التقلب في المعارف
تأمل عباس الخوالقة جلسة منصور مكاوي المسترخية على رصيف قهوة الزردوني. ينفث دخان السيجارة، ويتابع بعينين ساجيتين، حركة الطريق في السيالة: القادمون من الأنفوشي وحلقة السمك، وباعة الخس والبطاطا وغزل البنات، وأصداء جلسة سماع تتناهى من مسجد المسيري، وشمس الأصيل تلامس الأسطح وأعلى الجدران، ومجموعة من النقاشين، اقتعدوا الرصيف أمام مطعم النبلاء، وامرأة — في الشرفة المقابلة — تنشر ملابس مغسولة على حبل مشدود بين عمودين من الخشب، ونسائم باردة قادمة من اتجاه البحر، تلاطف وجهه، وتنعشه. ومن داخل القهوة يتناهى صوت حودة بدران متغنيًا:
قال الخوالقة: جعله الولد قاسم ابن بحر!
جاوز رهبة البداية في توالي الرحلات. غالب الدوار. عرف تقاليد الجيرة بين البلانسات. أبناء البحر — مثل أبناء البر — يتبادلون الزيارات، ينتقلون من بلانس إلى آخر. صرخ لصوت طقطقة في جانب البلانس. سحب الغرياني بلطة أسفل الدفة وهو يضحك: سمكة المنشار غرزت أسنانها.
وهوى بضربات قوية، متوالية، في جانب البلانس: تظل معلقة بالبلانس حتى نفصل رأسها … هكذا!
أذهله ما رواه حمودة هلول عن محيي قبطان. مد يده يداعب سمكة تقفز فوق الماء، وتغيب. السمكة من النوع الرعاش، اجتذبته إلى البحر. توالت صرخاته، فألقى الغرياني نفسه في البحر، وأنقذه.
ألف الرجال رؤيته وهو يحمل المطرقة، وهو يزيل الصدأ من الجوانب، حتى الخطاف أزال صدأه، وهو يطمئن إلى صوت الموتور. وكان يأخذ ويعطي، ويروي الحكايات، ويجامل.
كان يرتدي أفرولًا اتسعت فيه بقع الزيت والشحم والألوان. يتأمل كرمشة أصابعه، وتلونها من عمليات الغسل والتطرية والغلي والصبغ.
– مهنة لا بأس بها … لكنها تختلف عما كنت أفعله في القناة.
قال قاسم الغرياني: وماذا كنت تفعل هناك؟
– ميكانيكي آلات.
نطق وجه الغرياني بالدهشة:
– قلت إنك تعمل في الدباغة … وهي تحتاج إلى تعليم.
وهو يضحك: ما يفعلونه أفعله.
ألفوا جلوسه على قهوة الزردوني. يأتي — بعد صلاة العشاء — يسلِّم، وينتحي مكانًا، أو يجلس وسط الرجال الذين عرفهم وعرفوه. توسط له عباس الخوالقة، فعين في ورشة لدباغة الجلود بالورديان.
كان عبد الوهاب مرزوق قد أشار — منذ عشرة أيام — إلى شاب وقف على رصيف مسجد المسيري المقابل. في حوالي الثلاثين. انسدل شعره المنكوش على جبهته فغطاها. نحيل القامة. بشرته سمراء، أقرب إلى السواد. في وجهه طفولة تخفي حقيقة سنه. له عينان واسعتان، صريحتان. وأنف أقنى. وثمة رعدة خفيفة تسري في الوجه، من العين اليمنى إلى الذقن. تمتد إلى العنق، فيبدو كمَن يهم بالالتفات. يرتدي بنطلونًا، وسترة صوفية برقبة عالية، وحذاء بدون جورب. طوى في يده جريدة أربع طيات، تحولت إلى ما يشبه المسطرة.
قال عبد الوهاب مرزوق: هذا منصور … ابن شقيق الجماعة.
قال الحاج قنديل: أهلًا وسهلًا.
أضاف عبد الوهاب مرزوق: كان يعمل في معسكرات الإنجليز بالقناة.
قال الحاج قنديل: أرحب به على البلانسات لو أنه يركب البحر!
تلاغطت عبارات الترحيب والأسئلة والملاحظات. تناثرت أسماء الإسماعيلية والتل الكبير ونفيشة. ثم ألف الرجال تردده على القهوة. غاب التميز من كلماته. ربما أشار — بمناسبة — إلى أيام عمله في القناة، لكن مناقشات الرجال كانت تجره إلى البحر والحلقة وعمليات الفدائيين.
كان يستقل الأوتوبيس من ميدان المنشية إلى أول الورديان. ينزل أول المستودعات والشون ومصانع الدباغة. ينزع اللحم عن الجلود الخام المملحة، ويغسلها، ينتف الشعر المتبقي منها، يكلِّسه، يفرد الجلود، ينقعها في القلويات. يضع طبقات الجلود فوق الطاولة الرخامية الطويلة. اعتاد الحياة — في وقت لم يكُن يتوقعه — في رائحة الدماء المتجمدة والملح والأبخرة المتصاعدة والقلويات وسوائل الدبغ والتلوين.
عرف الرجال أنه ابن شقيق زوجة عبد الوهاب مرزوق. أقام معه في شقته المطلة على مسجد طاهر بك بالحجاري. لم يتحدث عن ظروفه الخاصة، ولا ما إذا كانت له أسرة وأبناء. يأتي إلى القهوة في موعده. يجلس بمفرده، أو يجالس الرجال، إلى قرب انتصاف الليل: أستأذن … فأنا أصحو في النجمة!
فاجأه عباس الخوالقة بالسؤال: ماذا كنت تعمل في القناة؟
كان قد استراح إلى الطيبة في ملامح وجهه.
قال منصور: ميكانيكي آلات.
قال الخوالقة: لن تعجز عن فهم ميكانيكا البلانس.
أضاف في ود: ما دام العمل في المدبغة قد راق لك … يمكنك أن تركب البحر.
وربت كتفه: لن يكون أكثر تعبًا.
ثم وهو يتجه إلى قاسم الغرياني: علِّمه يا قاسم ليطلع البحر معكم في الرحلة القادمة.
وشرد في الأفق: من كان يتصور أن البلانسات ستعمل بالمكن.
وتطلَّع إلى دخان الشيشة المتصاعد في حلقات رمادية: إلى خمسة عشر عامًا … كنا نستخدم الشراع وحده!