حافة الظل
مالت من شارع السيالة إلى شارع سيدي كظمان. اخترقت الظلمة المتكاثفة، لا تؤثر في حلكتها الأضواء المنبعثة من ميدان المساجد.
انتفضت لسماع وقع أقدام خلفها. خطوات بطيئة زاحفة. وقفت في مكانها. أصاخت صوتها لاقتراب الخطوات وراءها. ظل الصمت سادرًا. تلفتت حولها. الظلمة ألغت الظلال. وإن تبينت ضوءًا خافتًا يصدر من نافذة علوية، مغلقة.
لم تلتفت وراءها، وهي تزيد في سرعتها. أهملت حتى الخطوات الواسعة، التي تباطأت بعد أن اختلط ظلها بقدميها.
قبل أن يطالعها ميدان المساجد، التفتت بنظرة سريعة، واندفعت إلى قلب الميدان.
تبينت وجهه في الأضواء المنبعثة من الجوامع ونوافذ البيوت والدكاكين المفتوحة، القليلة.
همست لنفسها بالخوف: هشام؟!
تصورت أنه نسيها. فقد الأمل في أن تكون له، فنسيها.
أسرعت في خطواتها، لإحساسها بمتابعته. لم تشعره بأنها رأته، فلا يلحق بها، ويكلمها. ماذا لو بادرها بالكلام؟ هل ترد، أو تظهر الغضب، وتواصل السير؟!
اعتادت الإحساس بأن عينين تلاحقانها. تلتفت خلفها. يطالعها الطريق، بخلوه، أو بالمارة المشغولين في أحوالهم.
تراه في الشارع. يطيل النظر إليها، فتغالب ارتباكها. تتجه بوجهها إلى الناحية المقابلة، أو إلى الأمام، لا تكلمه ولا يكلمها. وحين لمحته مستندًا إلى شجرة قبالة المدرسة، أهملت النظر ناحيته. لحقها قبل أن تميل إلى شارع السيالة. تشجعت بالمارة القليلين والنوافذ المفتوحة:
– ابتعد وإلا صرخت.
فض الإمام الحفل. فصل بينهما. لكن مهجة ظلت في باله. تكرر لقاؤهما — منذ تلك الليلة — في الطريق. لا ينظر إليها، ولا تنظر إليه. يبدو عليها الارتباك، ويحاول ألا يبدو عليه ذلك. يعلم بشعورها نحوه، وأنها تعلم بشعوره نحوها، وإن لم يحاول أن يكلمها، ولا حاولت هي أن تكلمه.
كانت مهجة فتاته. صارح أباه برغبته في الزواج، ولم يذكر مهجة. ذكر المعلم كشك أسماء عديدة. رفض أو اكتفى بالصمت. لجأ إلى التلميح، فلم يصل المعنى. قال لأمه. رشحت مهجة. وافق أبوه بلا معارضة.
تعدد خروجهما برفقة مصطفى في البداية، ثم بمفردهما. تلتقي عيونهما في صمت. تثق في حبه لها، ويثق في حبها له. لا يصارح أحدهما الآخر بما في داخله، وإن ظهر في النظرات، وضغطة اليد، والارتباك في التصرف. وحين تركت يدها بين يديه — للمرة الأولى — في سينما التتويج، شعر بتحرك شيء في داخله، ما يشبه الفرحة، أو النشوة.
قال: هل تذكرين عندما نزعت شوكة السمكة من قدمك؟
قالت: ياه! تذكر؟
أقبل على تأوهها. لم تكن قد دخلت المدرسة، فلا بد أنها كانت أقل من السادسة. آلمتها الشوكة عندما دخلت قدمها الحافية، وهي تلعب على رمل الأنفوشي. استندت على كتفه حتى جلست على بلانس قديم. انتزع الشوكة بأسنانه، وامتص الدم الفاسد، وبصقه.
تلك أيام مضت.
لم تعُد ترفع رأسها في وجهه. تميل بجسمها. تمسح بعينيها الأرض، وتمضي. ركبها التحدي. اختفى حتى التلاشي. كأنه لم يكن في حياتها، كأنه لم يحبها، ويخطبها، وتحبه. تصورت أنه سبب فيما جرى. لو أنه أصر على زواجها، ما أصر الشيخ طه مسعود على الشائعة القاسية، وما جرى — بعد ذلك — ما جرى. لو أنه خطفها.
