مشارق الفتح
«وكل مختارات الشرع وترتيباته ليس لك فيه شيء. إنما هو مختار الله لك، واسمع وأطع. وهذا محل الفقه الرباني والعلم الإلهامي. وهو أرض لتنزل علم الحقيقة المأخوذة عن الله تعالى لمن استوى.»
«الزم، فوالله لئن لزمت لتكونن مفتيًا في المذهبين: يريد أهل الشريعة أهل العلم الظاهر، ومذهب أهل الحقيقة أهل العلم الباطن.»
«يا أبا الحسن، لن يموت هذا الشاب حتى يكون داعيًا إلى الله.»
أطلق عم شحاتة فراش مدرسة البوصيري صيحة فزع، لما رأى جابر برغوت مستندًا إلى الضريح. أحاط ركبتيه المضمومتين بذراعيه، ووضع العصا على كتفه.
لم يبدُ أنه فوجئ بدخول عم شحاتة، ولا تحرك، لدوران المفتاح في الباب الخارجي.
تخلى جابر برغوت عن ركبتيه المضمومتين. سحب العصا من كتفه. ألقاها في الهواء، وتلقفها وهو ينتصب: لا تخف!
ثم وهو يفرج ما بين ساقيه، ويسند قبضته على العصا أمامه: أنا خادم سيدي الأنفوشي.
أدى صلاة الفجر في أبو العباس. انتظر حتى انصرف آخر المصلين، ثم خرج إلى شارع أبو العباس، ومنه إلى شارع الكناني.
مدرسة البوصيري الأولية تحتل امتداد شارع الكناني، على ناصيتي شارع أبو العباس وشارع الموازيني. الحوش الواسع تحيط به الفصول، وفي المواجهة ردهة مستطيلة خالية، إلا من مقام ذي كسوة خضراء، يحيط به سور من الحديد المزخرف. الطابق العلوي له شرفة بامتداده من الخشب المخروط. تتجاور الفصول في ردهته الطويلة الضيقة، تنتهي بباب مرتفع يفضي إلى حجرة الناظر، وحجرة المدرسين، والبوفيه، والسلم الخلفي.
نقر على الباب، فانفتح أمامه.
نادى بما لا يسبب الإزعاج في لحظات ما قبل ظهور الصبح. أعاد النداء دون إجابة. اتجه إلى المقام الأخضر الساكن. صفت على الأرض — بالقرب منه — كتب قديمة وطاولة تنس طاولة أسندت إلى الجدار وكراسي محطمة.
خلع المداس، وجلس مستندًا إلى الحائط. من ورائه حجرة لها بابان، خلت إلَّا من بضعة مقاعد متناثرة، وأمامه الحوش الساكن، تحيط به الجدران العالية، والبيوت التي لا يبين إلَّا أسطحها.
هجر الخدمة في جامع ياقوت العرش، وحمل قربة ماء. يطوف بها شوارع الحي. يروي منها العطشى ظمأهم. قبل الصدقة، وإن لم يطلبها. رفع همته عن الخلق، فلا يذل لهم في شأن رزق يومه. سبقت قسمته وجوده، وما قدر له أن يصل إلى فمه، فلا بد أن يصل. أزمع أن يأخذ نفسه بالمجاهدة، لا يأذن لأحد، ولا لشيء، بمنعه من السير والترقي. إذا كان الأقطاب قد أفلحوا في الارتقاء إلى عالم الحضرة الإلهية، فإنه لن يستطيع الصعود سلمة، ما لم يتعرَّف إلى الرموز والأسرار والإشارات العميقة. يعرض عن ملاحظات الناس ومؤاخذاتهم. أقبل على ما أمره به سيدي ياقوت العرش. السعي إلى لقاء سيدي الأنفوشي، والاستماع إلى نصائحه، والإفادة من بحر علمه. عفا الله عما سلف. توحش عن الخلق، وغسل قلبه من الدنيا. انتقل من دوام الخدمة إلى المحبة والمعرفة والتيقن. اجتذبه ما لا يقوى على فهمه إلى الحضرة الربانية: لذة الطاعة، وحلاوة المناجاة، واطمئنان الروح إلى المراقبة والمشاهدة. ائتنس بالله، واهتدى إليه، وفني فيه، وذاق حلاوته. وهب نفسه للمحبة العلوية، والإخلاص في الطاعة، وتلقي أوامر الأولياء الصالحين، والتمكن من المراقبة والمشاهدة والمعرفة. يأتي النور والأمر من الله. يهتدي الإنس والملائكة والجان للطاعة في القدرة، وإنجاز الإرادة. ويمتلئ القلب بنور الإيمان والتقوى، نور إلهي يقذفه الله في قلبه، وترتقي النفس إلى معارج التوحيد والقرب والرضا، وتدخل رحاب الوصل والاتصال بالذات العلية. تنداح الفيوضات الربانية في لحظة يترقبها، تجلو الأنوار مرآة نفسه، تهبه السر والمكاشفة، القدرة على المشاهدة وإدراك الحقائق.
