الأعماق
أزاح الستارة، وتطلع إلى الطريق.
بدا الباب الخلفي لسيدي البوصيري هادئًا، خاليًا من الداخلين والخارجين. وثمة ضوء شاحب يترامى من المصباح أعلى الساحة الرخامية. تناثرت في زاوية الرؤية الممتدة إلى المئذنة مزق سحب بيضاء، والهواء البارد أغلق نوافذ البيوت، وكان يحرك أغصان الشجر، تتساقط منها الأوراق، يتلقفها الهواء، يقذف بها إلى بعيد.
قال إبراهيم سيف النصر: أصر الملك ألَّا يعود الوفد إلى الحكم منذ أقال حكومته في ١٩٤٤ … لكن الوفد عاد بإرادة الشعب!
ثم وهو يهز قبضته: مع ذلك فإن خطاب العرش الذي ألقاه النحاس أكد أنه سوف يتبع في الحكم سياسة قومية لا تعرف التحزب ولا المحاباة والمحسوبية.
قال فهمي الأشقر: كلام زعيم!
قال إبراهيم سيف النصر: المهم أن يوقف النحاس الملك عند حده.
قال أدهم أبو حمد: والإنجليز؟
قال سيف النصر: لن يتردد النحاس في إلغاء المعاهدة.
قال المهدي اللبان: هل قرأت ما قاله فؤاد سراج الدين في مجلس النواب: في المجلس الآن ٢٢٨ نائبًا اشتراكيًّا.
اتجه سيف النصر إلى أدهم أبو حمد بنظرة متشفية: راحت عليك إذَن يا أدهم أفندي أنت وحزبك الاشتراكي.
قال عبد الله الكاشف: أعلن الراديو منذ قليل تشكيل الوزارة الجديدة.
قال أدهم أبو حمد: المهم أن ينقضي وقت قبل أن يعلن عن إقالتها.
قال سيف النصر: فال الله ولا فالك!
قال الكاشف: هذه لعبة القط والفأر بين الوفد والسراي منذ أيام الملك فؤاد.
هتف إبراهيم سيف النصر: إلَّا هذه المرة … الأغلبية ساحقة.
قال المهدي اللبان: أنا لا أحب السياسة … وأرفض لعبة الانتخابات … لكنني أرحب بفوز الوفد نكاية في الملك!
قال أدهم أبو حمد: الناس اختارت الوفد كراهية في معاوية، لا حبًّا في عمرو.
– ماذا تقصد؟
– انتخبوا الوفد بغضًا في الملك والسعديين … لا حبًّا في حكمه!
وزفر في حزن: بصراحة. أنا أشم رائحة تدخل من السراي في تشكيل الوزارة.
قال سيف النصر: لا يمكن! هذه حكومة الوفد … حكومة مصطفى النحاس.
قال أبو حمد: وماذا عن تعيين محمد حيدر قائدًا للقوات المسلحة؟ إنه المسئول الأول عن كارثة فلسطين!
أكد المهدي اللبان أنه رأى مرشح السعديين يستقل سيارته خارج الحي، لما تجاوز مرشح الوفد الأصوات المطلوبة. وروى أدهم أبو حمد ذكرياته عن ثورة ١٩. احتلال الإنجليز للجمارك في الميناء الغربية. نزولهم إلى الشواطئ والأحياء والشوارع. التفافهم حول قصر رأس التين كي يحموا السلطان فؤاد. حين عاد سعد زغلول من مالطة، استقبله الشعب في باب نمرة واحد. مر الموكب في شارع رأس التين، وشارع فرنسا، وميدان محمد علي، وشارع شريف، وشارع فؤاد، إلى فندق بالقرب من كوم الدكة. تذكر الشيخ قرشي ما فعله به البوليس في انتخابات صدقي: كتبوا علامة بالطباشير على ظهره. عرف المخبرون خارج لجنة الانتخاب، أنه أعطى صوته لمرشح المعارضة، فعاقبوه بعلقة!
