رحلة الاتجاه الواحد
وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا.
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ.
وقف على رصيف سيدي المسيري المُواجِه لقهوة الزردوني.
تظاهر بالتمشِّي، عندما رمقته عين مُستريبة. عاد، فأطال نظراته إلى الرجل الجالس على رصيف القهوة.
تعدَّدَت رؤيته للرجل في جلسته على قهوة الزردوني. في باله أعجب الحكايات التي رويت عنه. ظِل قوَّته يغطِّي الناس والبيوت والجوامع والشوارع والدكاكين ومراكب الصيادين. يحترم الجميع السير أمامه، وربما مال البعض إلى شارع جانبي.
روى عم محجوب ما فعله في سرادق مرشَّح حزب الشعب: قذف الكلوب الرئيس بكرسي. خفت الضوء. ذعر الناس لما حدث. توالت الضربات في الكلوبات الأخرى واللمبات. تلاشى النور، وحلَّ الظلام. اصطدمت الأجسام المتدافعة، وارتفعت الهراوات، نزلت على الخوف واللهفة والصراخ.
قيل إنه كان يأكل دجاجة على ريق النوم. وقيل إنه كان يذيب الفص تحت لسانه، ثم يجرع زجاجة طافية كاملة، في بار البوستة، ويعود إلى بحري، دون أن تهتز المرئيات أمامه. إذا انساق لمعركة، تظل رجلاه تحملان جسمه، وتطيح شومته بالأجسام العفية، فلا تخطئ طريقها. وقيل إنه كان يحمل على ساقه، في جراب جلدي، مطواة حادة، يلجأ إليها إذا واجه الخطر. يهوش بها ليجبر خصمه على التراجع، يستخدمها لإسالة الدم، لا للقتل. يذعر الخصم لمرأى الدم، فيحبط، يخشى الموت. وكان يحرص — إذا توجس الشر — على ارتداء بونية من الحديد، يوجهها إلى رأس خصمه، أو وجهه، أو ذقنه. واشتهر عنه الضرب بالروسية. تُميت — إذا أحسن تصويبها — مَن تصل إليه.
أكَّد المعلم أحمد الزردوني أن حنفي قابيل اضطر إلى الفتونة. فرضت عليه معارك فخاضها. دافع عن نفسه. لم يجعل قوَّته — حين قدم من الصعيد — موردًا للرزق، ورفض البلطجة، وفرض الإتاوات. وحين مالت نفسه إلى المعلمة أنصاف تزوجها، ورفض أن يعمل حاميًا لها، ثم طلقها بعد أن أصرَّت على ما في رأسها.
قال الزردوني: حنفي قابيل فتوَّة … أما الشاطر فبلطجي.
الْتَمعَت عينا عباس الخوالقة بالدهشة: وما الفرق؟
قال الزردوني: هو الفرق بين مَن يأكل بعرق جبينه، ومَن يفرض الإتاوات على الناس.
ذهل لما رأى اليوزباشي نبيل قرة ضابط نقطة الأنفوشي، ينحرف إلى القهوة. يُلقي السلام، ويجلس. يدور بينه وبين الرجل كلام. لم يتبيَّن — على البُعد — ماذا قالا، لكن الحديث تخلَّلَته همسات ومداعبات وضحكات مقهقهة.
سمع الكثير عن الفتوات: الْتِماع الخناجر والسكاكين، والصرخات، والتأوُّهات، وقرقعة العظام، وصليل السلاسل الحديدية، وضربات الشوم، وقطع الحجارة، والزجاجات الفارغة، وتهاوي الأجسام، وانبثاق الدم، وافتراشه مساحات في الأرض، وعلى الجدران.
تمنى أن يصبح أبو أحمد، فتوة، يؤكد هيبته الرجال الذين يسيرون خلفه، أو يحيطون بمجلسه. يعمل له الآخَرون حسابًا، يقفون احترامًا، ينفِّذون ما يطلب. يفرض الإتاوات على تجار الحي، وعلى الميسورين من السكان. لن يكون شيخًا للصيادين مثل الحاج قنديل وعباس الخوالقة وبقية المعلمين، ولن يكون درويشًا مثل أبيه.
