ونفس وما سواها
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ.
«مَن أحب الله، لم يستعمل جوارحه إلَّا فيما يوافق محبوبه، وأنفاسه كلها محفوظة بالطاعة. ولو حيل بينه وبين الخدمة لفارق الدنيا من ساعته، لأن الطاعة قد صارت غذاء أرواحهم، فإن فارقوها ماتوا. نفعنا الله بهم. آمين!»
«وقد يجمع شمله برسول الله ﷺ، فيكون آخذًا عنه، وكفى بهذا منه.»
صعد الشيخ عبد الحفيظ — إمام سيدي علي تمراز — المنبر.
لاحظ سريان الهمس في صفوف المصلين. نظر إلى النجفة المتدلية من أعلى صحن الجامع، وقال: إني أكلمك!
كرر القول بصوت أعلى.
فهم المصلون ما يعنيه، فاتجهوا إليه بانتباههم.
حمد الله، وأثنى عليه، وعلى آلائه، وشكر نعماءه، وصلى على محمد صفيه، وخاتم أنبيائه.
استعاذ بالله من سيطرة الشيطان على العقول، ثم دعا المصلين إلى انتخاب المرشح الأصلح. لم يذكر الاسم، وإن تحدث عن دور الوفد في الحركة الوطنية، ومقاومته لوصاية الإنجليز والسراي.
علا صوت الشيخ: قال رسول الله ﷺ: مَن ولي من أمور أمتي شيئًا، ثم لم يجتهد لهم، ولم ينصح، فالجنة عليه حرام.
همس إبراهيم سيف النصر في نفسه: ينصر دينك يا شيخ عبد الحفيظ … اعتدل الميزان بكلمتك!
كان إمام أبو العباس قد أذهل الجميع بدعوة المصلين إلى انتخاب مرشح الأحرار الدستوريين. أعاد بقية المرشحين حساباتهم، وطالت الجلسات مع المؤيدين.
للشيخ عبد الحفيظ صيته ومكانته. يبدو مهابًا بقامته الطويلة الممتلئة، وهالة الذقن البيضاء المحيطة بوجهه، وتعمده الجدية في أقواله وتصرفاته، وإن علَت شفتَيه ابتسامة هادئة لا تكاد تفارقها. وكان إذا خرج إلى الجامع يهيئ من نفسه، يعنى بتسريح شعر رأسه، وتخضيب حاجبيه وشاربه، ويدهن، ويتطيب بالغسل والاغتسال والروائح الطيبة، ويرتدي أحسن ما عنده.
تزايدت أعداد القادمين من ضواحي الإسكندرية والمدن القريبة، يحرصون على أداء صلاة الجمعة في علي تمراز. يشغلهم ما يقوله الشيخ في خطبه، متابعته للأحداث، ومواجهته للحكومة. يتزايد الزحام، ويتسع. يسد الميدان. يفيض على الشوارع المتفرعة. يصعد ناس — لسماع الخطبة، وأداء الصلاة — إلى أسطح البيوت المحيطة بالجامع. يطل من النوافذ والبلكونات، نساء وأطفال. تجتذبهم الحشود التي تغيبها انحناءات الشوارع، وارتفاع الميكروفون — أعلى المئذنة — بصوت الشيخ عبد الحفيظ. إذا كانت الحكومة تملك الراديو، فإننا نجد التعويض في بيت الله، نلتقي فيه خمس مرات كل يوم، وبالذات في صلاة الجمعة.
عند حلول موعد الخطبة، يصعد على المنبر برجله اليمنى، وهو يتلو أدعية. يرفع رجله اليمنى عند كل درجة حتى يصل إلى المنبر. يلتفت إلى الحضور، ويلقي السلام، ثم يجلس، ليرفع الشيخ قرشي الأذان.
