حياة جديدة
حين أعلن عن بدء فتح باب الترشيح للانتخابات، كان برد الشتاء ينداح في الشوارع والأزقة. خلت إلَّا من مارة قليلين، وأغلقت النوافذ وأبواب البيوت والدكاكين، وعلت الأمواج الحواجز الأسمنتية. اقتحمت سور الكورنيش، ووصلت إلى الجزيرة الطولية، أوسط الطريق، وتناثر الرذاذ على الرصيف، في الناحية المقابلة، وعلى واجهات القهاوي والكازينوهات.
عاد الحاج قنديل إلى مألوف جلساته أمام دكان الحاج محمد صبرة وعلى القهاوي. ذكَّره عباس الخوالقة بواجب الصداقة. تقلصت دائرة الأصدقاء القريبين بابتعاد الشيخ طه مسعود عن بحري، وسفر عبد الرحمن الصاوي إلى القاهرة. شارك في المناقشات، وأجاب على الأسئلة، وأصدر النصائح والأوامر.
قال الحاج قنديل: أول ما تفعله بإذن الله، تخفيض الضرائب علينا … وإن أمكن فإلغاؤها.
بطن كلماته بالود: أنت تحدثني عما يخص المعلمين … لكن الصيادين لهم أصواتهم أيضًا.
– الخير الذي يتحقق لنا يصب على الصبيان.
أهمل الحاج قنديل الكثير من الصفات القديمة، وإن ظل حريصًا على صفة المعلم والصبيان. يوافق على الأسئلة، وإبداء الرأي، والمناقشة، ولا يأذن بتجاوز الحائط الزجاجي. محاولة النفاذ منه يواجهها الصبي بلوم وشتائم قاسية. ربما طرده من المكان. يبتعد، فلا يعود إلَّا إذا رفع عنه الحاج غضبه.
قرأ حمادة بك الفاتحة مع الحاج قنديل. يضمن له أصوات الصيادين والسماكين والمترددين على الحلقة. أوكل لعبد الوهاب مرزوق مهمة كتابة كلمات الدعاية على الأوراق واللافتات والملصقات. قرر عبد الوهاب مرزوق أن يستغني بذلك — ولو أيام الانتخابات — عن زيادة الدخل بإعطاء الحقن في البيوت.
قال الحاج قنديل: السرادقات مهمة جدًّا … الجولات وسيلة الفقراء … ولا قيمة لها!
استطرد وهو يعدل النظارة فوق أنفه: الناس يهمها الأنوار والزينات والخطب!
ثم وهو يومئ ناحية القهوة: ولا تنسَ المعلم الزردوني … تأثيره على الناخبين يفوق تأثير أولياء الحي على عباد الله.
قال الزردوني في لهجة واثقة: هذه قهوة سياسية منذ أيام سعد زغلول … من يأخذ أصوات زبائنها، ضمن الفوز!
قال عباس الخوالقة: بوسعك أن تطلب من المعلم الزردوني توزيع شربات النجاح.
قال حمادة بك: الانتخابات لم تبدأ يا حاج.
هز كتفيه في استهانة: اعتبرها انتهت … الفوز مضمون بإذن الله.
كان حمادة بك قد عرف الطريق إلى المناسبات. يشارك في الأفراح، وفي الجنازات، ويجلس في سرادقات العزاء. وقع كوكيل على عقود للزواج، ودفع النقوط، وأرسل برقيات التهاني. سلم على أصحاب الدكاكين، والجالسين على الأرصفة وأمام أبواب البيوت. حتى المارة في الشوارع، يمد يده بالمصافحة دون أن يتأكد من الملامح. هز رأسه في حلقات الذكر بأبو العباس وياقوت العرش والبوصيري وأمام نصر الدين. التقى بالناخبين في القهاوي والدكاكين والجوامع والشوارع. زارهم في البيوت. حتى مباريات الكرة في الساحة الملاصقة لحلقة السمك، حرص على مشاهدتها. وكان الرجال يزفونه، ويهتفون له، والنساء يزغردن من النوافذ، وعلى أبواب البيوت.