لم يكُن قد رأى الفتوات، وإنْ أتَتْه أخبارهم، فتمنَّى أن يصبح فتوَّة.
استهوته حكاية أمين عزب. طرد الرجل الغريب من القهوة، فصار موضع إعجاب أبناء بحري، وقرَّر أن يتعلم الفتونة.
جلس إليه في زاوية خطاب. استمع إلى كلماته، ووقف بالساعات في شارع إسماعيل صبري يُتابع تصرُّفاته.
قال له قاسم الغرياني: لم يكُن الشيخ أمين عزب فتوة ولا مارس الفتونة.
ولكزه في كتفه: إذا أردت الجلوس إلى فتوة، فهو حنفي قابيل … كان أبو أحمد زمانه … ثم هدَّته الأيام!
روى له عن معاركه في بحري منذ بداياتها. خاض في تفصيلاتها ومنمنماتها. كيف استحالت الدعوة معركة عنيفة قاسية. أضاف، وحذف، وضعه في إطار البطولة. رد السلام على شاهين عبد الفتاح، تاجر العلافة بالموازيني، وقال: تفضل.
واصل شاهين سيره.
لحق به: إذا عدت إلى فعلتك … قتلتك.
قال شاهين: أنا لم أفعل شيئًا.
– رفضت دعوتي.
– عندي شغل.
طقَّت نظرته بالشرر: قبول دعوتي أهم.
دفعه ناحية القهوة.
أجلسه إلى جانبه على الرصيف، تفصل بينهما طاولة صغيرة. لاطفه — بمجرَّد جلوسه — ودعا له بكوب سحلب وكرسي معسل.
لم يفوِّت شاهين عبد الفتاح ما حدث.
ترصَّد لحنفي قابيل في انحناءة الطريق من سراي رأس التين. فوجئ حنفي قابيل بما جرى. ظفر بحياته وبهزيمة شاهين، وإنْ خرج من المعركة بطعنة سكين. لزم البيت، فلم يذهب إلى المستشفى. عاده الحاج محمد صبرة، وعالجه. إذا عرف خصومه أن المعركة أدخلته المستشفى، كيف له أن يمشي في الطريق، ويدخل الحلقة، ويجلس في القهوة، ويتكلَّم، فيُنصت الرجال؟
شغله أن يتعرَّف إلى الرجل، يجالسه، ويُحادثه. تاقت نفسه لمصادقته، والتعلُّم منه. التعرُّف إلى أصول الفتونة. يُصبح — على يدَيه — فتوة، أبو أحمد. كيف يدخل عراكًا، فيتركه دون أن يصاب بأذًى. تبلورت أمنياته في أن يصبح واحدًا من الذين يخشاهم الرجال، يقفون لهم احترامًا، يخاطبونهم بودٍّ وأدب، يتلفَّتون إنْ جاءت سيرتهم.
يرتدي جلبابًا من الحرير، ويضع على رأسه طاقية بيضاء، وينتعل خفًّا مغربيًّا، واستندت راحة يده على عصا من الأبنوس. لم يكُن وجهه يعبِّر عن سِنِّه، وإن امتدَّ جرح غائر في خدِّه الأيمن، ربما من طعنة سكين. له أنف أقنى، وشارب رفيع فوق شفته العليا، وشفتاه غليظتان، وعيناه تصدران نظرات نافذة، تحت حاجبين كثيفين وإن غلب عليه الاستغراق. إذا أراد التحية، مال بأعلى كتفه، ولامست إصبعه جبهته، وتمتم بكلمات هامسة، مدغمة.
غالب تردُّده: أريد أن أتعلم الفتونة.
كتم حنفي قابيل ابتسامة مشفقة: لماذا؟
أربكته نظرة الرجل الملتمعة. أشاح بعينيه، فلا يواجهه: أريد أن أصبح فتوة … أبو أحمد … مثل حميدو فارس وأبو خطوة وأمين عزب … ومثلك.
