صداقة
بدا مختار زعبلة سعيدًا وهو يسبق البحار الأجنبي في شارع أبو الوجاهة.
قال بالفرنسية وهو يشير إلى طاولة على جانب باب قهوة البحر: تفضل!
غالب البحار تردده، وأعاد النظر فيما حوله، قبل أن يجلس.
قال مختار لنظرة حمودة هلول المتسائلة: صديق … التقيت به خارج الميناء.
قال هلول في عجب: هل لأنك التقيت به في الشارع أصبح صديقًا؟
وهو يشيح بيده: إذا لم تكن صداقتي لرجال البحر … فلمن تكون؟
قال قاسم الغرياني: إذا لم تكن قد تعبت من البحر، فإن البحر قد تعب منك.
والتمعت على شفتيه ابتسامة مترفقة: من حقك أن تستريح بعد إصابة ظهرك.
تململ مختار زعبلة: وهل شكوت إليك؟!
مصمص الغرياني شفتيه، ومضى.
قدم زعبلة للبحار كوبًا من الليمون المثلج. ارتشفه في تمهل، ونظراته تحاول التعرف إلى المكان.
في حوالي الثامنة والعشرين. يرتدي زي البحارة. لم يحلق ذقنه، أو حلقها بالمقص، فبدت متناثرة الشعر. وتخللت بياض بشرته شعيرات دموية دقيقة. وجهه هادئ الملامح، وعيناه زرقاوان، وأنفه طويل، مقوس. وثمة وشم لعصفور أزرق اللون أعلى صدغه. تدلت في عنقه سلسلة طويلة من الذهب، تنتهي بصليب صغير.
كان مختار سعيدًا وهو يترجم إلى الرجال في القهوة ما يرويه البحار. أتقن العديد من اللغات، وباع الممنوع واشتراه. يعلو صوته بأحداث الرحلات إلى المواني، والمدن ذات الأسماء الغريبة. الأفق الذي بلا حدود، العالم الذي بلا نهاية.
التقى به على باب نمرة ١٠، يقايض البحارة وعمال السفن، على علب الطعام المحفوظ، والسجاير، وزجاجات الخمر. خمن من وقفة البحار المتلفتة، أنه يبحث عن مغامرة. لا يخطئ في التعرف إلى جنسية البحار. يعرف بلده من سحنته: هذا إنجليزي … هذا أسترالي … هذا هندي … هذا من أفريقيا.
كان يطيل الوقوف على رصيف باب نمرة واحد. يتأمل الزرقة الممتدة في الأفق، والبواخر الضخمة والأرصفة المزدحمة بالمسافرين والعمال والبضائع. يلقي على نفسه السؤال: متى ترفع السلالم، ويسافر إلى الأماكن التي كلمه عنها ثروت زلابية، ورآها في خياله؟ هل يجوب البحار والجزر والمواني، ويرى المدن والميادين والشوارع والبنايات والناس المختلفي السحن واللغات؟ تثيره حكايات المدن التي لا يعرف منها غير الأسماء: شنغهاي، ليفربول، نابولي، بيريه، جزر الأوزور … أسماء يلتقطها من ثروت. يستعيدها، ويحفظها. يضيف من خياله إلى ما يرويه ثروت لتبين ملامحها.
سأله البحار — بالفرنسية — عن قلب المدينة.
قال زعبلة: هل تريد مكانًا محددًا؟
قال البحار: أبدًا … أريد أن أتعرف إلى المدينة.
– هل أنت بمفردك؟
لاحظ التماع الخوف في عيني البحار. قال في لهجة متوددة: كنت بحارًا مثلك … لكن ظروفي تمنعني الآن من ركوب البحر.
وأشار بامتداد يده: هل تريد أن أعرفك بالمدينة؟
حدجه الرجل بنظرة متشككة، كمَن يحاول سبر مشاعره. تأمل حركة الطريق من حوله: الدكاكين والوكالات والقهاوي وعربات اليد المكدسة بالبضائع على الأرصفة ووسط الشارع. أسبتة الخضار، وأقفاص الفاكهة، وبراميل الزيتون، وقوالب الجبن التركي، والعطارة، وطاولات السمك، والذبائح المعلقة، والأقمشة، والنداءات، والصيحات، وروائح الشواء والعطن والمياه الراكدة والمخلفات.
أخرج عودًا من علبة الكبريت. تشاغل بتسليك أذنه، وتأمل الصملاخ العالق بعود الكبريت. قلب الأمر في ذهنه. لاك في فمه كلمات، لم ينطقها.
ثم تبع مختار.
دار به على بارات العطارين والسبع بنات والمنشية. باع له ساعة في دكان ساعاتي على ناصية وكالة الليمون. جلسا تحت تمثال سعد زغلول. تمشيا على شاطئ الكورنيش. تلذذ البحار بطعم الفول عند الطنطاوي.
حين بدا التعب على وجه البحار، عبر به الطريق إلى الجهة المقابلة. اخترقا ميدان أبو العباس، وحواري السيالة، إلى قهوة البحر في شارع أبو الوجاهة.
تحدث قاسم الغرياني عن امرأة مالطية تعرف إليها في كوم بكير. ظلت العلاقة بينهما، فزارته في بيته. لم يختنها أهلها كعادة النصارى، فكانت تعلن بالصراخ عن إحساسها باللذة.
قال محيي قبطان: مصيرك إلى جهنم.
