أين أنت؟
صحا على كرشة نفس، حطت على صدره.
رفع الغطاء، وأسند ظهره إلى السرير. تمتم بآيات وأدعية.
هل كان حلمًا؟
بدا سيدي البوصيري أمام الباب بقامته الضئيلة، وملامحه المنمنمة، الجميلة، والمسبحة الهائلة الحبات تتدلى من يده.
أفسح الطريق للبوصيري. في داخله الارتباك والدهشة والفرحة.
جلس البوصيري على المقعد المواجه لباب الشقة، والضياء ينبعث من داخله، ومن ملابسه.
عصته الكلمات، فلم يجد ما يقوله.
أطال البوصيري تأمله بنظرة فيض إلهي، ثم اختفى.
نهض إلى النافذة، فواربها. اقتحم نور الضحى الحجرة. هم بالعودة إلى السرير، ثم عدل. ومضى إلى الصالة.
تمطت الوحشة، باردة، مقبضة، بنت أعشاشًا في أركان الشقة.
كان يتحسس الصمت، ويتنفسه. يتمشى بين قطع الأثاث الساكنة. يداخله إحساس بالوحدة. هو وحده في الشقة. بعد أن يتمدد في السرير، ينهض. يضيء نور الصالة. يطمئن إلى إغلاق النوافذ والبلكونات. تترامى حركة مفاجئة أسفل الطريق. تتسلل نظرته من خصاص النافذة. عربة كارو تقرقع عجلاتها على أسفلت الطريق. يعود إلى السرير، يتمدد على ظهره. يفرج ما بين ساقيه، ويضع يديه خلف عنقه. يحدق في السقف، ويسرح في اللاشيء. تتحرك التكوينات في السقف والجدران. تتشابك، وتختلط، وتتعارك، وترقص بما يذهله. يتمدد، يتكور، يتمطى، يحتضن الوسادة، يتحسس نعومتها بخدِّه. يغفو، فيوقظه تلاقي أصوات المؤذنين في الجوامع القريبة. يسعل وهو يتهيأ للوضوء. يلاحظ تغيرًا في صوته. يعاود السعال، ينتحله، ليتأكد. يهز رأسه في عدم تيقن. ربما دار في الشقة يدندن بأغنية كانت آخر ما استمع إليه في الراديو قبل أن يغلقه.
ضايقه توقف بندول ساعة الحائط. سحب كرسيًّا، وملأ الزمبرك. تأملها. راجع الوقت على ساعة يده.
امتدت يده بتلقائية، تسحب القميص والبنطلون من الشماعة.
لم يعُد يطيق البقاء في الشقة. بدَت له سجنًا، يصعب عليه الحياة داخله. الوحدة والسأم والفراغ. يتردد على البيت للنوم، أو لتناول الطعام. لاحظ أنه يجد عناءً فيما كانت تفعله علية. ربما اكتفى — في الغداء — بقطعة جبن، أو سندوتش فول يعود به من الطنطاوي في شارع التتويج. ربما عاد بأقة كعك يغمس منها في الشاي. يخفق في استجلاب النوم. يسحب كتابًا، ويحاول قراءته. يغلبه شرود ذهنه، فيطوي الكتاب. يتصور نفسه في قلب مظاهرة، يهتف ويهتف ويهتف. ليس ضد أحد بالذات، لا الملك ولا الإنجليز ولا أي أحد. مجرد أن يعلو صوته بالهتاف.
هل ينام فلا يصحو؟ وماذا لو تأخرت النهاية؟ هل تسبقها أمراض الشيخوخة؟ هل يجد نفسه — ذات يوم — عاجزًا عن النزول إلى الطريق، والجلوس مع أصدقاء القهوة؟ تحاصره الوحدة، لا يطرق عليه الباب أحد؟
فكر أن ينزل من البيت في موعد الذهاب إلى الحقانية: تطالعه الدكاكين، أغلق معظمها أبوابه، والشبابيك تفتح مصاريعها، للنهار وهدوء الشوارع، والمستلقين على الأرصفة لصق الجدران، وجياد السراي في نزهتها الصباحية، وقرقعة عربات الكارو، وباعة اللبن والخبز، ونداء بائع الصحف أمام أجزخانة جاليتي، وإطفاء عفريت الليل — وهو يعدو — فوانيس غاز الاستصباح.
لمح إبراهيم سيف النصر يشخص بنظره ناحية ميدان الخمس فوانيس، كمن يتوقَّع قدومه.
هلل لرؤيته في فرحة ظاهرة: أين أنت يا رجل؟
ألغى سيف النصر تصوره القديم عن الأسرة ذات الولد والبنتين، أو البنتين والولد، دخلوا الجامعة، وإن لم ينهوا التعليم. كلمه عن مرض القلب الذي أصيبت به زوجته، عقب الولادة الثانية، فمنعها من الإنجاب. له ولد في السنة الأولى بكلية الآداب، وابنة في التوجيهية: هل ستكتفي بالشهادة؟
– هذا على أيامنا … الشهادة الجامعية رخصة في يد البنت.
