اتساع الدائرة
صحا، فوجد الشقة غارقة في الظلام. هل نسي إضاءة نور الصالة، أو أن الكهرباء مقطوعة؟
أفسحت له يده، حتى اصطدمت أصابعه بالحائط. واصل التحسس، حتى عثر على زر النور.
انداح الضوء، فأدرك أن النوم سبقه قبل أن يضيء نور الصالة. تمدد للاسترخاء، فنام.
تقلب على السرير. استعاد ما حدث نهار أمس. الإعداد للجولة الانتخابية في قهوة فاروق. اجتذبته دوامة المظاهرات والسرادقات والمقار الانتخابية واللافتات والملصقات والهتافات والشعارات. السير وراء المرشح على القهاوي، ومصافحة أصحاب الدكاكين. المشاركة — باستحياء — في ترديد الهتاف: إن جيت للحق … كاتو أحق! صياغة ملصقات الدعاية، وتعديلها، وتصويب أخطائها اللغوية. الجولات الانتخابية، والسرادقات، والمنشورات، والأقواس. اللافتات فوق الدكاكين والقهاوي، وعلى الأعمدة الخشبية، تدعو للمرشحين. أسماء لا يعرف معظمها.
تمنى لو أن القهوة فتحت أبوابها حتى الصباح، فلا يعود إلى البيت. يعاني الوحدة بين الأثاث الساكن، والجدران، والصمت. يتعشى بطعام خفيف: جبنة بيضاء، وزيتون، وعلبة زبادي. ربما اكتفى بثمرة فاكهة. حتى الشارع في أسفل يسكن تمامًا. لا حفيف سيارة، ولا قرقعة عربة حانطور أو كارو، ولا وقع أقدام، ولا نداءات. ليس إلَّا الصمت، يسيطر على مشاعره، يتخلل حواسه.
أصبحت المعركة الانتخابية حياته. يصحو لها، وينام عليها. يتنقل بين المقر الانتخابي لمرشح الوفد في قهوة فاروق وقهوة كشك وبين الجوامع والقهاوي والدكاكين وأندية السيالة. يصحب جمال كاتو في جولاته بشوارع الحي، في مظاهرة أو بمرافقين لا يزيدون عن الخمسة. يعد الشعارات، ويطبع النشرات الانتخابية، ويشرف على تعليق اللافتات فوق الأعمدة، وعلى جدران البيوت وأبواب الدكاكين، ولافتات القماش الأبيض المثقوبة تصل الطوابق الأولى للبيوت المتقابلة. حفظ اللافتات الملصقة على الجدران، ولافتات القماش: ابن الدايرة … نصير الفقراء … الرجل النزيه … صديق الجميع … ابن سعد زغلول.
راقه أن الرجل أستاذ جامعي. تعلم في جامعات أوروبية، وحصل على شهادات ودرجات علمية كبيرة. تأمله وهو يجالس الناخبين، وهو يُلقي خُطَبه في السرادقات، وهو يتعامل مع معاونيه. يكتفي بإصدار الأوامر، ولا يتباسط. يميل إلى الصمت والتأمل. إذا جلس على القهاوي، يجيب على الأسئلة، فلا يزيد.
وسَّطه جمال كاتو لإقناع رشاد الحلاق بشارع جودة حتى يسحب ترشيحه. في حوالي الخمسين. ضئيل القامة، يرتدي جلبابًا من الكستور، دهن شعره بالصابون، فبدا متبلدًا، مشَّطه إلى الوراء. وله عين حولاء، لا يستطيع منها تبين اتجاه نظراته، ونظارته الطبية بلا ذراعين، فاستبدل بهما قطعتي دوبارة التفتا حول أذنيه. وتناثر في وجهه ثقوب دقيقة بتأثير جدري قديم، والكلمات تصدر من سقف حلقه، فتحدث صوتًا كالطرقعة.
قال الرجل: لا أريد سوى التعويض عن رسوم الانتخاب، وتكاليف إقامة السرادق.
قال الكاشف: أي سرادق؟
– دفعت مقدمًا لسرادق … ولا ذنب للفراش في بقية التكاليف.
– كم؟
وهو يتلمس الكلمات: هناك أيضًا ما أنفقته على شراء الأصوات.
تناثر الرذاذ من فم الكاشف: يا رجل … أنت لم تبرح مكانك.
جرى براحته على رأسه في تثاقل: مرشحك هو الذي يطلب تنازلي.
