تلاشي الأصداء البعيدة
انتظر قدومها في الموعد، فلم تأتِ. خمن أنها ربما عانت مرضًا مفاجئًا. لما طال غيابها، داخله قلق. مال إلى كشك سيد.
عبد الله أفندي الكاشف؟
روت لي — زمان — عن مضايقة الرجل لها، فماذا تبدل حتى تقبل العودة للخدمة في بيته؟
– ليتك تعودين إلى البيت.
خبطت صدرها بيدها: وأين أنا الآن؟
– أقصد … لا داعي للخدمة في البيوت.
أظهرت الضيق: أنا لا أخدم في البيوت.
قال: وعبد الله الكاشف؟
شهقت: ما لك يا سيد؟! إنه مثل أبي.
– شكوت لي من مضايقته لك.
– كنت مخطئة … وأسأت فهم كلامه.
– هل أُقصِّر في الإنفاق على البيت؟
– وهل يضايقك أن أساعد في الإنفاق.
– الرجل مسئول عن بيته.
ثم بملاينة: تحتاجين للراحة كما نصح الطبيب.
– أنا أحافظ على صحتي … وأنفق على نفسي.
– حتى مصروفك مسئوليتي.
– أنت هكذا تضع العقدة في المنشار!
– قولي إني أريد قطع دابر الخلاف!
قال سيد وهو يتشاغل بترتيب البضاعة: أنسية لم تعُد تحتاج إلى الخدمة في البيوت.
قال عبد الله الكاشف: أنسية ليست خادمة … وأنا لا أعتبرها كذلك.
قال سيد: واقع الحال أنها كانت خادمة … وهي الآن زوجة لرجل.
انداحت — في داخله — الأصداء البعيدة. تماوجت، وتشابكت، فغابت الملامح المؤكدة. حين لمَّح لأنسية، كان يغالب شعورًا لم يتدبره. أقرب إلى اليأس، أو محاولة النفاذ من حصار. لحظة قذف بها الفراغ القاسي الذي يحياه. أثارته وهي تقف أمامه بملابس مبتلة، التصقت بلحمها. بدت كغشاء رقيق شفيف، يبين عن لون البشرة. أهمل اللحظة التالية، وماذا يجب أن يحدث. لم يدُر بباله صورة العلاقة التي لمَّح للمرأة بها. رفض مجرد التصور أنه ربما يصحبها إلى حجرة النوم، أو أن العلاقة بينهما ستتأثر بما حدث. شاهد — زمان — فيلمًا في سينما الكونكورديا بالمنشية. أغوى السيد خادمته، حتى أسلمت له نفسها. لم تعُد — في اللحظة التالية — تناديه: يا سيدي! نادته باسم التدليل الذي تناديه به زوجته.
هل شجعته وقفتها على باب الحجرة؟
حافية، تجفف يديها في جانبي الجلابية، وتتكلم. تروي مشاهدات في الطريق، تسأل، تطلب رأيه، تضحك، تلتمع عيناها بما يدفعه إلى تصورات.
تأملها وهي تتجه إلى المطبخ، القوام ملفوف، وخطوط الجسم واضحة تحت الجلباب، والردفان يهتزان بعفوية، واتساخ الساقين لا يخفي امتلاءهما، ولا استواءهما، ولا صفاء البشرة.
استأذنت في أن يترك الحجرة، حتى تنظفها.
قال: كانت أختي علية تتولى تنظيفها.
روى لها عن حياته، في البيت، منذ طفولته. قوة غريبة لا عهد له بها، أنطقت لسانه، جرت بالكلمات دون أن يتدبر المغزى، ولا لماذا قالها. أنسية تنظف وتكنس، وهو يلاحقها بالروايات المتناثرة، والمختلطة. كانت تومئ، فتهبه الأمل. تعود إلى عملها فيلملم خشيته، ويلزم الصمت. خشي أن تسيء فهمه، فتعامله بما لا يليق بسنه ولا مكانته.
توزعته الحيرة. المشاعر في داخله: هل هو الحب؟ أو هي مجرد رغبة؟
ياه! في هذه السن؟!
لم يكُن قد عرف امرأة في حياته، فكيف يعرف أن هذا هو الحب؟
أشفق على نفسه مما حدث. هل ضايق أنسية، فصدَّته، أو أن ما حدث لم يكُن سوى حلم؟ تصور أن الأمر كله سينتهي لو فتح عينيه. لو استيقظ مما هو فيه.