طرح من ورائه القلق والتوتر والتساؤل والمراجعة. تهيأ لاستقبال معارج الحب والقربى، ومشاهدة أنوار الكشف، والتعامل مع الملائكة في الساحات المطهرة لأولياء الله الصالحين. يترقب أمر الله، مدد الأنوار والتوجيهات العالية عن طريق الإلهام والإدراك الغيبي. ما تحدثه به نفسه، وترشده إلى فعله. تكثيف النور الإلهي في داخله، يوجهه إلى حيث يجب، ويهبه الحكمة فيما يفعل. إذا كان أولياء الله قد زكوا نفسه في حضرة النور، ويسروا له سبيل التقوى، وطريق السعي للعمل الصالح، فإنه أحرق جميع الصفات والحاجات، وأغرق نفسه في بحر الإشارات الإلهية، وأهمل التشوف إلى مطالعة الأسرار.
لم يحاول مخاطبة الساكن في الضريح، ولا توقع أن يخاطبه من الداخل أحد، وإن اطمأن إلى أن سيدي الأنفوشي هو صاحب الضريح. اليأس الذي حل على نفسه في قلعة قايتباي، سيبدِّله الله.
هل كان يجد باب المدرسة مفتوحًا، لولا أن ولي الله أراد ذلك؟
الطريق واضحة، لا يضل عنها إلا من فقد بصره. انشغل عن حظوظ الدنيا وحظوظ الآخرة. أغلق أبواب النعمة والعز والراحة والنوم والغنى والأمل، وفتح أبواب الشدة والذل والجهد والسهر والفقر والخوف. وجد نفسه سائرًا في الدروب التي اقتصرت على الصوفية: المحاسبة، والخلوة، والرياضة، والتجلي، واعتزال الناس، واحتمال الأذى، والسهر، والزهد، والصبر. لا يريد لنفسه إلا ما يريده الله له، وما يوصيه به أولياء الله. تشرق عليه أنوار التوجه. يسكن، ويطمئن، ويمضي في الطريق التي دله عليها سيدي ياقوت العرش.
سيدي الأنفوشي هو الواسطة بينه وبين الأقطاب العارفين، أصحاب الأنفاس الصادقة، والكرامات، والمكاشفات التي بلا حصر، بالغي مراتب القرب، والمنهل العذب، ملوك الحضرة الإلهية. تمنى لو أن ولي الله الأنفوشي تجلَّت كرامات روحه الطاهرة في البرزخ. يراها، أو يلمسها، بإلهام، أو في رؤيا منامية. تتجلى الهيبة، فيحل السكون التام. تنثال الفيوضات، وتنداح الأنوار. يتنعم بالأحوال والكشوفات.
أجهد نفسه في استحضار صورة لم يرَها لسيدي الأنفوشي، يرسم ملامح يمليها الحب لولي الله.
زاره سيدي الأنفوشي في المنام، أو في صحو كالمنام. أكد ما رواه ياقوت العرش. دعاه إلى إعلان ولايته على بحري: الأنفوشي والسيالة ورأس التين. لم يتحدث عن مقامه، ولا إن كان في قلعة قايتباي، أو في ساحة مدرسة البوصيري الأولية، أو في مقابر المنارة، أو العامود، وربما مكان ناءٍ لا يعرفه أحد. لم يعين موضع مقامه بالتحديد، ولا طلب تغييره، إنما طلب العناية به، ووضع كسوة عليه، وإقامة مولد له في يوم من رمضان، مثله مثل القطب ياقوت العرش. هو الذي حمى بحري من الشوطة. غاب الموت بالمرض عن أبناء بحري، وغاب المرض نفسه، وهو الذي أوكل له أولياء الله الصالحون مشكلات الناس، وما يعانون.
