الصورة خارج الإطار
سراي الحقانية.
عجب للشعور داخله بأنه غريب عن المكان. النخيل الملكي ذو اللون الأبيض والقامة المعتدلة في ميدان المنشية، والحدائق الواسعة، وتمثال محمد علي الكبير، ومبنى البورصة، والبحارة الأجانب تدلقهم السفن، فيتوزعون في الشوارع القريبة من الميناء، يتبعون أقدامهم إلى كوم بكير في اللبان، وإلى البارات المتناثرة في شارع البوستة، وشارع السبع بنات.
تردد على السراي خمسة وثلاثين عامًا. استند إلى الأعمدة الرخامية الهائلة. صعد على السلالم العالية، اعتاد الأسقف المنقوشة، والجدران، وصورة الفتاة المعصوبة العينين تحمل ميزانًا متساوي الكفتين. تنقل بين الحجرات. تعامل مع القضاة والمحامين والوكلاء والعرضحالجية وأصحاب الدعاوى والمتهمين. حتى السطح صعد إليه للبحث في ملفات القضايا القديمة، داخل حجرات الأرشيف.
لحقه — وأسعده — صوت الساعي عبد الفضيل: حمد الله على السلامة يا عبد الله أفندي.
كان يحرص على الوصول إلى سراي الحقانية في الثامنة صباحًا، أو قبلها. يطمئن — في الساعة — إلى سلامة التوقيت. إذا كانت متوقفة، أو غير مضبوطة، يكتب الوقت بالساعة والدقيقة إلى جانب التوقيع. ينتظر — بعد الظهر — حتى يوقع الجميع. لم يعد مرتبطًا بأي موعد، ولا أي عمل. ليس ثمة إلَّا الجدران، والصمت، وأصداء الذكريات. بوسعه أن يصحو في الوقت الذي يختاره، وينام دون أن يخشى تأثير السهر على موعد استيقاظه. يسبح — بمفرده — في بحر العزلة. فراغ عريض ممتد، بدايته منذ غادر السراي للمرة الأخيرة، ونهاية تبدو غائبة الملامح. هل يقضي بقية حياته وحيدًا داخل الشقة، في الحجرة المطلة على المنور الداخلي، والمطبخ، ودورة المياه، والحمام؟ هل تمضي الحياة في طريقها الوحيدة؟ هل تقتصر على مجرد الأكل والنوم وانتظار مجهول لا يعرف ملامحه؟
المكاتب متجاورة ومتقابلة بامتداد الحجرة المستطيلة، فوقها أكداس عالية من الملفات وأعداد «الوقائع المصرية»، وفي الأركان دواليب خشبية، تفز منها الملفات.
نظر — بطرف عينه — إلى موقع مكتبه.
جلس عليه جمال عيسى نائب الإدارة. كتب بنفسه — في أسبوع العمل الأخير — خطاب ترقيته إلى منصب مدير الإدارة. هنأه، وتمنى له التوفيق … لكن المشاعر الغامضة الغريبة المحيرة، انداحت في داخله.
مضى عليه في هذا المكان، في هذا المكتب، مع هؤلاء الموظفين، أو من سبقوه إلى المعاش، معظم سنوات عمره. لم يكن يختلط بجيرانه من سكان البيت، ولا أصحاب الدكاكين القريبة، لكنه كان يدخل مع الجالسين حوله وأمامه مناقشات متسعة الآفاق. الأوضاع السياسية والأحزاب والعلاوات والترقيات والأسعار وأحوال الجو وأخبار الجرائم.
ابتسم لرؤية عبد المحسن فوزي وهو يأكل ساندوتشًا على مكتبه. ظل — إلى قعوده في البيت — يصرُّ على تطبيق التعليمات: المكتب للعمل … أما الأكل والشرب، فمكانهما البيت أو القهوة. اقتصرت إجازاته على وفاة أبويه، وزواج الأختين، واشتداد المرض عليه. واشتهر بحفظه للقوانين واللوائح والتعديلات والأوامر المصلحية. وكان يساعد زملاءه ويعطيهم خبرته. يستعيد من الذاكرة أرقام اللوائح والمنشورات والقوانين، ومضمونها.
لا يذكر أنه جلس على قهوة — فيما عدا مرات قليلة لمجالسة زائر — أو شارك في غير أحاديث العمل. يثق أن الموظف المسئول يبتعد عن القيل والقال ومواطن الشبهات. عرف عنه حبه للعزلة، فلا علاقة له بالجيران في البيت، أو أصحاب الدكاكين. ينزل الطريق ليذهب إلى الحقانية، ويعود منها. ربما اخترق شارع الميدان، يشتري احتياجات البيت. فإذا دخل الشقة لا يغادرها إلى صباح اليوم التالي، أو يخرج لقضاء ضرورة، كالحلاقة، أو التردد على الطبيب، أو صلاة الجمعة.
قال لبسيوني البتانوني، لما عرض فكرة إقامة حفل تكريم له: أفضل أن يهدى المبلغ إلى عبد الفضيل حتى يذكرني بالخير.
أطلق البتانوني ضحكة: عبد الفضيل لا يذكر أحدًا بالخير، حتى لو منحه مال قارون!
فاجأه عرض فراج توكل: كيف عرفت أن لي أختين لم يسبق لهما الزواج؟
قال توكل بلهجة باردة: أعرف!
كان فراج توكل قد قارب الستين. وكان ملفه قد انتقل من الدواليب إلى مكتبه. يعد لحساب مدة الخدمة، وخطاب الرفت.
نقل عرض الرجل إلى نبيلة، فلم ترد.
حدجها بنظرة متأملة، يخمن بها صمتها. فضل أن يرفق عرضه بالسؤال: هل أبلغه بالموافقة؟
حياه فوزي سمعان، من خلف الدوسيهات والمستندات والأوراق، في مكتبه آخر الحجرة الواسعة.
قال: قلبي عندك يا فوزي أفندي.
قال فوزي سمعان: يبدو أن التلميذ لم يستفد من أستاذه كما يجب.
قال في تواضع: أنا في خدمتك … إذا أردت شيئًا فاطلبه … حتى لو شرفتني في البيت!
أسند ملف الخدمة على صدره، وهو يهبط درجات سراي الحقانية.
هل هذا هو آخر عهده بالمكان؟