وقت للأمل
فتحت النافذة، فاقتحمت الحجرة جلبة الطريق. صيحات الباعة، ونداءاتهم، وصوت الراديو في القهوة القريبة.
اعتمدت بكوعها على الإطار السفلي، وأسندت ذقنها على راحتها، وشردت في المدى الصاخب.
طالت أوقات تمددها في السرير. تسلم عينيها للنوم. تضع يديها مشتبكتين تحت رأسها. تحدق في السقف والجدران. تتأمل تكوينات تساقط الطلاء تسند خدها على راحتها، وتتجه — من الضلفتين المواربتين — إلى الطريق بعين سارحة. تشرد بذهنها فيما تتذكره، وما يفد إلى بالها. تختلط الخيوط. أشد ما يضايقها نظرات النساء المتصعبة، والمصمصات، والدعوات: ربنا يعوض عليكي، والتأكيد على الوصفات الناجحة.
أحست بما صعب عليها تبينه: غيرة، أو حرج، أو ضيق، عندما رأت سيد يلاعب طفلًا في الشارع. لم تعرف الطفل، ولا إن كان من أبناء الجيران. جاشت مشاعرها، وغالبت الدموع. اختنق صدرها بضيق، همها أن تتخلص منه. تشممت رائحة البركان الموار داخلها، يريد أن يقذف بحممه.
لو أن الطفل ابنها؟ ابنهما؟
شدد عليها الطبيب، فلا تتحرك في السرير حتى تلد: إذا قمت سيسقط الجنين.
تمددت على ظهرها. عيناها تحدقان في الظلام، تشرد في آفاق غير مرئية. لا صوت إلا تنفُّسها. تبدو الحجرة زنزانة ضيقة، مصمتة. لو أن سيد أمامها. يدور بينهما كلام، مجرد أن يتبدد الصمت من حولها.
حاولت أن تتقي العين الحاسدة بتلاوة آيات القرآن والرقى والأدعية، ورش الملح والأرز والحمص. علقت في صدرها، وفوق السرير، تعويذات من العين والخرزة الزرقاء، وصنعت عقدًا من الودع.
قللت من مغادرة البيت. حتى شقة عبد الله الكاشف قللت التردد عليها. في بالها كلام الطبيب، وخشيت أن تلقاها — ولو مصادفة — امرأة فقدت وليدها، فيواجه طفلها المصير نفسه. لكنها أحكمت الملاءة حول جسمها، وتركت البيت في غبشة الفجر، قبل أن يصحو سيد. اخترقت شوارع السيالة إلى الحلقة. انتظرت — بالكوب — ذبح الترسة. دفعت بالدم الساخن في حلقها دفعة واحدة. كان الحاج محمد صبرة في درس المغرب، والدكان يخلو من الزبائن. استأذنت رضا صبي الحاج. خطت على الموسى سبع مرات وقت الصلاة.
حرصت فلا ترى جنازة تعبر الطريق. حتى الصوات، كانت تصم أذنيها، فلا تواصل سماعه.
زارت الكودية نظلة في بيتها.
قالت لها امرأة في مستشفى الملكة نازلي: لجأت فارغة البطن إلى نظلة بعد عقم أربع سنوات، فامتلأ بطني.
قالت الكودية: هل تثقين أن زوجك هو الذي يفعل معك؟
شهقت: ماذا؟
قالت نظلة دون أن تغادر هدوءها: قد تكون معاشرتك دون أن تدرين، لجان أو عفريت.
أضافت في تأكيد: هذا حدث مع كثيرات … يعشقها الجن أو العفريت، فيربط زوجها، أو يضعف قدرته … ويمارس هو الفعل!
وقالت كالمتنبهة: هل تذكرين الله في حالة التعري، وعند الاغتسال؟
أضافت للدهشة المتحيرة: عند التعري وقبل مباشرة زوجك، تبتعد الملائكة، وينشط الجان … وإذا أسلمت المرأة نفسها للجان، فما أسهل أن يؤذوها بالسقط!