لو أن أنسية أسلمت له نفسها، من يدري؟ هل كانت تعامله مثلما تعامله الآن؟ هل كانت تقول له: يا أستاذ، ويا سيدي، وتخفض عينيها في وجهه؟ هل كانت تتقبل ملاحظاته وتوجيهاته وغضبه؟ هل كانت تكتفي بدورها كخادمة، أو تطلب مزايا العشيقة؟ تدخل الشقة، وتخرج منها بلا إحم ولا دستور. تظل في البيت سواء كان لديها عمل، أم لمجرد أنها تريد البقاء. تأخذ ما ترى أنه حق لها، لا تطلعه عليه، ولا تستأذنه. وهل كان يستطيع طردها؟ وماذا يفعل لو أنها رفضت قراره؟
لم يدُر بباله أنه سيضاجعها، أو أنه — بالتحديد — لم يشغل باله بما بعد التلميح: كيف يتصرف لو أنها وافقت. ظلت المساحة بيضاء، لم يملأها بتكوينات ولا ألوان ولا ظلال. شيء لا يعرف كنهه، لعله الملل أو الوحدة، دفعه إلى التلميح بما لم يتصور أنه يفعله. ومض كالبرق الخاطف في سماء سوداء، خالية من النجوم. ضايقه رفضها، كلماتها الساخطة، ثم تواصلت السكينة في داخله. أخذ جانبًا. يقضي الوقت — ساعات عملها — في الشرفة المطلة على البوصيري.
رآها — مرات كثيرة — في دخوله البيت، وخروجه منه. عرف أنها تتردد على شقة المعلم عصفور في الطابق الأرضي. تطل من الخلف على دحديرة أبو العباس. أبطأ من خطواته وهي تعالج المفتاح في باب الشقة: كيف حال المعلم عصفور؟
وشت الحمرة في وجهها بالمفاجأة: الحمد لله.
غالب تردده: هل أنت من أقاربه؟
– أنظف له الشقة.
أنقذته جرأته: هل لديك وقت لتنظفي شقتي؟
لما سألها: أين تقيمين؟ اكتفت بالقول: عند جماعة!
أدرك أنها لا تريد أن تخبره أين تسكن. كان قد اطمأن إلى أمانتها. ترك لها مسئولية ما لم يفلح فيه: تجهيز الطعام، وغسل الثياب، وتنظيف الشقة. تغاضى عن العمود الذي لا بد أنها تأخذه إلى سيد في الكشك.
عرف — بالمصادفة — من هي، وحقيقة ظروفها عندما زاره المعلم عصفور في الحقانية. ساعده في إنهاء أوراقه.
فاجأه المعلم بصوت متلون النبرات: لم أكن أعرف أنك شقي.
فاجأته الملاحظة. أهمل ما بيده من أوراق، وتطلع إلى الرجل بعينين متسائلتين.
قال المعلم: أنسية.
– ما لها؟
– عرفت أنها تتردد على شقتك.
– لتنظفها … مثلما تنظف شقتك.
أطلق الرجل شخرة: والمآرب الأخرى؟
– أي مآرب؟
– أنت أعزب فلك عذرك … أما أنا، فأعترف … لا عذر لي.
نفخ في نفاد صبر: أنا لا أفهم شيئًا!
وفتح فمه في ذهول لما رواه الرجل: أنسية تسبقه في الدخول إلى الشقة، والخروج منها. وقال المعلم عصفور كلامًا به إشارات وتلميحات. ثم علا صوته بالدهشة: معقول يا عبد الله أفندي أنك …
قاطعه: أنا لم أعرف هذا الأمر في شبابي … فهل أعرفه الآن؟
أزمع أن يظل باب الشقة مغلقًا في وجه المرأة، لا يفتحه إلَّا إذا ضغطت على الجرس، أو يفتح الشراعة ويطردها، أو يأذن لها بالدخول، ثم يصارحها بأنه عرف كل شيء. من هي، وماذا تعمل.
لما أتت في موعدها، وضغطت الجرس، فتح لها الباب، ثم مضى — كالعادة — إلى حجرته.
قال سيد: إذا أمرتني … أحضر لك بنتًا صغيرة.
واستطرد في نبرة محايدة: بنت شاطرة … أبوها واقف على أورمة في الحلقة.
وربت صدره بأصابعه: أنا أضمنها … كأنها أنسية!