالات. تصمت الأصوات وتهدأ. يحل السكون المشبع بالأصوات الباطنة، تعمل على هياج ما في قلبه من محبة، وما في نفسه من مجاهدة. يسحب الشيخ ذو اللحية البيضاء، والجلباب الأبيض، من المكتبة الخشبية الصغيرة قرب المنبر والمحراب، نسخًا من بردة البوصيري، يوزعها على حلقة الرجال. يبدأ حودة بدران في إنشاد البردة، خفيضًا منغمًا، ثم يعلو الشدو. التآلف في وحدة النطق ومقاطع الأصوات، وعلو النبرات وانخفاضها. لا حركات ولا اهتزازات عنيفة ولا رقصات. حتى الأصوات لا ترتفع أكثر مما ينبغي، فللمسجد حرمته. يخلص في فهم ومعرفة معاني الكلمات المسموعة، الأبيات التي أعطاها الإمام البوصيري ذوبت نفسه ويقينه، فكافأه الرسول بإلباسه بردته الطاهرة. يحرص على حضور القلب في السماع، وعلى عدم الغفلة، والانشغال بما يصرفه عن الأجواء العلوية في داخل نفسه، أو من الخارج. تتهيأ النفس لقبول الأنوار الإلهية والمواهب، ترفع الحجب التي اكتسبتها النفس. ينصت إلى الأبيات المحملة بالتحذير من هوى النفس:
لم يعُد يعدل عن هذا السماع، ولا يجد في يومه ما يشغله عنه. هو شرط في الإيمان يحرص عليه، يمارسه من أجل التطهر والصفاء، يحرص على أداء الصلاة في مسجد تربانة. ينتحي — عقب الصلاة — ركنًا في الصحن المستطيل، المطل على شارع فرنسا. تستلذ نفسه بالسماع، وتستروح إليه. يبدأ المنشدون في التحلق حول حودة بدران، يبدو بقفطانه البني الطويل، والعمامة ذات الطيات المتعددة، كأنه غير ذلك الذي يغني في أفراح عقد القران والزفاف والختان، وينشد القصائد والمواليا والأهازيج في الموالد وحلقات الذكر، ويرتِّل التواشيح والمدائح النبوية وتسابيح السحر. يشدو الصوت الدافئ، القوي، بآيات البردة، تمدح الرسول، وتعدد مناقبه. يحسن التقطيع والترجيع. تعيد الحلقة من حوله ترديدها:
يطوي الأيام المتوالية، يتقوى بالسماع، يجد فيه استجمامًا من تعب الوقت. يجعله زاده ورفيقه إذا خلا إلى نفسه، يشغله حتى عن الطعام. لا تتوق نفسه إليه. السماع الصافي يعادل طعام أيام بأكملها. وجد في السماع ما ينهض بنفسه إلى ما يحميها من سيطرة الهوى عليها، سبيلًا إلى الحق تعالى، وإلى تحصيل العلوم والمعرفة والفهم. يشعر بالنور الإلهي في البردة. الأبيات الحافلة بالإشارات والإيحاءات، تصفي نفسه من وساوس النفس وخنسها. يحاول التنبه إلى المعاني، وفهمها. القلب هو الذي يصغي، والنفس تتأمل، والسماع طريقه إلى التطهر والصفاء، والتشوق إلى الجنة، والرهبة من النار. يتملكه حال من الوجد تغيب آفاقه. ينتقل من شهود الخلق والأغيار إلى شهود نور الحق.
السماع الصافي أورد في نفسه غذاء الروح.
هو ليس من أولياء الله، وإن غبطهم على مطلق المعرفة بالأسماء والصفات الإلهية. اكتفى بعالم المشاهدة وتلبية الأمر والخضوع، فهو لا يسير في طريق الصوفية من الغيبة والحضور والصحو والسكر والوجد والهجوم والغلبات والفناء والبقاء. قصرت نفسه عن مجرد التمني بأن تحصل على التجلي، وتتنور بالأنوار الإلهية. ذلك فضل من الله، يخص به أنبياءه ورسله وأولياءه.
لم تعد له إرادة. ترك أمر تصرفاته، حركاته وسكناته، لتوجيه أولياء الله. هو بشر، وللبشر طاقة احتمال. كلٌّ يُسِّر لِمَا خُلق له. لا مفاضلة ولا اختيار. حبس نفسه عن المخالطات. تخلى عن صحبة الخلائق، والاتصال بهم. فتح المعاملة مع الحق. عمر قلبه بذكر الله وحبه، وصفت نفسه من الشهوات والأهواء والأكدار، واجتنب التبعات. استعاض بعبادة الليل والنهار عن كل عادة. صار أكثر انعزالًا، وأشد رغبة في السكون، وإلى التأمل الهادئ. ينصرف الذهن عن كل الموجودات، يغيب حتى عن حواسه ونفسه، وتهيم روحه في نور العشق، ويلامس برد الرضا والتسليم.
•••
مضى — بعد السماع — ناحية ميدان الخمس فوانيس، ومنه إلى شارع الأباصيري. أعطى فكري جرسون قهوة مخيمخ بقجة الثياب المتسخة. يعود بها — ثاني يوم — مغسولة. دس في يده مبلغًا. ما قدمه له الناس. لا يسأل، وإن قبل ما وهبه له الله بواسطة عباده. يذهب فكري بها إلى أم الأولاد. تنفق منها على احتياجات البيت، لا ذنب لها، ولا لأولادها فيما أعد له نفسه.
اخترق الزحام، جسده مع الخلق، وعقله وباطنه مع الله تعالى. قطع العلائق واليأس مما في أيدي الناس. تخلص من حظوظه وأوصاف بشريته، وغسل قلبه من العوارض، وحبس نفسه من الاحتراق بأمور الدنيا وزخرفها، وحرص إلا يملك شيئًا، فلا يملكه شيء. ينظر إلى الأمام، لا يلتفت، ولا يعنيه ما حوله، لا يلحظ حتى ما يجري له، أو عليه. أقبل بالهمة على ما أمره سيدي ياقوت العرش بالاتجاه ناحيته. لا يصطنع المجاهدات ولا الرياضات الشاقة. ألقى القياد إلى أولياء الله، وترك نفسه سلمًا بين أيديهم. لا يشقيه إقبال من أقبل، ولا إدبار من أدبر. ترك الإرادة والفعل، وترك الاعتراض فيما لا يلائم. يتطلع إلى تجليات الإشارات الربانية، يكتفي بالإشارات المقتضبة، لا يجاوزها إلى التصريح في لحظات — لا يتوقعها — تنداح في داخله، عاطفة صاخبة، تملأ نفسه، ويهتز لها قلبه. يشعر بميل إلى احتضان من حوله، يعرفهم، أو يلتقي بهم للمرة الأولى.
•••
في ميدان الخمس فوانيس، بدَّل طريقه إلى شارع الأباصيري، بدلًا من رأس التين. دهمه شوق إلى المرأة والأولاد. تمتم — ليصرف الخاطر — بآيات وأدعية، لكن الأمواج علت فلم يقوَ على دفعها. اخترق ميدان أبو العباس إلى شارع سيدي كظمان. بدت له الشوارع الضيقة، الملتوية، المتشابكة، مغايرة لما تركها عليه قبل عام. أطال الوقفة أمام البيت ذي الطابقين والنوافذ العالية، المغلقة.
ارتبك لصوت مفاجئ في مدخل البيت.
عاد إلى الشوارع الضيقة، المتشابكة.