علا حاجباه بالدهشة: مَن أخبرك أني فتوة؟ عندما تضطر إلى خوض معركة، فذلك لا يعني أنك فتوة.
وسرح في الفراغ أمامه: انتهى عهد الفتوات … الظروف هي الفتوة الآن.
ثم بلهجة متصعبة: أما شيوخ المنسر فهم مشايخ الحارات!
– لكنني أريد أن أتعلَّم …
وابتلع ريقه: لا أريد الفتونة … بل لأحمي نفسي.
قال الرجل في دهشته: من ماذا؟
– أذى الناس.
حدجه بنظرة متأملة: ما اسمك يا ولد؟
– محمد علي الراكشي.
برقت عينا قابيل باهتمام: ابن الشيخ علي الراكشي؟
نكس وجهه في الأرض: كان صيادًا.
قاطعه الرجل: لكنه الآن أحد أولياء الله الصالحين … والرجل يبشر في قبره بصلاح ولده من بعده.
لملم جرأته: لم يترك لنا ما نحيا به.
هزَّ الرجل رأسه بما يعني التأسُّف: الشيخ البعيد سره باتع!
روى جابر برغوت أن الراكشي زاره، قبل وفاته بيوم، قال له: أودعك لأني أريد أن أسافر.
نسب برغوت كلمات الراكشي إلى ما كان قد طرأ على أقواله وتصرُّفاته، فلم يعقب. لما عرف بموت الراكشي، أدرك أن السفر الذي كان يتحدث عنه هو الموت. وروى برغوت أنه شاهد العشرات من الرجال، لم يرَهم من قبلُ، ولا يعرف من أين أتوا. يزاحمون الصفوف التي وقفت لصلاة الجنازة. لما حاول تبينهم — عقب انتهاء الصلاة — فوجئ باختفائهم.
حين سأل الجد السخاوي أم محمد، عن الخفي من أحوال علي الراكشي، ما لاحظته من كراماته ومكاشفاته، روَت ما كان الجد السخاوي يرفض تصديقه، لولا اقترابه من كرامات الجنازة، في غسله وحمله ودفنه.
كان إذا بقي في البيت لزم حجرته، ينشغل بقراءات ودعوات وابتهالات. تقدم إليه الطعام من انفراجة الباب. يأكل القليل، ويُعيد الباقي. تحلُّ فيه البركة، فيظل، والأولاد، يأكلون منه أيامًا، حتى ينفد. وعندما ترى حجرته — آخِر الليل — منوَّرة، تُوارب الباب برفق. تجده ساجدًا، يُطيل سجدته ويُطيل، وعلى رأسه قنديل من النور معلَّق في هواء الحجرة. أحواله تظهر على وجهه، تتغيَّر بتغيُّر الرؤى والمشاهدات. وكان ينزل البحر، فيسبح. ما يكاد يمضي خطوات حتى تطفو الأسماك من كل الأنواع والأحجام، حتى المفترسة منها ترافقه في سياحته. ثم لم يعُد — في أيامه الأخيرة — يتردَّد على الحلقة، ولا على الساحة الحجرية وراء مساكن السواحل، ولا يحمل السنارة في طريق الكورنيش، لكنه كان يذهب بالطعام — آخِر النهار — إلى عياله. يأتيه بالبركة من الكون.
روت أنه كان ينقلب له اللون الواحد، في صحن واحد، أنواعًا مختلفة من الطعام. يجد الأولاد كل ما يشتهون أكله. وكان يأتي للبيت بفاكهة الشتاء في الصيف، ويأتي بفاكهة الصيف في الشتاء. وأتى برغيف من فرن السيالة. وضعه على الطبلية، وغطَّاه بمنديل، وقال: كلوا باسم الله. اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وأنت خير الرازقين. وأكلَ الأولاد من تحت المنديل حتى شبعوا، وظلَّ الرغيف كما كان.
