ارتحال إلى الأسمى
«نحن إذا أتانا مريد له شيء من الدنيا، لا نقول له: اخرج عن دنياك وتعالَ، ولكن ندعه حتى تترشح فيه أنوار المنة، فيكون هو الخارج عن الدنيا بنفسه، ومثل ذلك قوم ركبوا سفينة، فقال لهم رئيسها: غدًا تهب ريح شديدة، ولا ينجيكم منها إلَّا ترموا بعض أمتعتكم، فارموا بها الآن، فلا يسمع أحد قوله، فإذا هبت العواصف كان الكيِّس مَن يرمي متاعه بنفسه. كذلك إذا هبت عواصف اليقين، يكون المريد هو الخارج عن الدنيا بنفسه.»
«إن لله عبادًا، محق أفعالهم بأفعاله، وأوصافهم بأوصافه، وذاتهم بذاته، وحمَّلهم من أسراره ما تعجز عنه الأولياء.»
لمح الكاميرا في يد أوسط البحارة الأجانب الثلاثة، وضعها على عينه ليصور سيدي علي تمراز. فرد ذراعيه بامتدادهما أمام الرجال الثلاثة. رافقت وقفته صيحات وشتائم.
لحقه — من قهوة المهدي اللبان — إبراهيم سيف النصر: ماذا تفعل يا شيخ قرد؟
اهتزت وقفته بالانفعال: الجامع للمسلمين وحدهم.
قال سيف النصر: وما شأن الناس بالجامع؟
علا الانفعال بصوته: محرم على الكفار، ومن يقصدونه للفرجة.
وداخل صوته نشيج: اقتربت الساعة وانشق القمر!
أدرك البحارة الثلاثة ما يحدث. صاحب الكاميرا أهملها إلى جانبه، ومضوا ناحية شارع فرنسا.
قال المهدي اللبان: الشيخ جابر لم يفعل إلا أن منعهم من تصوير الجامع.
مات علي الراكشي. فقد الصديق الذي كان يستخلصه منفردًا، يفضي إليه بأحواله، وما يشغله، وعجائب مشاهداته.
كان قد هجر ياقوت العرش، وترقبه في الضريح الساكن بقلعة قايتباي، ولزم جدار ضريح سيدي الأنفوشي بمدرسة البوصيري. يغادره إلى شوارع بحري. ينفذ ما أمره به سيدي ياقوت العرش. يأمل في المكاشفة والمدد. يبدل الله حالًا بحال. أشفق على الناس ضياع المعتقد، وضعف النفوس. ما يعانونه، مبعثه بعدهم عن الله، وإقبالهم على المعاصي. ذهبت عن نفوسهم حرمة الدين. زال الورع، وطوى بساطه. رفضوا التفريق بين الحلال والحرام، واستخفوا بالعبادات. لن يكون الخلاص إلَّا بالرجوع إلى الذات الإلهية، والمحافظة على الحدود، والابتعاد عن النواهي.
اعتاد الناس أقواله وتصرفاته. لم تعُد غريبة ولا نابية. وكانوا يلزمون الصمت، عند سيره في الشوارع والحواري، وأمام القهاوي والدكاكين وأبواب البيوت المفتوحة. غابت التعليقات المتصعبة والساخرة والغاضبة. حتى الأولاد الذين ضايقوا علي الراكشي بتصرفاتهم، لم يكرروا ما فعلوا مع جابر برغوت. ربما لتذكر الجميع خطأ التصرف مع ولي الله الراكشي.