كان يرتجل خطبه. لا يلتزم بالخطب الموضوعة التي ترسلها وزارة الأوقاف. لا يعظ الناس، ولا يذكِّرهم، أو يحذرهم وبال الجدال بالباطل، وما يلحق بالباطل من سخط الله. يتحدث فيما يشغل الناس، ويشغله. يطيل التحدث فيما تنشره الصحف، وتبثه الإذاعات، ويتناقله الناس. يعقب على الشائعات. يقصد وجه الله وحده. لا يرعى خاطرًا لأحد، ولا يجامل مخلوقًا على حساب الخالق، ويجهر بالملاحظة دون أن يعنيه وقعها على نفوس مستمعيه، وإن زاد في الكلمات، أو اختصرها، أو أعاد ما يرى أنه قد غمض عن المصلين. لم يكن يفرق بين رؤساء الوزارات المتعاقبين. جميعهم مسئولون عن المصائب التي تحيق بالبلد. عاب على الحكام أنهم لم يبايعوا الناس على ما بايع الصحابة رسول الله من القول بالحق ونصرة الدين، لكنهم بايعوهم على نظام وقوانين ليس فيها من الشرع إلَّا ما وافق الهوى، والشريعة صالحة لزماننا الحالي. إنهم لا يقيمون الدين ويحاربون أهله. لم يأخذوا البيعة من الناس بصفقة اليد وثمرة القلب، ولا بالطوع والاختيار، إنما بالجبر والقهر. قال: إن الطاعة لا تجب لمن لا يقودنا بكتاب الله. وعاب على وجهاء البلد أنهم آثروا الدنيا، واقتربوا من السلطان. وأكد أن الله لن يسأل الفقراء يوم القيامة عن زكاة، ولا عن حج، ولا عن صدقة، ولا عن مواساة، إنما هو يسأل الأغنياء عن هؤلاء المساكين. وعاب على المسلمين أنهم يريدون الإسلام بلا عزة، والدنيا بلا سلطان، وأنهم أبطلوا الجهاد، ولا يحبون ذكره. وعاب على الجميع قلة الورع، وعدم التقوى، وطول الحساب، ومخالفة الشرع، ونشر الكتاب، وكثرة الطالبين، وتعلق المظلومين بالظالمين، والكذب، والغيبة، والنميمة، والزور، والبهتان، وصحبة الأشرار، ومخالطة الأراذل. وقال: مشكلة المسلمين في قلوبهم وليست في عقولهم.
لم تكُن تستوقفه حدة العبارات، ولا سخونتها. يتكلم في القضية بما يفد إلى خاطره. يستعين بآيات القرآن وأحاديث الرسول. وكان أسلوب إلقائه يؤثر في المصلين. وإن جلبت عليه طريقته في الجدل والمناظرة ملاحظات ومؤاخذات.
لم يعرف عنه أنه قبل كسوة، ولا أخذ جراية. الكرامة عنده هي الاستقامة، وإن كان يقبل هدايا الفقراء، ويفرح بها.
اعتبره الناس إمام وقته، لا في بحري فقط، ولا في الإسكندرية وحدها، وإنما في البلاد المصرية كلها. تحدثوا عن اجتهاداته وآرائه، تخالف ما تحدث به أئمة البوصيري وأبو العباس وياقوت العرش ونصر الدين وعبد الرحمن والجوامع الأخرى، فهو عارف للفتوى على المذاهب الأربعة، بصيرًا بأقوالها واتفاقها واختلافها. دعا للعودة إلى أيام الإسلام الأولى، واتباع أحكام القرآن والسنة. وكان يطيل السجود والدعاء والابتهالات والتوسلات، ويكثر من الاستشهاد بآيات القرآن وأحاديث الرسول. وكان يقول: ما جاء به الرسول علينا أن نأخذ به، وما نهى عنه علينا أن ننتهي عنه. أفتى بعدم جواز الشفاعة، والتوسل بالأنبياء والأولياء، ونهى المصلين عن زيارة ضريح سيدي علي تمراز، والشفاعة به. ولم يُخفِ غضبه لما رأى أحد المصلين يضع على الضريح — من بين فرجات الأعمدة النحاسية — رسالة إلى ولي الله.
قال: كتابة الرسائل للأولياء خرافة.
وأردف في نبرة حاسمة: الأولياء قدوة فقط … ولا شأن لهم بعرائض الاسترحام والمظالم.
نهى جلساءه عن قراءة «دلائل الخيرات». قال: إن التوسل بالأنبياء والأولياء كفر، على المرء أن يستعيذ بالله منه.