اجتذبته حالة لم يعهدها في نفسه، فلا الأرض تقلُّه، ولا السماء تفيء عليه، ولا الكون في عمومه يحصره. اقتحمت نفسه أنوار علوية، انبسطت في صدره، فاتسع بالرضا والتسليم واليقين، وإن أخفق في الإمساك بالنجوم، وتلقى ضربات الموج دون أن تهتز وقفته … فهل يعينه أولياء الله على أداء ما يطلبونه منه؟
طال ترقبه للمدد الإلهي. أعد نفسه لإشارة ظاهرة أو باطنة. هاتف حسي أو معنوي. يشير عليه بالطريق التي يجب أن يتجه إليها، فترتقي معارجه إلى مدارك القرب والاستشراف والمراقبة والإرسال والاستقبال للفيوضات العلوية، يضيء الله معيته بالعلم والمعرفة، يدخل العوالم الغيبية الباطنة التي لا يراها أحد، يتحمل التكليف في ساحات أولياء الله، بهدى من الضياء الرباني، تتنزل به الملائكة من فوق السموات السبع.
•••
الأنفوشي؟
التسمية جديدة، وإن تناقضت الروايات في أصلها. العائلة الإيطالية أنفوس احتكرت — لسنوات — صيد الأسماك وتجارتها. كل الصيادين أتباعها ورعاياها، ويعملون لحسابها. حلقة السمك متجرها الكبير، تبيع فيه وتشتري. هاجر أفرادها منذ سنوات بعيدة، لكن سطوتها ظلت — بالاسم المحرف — على الحي بأكمله. المؤكد — في بعض الاجتهادات — أن التسمية محرفة، لكنها تمتد إلى عصور قديمة.
الضريح الغارق في الظلمة داخل قلعة قايتباي — دونًا عن جميع الأولياء — بلا أتباع ومريدين، وبلا احتفالات مولد. حياته لا يذكرها أحد: مَن هو؟ أصله؟ فصله؟ كراماته؟ سيرته؟
الرواية — أصلًا — غير مؤكدة، وإن رأى بعينيه تهافت النساء — وقت صلاة الجمعة — يوقدن الشموع، يقدمن النذور، يكنسن — بملاءاتهن — الأرض الترابية، أو يتمرغن عليها، يهمسن، يجهشن بالبكاء، يجلسن — بالساعات — في صمت. يطلبن الخلفة والمصلحة والشفاعة والمدد. تعلو الأصوات بآيات القرآن والأدعية والابتهالات والزغاريد. يتركن المتاعب عند الضريح، ويغادرن الحجرة المظلمة في غير الحال التي كن عليها.
الشيخ عوض مفتاح إمام ياقوت العرش قال: الأنفوشي حقيقة … رفاته في الضريح الذي يتوسط فناء مدرسة البوصيري الأولية بالموازيني.
•••
غادر ما جرى بين جابر برغوت وعم شحاتة في مدرسة البوصيري. تابع المناقشة ناظر المدرسة والمدرسون والفراشون والتلاميذ. نقلوا ما شاهدوه، واستمعوا إليه. نقلوه بإضافات وتهاويل في البيوت، والدكاكين، وعلى القهاوي، وفي دروس المغرب بالجوامع. علت أسئلة ومناقشات، وأثيرت تخمينات. امتلأت النوافذ والبلكونات والأسطح. عشرات الأجساد المتلاصقة، والأعين، تتأمل ما يجري، وتدافع الناس من الشوارع الجانبية. جلابيب وسيالات وبدل وعمم وطرابيش وطواقي ورءوس عارية. والعساكر يحاولون منع الزحام، وتصاعد الصخب المتلاغط، ورائحة العرق. اكتفى الكثيرون بالتطلع إلى المدرسة من خلف المبنى، المطل على ميدان الموازيني.
غادر أمين عزب زاوية خطاب عقب صلاة الظهر. أفسح له المحتشدون في شارع الكناني، وداخل المدرسة — حين عرفوه — منفذًا. تأمل جابر برغوت في جلسته الساكنة لصق الضريح.