فمَن يدري؟ من يدري؟
ظهر في أقواله وتصرفاته، ما يجعله من أرباب القلوب والأحوال. لجم نفسه بلجام الصمت والسكينة. ورضي بقضاء الله، واتصل بذكره، وأخلص واتقى وسكن. يسرح ويشرد، تستشرف نظراته ما لا يراه أحد، يصغي إلى أصوات تنداح في داخله، فلا يسمعها سواه. هو مشدود للمهمة التي كلف بها، لا يستطيع التخلي عن أدائها. درب نفسه على الامتثال والخدمة والسمع والطاعة. ثمة أنوار تومض أمامه، كأنوار الشهب والقمر والشمس، تضيء ما حوله، وثمة رموز وإشارات إلى حقائق الخفايا والبواطن والعلوم والمعارف والأسرار. تبع النداء في كل الخطوات التي يقطعها. انشغل عن التطلع إلى الدنيا، واستوحش من جميع البشر. غرق الكثيرون في بحر الدنيا العميق، فجعل سفينته فيها تقوى الله تعالى. آثر ما يبقى على ما يفنى، وجعل الله غناه في قلبه. لا يقبل شيئًا إلا من الذين اشتهروا بالتقوى وخوف الله. لا تشغله نظرات الدهشة ولا الملاحظات المؤنبة ولا كلمات التوبيخ ولا المضايقات. نسي حوائج الدنيا والآخرة والأحوال والدرجات والمقامات والمراتب والخصوصية. ذهب عن نفسه، وعن كل شيء.
لم يضع في باله أنه يمارس كرامات الأولياء، فلا اطلاع على الكوائن، ولا طي للأرض، ولا سير على الماء، ولا طيران في الهواء، ولا إتيان ثمرة في غير أوانها، ولا الحصول على ثمار من شجرة يابسة، ولا تحول ماء البحر إلى ماء عذب. أتم تفويضه لأولياء الله الصالحين. غلب الرضا على القلب، ومضى في الطريق التي حددوها، وأشاروا بها. يترقب الأنوار التي ترقى به إلى التمكين في شهود الذات، واكتحال عين القلب بسر الحقيقة. أغرقته سحائب الرحمة، وعصفت به الهداية، ساقته إلى أرض النفوس الطيبة. هامت الروح في حضرة قرب الذات الإلهية، وتأهب لورود الأمداد.
اعتاد الناس اختفاءه — فجأة — وهو يخالطهم، أثناء سيره، أو في جلوسه داخل الجوامع، أو في استناده على المقام داخل صحن مدرسة البوصيري.
توقع الكثيرون بركات تضيف إلى معجزات أولياء الحي، مثل مشي السلطان فوق موج البحر، وتلقف أبو الدرداء للطوربيد من سماء الإسكندرية، وبردة الرسول حين خلعها على البوصيري. وقيل إنه يوحى إليه من البرزخ بإلهامات ومكاشفات.
لاحظ خميس شعبان مسحة من الطهر تضيء وجه الرجل. وأخذ حمودة هلول من فوق الطاولة، على رصيف الزردوني، كوب شاي، شرب منه جابر برغوت، ومضى. ارتشف بقايا الكوب، امتصها تمامًا. هتف: البركة يا أهل الوصول!
وروي أن جابر برغوت قال لدياب أبو الفضل وهو يقف على الأورمة أمام الحلقة: لا تتعب نفسك … فهذا يومك!
وقبل ساعتين، كان دم الشريان قد انبثق من ضربة الساطور، ومات دياب أبو الفضل في مساء اليوم نفسه. وأكد عم شحاتة أنه رأى طيورًا بيضاء اللون، ليست حمائم ولا تشبهها، تهبط في جلسته بجوار المقام ذي الكسوة الخضراء، تضع من الطعام ما لا يتبينه أحد، فلا أحد يجرؤ على اقتحام مجلس الركن الساكن، حتى يمضي من نفسه. وكان يمضغ الطعام في صمت وتلذذ، ويحمد الله. فلما تبين عم شحاتة المكان بعد انصرافه، لم يجد الآنية التي كان يأكل فيها طعامه. وقيل إنه لم يزُر مريضًا أو مصابًا ودعا له إلَّا عجَّل الله بشفائه. وحين واجه قاسم الغرياني يصعد الدحديرة الخلفية لأبو العباس، شخط فيه: أنت جُنب … فارجع اغتسل!