هاجم في خطبه جماعات الطرق الصوفية. اتهمها بأنها ليست من الدين في شيء. وجد في حركات الصوفية أباطيل تشمئز منها القلوب، وتنفر عنها الخواطر. جاهر برفض التنطع في الدين، والتظاهر بالتقوى والورع، وارتداء المرقعة، والإتيان بالخوارق والأعاجيب التي تسحر أعين الناس: أكل الحشرات والصبَّار، ابتلاع الثعابين والزجاج وقطع الفحم المشتعلة، الضرب بالسيف والدبوس، غرز الإبر والمسامير الكبيرة في الوجنتين والأنف. وعاب على المعتقدات الغيبية، كالسحر، وقراءة الورق، واستخدام الرقى، والعين الحاسدة، وتحضير الأرواح. أنكر ما ينسبه البعض إلى نفسه من علم الغيب، وقراءة الطالع، والتنبؤ بالمستقبل. وحين سارت مواكب الصوفية أمام الجامع في احتفالاتها بمولد أبو العباس، تعالى صوت الشيخ عبد الحفيظ — في الميكروفون — يعيب السلوكيات الباطلة. وقال: إن الإسلام لا يعترف بأعياد الميلاد. حتى مولد الرسول بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ورفض أن تقرأ في صحن الجامع أحزاب الشاذلية. قال: لا أحب إلى الله من «لا إله إلا الله»!
وعندما تناهت دقات دفوف من بيت إبراهيم سيف النصر، المقابل، قال في غضب: هذه أصوات الشياطين!
ظلت أعداد المصلين في تزايد. لم يصرفهم الخوف من غضب المشايخ في الطرق التي يشغى بهم الحي: الشاذلية، والقادرية، والرفاعية، والأحمدية، وغيرها، وإن اعترض عليه مطربش من المصلين، لما أعلن رفضه لقصد زيارة القبر الشريف، دون قصد الجامع النبوي.
صار علي تمراز موصوفًا بالبركة، يتبرك الناس بالصلاة فيه. يشغى بالقادمين من مدن البحيرة والغربية والمنوفية، يدفعهم حب الاستطلاع لرؤية الشيخ عبد الحفيظ، وسماع خطبه. يشغلهم ما يقوله، ومتابعته للأحداث، وآرائه في الحكومة القائمة.
وقال أمين عزب: الشيخ عبد الحفيظ أفضل الأئمة في الحي … ولولا انشغالي في الزاوية لحرصت على الصلاة وراءه.
مع تعاظم المصلين، فإنه ظلَّ بلا أتباع ولا مريدين، ورفض ما نسب إليه من كرامات. علا صوته بالرفض عندما جعلته أعداد من المترددين على الجامع وليًّا، وجعلوا أنفسهم مريدين. قال: لا ولي ولا مريدون!
وقال في تأكيد: لست وليًّا ولا صاحب طريقة، ولا مريدين لي!
وشردت عيناه فيما لا يتبينه أحد: كل مؤمن له قدر من الولاية … على قدر إشراق نور الإيمان في قلبه!
كان يرفض اللمة، وينفر من الإفراط في المجالسة والمخالطة. يخشى — من انشغاله بتزاحم الناس وأسئلتهم — أن يخطئ فيما ينبغي قوله. يظل في الجامع من صلاة العصر إلى ما بعد صلاة العشاء. لا يلتفت إلى المصلين إلَّا إذا اعترض طريقه سؤال أو فتوى. يجيل عقله فيما أنصت إليه، أو قرأه، لا يأخذه على علاته. يقلب الأسئلة والأجوبة والاجتهادات، فلا يقتنع إلَّا بما يطمئن إليه بعقله، ويتأكد من صوابه. يخاطب سائليه على قدر فهمهم، يتصور الحياة فيما يواجهونه من مشكلات. يمضي إلى حجرته أيمن الباب الرئيس، أو إلى الميضأة للتوضؤ. وكان دائمًا على الطهارة، ويستقبل القبلة في كل جلساته.
كانت صِلته بالمترددين على الجامع تنتهي بإغلاق الأبواب. يعود — ماشيًا — إلى بيته في الوسعاية المقابلة لمدرسة إبراهيم الأول.
اعتبروه عالم عصره، يرجعون إليه فيما يشكل على غيره من الأئمة والمشايخ. يقضي بما يرى أنه الصواب، وما يوافقون عليه، ويحرصون على درسه اليومي بين المغرب والعشاء. يجلس على دكة المبلغ، في مواجهة الباب الرئيس، تعلو عن الأرض بحوالي المتر، من الخشب المخروط، زينت حوافها بآيات قرآنية. يتركز في الفقه والتفسير والحديث. يقاطع الأحاديث إن مضت في غير الوجهة التي يريدها، بابتسامة مشفقة، وهزة رأس. يصمت المتحدث عن المتابعة. يصل بكلمات تعود بالحديث إلى بداياته. لا انحناءات، ولا ثرثرات جانبية.