توقفت علية عن التعليم منذ الثالثة الابتدائية، وظلت نبيلة إلى السنة الأولى في نبوية موسى الثانوية. لم ينصحهما بالمواصلة أو التوقف. اكتفى بالإنفاق، ولم يأخذ منهما ويُعطي فيما يخص المستقبل. لم يحاول حتى أن يدخل حجرتهما، وإن طالت الجلسات في حجرته، وفي الصالة، وفي الشرفة المطلة على سيدي البوصيري.
مال إلى الرجل. راقته صحبته. استهوته التلقائية في ملاحظاته وتعليقاته. لا يضع سترًا على خصوصيته. يبوح بها عفو الخاطر. إذا كان أدهم أبو حمد هو الأذن المنصتة. يحرص على تعبيراته، يختار الجملة والكلمة والحرف. يشغله إلَّا تحمل الكلمات أكثر مما تعنيه، فإن إبراهيم سيف النصر هو النقيض. صورة الحياة في بيته، تتبدل بتبدل الحكايات: الزوجة المريضة بالقلب، تتسلم المرتب أول كل شهر، وتؤلف الجمعيات مع الجيران، وتحسن التدبير والتصرف. الولد يحب مشاهدة مباريات كرة القدم في ساحة السيالة، والبنت تفضِّل سماع الراديو على المذاكرة.
استنفدا كل ما بحوزتهما من ذكريات وملاحظات وآراء. اقتصرت ملاحظاتهما على نبأ في الراديو، أو حالة الطقس، أو قراءات قريبة. بدا سيف النصر على صلة طيبة بعدد كبير من أهل بحري، وصديقًا قديمًا لكل من يحدثه. يلقي التحية، ويتلقاها، والابتسامة ثابتة على شفتيه، والأسئلة عن الصحة والأحوال. يدخل في مناقشات وأسئلة وأجوبة. يبدو شخصية بلا ظلال.
اعتاد جلسات القهوة: أحاديث السياسة والأقدمية والدرجة الثابتة بمعاش، والدرجة الثابتة بدون معاش، والاعتماد الدائم، والاعتماد الوقتي، والأسعار، والرياضة، وأفلام السينما، وأحوال البحر، والضحكات، والنكات، والوشاية، والنميمة، والثرثرة لمجرد قتل الوقت. يضيق بجلسة القهوة. يستأذن، ويميل إلى شارع إسماعيل صبري، حتى شارع الميدان. يخوض الزحام. يتأمل البضائع المصفوفة أمام الدكاكين، وعلى جانبي الشارع. يسأل، ويفاصل، ويشتري بعد تردد.
نظر إبراهيم سيف النصر في ساعته: هل سرقك النوم؟
وغمز بعينه: يا بختك … لا زوجة ولا أطفال.
هل جربت الحياة بلا ونيس؟ الحياة الفارغة، الباردة. الوحدة والصمت وتداعي الذكريات؟ لا تجد من تكلمه، فتكلم نفسك. تزهق من سماع الراديو، والقراءة، وارتفاق النافذة، والجلوس في الشرفة، وتأمل تكوينات الطلاء في السقف والجدران، وتراقص الأضواء والظلال. تجهد الذهن في السرحان. تنتبه إلى قدوم الليل، وقدوم الفجر. تفتح عينيك على إطباق الظلمة. تختفي المرئيات والظلال. ليس إلا السواد المتكاثف. ربما تفاجئ نفسك وأنت تخاطب المدى الساكن، وقد تسأل في تحير: ماذا أفعل بهذه الحياة؟
هو حصان أضناه السير الطويل، بلا هدف. مساحات الفراغ واسعة. لا نهاية في الأفق، سوى ذلك المجهول الذي تغيب فيه حياته.
حين دس المفتاح في الباب، وفتحه. بدَت له الشقة غارقة في السكون. فوجئ بوقفته المترددة: ألا يريد أن يدخل؟ هل يموت بمفرده، لا يشعر به أحد إلَّا حين تنبعث رائحة جسده؟
داخل صوته تأثر واضح: أبقاك الله لأولادك!
قال سيف النصر وهو يشير إلى رجل معمم جلس في الناحية المقابلة من الطاولة: الشيخ قرشي … قارئ جامع سيدي علي تمراز.
قال الشيخ قرشي وهو يحكم العمامة فوق رأسه: أنا واحد ممَّن وصفهم الرسول ﷺ بأنهم أطول الناس أعناقًا يوم القيامة.
لاحظ حشرجة في صوت الرجل: لا بأس.
وهو يجري براحته على صدره: أصبت بنزلة برد أثرت في صوتي. تركت جو الجامع الدافئ إلى جو الطريق البارد، فتأثر صدري وأحبالي الصوتية.
اصطنع سيف النصر لهجة مشفقة: المهم ألَّا تتأثر مواضع أخرى في جسمك!