فاجأها بوقوفه أمام باب المدرسة. تمازج في داخلها الخوف والفرحة. أدركت — من الابتسامة المتوددة التي ملأت وجهه — أنه التقط رؤيتها له. ظل على نظرته الصامتة، لم يجاوزها إلى الكلام: لماذا لا تقنعين أباك بالعودة إليَّ؟ لماذا لا يعود كلٌّ منا إلى صاحبه؟
فكرت أن ترتمي في حضن الأمواج المتوزعة إلى الشوارع. ثم تبينت أنها بعدت عن المدرسة والطالبات بمسافة. طالعها ميدان أبو العباس بحركة المتجهين إلى المساجد لصلاة العصر. لا بد أنه سيتردد في الاقتراب منها إذا ظهر في الطريق مارة.
بدت له الفرصة سانحة. لم يتصور أن يكون قريبًا من مهجة إلى هذا الحد. كانت ترتدي جونلة زرقاء وبلوزة بيضاء مغلقة الصدر، ودست قدميها في حذاء أسود لامع، وجورب أبيض يصل إلى ما تحت الركبة، وأسندت إلى صدرها كتبًا وكراريس. خشي لو أنه قلب الأمر، ربما يغيبها شارع جانبي، فلا يلحق بها. قلب في ذهنه كلمات، تعبيرات جميلة، أضاف إليها، وحذف منها. ربما نطق الجملة، يتأمل وقعها، وما إذا خرجت الحروف واضحة. ظل يرددها بينه وبين نفسه حتى حفظها. لو أنه التقى بها. لو أن خطواتها تباطأت، فيعيد عليها ما حفظه. أعد ما يجب عليه قوله: لقد ظللت مقيمًا على العهد. كنت أعاني ما تعانين … آن الأوان لنعوض ما فاتنا. تيقن أنها لن تخذله، أحبته مثلما أحبها. الشائعة السخيفة أطارت ما كان في قبضة اليد.
توقعت أن يعود إلى أبيها، فيطلب يدها.
ذهل هشام لقول أبيه إن مهجة بنت مثل كل البنات، بل إنها لم تعُد تملك أعز ما تملكه أي بنت.
قال المعلم كشك: إنها مطلقة … وهذا يكفي لرفضي تزويجها منك!
وعلا صوته: هل نسيت أنها فضلت عليك رجلًا في سن أبيك؟!
قال هشام: لم يكن ذنبها … هذا ذنب الشيخ طه مسعود.
فوت المعلم كشك الملاحظة: لو أنها كانت تُبقي عليك … لما تزوجت أول مَن تقدم إليها.
– هذه إرادة أبيها.
– إذَن فهي أسرة لا يشرفك زواج ابنتها.
ثم أردف مستدركًا: لو أني رأيت في المرأة قبولًا بإعادة الخطبة … لوافقت بلا تردد!
– ماذا كنت تفعل لو أن أختي فاطمة هي التي واجهت سوء الحظ في زواجها؟
صرخ المعلم كشك: اختصرت الجريمة فجعلتها سوء حظ؟!
ثم واجهه وهو يستعيد كلام الخوالقة: ها نحن تقدمنا لخطبة فتاة مطلقة … لكن أباها رفض تزويجها لك!
فاجأه بالسؤال: ألم تعد تصلي؟
غمغم بما لم يتبينه هو نفسه. مجرد حروف مضغها، فلا تبين عن معنى.
قال المعلم كشك: هل أفقدك هذا الحب المجنون دينك؟
كالأصداء تلقى أنباء مرضها، هزالها الذي طال، ترددها على الأطباء والأولياء والمشايخ، زواجها من أبو شنب. استتر بظلمة الطريق، أو السيالة، يحدق بعينين غير مصدقتين في الزينات والأنوار، والأغنيات والزغاريد تنطلق من شقة عباس الخوالقة. أخبره صابر الشبلنجي بطلاق مهجة من الرجل. أشفق عليها لأنها طلقت للمرة الثانية. لا، هو لم يتزوجها. فصل الإمام بينهما قبل أن يتزوجا. حتى رفض عباس الخوالقة لا يحاسبها عليه. لم تقل له: أحبك، ولم تُواتِه جرأته ليقول لها: أحبك، لكنه كان يحس بحبها له، في التماع عينيها، في تلون صوتها، في ملامسة يدها ليده. يعرف أنها مقصودة، وإن تظاهرت بالعفوية.
حرم عليها أبوها فتح النافذة، أو النظر منها.
قال عباس الخوالقة: أعرف أن زواجك على الورق فقط … لكنك في نظر الناس مطلقة.
ثم في لهجة باترة: لا زيارات … ولا خروج من البيت إلا بصحبة أحد أخويك … ولا رجعة إلى المدرسة.