طالت غيبته، أسبوعًا كاملًا. فبدأ القلق يناوش المرأة.
عاد إلى البيت، والإنهاك بادٍ عليه. قال وهو يمضي إلى حجرته: كنت أتلو القرآن على الملائكة.
وعاد إلى الشقة — ليلة — فأحزنه أن المرأة والأولاد بلا غداء ولا عشاء. رفع يدَيه بالقول: إلهي … ضمنت رزقًا تسوقه لنا، فلماذا تُحجب عنا الرزق؟
انتبهَت الأعين إلى أرغفة من الخبز الساخن، الشهي، على الطبلية، لم تكُن موجودة.
صادقَ رجلًا من عباد الله في البحر، كان يخرج إليه من الماء، يُعطيه من الأسماك ما يعود بها إلى بيته. وكان الماء يقذف السمك ناحيته.
اشتهى الأولاد حلوًا، فدخل إلى المطبخ. وضع قطعًا من الخبز الناشف في حلة بها ماء. أوقد عليه النار، ثم قدَّمَه إليهم. فأكلوا حلوًا لم يتذوقوا أطعَمَ منه.
حين علا صراخ عثمان بطلب قطعة هريسة من صينية عم محمد الطوشي، واجهته نظرات أم محمد المتحيِّرة. أخذ قطعة من جير الحائط. هرسها في يده، ودفعها إلى عثمان، فأكلها ملتذًّا.
عندما طلب منه هاجس أن يدعو على الأولاد الذين يعاكسونه، فتقبض أرواحهم، تذكَّر محمد وأبو بكر وعمر وعثمان، فأشفق على الأولاد.
كان يخرج إلى صلاة الجمعة في أبو العباس. يخترق الشوارع المحيطة. يتأمل حركة الميدان. يصعد الدرجات الرخامية. يمضي بين المصلين، لا يرونه ولا يسمعون دعواته، ولا يشعرون بملامسة ثيابه. يقف في موضع خالٍ، في جانب أحد الصفوف. وكان إذا قام إلى الصلاة، شاهد الكعبة، وصلَّى في حرمها. فإذا انتهت الصلاة، سار إلى مقام السلطان، يقرأ الفاتحة، ويردِّد الأدعية، ثم يتجه إلى السيالة من الباب الملكي، لا يراه إلا الخواص. وكان يطير إلى قبر الرسول كلَّ ليلة، يقرأ صحيح البخاري على الأذن الشريفة.
قال قاسم الغرياني إن علي الراكشي زاره في المنام، قبل ليلة واحدة من موته، وطلب منه أن يحضر غسله. وحين دنا الموت، رأى ملائكة بِيض الوجوه، كأنَّ وجوههم الشمس، معهم أكفان وحنَّة من الجنة. وقال ملك الموت فوق رأسه: اخرجي أيتها النفس الطيبة إلى مغفرة من الله ورضوان، ثم نام وعيه في تسبيح الملائكة. واتجهت الأعين إلى مصدر ارتطام، أو انفجار. رأوا الصخرة المواجهة لكورنيش الميناء الشرقية، بالقرب من الموضع الذي غرق فيه علي الراكشي، قد تفتَّتت تمامًا. تحولت إلى صخور صغيرة وتراب، ثم ابتلعتها المياه، فلم يبقَ منها على السطح شيء. وتلبست عسكري السواحل حالة من الجذب، خرجت به عن نفسه. تركه رؤساؤه لحاله، بعد أن ألقى البندقية، ونزع بدلته الميري، ومضى إلى حيث لا يدري أحد.
لما وُضع على الخشبة ليُغسَّل، راح يحرِّك إصبعَيه بالتسبيح. وسقطت الخرقة الساترة للعورة على فخذَيه، مد يده، وعلا بها، فغطت ما كان مكشوفًا. وأخذ محمد صبرة من ماء غسله. وضعه على جراح المتردِّدين عليه، فعافاهم الله. وارتفع صوته بعد أن وسد جثمانه التراب: … الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ. وأخطأ القارئ في تلاوة آية من سورة الرحمن، فرد عليه خطأه من داخل القبر.