أطلق شخرة: جميل … حتى لا أشعر بوحشة.
ولجأ إلى التعبير بيديه: بنت المرة! كنت أضع يدي على فمها حتى لا يأتي الناس على صراخها.
ثم وهو يتجه نحو مختار بنظرة محرضة: اسأله يا مختار … هل تختتن نساء النصارى؟
هم مختار أن ينقل السؤال إلى البحار المشغول بالحكي، والرد على الأسئلة، يلجأ إلى هزة الرأس، وتعبيرات اليدين، في إحداث لغة ترافق الكلمات التي يثق أن الرجال لا يفهمونها.
تبين مختار سخف الكلمات، فقال: زار كل بلاد الدنيا، فاسألوه عن رحلاته.
قال محيي قبطان ليبدِّل الكلام: أمضيت الليل بمفردي … كان الأولاد في فوزي منيب.
قال حمودة هلول: ولماذا لم تذهب معهم؟
– ليس في الفرقة من فوزي منيب إلَّا اسمها.
قال خميس شعبان: قيل إن فرقة أحمد المسيري بدأت عروضها أمس.
قال محيي قبطان: كان الفن في تلك الفرق … زمان … أيام حامد مرسي وعقيلة راتب وسيد سليمان وحمادة العطار.
وقال في سخرية: رأيتها العام الماضي … بدأت بأغنية «ياللي زرعتوا البرتقان»، وانتهت بها … فيما عدا الأغنية، لا أذكر شيئًا!
لمح جابر عم محمد الطوشي قادمًا في أول الشارع، قامته القصيرة النحيلة، وخطواته السريعة. يسبقه النداء بلهجة شامية منغمة: هات للخواجة بسبوسة.
لم يعُد الطوشي يحمل صينية البسبوسة على رأسه. استأجر دكانًا في التقاء شارع إسماعيل صبري بشارع فرنسا. اطمأن إلى انتظام حالها، فتركها لشاب نوبي الأصل. ثم كلف نجارًا في سوق الدقاقين، صنع له عربة، جزؤها العلوي زجاجي. أضاف إلى البسبوسة أنواعًا أخرى من الحلويات: كنافة ومعمولة وحلاوة مولد.
استأذن حمودة هلول: إلى أين؟
– سأخطف رجلي إلى الحلقة … أوصيت على أقتين لحم ترسة.
قال محيي قبطان: ربما تفوتك صلاة الجمعة.
وربت كتفه: انتظر إلى الأحد … تذبح الترسة فيه الآن مثل الجمعة.
– صباح الخير يا مختار.
التفت بألفة التعرف إلى الصوت: ثروت.
نسي ما حدث في انشغاله بالقهوة. غابت الأسئلة عن يسرية، هل ماتت ميتة ربها، أو أن ثروت قتلها؟
لم يعُد يقف على شاطئ الأنفوشي، يترقب الإشارة، يصعد السلمات التسعين. الأسماء الجميلة تومض في عينيه من رسائل ثروت. يعطي سمعه للحكايات عن البحار والمواني والمدن البعيدة. كنوز الحكايات تنسيه اللحظة التالية، يتمنى امتدادها واتساعها، فلا يشغله حتى ما أعدت له يسرية نفسها، يتوقع ما لا تتوقعه. هو — وحده — ما يطلبه، يعطيه انتباهه. لم يعد كذلك يلتقي بثروت. كأنه سافر بلا عودة، أو أنه عاد فأغلق عليه باب بيته. ذوت الحكايات، وإن تمناها، وتمنى السفر. يركب البحر فلا يظل في ترقب ما لا يتوقع رؤيته. غابت كل الملامح، فلم يعد إلا حب السفر والإبحار.
– قلت أسأل ما دمت لم تسأل أنت.
ثم وهو يحرك بإصبعيه ياقة الجلابية: عدت — مثلك — من أهل البر.
بحلقت عينا مختار: ألن تعود إلى البحر؟
أشاح بيده: تبت عن السفر.
– لماذا؟
– شبعت من البحر.
– هل البحر أكلة تملأ بطنك؟!
ابتسم للعبارة: تساوت عندي كل المدن … وتعبت من المغامرة.
– ركوب البحر مغامرة؟!
وشى صوته بانفعال: لا أطيق البُعد عن بحري.
أنت لا تتوسل الحكايات عن عوالم لا تراها. أقعدتك الإصابة، فهل نسي ثروت زلابية — أو تناسى — زمالتكما في ركوب البحر، إلى ما لم تعُد تتذكره من المواني والمدن؟!
همس في نفسه: يسرية؟
قال لها: ألم يلاحظ ثروت شيئًا؟
هزت كتفيها: لا يوجد ما يلاحظه.
باحت عيناه بكلمات، فقاطعته: لا تعد إلى هذا الكلام.
هل ماتت؟ هل قتلها؟ قراءة الرسائل جرَّتني إلى ما لم أكن أتصور أنه يحدث. احتلت يسرية رأسه، وإن لم يتحدث عنها، ولا تحدث ثروت.
قال ليجاوز الحرج: لا بد أن سحر عروس الآن.
– في الابتدائية.
– تقيم معك؟
– عند أمي في العصافرة.
بدا على ثروت أنه يغالب التأثر: أصارحك بأني كنت ألقي على نفسي السؤال — على البعد — في الفترة الأخيرة: هل سيقدر لي رؤية بحري مرة أخرى؟