رويت عن الرجل حالات، فله قدرة على تمييز الواقفين — أو الجالسين — في الظلام، ويناديهم بأسمائهم، ويكشف عن مخابئ الثعابين والحيات والفئران في شقوق الجدران، ويتحدث عن النوة قبل قدومها، ويعرف وقائع المستقبل. ربما يغلبه الانفعال. يصيح، ويصرخ، ويهم بنزع ملابسه، لا يهدأ إلَّا عندما يستحلفه مَن يعرفه برسول الله وأولياء الحي. قد يتعاظم فيبلغ رأسه السقف، وقد يتصاغر، فيصبح في حجم الدجاجة. أشار، فانشقت مياه الميناء الشرقية. سار في الأرض اليابسة إلى نهاية السلسلة. وكان يأكل من السمان حتى يشبع. يصفق، ويقول: طِر بإذن الله! تنقلب السمانات إلى الحياة، تكتسي ريشًا، وتتقافز، ثم تطير. وقيل إن الأقطاب من أولياء الله يتراءون له في اليقظة والمنام، يحملونه على أداء ما يريدون من أفعال الخير. وقيل إنه أخذ على رؤساء الجن العهود. جعلوا أنفسهم في خدمته، يلبون كل ما يعلو به — أو يهمس — صوته، وما يتمناه في نفسه. وقيل إن الجن تقمَّصته، وإنه لم يعُد يتكلم بصوته الطبيعي. تحول إلى ما يشبه الحشرجة. وربما أغمض عينيه، وتصلَّب جسمه، ثم اهتز في تشنجات متوالية، وانطلقت الصرخات كالعواء، وانسابت من جانبي فمه ومن ذقنه، رغوة بيضاء. وروي أنه كان إذا نظر إلى شخص وهو في حالة الانجذاب، فإنه يجذب هذا الشخص، فيصبح من محبيه.
قال حمدي رخا: ربما كان هذا الرجل أعقل العقلاء.
اتجهوا إليه بنظرات يفاجئها عزوفه عن المشاركة في المناقشات. إذا تحدث فبعمومية ترى أن كل شيء يجب أن يتغير … وكان قليل التردد على القهوة. يعمل موظفًا في مصلحة المواني والمنائر. يؤثر الخروج إلى شاطئ الكورنيش. يتمشى في المسافة بين المحكمة الكلية وانحناءة الطريق إلى الأنفوشي. يتأمل ما تراه عينه وحده، لا يشير إليه، ويكتفي بالإنصات الهادئ. شعره الأبيض يتناقض مع الملامح الطفولية في وجهه. له بشرة قمحية صافية، وأنف صغير، وعينان لوزيتان شديدتا الالتماع، تطل منهما نظرات ساهمة.
زوى إبراهيم سيف النصر حاجبيه بالدهشة: هذا اﻟ…
قاطعه حمدي رخا: إنه يريد الصح.
قال عبد الله الكاشف: الصح مسألة نسبية.
قال حمدي رخا: المؤكد أننا نحياه!
قال الشيخ أحمد أبو دومة: هذا رجل اصطفاه الله لحضرة أنسه.
ثم وهو يداعب ذقنه بأصابعه: أثق أن وجود هذا الرجل المبارك في حيِّنا هو الذي منع ظهور الكوليرا في الحي.
قال أدهم أبو حمد: فماذا عن أولياء الله الآخرين؟
قال الشيخ أبو دومة: إنهم موتى … ولن يؤذوا حتى لو أصيب بحري كله بالوباء … أما شيخنا فقد حمى الله أهل الحي من المرض ليحميه من العدوى.
قال إبراهيم سيف النصر: هل تأثرت بحركات الرجل؟
وأشار بيده إلى باب البيت الملاصق: أنا أصدق أمين أفندي عزب … ياقوت العرش لم يظهر للرجل، ولا زوده بنصائح أو توجيهات … إنه تلبُّس جن يُملي عليه ما يتصور صحته!