تمنَّت أن تراه في المنام. جاءها، في الليلة نفسها. كان يرتدي جلبابًا أبيض، ويلف حول رأسه تلفيعة بيضاء. أوصاها أن تقرأ عند رأسه فاتحة البقرة وخاتمتها، وقال: وُعِدت أن يغفر الله لمَن تبع جنازتي.
سألته: ما الذي سمعته عندما حضرك الموت؟
قال: هتف فيَّ هاتف: يا علي أجِب داعي الله، فأجبته ولبَّيت أمر ربي.
– بماذا أجبتَ منكر ونكير؟
– سألاني مَن ربك؟ قلت: هو الذي نذرت دنياي لآخِرته.
استطرد في لهجة مطمئنة: ليس قبري ما رأيتموه. أفسحت الملائكة في قبري مد البصر، وفرشته بفراش من الجنة، وتغطيت بغطاء من الجنة، واستضأت بنور قنديل من الجنة. سيظل — كما أخبرني الملائكة — في موضعه، حتى يبعثني الله من قبري.
حبست المرأة نفسها — إلى ما بعد الأربعين — في حجرتها، لا تخرج إلا لقضاء حاجة، ولا تتكلم إلا معه. يأتيها في اللحظات التي يختارها. يحدِّثها عن عِبَر الحياة الدنيا، وما يلقاه في الحياة الآخرة من سعادة وهناء.
ظلَّت تتردَّد على قبره، يتلو القارئ سورة البقرة، تجعل ثوابها لأهل المقابر. اعتادت وجود حمامة بيضاء على الشاهد الحجري. إذا أحسَّت باقتراب أحد، طارت، واستقرَّت فوق السور، حتى يخلو الحوش، فتعود إلى مكانها على الشاهد.
قالت: أين أنت الآن؟
قال علي الراكشي: مع أولياء الله في الجنة.
– كيف تحيا؟
– فارقني الحزن … عرفت الراحة أخيرًا.
همست مؤنبة: هل أنت راضٍ عما تركتنا فيه؟
أتاها الصوت من داخل القبر: تركتكم في رعاية الله … ولو أني عُدت إلى الحياة فلن أبدِّل طريقي.
روى أنه استقبلته — حين خرج من القبر — نوق بِيض، لها أجنحة، عليها رحال الذهب، ويتلألأ شُرُك نِعالهم كل خطوة منها كمد البصر. وصعد به ملكان — في أصوات الصلاة والتسبيح والتحميد والتكبير — إلى السماء الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة، إلى سدرة المنتهى. ينتهي إليها كل شيء من أمر الله، لا يُجاوزها.
علا صوت بسورة الرحمن، فاهتز كل شيء في الجنة. قال أهل السماء: روح طيبة جاءت من قبل الأرض، صلَّى الله عليكِ، وعلى جسد كنتِ تعمرينه. أُعيد إلى الأرض، لتجهيزه، وتكفينه، ودفنه. وروى أنه لما قُبضت روحه، جعلها الله في قنديل من زبرجد وياقوت، وعُلِّقت وسط الجنة، ضمن قناديل معلَّقة أخرى، لا تنتهي. لا ليل ولا نهار، العرش سقف الجنة، ومن السقف ينداح النور، فيغطِّي كل شيء، فهو ضوء أبدي، والحجرات ليست معلَّقة، ولا هي مشيدة على أعمدة، والأنهار تجري بالماء والعسل والخمر، عليها قباب من الياقوت ومن الزمرد ومن المرجان، والأشجار متجاورة متشابكة الأغصان، متدلِّية الثمار، بلا أفق، عليها أجراس من الفضة، تهب عليها ريح الهفهافة من تحت العرش، تحرك الأجراس بأصوات لم يسمع أجمل منها في الدنيا، والأجواء تتضوَّع بأريج عبق، والطيور فوق الرءوس تغرِّد بأنغام جميلة، وتنفض أجنحتها، فينتشر المسك والعنبر. نادى منادٍ: لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، ولكم أن تحيوا فلا تموتون أبدًا، ولكم أن تشبُّوا فلا تهرمون أبدًا، ولكم أن تنعموا فلا تيئسون أبدًا. ودخل عليه الملائكة مسلِّمين مهنِّئين له، حاملين الهدايا والمواهب والخلع. قالوا: سلام عليك بما صبرتَ فنعم عُقبى الدار. وقالوا: أنت حي بحياة أبدية. يلتقي أهل الجنة، بعضهم ببعض، يختلط ذوو المكانة المرتفعة ومَن هم أدنى، يُسقطون الفوارق كأنهم في الصلاة. لا خوف، ولا حزن، ولا إصابة بهم، ولا كراهية، ولا وسواس، ولا مرض.