تبرع بعشر قطع من السجاد الشيرازي لجامع أبو العباس. هو قطب الإسكندرية، وسلطانها، وأهم أولياء الحي. وأعلن عن فتح فرن التمرازية يومًا في كل أسبوع لتوزيع الخبز — بالمجان — على فقراء الحي. كل فرد له ثلاثة أرغفة. وعد بسفلتة شوارع السيالة، وتوصيل المياه النقية والنور، وزيادة مساحة الأرض الجديدة المقتطعة من البحر، أمام مساكن السواحل. يبني عليه مساكن جديدة للصيادين، ومدرسة، ومسجدًا، ومستشفى وملعبًا للكرة. ووعد بصرف تعويضات للصيادين في حالات الغرق، أو تعطل البلانسات، وبإعانات من الحكومة أيام النوات والبطالة. وإقرار مكافأة نهاية خدمة للصياد عند التقاعد، ووعد بأن يجد عملًا لكل متعطل من أبناء الحي، وزيادة حصص التموين من الشاي والسكر للقهاوي، وتوسيع خدمات مستشفى الملكة نازلي، فلا يقتصر على أمراض النساء والولادة وأمراض الأطفال. وأعد للتوزيع على تلاميذ مدارس الحي، أقلامًا ومساطر وكراريس وكشاكيل، طبع عليها صورته.
اتفق مع مطبعة «المستقبل» بشارع الأباصيري، لطبع أوراق الدعاية. تعلوها صورته، وتحتها كلمات كتبها له عبد الوهاب مرزوق. استهواه تفسير عبد الوهاب مرزوق لاستقلاله عن الأحزاب بأن حزبه هو أبناء بحري. صار يردد الكلمات ومعناها في قعداته.
•••
قال الحاج محمد صبرة إن حمادة بك يرشح نفسه عن دائرة الجمرك كلها. إذا أراد الفوز، فعليه أن يمد جولاته إلى شوارع الحجاري وأبو وردة وإسماعيل صبري والموازيني وفرنسا والميدان والتتويج ووكالة الليمون. حتى الأزقة والحواري المتشابكة، المتصلة، إلى ميدان المنشية، عليه أن يجوبها. يسلم على أصحاب الدكاكين، والجالسين في القهاوي والغرز، والمارة.
قال الحاج قنديل: جمال كاتو مرشح الوفد … هو الوحيد الذي نضع له حسابًا.
أومأ برأسه: صحيح.
وربت كتفه: لكن الرجل موظف في الحكومة.
قال الحاج قنديل: أتصور أنه استقال.
قال محمد صبرة: لا تصور في الأمر … القانون يحظر الجمع بين الوظيفة وعضوية مجلس النواب.
قال الحاج قنديل: المهم أنه أفلح — قبل استقالته — في نقل آلاف الأصوات من وزارته إلى دائرة الجمرك ليحققوا له الفوز!
•••
مال عبد الوهاب مرزوق على حمادة بك: لا نريد للشائعات أن تؤثر على نتيجة الانتخابات.
ردد حمادة بك الكلمة: الشائعات؟!
– يدَّعون أنك تضيِّق على عمالك.
شعر أنه قد أُلقيَ إليه طوق النجاة في قلب دوامة. ذهب باله فيما تصور أنه نسيه. أعادته إلى ذهنه الهمسة المفاجئة. السؤال يشغله: ماذا لو أن أنسية باحت بالسر إلى سيد، فنقله إلى أحد خصومه؟
•••
اصطبغ وجه عباس الخوالقة بحمرة داكنة، حين همس قاسم الغرياني بلهجة معتذرة: ولكن حمادة بك لا صلة له بالصيادين.
لما أنقذه قاسم الغرياني من الغرق، منحه نقودًا ونسيه. يراه في القهوة، وفي الحلقة، وفي الطريق، فلا يتبينه، ولا يكلمه، أو يسلم عليه. يكتفي بجلساء الحاج محمد صبرة. إذا لم يجدهم، أو يجد واحدًا منهم، غادر المكان.
