ما تبقى من حياة
تسلل ضوء النهار من شيش النافذة، وهو ما زال يتقلب في السرير، مستعيدًا ما حدث في اليوم السابق، يصله بأحداث قريبة، وبعيدة، يفسر المعاني والدلالات.
امتدت يده إلى الكومودينو المجاور. تحسس الساعة ذات الكتينة. عرف الوقت. كتم رغبة في أن ينقلب إلى الناحية المقابلة.
أزاح الستارة، فانداح النور.
مد يده إلى المكتبة. قلب في كتبها القليلة. اختار كتابًا: العبرات للمنفلوطي. خبطه في ركبته، يزيل عنه التراب. قرأ منه ثلاث صفحات، ثم أعاده إلى الرف. القراءة تسليته الوحيدة داخل الجدران الساكنة. يقرأ ما تصادفه يده، ربما قرأه من قبل، لا يستبدله. يقرأ، ويقرأ، ويقرأ، حتى يغلبه النوم، أو يدفعه السكون الجامد، الممل، إلى الخارج. يرتدي ملابسه، ويقفز على السلم بما لم يعهده في نفسه.
تلاقت أصوات المؤذنين في الجوامع القريبة. الظهر. مضى ناحية المطبخ. لمح وجهه في مرآة التسريحة. لاحظ تجاعيد خفيفة تحيط بجانبي الفم، وتمتد إلى الذقن.
اعتاد الجلوس في الشرفة المطلة على جامع البوصيري. يأتنس بالقرب من مقام ولي الله. يحيا لحظات ممتدة من السكينة والطمأنينة. تبهت صورة الوحدة. لا تناوشه إلا إذا استدعتها ذاكرته. تبدو الأيام كأنها واقفة لا تسير. ما حدث في الأمس هو ما يحدث اليوم، وهو ما يصعب إلا أن يحدث في الغد. يأكل وينام ويقرأ ويجالس أصدقاء القهوة، لكنه لا يحيا، لا يشعر أنه يحيا. يحس بما يشبه الاختناق يضغط على صدره. ربما تفصَّدت جبهته بالعرق، واهتز جسمه بقشعريرة، وثقلت جفونه، ومال إلى القعود أو النوم. تتملكه رغبة في أن يسلم نفسه للبكاء، لا يشغله رد الفعل ولا النظرات المتابعة. يؤلمه أنه سيترك الحياة دون أن يخلف ذكرى، دون أن يترك أسرة ولا أبناء. شجرة تجتث — بموته — من جذورها. يطالعه الأثاث الساكن. ألِف رؤيته، وإن شعر أنه يترصد له بمجرد إغلاق باب الشقة. يضغط على عنقه، فيتمنى نسمة هواء. يستعين بالتركيز، فلا يبقى سوى الصورة الوحيدة التي يطمئن إليها. يطيل الوقوف في السطح. يتأمل حدوة المياه التي تحيط بالمنطقة. أمامه خليج الأنفوشي، تميزه الصخرة الناتئة في مدى الأفق، وتداخل المياه مع الأرض التي تتعدد فوقها الأبنية إلى قلعة قايتباي. تتخلل الرؤية مئذنة أبو العباس. على اليمين الميناء الشرقية، يحدها حاجز الأمواج بين القلعة والسلسلة، وثمة أشرعة المراكب الصغيرة، وصيادي المياس بالفلايك والجرافة. وعلى اليسار الميناء الغربية: البواخر الضخمة، والأرصفة، والمخازن، والحاويات، وبلوطات الأخشاب، والأوناش الهائلة. تمسح نظراته الأدوار العليا والأسطح إلى المنشية.
كان يتمنى أن يخلو إلى نفسه. يغلق عليه باب الشقة، فتحاصره الوحدة. يحنُّ إلى جلسة القهوة. لدقائق، ثم يغادرها. الصخب في داخله يعلو على صوت مناقشات القهوة والعزلة داخل الشقة. يتمنى … يتمنى … تغيب ملامح الأفق في ضباب كثيف. يضايقه الإحساس بالعزلة وهو في القهوة، يحكي ويعلق ويسأل ويجيب. لا صلة حقيقية بينه وبين أصدقاء القهوة.
قل تردده على القهوة. يشعر بالوحدة وهم يتحدثون، يتكلمون فيما لا يستطيع المشاركة فيه. تغيب الرغبة في الكلام. تشرق أحاديثهم وتغرب، فلا يجد دافعًا للمشاركة. أدرك — وإن لم يتنبه من قبل — أنه يكره الزحام، والضجة، ويؤثر الوحدة. تعاظم في نفسه الإحساس بالنفور والضيق. يزيد في ضيقه ما يحيطونه به من نظرات محدقة. يفاجئهم، فيشيحون وجوههم، يحاولون مداراتها. هؤلاء الناس غرباء عنه. لا صلة حقيقية بينهم وبينه. يعتذر بموعد — يتذكره — ويمضي. يتجه إلى الكورنيش. يتأمل أسراب النورس، وأسراب الغر — لا يتداخل سرب بالآخر — وصيادي السنارة والجرافة والطراحة وفلايك صيد العصاري.