تنهَّد وهو يغمض عينيه: أيام!
وحيد كما كان. الاستيقاظ وقراءة الصحف وسماع الراديو والأكل والانتظار الممل. عالج حشرجة في صوته، ربما بتأثير هتاف الانتخابات.
لو أن الانتخابات استمرت. لو أنه ظل على تنقله بين المقر الانتخابي والقهوة، والمشاركة في إعداد اللافتات والنشرات، ومرافقة جمال كاتو في شوارع بحري وحواريه.
ضوء المصباح أخفى تسلل أشعة الشمس من خصاص النافذة. لم يلحظ قدوم الصباح إلَّا بعد أن نظر — بعفوية — ناحية النافذة المغلقة. تعمد الاستيقاظ مبكرًا. أعاد ترتيب المكتبة. اختار ما ينوي قراءته. جال بعينيه في الحجرة، يبحث عن شيء يقطع به الوقت. تمشي في الشقة. أطل من الشرفة على الداخلين إلى البوصيري، والخارجين منه.
مضت اللحظات بطيئة، ثقيلة. اشتاق لهد الحيل الذي كان ينخر في جسمه، وهو يسلم جسمه إلى السرير، آخر الليل. الجولات الانتخابية، والجلوس على القهاوي، والمشاركة في المناقشات، والسير فيما لم يكُن يعرف من شوارع الحي وحواريه.
قدمت أسرته من بركة غطاس وهو في الخامسة. وولدت أختاه في البيت الحالي. بدَّل طريقه — بعد ترك الدراسة — من مدرسة رأس التين الثانوية إلى سراي الحقانية. طريق وحيدة، لا يغيرها. ألف البنايات على الجانبين: الشرفات والنوافذ واللافتات والدكاكين والقهاوي. ألف كذلك سحنًا مطلة، أو واقفة، أو تعبر الطريق. قادته الحملة الانتخابية إلى أماكن لم يرها من قبل. شوارع وحواري وأزقة وزوايا وأضرحة. حتى مقام سيدي كظمان القريب، تعرف إليه في طوافه مع جمال كاتو.
لاحظ إبراهيم سيف النصر نظرته الداهشة. همس وهما يسيران في نهاية الموكب: من ير نظرتك يحسبك أجنبيًّا ضل طريق العودة إلى الميناء.
رفت على شفتيه ابتسامة معتذرة: أعترف أني رأيت بحري الذي لم أكُن أعرفه.
قال سيف النصر: يا رجل … حتى حلقة السمك بدوت فيها كالغريب.
قال: ومن يسمعك؟! وقتي امتصته مشاغل الوظيفة والبيت.
تفتح قلبه لقاسم الغرياني. اجتذبه مرحه ونكاته ومداعباته. حين عرف أنه لم يتزوج، همس في أذنه بأنه — مثله — بلا زواج، لكنه مسكون. عشقته جنيَّة، ترافقه في النهار والليل، لا تتيح له الحياة مع سواها.
قال له وهو يجلس مع جمال كاتو في قهوة الزردوني: ما لك والسياسة؟ أنسب وضع لك: معلم في الحلقة!
هتف بالدهشة: أنا؟!
ثم وهو يبعد إحدى راحتيه عن الأخرى: أنا لا أعرف حتى أنواع السمك … أدفع ثمن الشروة دون أن أعرف ما اشتريت.
أدار مفتاح الراديو. عبد الوهاب يغني: «جفنه علم الغزل». استوقفته الكلمات في البداية. تأملها. نقل جهاز الراديو من موضعه على الرف في الصالة، إلى ترابيزة خشبية بالقرب من السرير. يدير المؤشر بين المحطات، دون أن يغادر مكانه.
وهو في طريقه إلى الداخل، لمح صورة زفاف نبيلة وزوجها في موضعها على الجدار. نقل غرفة نومه من الداخل إلى ناحية الطريق. تقترب منه أصوات المستندين إلى جدار البوصيري، والساعين إلى ميدان المساجد، والقادمين منه، وسمَّار قهوة مخيمخ أول الميدان، والدعوات والابتهالات من ساكني الخيام في الدحديرة الخلفية.
