بعيدًا عن منطقة الأعراف
ترامى الصوت خافتًا من وراء النافذة. أقنع نفسه بأنه نبش قط في الزبالة. أصاخ السمع، فرجح أنها عضعضة كلب في قطعة عظم. ثم خمن أنها هبة هواء مفاجئة. ثم خاف أن يكون الصوت من خدع الشيطان.
فرك عينيه، وأعاد التحديق في الفراغ الممتد أمامه.
أيقن أن أحدًا معه في الحجرة. نظر — بتلقائية — ناحية الباب. وجده مغلقًا.
تنبه للصوت من النافذة. أسفل الطريق، أو من البيت المقابل.
خمن أن اهتزاز زجاج النافذة لهبَّة هواء. ثم تذكر أن الليلة صيف. اتجه بنظرته ناحية النافذة. كانت الضلفتان مفتوحتين، تستندان إلى جدار الحجرة. وكان الشيش مواربًا.
أصاخ السمع، فتأكد.
فتح النافذة، فاقتحمت الظلمة الساكنة عينيه. ليس ثمة إلَّا ضوء خافت من عربة كباب أول السيالة.
ثمة شيء في داخله يخوفه، يتوقع ما لا يتخيله، ولا قبل له على مواجهته.
تعالت طرقات، عمق من شدتها الظلام، والسكون، وفقدان التوقع.
صرخ: من؟
أعاد السؤال.
توالت الطرقات، وإن لم يصِله جواب. أصاخ سمعه. تأكد من وقع أقدام خارج الحجرة. حدج أكرة الباب بنظرة خائفة.
فتح الباب، فلم يرَ أحدًا، وإنْ ظلَّ الصدى يتردد حوله. الأنفاس والضحكات والصيحات تملأ فراغ الحجرة، تملأ فراغ الشقة كلها. رآه وهو يُلقي الحقيبة على الكنبة، يكشف الحلل في المطبخ، يتذوق ما يجده فيها. استطال البالطو على الشماعة في صورة الولد.
اقتحمه الخوف: بسم الله الرحمن الرحيم.
حاول استدعاء الآيات المنجيات وأسماء الله الحسنى.
قيل إن عروس البحر أخذته إلى قصرها في القاع. اجتذبتها عيناه البنيتان، وملامحه المنمنمة. جعلته واحدًا من أولادها الكثيرين. غاص البهاء، وطفا، واختنق، وشرق، ودفع باليدين والرجلين، واستغاث، واندفع الماء في فمه.
توالى ضرب الأولاد على الصفائح وأواني النحاس، وكل ما يصدر صوتًا، حتى تفزع عروس البحر، فتطلق الولد … لكن الليل جاء، وجاء الصباح. وتوالت الأيام، دون أن تطفو جثة الولد إن كان قد مات.
لم يعُد يطيق البقاء في البيت. تترامى الأصوات من الشارع. تملأ جو الحجرة، فيختنق. يتأكد من إحكام إغلاق النوافذ، حتى التي تطل على المنور الداخلي يغلقها جيدًا. ينزل الشارع. يجول بلا هدف. لا يتعمد الميل، أو التوقف. يطول طوافه حول أضرحة الأولياء. حتى الأضرحة التي لم يكن يعرف بوجودها، صادفها في سيره: سيدي كظمان، السيدة مدورة، سيدي كشك … ربما غادر الشقة لصلاة الفجر. يظل في ياقوت العرش أو أبو العباس حتى يهم الخادم بإغلاق الباب. يتمشى في ميدان الأئمة، أو على شاطئ البحر، يمضي إلى أحد القهاوي المتناثرة.
فوجئ بالميكروفون يقتحم الحجرة. استقر وسط السقف. تعالى الصوت — قبل أن يلملم نفسه — فارتجت الحجرة. لم يميز الكلمات. تداخلت، تشابكت، فبدت أحرفًا منفصلة. انكمش في السرير. دس نفسه — بالخوف — تحت الغطاء. ضم ركبتيه إلى صدره. سحب المخدة بأصابع مرتعشة. وضعها على رأسه. كتمها بساعديه.
علا الصوت، فزاد انكماشه، وأرهف السمع.
أحس بحركة في باب الشقة. ثمة من يحاول علاج قفل الباب.
تحركت أكرة الباب: من؟
تهيأ لاقتحام الطارق الحجرة. يسحبه من السرير. يفاجئه بما لا يتصوره.
اقتربت الأنفاس الساخنة. لامست وجهه. انتتر مفزوعًا. قذف بالغطاء، وجرى حافي القدمين.
كان ياقوت قد كوم الكراسي لصق الحائط، وبدأ في دلق الماء، داخل القهوة، وعلى الرصيف، ودفعها بمكنسة من القش.
هتف ياقوت وهو يتأمل القدمين الحافيتين: خيرًا يا إسماعيل أفندي.
كان الصباح في أوله. وكان ياقوت يعد الطاولات والكراسي، ويكنس، وينثر نشارة الخشب أمام القهوة.
قال من بين لهاثه: أبدًا … جفاني النوم، فتركت البيت!