صرخ الخوالقة: الرجل يقضي معنا أكثر مما يقضيه في بيته!
كان قد سلم عباس الخوالقة رزمتين من الأوراق المالية، فئة خمسة جنيهات. يقطع الخوالقة الورقة نصفين. يعطي الصياد نصفًا، ويحتفظ بالثاني، ثم يقرب المصحف من وجه الصياد. يقسم أن يعطي صوته لحمادة بك.
استطرد الخوالقة بنبرة غاضبة: نحن نعرف عن حمادة بك أصله وفصله … أما المرشحون الآخرون فغرباء عن الدائرة.
•••
لم يكن خميس شعبان قد أدلى بصوته في الانتخابات من قبل، ولا حمل بطاقة انتخابية. أهمل الأمر حتى رأى قاسم الغرياني يتأمل بطاقته.
– هل لديك بطاقة انتخاب؟
وهو يقلب البطاقة بيده: لم أكُن أعرف شكلها.
قال خميس شعبان: اذهب إلى القسم … لا بد أن اسمك مدرج في جداول الانتخاب.
نفى الغرياني بهز رأسه: لا … إلَّا إذا كانوا قد فعلوها من أنفسهم.
– هل هذه البطاقة لازمة للانتخابات؟
قال الغرياني: لا تدخل لجنة الانتخاب إلَّا بها.
– ماذا أفعل إذَن؟
قال محيي قبطان: حمادة بك يستخرج لك بطاقة.
قال خميس شعبان: وأنتخبه؟
قال محيي قبطان: طبعًا.
قال خميس شعبان: لكنني لا أريد انتخاب هذا الرجل.
قال محيي قبطان: لمَن ستعطي صوتك؟
رمقه في ريبة: لم أقرر.
وتلفَّت — بتلقائية — حوله.
زغد الغرياني محيي قبطان بود: تريد انتخاب حمادة بك … أم مجاملة المعلمين؟
وتنهد في نفاد صبر: بصراحة … سأنتخب جمال كاتو مرشح الوفد.
تلفت حوله هامسًا: حمادة بك صديق المعلمين … فليكتفِ بأصواتهم!
قال حمودة هلول: لكننا أعطينا كلمتنا.
– كلمة الغصب لا قيمة لها.
– لن تنتخبه إذَن؟
أعاد التلفت حوله: ربنا يسهل!
•••
قال عباس الخوالقة لعم سعد صاحب المجيرة بشارع إسماعيل صبري: تعرف أنك لن تفوز … فلماذا ترشح نفسك؟
بدا الخبر كالمفاجأة، وإن ألِف الناس ما فعله في الانتخابات السابقة. يرشح نفسه، ثم يسحب ترشيحه مقابل مبلغ من المرشح الذي يتنازل له.
قال عم سعد: من حق أي إنسان أن يرشح نفسه ما دام يملك التأمين.
– تعرف أنك ستفقده.
– ولماذا لا أفوز؟ أنا من الحي … والناس يعرفونني!
غلف حمادة بك صوته بمداهنة: فإذا تنازلت لأخيك؟
قال عم سعد: سأتنازل بالثمن الذي أحدده … وربما بدت الريح مواتية، فلا أنسحب، وأكسب!
بحلقت عيناه: وتصبح نائبًا في البرلمان؟
هز عم سعد كتفَيه بلا مبالاة: وما له؟ أجيد القراءة والكتابة … وغيري لا يفك الخط!
ورسم على شفتيه ابتسامة باهتة: إذا كان البحر مليئًا بالسمك، فلا تتردد في إلقاء شبكتك.
زفر حمادة بك في ضيق: أنا لا أخشى الرجل نفسه … لكنني أخشى من تفتيته للأصوات!
•••
تناول عم سلامة حبات الملح بإبهام وسبابة يده اليمنى، وألقاها من فوق كتف حمادة بك الأيسر.
ذهب الملح إلى الشيطان، واختفى الشر.