جهز لنفسه كوب شاي. وعاد إلى الشرفة المطلة على سيدي البوصيري.
بدا الباب الخلفي هادئًا، خاليًا من الداخلين والخارجين. وثمة ضوء شاحب يترامى من المصباح في الأعلى.
كان قد انسحب على نفسه — في الأيام التالية لانتهاء الانتخابات — لا يكاد ينزل إلى جامع البوصيري، ولا إلى جولته الأسبوعية بين جوامع الحي وأضرحة أوليائه، ولا إلى قهوة المهدي اللبان. الجلسة متشابهة، والأحاديث لا تتغير. كلام وكلام وكلام. حتى الألعاب التي تسلِّي الوقت في القهاوي — هو لا يعرفها! — لا يأذن بها المهدي. القهوة للمشروبات والجلسات والدردشة.
عاد إلى جلسته اليومية في قهوة المهدي اللبان.
لم يعد يطيق الوحدة. تمتد به سرحات الخيال: هل يأتي اليوم الذي لا يقوى فيه على الحركة؟ يحتاج لمن يعد له الطعام، ويقدمه له؟ من يعينه على الذهاب لدورة المياه؟ من يناوله الدواء في مواعيده؟ يراقب أحواله الصحية، فلا تفاجئه أزمة تذهب بحياته؟ بعثت الوحدة في نفسه إحساسًا بالخوف، خوف مقبض، يتلبسه، يخنقه. ربما صحا على أنفاس أو وجوه تقترب منه. ينتفض جالسًا. يستعيذ بالله من الشيطان، ويقرأ آية الكرسي. وكان يطيل في دعواته وصلواته، ويطيل السجود. قال إمام البوصيري: إن صلة العبد بربه أقرب ما تكون وهو ساجد.
فاجأه إبراهيم سيف النصر بالسؤال: لماذا لم تتزوج حتى الآن؟
لم يكُن أعدَّ نفسه للسؤال، ولا تصور أن سيف النصر سيواجهه به. قاوم الارتباك لحظات. قرر أن يجيب بما لا يجعل السؤال طرف خيط. بدت كل الطرق مفتوحة إلى ما يخشى حدوثه.
غمغم: كله قسمة ونصيب.
نادى على الجرسون — ليقطع اللحظة — وطلب كوبًا من الينسون.
قال سيف النصر: هل تتصور نفسك عجوزًا؟
ثم بلهجة تأكيد: يسموننا عواجيز … لكننا أوفر صحة من شبان هذه الأيام!
ثم قال موضحًا: سن اليأس للمرأة … وليس للرجل.
وأظهر التأثر: مع أنها تستطيع الفعل في أي عمر.
وقال في تأثره: أما الرجل فلا بد أن يواجه ضياع القدرة بتقدم العمر.
تضايق عندما دنا الرجل بفمه من أذنه: إذا كنت تشكو شيئًا، فإني أعرف طبيبًا ممتازًا.
علا صوته بتلقائية: ماذا تقصد؟
أهمل الغضب البادي: فهمي الأشقر طال رفضه للزواج دون أن يذكر السبب. لما صحبته إلى الطبيب، خطب بنت الحلال، وأنجب خمسة أبناء.
قال الكاشف: من حقه أن يعوض خسارته في اليانصيب.