تحسست بطنها. قرأت تلاوات وأدعية، ووصفت لها — حتى يظل الجنين حيًّا إلى موعد ولادته — تحويجة من إكليل الملك، والبسباسة الهندي، وجوزة الطيب. ونصحتها بأن تكثر من أكل الكرفس والجرجير.
قالت وهي تشير إلى الباب: نفذي ما طلبته بدقة … واصبري.
الصبر!
اعتادت سماع الكلمة حتى ملَّتْها. قد تصبر، فهل يقوى سيد على تحمل صبرها؟!
– حتى ناس البلد يسألون عن الخلفة.
غمغمت: ناس البلد؟!
التقى به في زحام شارع الميدان.
كان يحمل بضائع للكشك من وكالة الليمون. أعاد التأكد من الملامح. مالا إلى جانب الشارع. امتد الكلام عن الغيبة وكفر الدوار والأسماء التي بقيت ملامح أصحابها، أو غابت، أو نسي الأسماء.
رفع عينًا متسائلة: هل تزوجت؟
نظر إلى الأرض ليُداري الارتباك: الحمد لله.
– عندك أولاد؟
– لم يأذن الله.
– لو أن الحاج والحاجة أحياء ما أرضاهما ذلك.
فطن إلى ارتباكه، وتعثر الكلمات على شفتيه. قال: ربنا يطعمك!
لاحظ سيد ارتشافها ما لم يتبينه من كوب كبير. رشت الباقي حول السرير، قبل أن تصعد إليه، وتنتظر.
لفت حول جامع أبو العباس سبع لفات.
لحقها التعب، وخافت من إهمال أمر الطبيب، فاستراحت على السور الحجري، ثم واصلت السير.
نذرت — إن أطعمها الله بولد — بإحياء ليلة، توزع فيها الخبز والفول النابت، للسلطان وياقوت العرش والبوصيري ونصر الدين وأولياء الله. ونذرت للسلطان بذبح خروف. لم يشغلها تدبير ثمنه. همها أن يأتي الولد.
تأملت قلق سيد في جلسته على كنبة الصالة. ناوشته.
فاجأها بالقول: أريد ولدًا يا أنسية.
لطمها الارتباك: موت المولود معناه أني أستطيع الخلفة.
قال: متى؟ الأيام تمضي دون أن تحملي.
– كله بوقته.
– متى يأتي ذلك الوقت؟
في مرح متكلف: طوِّل بالك على السخن تاكله بارد.
زوى ما بين عينيه: ماذا تقصدين؟
– لا شيء … أقصد أن طولة البال تبلغ الأمل.
علا صوته بالتذكر: لماذا لا تزورين سيدي ياقوت العرش؟
أضاف بنبرة محرضة: له في قلوب النساء مكانة عظيمة … يحرصن على النذر له، ويسعين إلى مقامه.
قالت في تأثر: لن أنسى له فضل هذه الشقة.
همس كمَن يحدِّث نفسه: أنت الآن الشيخة أنسية … لكنك شيخة مقطوع نذرها!
•••
لمح بائع عقاقير وأعشاب طبية، يصف بضاعته أول السيالة.
اقترب منه بحيث لامست شفتاه أذن الرجل.
ثنى إليه الرجل نظرة متأملة: ما زلت صغيرًا.
ثم وهو يدفع إليه بلفافة صغيرة: هذا هو الصاروخ … تقضي به ليالي الأنس.
أضاف دون أن يعنى بمقاطعة سيد: لن تطلب المرأة بعد اليوم … هي التي ستطلبك!
أمسك سيد بساعد الرجل لإسكاته. قال وهو يتلفت حوله في ارتباك: الفحولة موجودة والحمد لله … أريد ما يساعد على الخلفة.
وأزاح خصلة الشعر المتهدلة على جبهته: أريد وصفة للخصوبة لا لتقوية الباه.
نبش الرجل في الأعشاب التي لم يكُن قد أتم صفها: هذه تحويجة أعشاب ونباتات … اشربها في ماء فاتر قبل النوم، تضمن حمل امرأتك في نفس الليلة.