قال إنه تزاور مع أبو الحسن الشاذلي والمرسي أبو العباس وياقوت العرش والبوصيري والسيوطي وكظمان ونصر الدين وجمعة العدوي والشيخ عرفة الأنصاري وسباعي سويلم وغيرهم ممَّن سبقوه إلى نعيم الجنة. انتقل إليهم، وانتقلوا إليه، على خيل مسرَّجة، لا تروث، ولا تبول، يركبونها إلى حيث يلتقون. أقبل عليهم بفرحة الغائب عن أهله. وثمَّة أسواق لا بيع فيها ولا شراء، يتحلَّق المترددون عليها في مجموعات، يتذاكرون كيف كانت الدنيا، وكيف أخلصوا في عبادة الله، وكيف كانت أحوال الفقراء في الدنيا، وأحوال الأغنياء، وكيف جاء ملك الموت، فبشر بالنعيم الدائم.
قُدمت له الأطباق، فأكل منها، ثم قُدمت له أطباق أخرى، رأى أنها مثل الأولى. قال: هذا الذي رُزقتُ من قبل. قال ملك: كُل … فاللون واحد، والطبق مختلف. ما يكاد يضع الثمرة في فمه حتى يتبدَّل مكانها مثلها، وأكثر. تردَّد على الأماكن المباحة للصيد، لا يقتل، ولا يكسر، ولا يسلخ، ولا يجرح، ولا ينزف دمًا، ولا يتعب نفسه. يمسك الطير بيده، أو بكفَّة نور، أو شبكة نور، أو ما شاء الله، بلا خوف منه أو منها. تصبح في يده لحمًا مطبوخًا أو مشويًّا. يأكل منه حتى يشبع، ثم يعود الطير إلى حالته الأولى، ويعاود الطيران. ويريد الشرب من إبريق. يطير إليه، فيشرب، ويعود الإبريق إلى موضعه. يأكل — مثل كل أهل الجنة — ويشرب. لا يبول، ولا يتغوط، ولا يتمخط، إنما هو عرق ينفذ من جلده مثل ريح المسك.
قال لها في تأكيد: لا تنشغلي بي، فأنا أرعى في الجنة.
وقاومت المرأة خجلها، ثم همست: قال لي الشيخ علي: إذا أردت أن تكوني زوجتي في الجنة فلا تتزوجي من بعدي.
ثم بصوت منسحب، كأنه يبتعد: اهتمي بنفسك، وبالأولاد.
أعفى عم سلامة، صاحب البيت، أم محمد من دفع المائة والثمانين قرشًا قيمة الإيجار. قال إن لعلي الراكشي أفضالًا في عنقه.
اتجه الرجل إلى محمد علي الراكشي متأملًا: تريد الفتونة إذَن؟
علا صوته دون تدبُّر: ما يهمني أن أدافع عن نفسي.
خمَّن من صمت الرجل وشروده، أنه انصرف عنه.
فاجأه الرجل وهو يتهيأ للابتعاد: قابلني غدًا بعد صلاة العصر في حديقة سراي رأس التين.