لاحظ أن فهمي الأشقر يدمن شراء أوراق اليانصيب. أسماء لا يعرفها، ولا سمع بها من قبل: الإسعاف … المواساة … الفراشة … الجمعية الخيرية الإسلامية … يدعو باعة اليانصيب، أو يأتون إليه إذا لمحوه في القهوة. لا يكاد يتناهى إليه نداء: يانصيب … لوتريه … حتى ينقل نظراته بين الأشقر والمرأة التي غالبًا ما يخصها بنظراته. وكان فهمي الأشقر ينشغل عن الجلسة وهو يراجع قوائم النتائج. البريمو هدفه الذي يحلم به. يتجدد أمله باقتراب الأرقام من الرقم الفائز، أو بفوز صديق بالرقم الفائز. يحزن للفوارق البسيطة في الأرقام، وينهض صائحًا، عندما يطالعه رقم من الأوراق التي اشتراها. ألف رؤيته يراجع قوائم الأرقام الفائزة أمام دكان السجائر المجاور للطنطاوي بائع الفول. يطيل الوقفة، فيبدِّل رجليه. يكتفي بإلقاء السلام، أو يسرع في خطواته.
قال الكاشف: عزوفي عن الزواج لأسباب أسرية.
ثم بصوت هامس: زالت بعد فوات الأوان.
استقر في داخله إحساس، بأن سن الزواج فاته. وطَّن نفسه على أن يظل عزبًا، يواجه الأسئلة، وربما الملاحظات المعيبة، بابتسامة محايدة.
مرة واحدة فكر في الزواج. لمح — وهو في طريقه من حجرته إلى المطبخ — باطن فخذ إقبال جارة الطابق الثاني، وهي تجلس على السرير في حجرة علية. اتخذ — في اللحظة التالية — قرارًا بالتقدم إليها. كان قد أعد ما ينوي قوله لعلية، حين فاجأته بصوت هامس: إقبال حدثتني عن شقيقها … يريد مقابلتك.
سكنت ملامحه: لماذا؟
أخفضت رأسها بالحرج: ربما يريد خطبتي.
أربكه الاختلاط بين ما أزمعه، وما فاجأته به علية. قرر أن يمضي في الطريق الثانية، فهي أصوب.
اجتذبه من الشرود صوت سيف النصر: تزوج … وتمتع بما بقي لك من الحياة.
قال أدهم أبو حمد: ومن قال إن الزواج متعة؟!
شغله الهاجس: ماذا لو أنه مات وحيدًا في الشقة؟! ربما مضت أيام حتى يتعفن دون أن يدري. فكر أن يشدد على تهامي بائع الخبز، فيعاود الطرق حتى يفتح له الباب، لكنه استسخف الفكرة.
تجمعت الكلمات على شفتيه، وعزوز بائع اللبن يصب من السطل في الحلة الصغيرة. يطلب منه خادمة تنظف الشقة، وترتبها. تعد له طعامه إن استطاعت. خشي أن يدس له البائع من تساعده على سرقة الشقة، فابتلع الكلمات.
أزمع أن يباعد بين أوقات المترددين عليه.
قال لتهامي: هل يمكن أن تؤخر مجيئك ساعة؟
– لماذا؟
– أبدًا … ربما أكون نائمًا.
قال تهامي في تحير: هل أعود ثانية بعد أن أنهي جولتي؟
أدرك أنه سيجد الرد نفسه عند بائع اللبن، وبائع الصحف.
تذكر دعوة من إبراهيم سيف النصر، في الأيام الأولى لتردده على قهوة المهدي اللبان. مضى ناحية الكورنيش، عبر الرصيف المقابل لنقطة الأنفوشي، ترافقه الرائحة، النفاذة، المترامية من حلقة السمك، والغزل المنشور في الخرابة، خلف النقطة، وعلى المراكب الساكنة في زاوية الميناء الشرقية.
فوجئ سيف النصر لرؤيته، وإن اكتفى بتوصية العامل — أمام المدخل — عليه.
بهرته الأشكال والتكوينات والألوان والأسماك الكبيرة والصغيرة. أطال الملاحظة والتأمل. سرح في المدى لرؤية هيكل عظمي لسمكة هائلة، في مدخل المتحف. وحين اصطدمت عيناه بشمس الظهر، كان يتأمل ما رأى، وإن داخله شعور بأنه لن يعود إلى المتحف ثانية.