الصيد! هواية الأيام البعيدة!
اشترى ما يلزمه من وكالة الليمون. امتدت جلسته على المكعبات الأسمنتية، قبالة ميدان أبو العباس. أودع الغلق ثلاث سمكات صغيرة. وضعه في ركن المطبخ، ونسيه.
يحدق في المياه الساكنة، والتماعات أشعة الشمس عليها. يلتقط من الأرض حجرًا صغيرًا. يتلفت حوله، ثم يقذف به في الماء. تتسع الدوائر، ثم تختفي. يلاحظ شخصًا قادمًا، أو عسكري السواحل. يرفع قامته قبل أن يلتقط حجرًا ثانيًا، ويواصل السير.
رأى — في عبوره الطريق — قطة صغيرة، تداخل لون شعرها بين الأبيض والأسود. بدت متحيرة بين الأقدام وإطارات السيارات والعربات. حملها براحته، ووضعها على صدره. قرر أن تؤنس وحدته. وضع لها لبنًا مخلوطًا بقطع من الخبز في طبق صغير. وحين فتح باب الشقة — بعد العصر — ليذهب إلى القهوة، انسلَّت — من بين يديه — خارجة. لم يكن قد اختار لها اسمًا. نادى عليها: بسسسس، لكنها اختفت. رآها — ثاني يوم — في يد طفل على باب البيت المجاور. تذكر أن القطط تألف المكان لا البشر.
سرح — وهو في جلسة المهدي اللبان — مع أغنيات محمد عبد الوهاب في قهوة فاروق، القريبة: الجندول وكليوباترا وهمسة حائرة. عاد إلى البيت — ظهر اليوم التالي — يسبق الفونوغراف، يحمله شاب فوق كتفه. تردد — في الأيام التالية — على محال ميدان المنشية. اشترى أسطوانات، وتحدث مع أصدقاء القهوة عن تبادل ما لديهم وما لديه، وعن التسجيلات القديمة والجديدة. وأهداه إبراهيم سيف النصر تسجيلًا قديمًا للغندورة تغني فيه:
لكن الملل، الملل، قلل من استماعه إلى أسطوانات الفونوغراف. بدا مثل المكتبة، والراديو، والجلوس في الشرفة، والوقوف فوق السطح، يعود إليها في أوقات متباعدة.
تمنى — بعد المعاش — أن يفرغ لأفكار شغلته عنها الوظيفة. أغمض عينيه في محاولة للتذكر. رفت صور ورؤى وأطياف. عاود ما فعل. زار بركة غطاس وتعرف إلى ما لم يره، تأمل صيادي الجرافة في الميناء الشرقية، أخذه السهر — مع علية ونبيلة — في الشرفة المطلة على سيدي البوصيري، تمشَّى — بلا هدف — في محطة الرمل وسعد زغلول، فاصل الباعة في سوق راتب وشارع الميدان، صلى الجمعة في أبو العباس، شاهد الموالد وسوق العيد وحلقات الذكر، فاجأ أصدقاء المهدي اللبان بمعلومات غابت عنهم.
ألف — في حصار الوحدة — إغماض العينين، شرود الخيال في آفاق لا تنتهي. صادق ساعة الحائط المعلقة في الصالة، صوت حركة البندول والدقات. يعيد الأرقام بصوت منغم. اخترع ما يسلي به وقته: يعيد ترتيب مكتبته الصغيرة، يصنِّفها بموضوعات الكتب. يعود فيصنفها بأسماء الكتَّاب. تكرر تمنيه أن يطرق عليه الباب أحد. يبدد الصمت بضغطة الجرس. وواتته رغبة في أن ينزل الطريق، يطلق ساقيه، لا تتوقفان حتى ينهكه التعب. أو يعوم في الأنفوشي إلى ما بعد الأفق.
سحب القلة من النافذة المطلة على المنور. رفع القمع النحاسي الأصفر، وجرع من القلة حتى ارتوى.
علا رنين جرس الباب. القلة من يضغطون الجرس، عرف الفرق بين كل ضغطة وأخرى. يتوقع شخصًا بالذات. تباطأ، فعلا الرنين ثانية.
فتح الباب بيد غاضبة: أستاذ إبراهيم؟
قال إبراهيم سيف النصر، وهو يمضي — بتلقائية — إلى الداخل: لم تكن تتوقع حضوري.
ومض في داخله شعور بالألفة: أهلًا بك في كل وقت!