كان يعبِّر بانبساط عضلات الوجه وانقباضها، والتفاتات الرأس، وحركة اليدين، وعلو الصوت وانخفاضه. فإذا أثاره محدِّثه، أطلق شخرة كالخوار.
أعفاه عباس الخوالقة من الحرج. انتحى بالرجل في زاوية قهوة مخيمخ، وحصل على توقيعه بالتنازل.
فوجئ الكاشف في نفسه لما ردد الهتاف وراء إبراهيم سيف النصر. عرف في نفسه الخجل، حتى من الكلام وسط جماعة، لكنه انساق وراء التدافع. خاض زحامًا قرر الخروج منه مرات كثيرة، لولا أن البديل اختفى. تبدأ الجولة من قهوة فاروق. تمضي إلى ميدان المنشية. تخترق الشوارع والأسواق المحيطة، أو تمضي إلى داخل بحري. تنطلق من ميدان الخمس فوانيس، إلى رأس التين والأنفوشي والسيالة. الشوارع القديمة، كثيرة الالتواء، المتشابكة، المتداخلة، تعبق برائحة الزمن. رائحة لها خصوصيتها، تبين عن انتماء المكان إلى بيئة البحر، وثمة فجوات بتأثير الرطوبة والملوحة في واجهات البيوت. والمداخل تضيق بألواح الخشب والفلين والحبال والغزل. ورائحة المعسل المحترق، وبخار الفول يتصاعد من القدور، وطرطشات الطعمية، وقلي السمك. والنساء يتنادين — ويتكلمن — من النوافذ والشرفات المتقاربة، ومن أمام الأبواب. أو يستروحن النسمات المترامية من ناحية البحر. ورائحة لا يدري طبيعتها تصدر من بيوت حارة اليهود، رائحة نفاذة، غريبة، لا يعرف سرها، والقهاوي والمطاعم ودكاكين البقالة والعطارة والسمك والخضروات، والعربات تتقابل — تنفذ منها الجولة بصعوبة — عليها أقراص الجبن التركي وأقفاص الخضر والفاكهة والمصنوعات البلاستيكية وجريد الخبز، ومرساة الميناء الشرقية: المراكب الشرعية الصغيرة، والفلايك، والكواتر، والدناجل، واللواتس … يحاذر برك المياه الطينية في الطريق، أو لا يحاذرها. أجاد التخمين بين مياه الاستحمام المخلوطة بالصابون ذي الرائحة، ومياه الغسيل المصطبغة بلون الزهرة، والمياه المتخلفة من تنظيف السمك.
تتردد الهتافات خافتة. تترك لارتفاع أمواجها انضمام المارة وأصحاب الدكاكين. تتضخم في سيرها. تقترب من المظاهرة.
قال له الجرسون ياقوت في ود يسيل لزوجة: أنا وأنت هتيفة … الفارق أنك تهتف بلا مقابل … أما أنا فأتقاضى خمسين قرشًا آخر النهار.
ثم وهو يجري بأصابعه على رقبته: نبحة صوتي لها ثمن!
خيل له أنه يستمع إلى صوته للمرة الأولى. لا يتذكر أنه علا بصوته من قبل. هي أحاديث متبادلة. أخذ ورد، لا يعوزه ارتفاع الصوت. لم يكن يهتف بصوته. ثمة صوت تنفرج به شفتاه. يعلو ويمتد. يعيد الهتافات. يغالب التردد والخجل. يشفق من أن يراه زميل في الحقانية. سيعود بما رأى، مضيفًا إليه ما لم يفعله، ولا خطر في باله. تتشوه المكانة التي خرج بها إلى المعاش، وربما تسقط تمامًا.
مال عباس الخوالقة على أذن عبد الله الكاشف: إذا كان مرشحك يريد الفوز حقًّا … فإن الأصوات الحقيقية هنا … في الأنفوشي ورأس التين!
واتجه إلى أحمد الزردوني بنظرة محرضة: ما رأيك يا معلم لو أنك رشحت نفسك، بدلًا من التعب لإنجاح الآخرين؟
قال الزردوني: قعدتي في القهوة أبرك من مليون مجلس نواب!
قام ليشرب من القلة الموضوعة على الحامل داخل الشرفة. لاحظ الرجال الثلاثة، تكوموا في حديث هامس على باب ميضأة البوصيري.
حاول أن ينصت — بالفضول — إلى ما يهمسون.
أخفق، فعاد إلى الداخل.