قالت أم محمود: المطلقة هي الحائط المائل عند الناس … لا تسلم من ألسنتهم!
تمنَّت المرأة لو أن مهجة لم تعقد قرانها على هشام كشك، ولا تزوجت أبو شنب. وتمنت لو أنها أنجبت ثلاثة أولاد، فلا تصبح عرضة لكلام الناس. الولد ولد. لا تشغلها تصرفاته، ولا تسأل إلى أين، ولا من أين؟
كان أبوها شيخًا للصيادين، وتزوجت صيادًا أصبح شيخًا للصيادين. لا تعرف — منذ طفولتها — إلا الغزل، والبلانسات، وركوب البحر، وغياب الزوج، والنوات، والذين اختطفتهم الجنيات، وتقلبات أسعار السمك.
لازمها — بعد رحيل مصطفى — ذهول وتوهان. تنظر إلى ما لا يرونه، وتغمغم بما يشبه الحديث إلى النفس. مات في السن التي لم تكن تتصور أنه يموت فيها، وكانت مشغولة بمهجة. أصرت أن تظل النافذة المطلة على السيالة مفتوحة، لكي تراه في قدومه من أول الطريق.
أقام عباس الخوالقة سرادقًا كبيرًا من أول السيالة إلى تقاطعه مع شارع العوامري. كل الكراسي من المذهب، واللمبات أضيئت في عز النهار، وتلا القرآن مصطفى إسماعيل والحصري والشعشاعي.
لم يغادر عباس الخوالقة مكانه في المدخل معظم ساعات اليوم. وتقبَّل العزاء، وأعاد رواية ظروف وفاة مصطفى بمرض مفاجئ، ربما هو الشوطة. ظل السرادق قائمًا ثلاثة أيام. في صباح اليوم الرابع عاد إلى الحلقة، يسأل عن أحوال البحر والبلانسات والرجال وأسعار السمك.
قال خميس شعبان: كاد يتزوج وهو في الرابعة عشرة … كأنه عرف بما سيحدث، فأراد اختصار حياته.
لم يبدُ على عباس الخوالقة مشاعر استجابة. ظل على صمته وهدوئه، وإن هز رأسه في توالٍ بغير معنى. الحزن في القلب، والنفس تقاوم حتى لا يطفر الدمع.
أسكت الخوالقة حمودة هلول لما أعاد السيرة. قال: الله أخذ … الله عليه العوض.
ثم بلهجة باترة: الزبائن لا شأن لها بحزننا … وعلينا أن نفيق للشغل!
وحين تكلمت أم محمود عن طلعة رجب، أسكتها — متصعبًا — بإشارة من يده: هذا موضوع انتهى … مصطفى مات … وتقبلنا العزاء في موته.
واتجه إليها بملامح جامدة: هل تظنين أني كنت أتصور أنه يموت في حياتي.
وغالب ارتعاشة في صوته: مصطفى الآن وديعة عند الله … طلب الرحمة هي كل ما نملكه له.
أزمع أن تعود الحياة سيرتها الأولى، وإن ظل الإشفاق على المرأة يتملكه. لا يدري كيف يتصرف، ولا بماذا يجيب على أسئلتها المتوالية: متى يعود مصطفى؟ هل اتصلت بأخواله في دمنهور؟ هل ذهب للفسحة مع أصحابه؟ لماذا لا تكلمني عن الولد؟
زار عباس الخوالقة مدرسة قاسم أمين.
أطلت عينا البواب من وراء الباب الخشبي الموارب. تمعن في وجه الخوالقة، فعرفه. أشار لسؤاله إلى حجرة الناظرة. سدد الخوالقة رسوم عودتها إلى المدرسة، وشدد — وهو يرشف فنجان القهوة — على أن تظل مهجة في المدرسة، لا تغادرها آخر يوم الدراسة، إلا إذا قدم أخوها لأخذها.
خلفت الكورنيش وراءها. طلعت اللسان الجيري المرتفع. ثم مالت إلى مساكن السواحل ذات الطابقين. موحدة الطابع. تطل — من ثلاثة جوانب — على ساحة ترابية واسعة، تناثر فيها أولاد يلعبون الكرة والطائرات الورقية.
تلفتت — بعفوية — وراءها، وهي تدخل بيتًا في الزاوية اليسرى للأضلاع الثلاثة. قفزت السلم، حتى الطابق الثاني. ضغطت على زر الشقة المقابلة للسلم. لم ترفع إصبعها، حتى انفتح الباب.
طالعها بملامح متهللة: جئت؟