عرف عنه ميله إلى التيسير على الناس. من تفوته صلاة، فإن قضاءها يحفظ له ثوابها، ومن لا يطيق الصوم، فإن عليه فدية طعام مسكين، والحج إلى بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلًا، وما يريده البيت يحرم على الجامع، ونفى وقوع طلاق الغضبان، والطلاق الذي يراد به الحمل على شيء، أو المنع عنه، واعتبار الطلاق الثالث في مجلس واحد، طلقة واحدة. كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، وكل الخطايا مغفورة، ما عدا الشرك بالله.
كان يكره تقبيل المصلين ليده. ينزع يده في غضب واضح: شيخنا أبو الدرداء قال: لا أحسن السباحة، وأخاف الغرق!
لم يكُن يجد غضاضة في أن يلتقط الأوراق من داخل الجامع، ويحرص على صيانته من كل ما يشوِّه جماله. يأمر بتنفيذه، وتجنيبه ما يسيء إلى مهابته، كرفع الصوت، والهراء، والتشويش على المصلين، ويقول: مَن أخرج أذًى من المسجد بنى الله له بيتًا في الجنة. واستنَّ تقليدًا جديدًا، لم يكُن متَّبَعًا من قبلُ. جعل الجامع مفتوحًا طيلة الليل. يتردد عليه من يريد العبادة. الصلاة وقراءة القرآن وكتب الدين، وإن نغز بعصا رفيعة كل من راح في النوم داخل الجامع. بيت الله ليس فندقًا. وكان يظهر الغضب لرؤية الجالسين في الجامع بلا عمل: الحديث في الجامع يأكل الحسنات كما تأكل البهائم الحشيش!
وحين لمح الشيخ قرشي يجلس على قهوة المهدي اللبان، لم يُخفِ استياءه: حامل القرآن هو حامل راية الإسلام … يجب ألَّا يجالس أصدقاء اللهو تعظيمًا لحق القرآن.
قال الشيخ قرشي: إنهم موظفون محترمون.
قال الإمام: مهما تبلغ مكانة المرء، فإنه جناح بعوضة في ظل القرآن!
قال أدهم أبو حمد: لولا أن الصحة لا تحتمل … لصليت كل الأوقات في علي تمراز.
كان أدهم أبو حمد يصلي الأوقات في جامع سيدي عبد الرحمن بن هرمز بشارع رأس التين. أجهده حرص الشيخ عبد الحفيظ على الطمأنينة في العبادة. إذا رفع الأذان، انفض عن كل من حوله، وأقبل على مقدمات الصلاة، يطيل في وضوئه، لا يعلو صوته بغير آيات القرآن والأدعية والتسابيح، لا يتحول بصره حتى يأخذ مكانه من الصلاة، بمفرده، أو إمامًا للمصلين. يحرص على أداء كل صلاة في وقتها. يطيل الصلاة، القيام، والركوع، والسجود. يتلو السور حتى نهاياتها. لا يعلو صوته: سمع الله لمن حمده، إلا بعد أن تكون الأفواه قد سكتت عن التمتمات والأدعية. الصلاة توجه إلى الله، خشوع حقيقي له. اعتاد المصلون إطالة سجوده. يظل في سجدته دقائق. صلة المرء بربه، أقرب ما تكون بالسجود، فهو يهب الفرصة للمصلين وراءه حتى يفرغوا كل ما بنفوسهم. يضعون جباههم على الحصير، يشغلون الوقت الطويل بأدعية وابتهالات، حتى يعلو صوت الشيخ عبد الحفيظ بالتكبير. يؤدي الصلاة، فالكعبة بين حاجبيه والصراط تحت قدميه، والجنة عن يمينه، وجهنم عن شماله، وملك الموت في قفاه، يظن أنها آخر صلاته. ربما قطع الصلاة، يعود إلى التكبير من البداية، يعتذر — بصوت مسموع — أن عارضًا من أمور الدنيا شغله، صرفه عن صدق التوجه إلى الله، والصلاة لا تجوز إلا أن يقبل المرء عليها بنية مخلصة.
قال إبراهيم سيف النصر: من ينكر أن كلام الرجل عدل الميزان؟
قال أدهم أبو حمد: هل في مصر ميزان ليعتدل.
قال سيف النصر: هذا ما ستراه عندما يفوز الوفد.
وأضاف بلهجة محرضة: عندما يفوز الوفد سأدعوكم إلى أكلة ستاكوزا.
ونظر ناحية عبد الله الكاشف: وإن كنت أشفق على عبد الله أفندي لأنه سيصعب عليه تصريفها.
وغمز بعينه.