– ماذا جرى يا برغوت؟
ظل في صمته، يتأمل أمين عزب بعينين ساجيتين، ثم قال: لقد اختارني سيدي الأنفوشي لتوصيل ما يريد إبلاغكم به.
همس أمين عزب من بين أسنانه: من سيدي الأنفوشي؟
أشار إلى المقام ذي اللون الأخضر، في الطرقة الضيقة الموصلة بين الفصول.
علا صوت أمين عزب بالحدة: هذا قبر رؤيا … لا يوجد تحته أنفوشي ولا رأس التين.
اربدَّ وجه جابر برغوت: تسخر من ولي الله؟
صرخ أمين عزب: جعلت الوهم وليًّا يا برغوت؟!
ورمى الرجل بنظرة مشتعلة: ولماذا أنت بالذات؟
ثم في نبرة محذرة: ألم تتعظ مما جرى لك؟
حين مات ابنه مسمومًا، وظلت ابنتاه بلا زواج حتى جاوزت صغراهما العشرين من عمرهما، أيقن أن ممارسة السحر الضار عادت عليه وعلى أسرته بالمتاعب والأضرار، فقرر نبذها. كان يعقد — قبل أن تتبدل حياته — على ذيول العفاريت. يصادقها، ويفرض عليها كلمته. ثم هجر السحر والعلاج بالقرآن، بعد أن تنبهت الجن لأذاه. حرق — بالآيات والتعاويذ والطلاسم — الكثير من أهل العوالم السفلية، فأولته اهتمامها. اجتهدت في النيل منه، وأذيته. زاد من عدائها له أنه لم يكُن يأذن لها بطلب شيء. يصر أن تخرج من الجسد، أو تحرق بإذن الله. حصَّن نفسه بتلاوة آيات القرآن والأذكار، والمحافظة على الصلوات في مواعيدها، والإكثار من النوافل. فلما أحسَّ بتعاظم الخطر، بلفح الأنفاس القريبة، وإن لم تتجسد في صورة ما، قرر أن يخفي عداوته للجن، فلا يظهرها.
تبدَّلت حياته، بعد أن أضاءتها كلمات سيدي ياقوت العرش. امتثل للأمر، واجتنب النواهي، وسارع في المرضاة، وغلب عليه الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة. لم يعُد في قلبه طمع في الناس، ولا تشوق إليهم. هذا زمان وحشة، والوحدة هي اختياره، لم يفرضها عليه أحد. حتى الاحتلام لم يعُد يطرق باب نومه، ولا يقتحمه، ولا يؤذيه في طهارته ونفسه. سد الباب بإخلاصه في العبادة، ومجانبة الكثرة، وإيثار الجوع، وحسن الظن بالله، ومخالفة الهوى، ورفض النومة المريحة على وسادة، والعكوف على البلاء، ونفي الخواطر المذمومة، والرضا عن القضاء، والصبر على المجاهدة، واختيار الموت على الحياة. أدرك أنه بقدر المجاهدة تكون المشاهدة، فذهب عن نفسه، واتصل بذكر الله، وذاق حلاوة الطريق، المحبة والاشتياق، القرب والوصال، خلوص الروح، ورقة القلب، وراحة القناعة، وبرد الرضى، ونسيم التسليم.
اتسعت معرفته، وتأهب لورود الأمداد: يرفع الحجاب، ويفتح الباب، ويتحقق العرفان، ويدخل — حين يتجلى ولي الله الأنفوشي عن ستار اختفائه — دنيا الفيوضات الربانية. تتدفق الأنوار من رياض الملكوت، ويهمس هاتف الحقيقة بأسرار العلوم والمكاشفات، وسر الربوبية الذي لا يفهمه إلا الخواص.
ثقبه أمين عزب بنظرة متفحصة، كمن يريد أن يتعرف إلى ما بداخله:
– أين كان سيدك الأنفوشي؟
قال جابر برغوت: سيدي؟ إنه سيد ناس الحي كلهم … بركاته تشمل المنطقة من المنشية إلى رأس التين.
قال أمين عزب: وماذا عن المرسي وأولياء الله الآخرين؟
وهو يهز رأسه: لهم كل الاحترام والتوقير.
وفاضت عيناه بالألم: لكن المرسي ظهر، وحذر، فلم يأبه الناس.
ثم وهو يضرب الأرض بعصاه: أخشى من نذير مخيف.