ظلال حزينة
قاوم تردده — لدقائق — قبل أن يبدل طريقه، بعد أن غادر القهوة. مضى إلى البيت المقابل. صعد السلم الخشبي المتآكل في ظلمة شفيفة. تحسس باب شقة الطابق الأول. هي شقة إبراهيم سيف النصر. تجسدت ملامحها بأحاديث سيف النصر في ذهنه. الصالة الواسعة، تحيط بها ثلاث حجرات، تطل اثنتان على ميدان الخمس فوانيس. إحداهما لنومه وزوجته، والثانية للولد. أما الحجرة الثالثة — لنوم البنت — فتطل على المنور الداخلي.
لمح عينين واسعتين، اختفتا بمواربة الباب.
مسح المكان بشعور أنه قد تعرف إليه من قبل.
دخل إبراهيم سيف النصر، يرتدي جلابية من الكستور المقلم، ويغطي رأسه بطاقية بيضاء: زيارة غالية.
ثم وهو يهم باحتضانه: لو كنت أعلم أن غيابي عن القهوة سيأتي بك، لفعلتها من زمن.
قال عبد الله الكاشف: قلقت، وقلق الأصدقاء … فأذنت لنفسي بالزيارة.
– زارنا النبي.
رنا إليه بعينين متسائلتين: خيرًا؟
أطلق سيف النصر ضحكة منفعلة: لم يعُد أدهم وحده هو البطل … ففي هذا البيت شهيد.
أردف للدهشة الصامتة، المفزوعة، في عيني الكاشف: ابن ممدوح استشهد منذ أيام في السويس.
صرخ دون تدبر: إنا لله وإنا إليه راجعون … كيف؟
روى عن الولد ذي العشرين عامًا. سافر إلى منطقة القناة، وترك ورقة يعتذر فيها، ويطلب الدعوات. مات في منطقة وابور المياه. معركة بين الأهالي وقوات الإنجليز، شارك فيها كتائب الفدائيين. استشهد خمسة فدائيين، وكان ممدوح واحدًا منهم.
– ولماذا لم تقُل لي؟ أنت لا …
كاد يقول له: أنت لا تخفي سرًّا، لكنه أمسك. خشي أن يصدم مشاعر الرجل الحزين. هو — بالتأكيد — حزين، ومصاب، ومفجوع. الضحكة المنفعلة لا تخفي العينين الدامعتين، ولا التجاعيد التي أضافت إلى العمر، ولا الشارب المتهدل، المرتجف، ولا الشرود فيما أخفق في تبينه.
أحنى رأسه في ألم: البقية في حياتك.
قال سيف النصر: خشيت إن أنا نزلت القهوة أن أزعجكم بما جرى.
غلبته الحماسة: تزعجنا؟ كيف؟ من حقك أن تمن علينا … من حقك أن تفخر بالشهيد ممدوح.
قاوم سيف النصر تأثره: المؤلم أنه جاء على كبر … وهو وحيد على البنت.
وداخل نبرته الساخرة حزن واضح: حرمني المغفل من الامتداد.
واغتصب ابتسامة: كان سيحفظ اسمي من بعدي.
ربت الكاشف كتفه براحته: هذه مشيئة الله.
هو لم يجرِّب الأبوَّة، فهو لم يجرِّب الحزن على الابن الراحل. هل أخطأ، أو إن الله خصه برحمته؟ ماذا لو أنه تزوج وأنجب، ثم مات الولد؟ هل كان يواجه ما يواجهه الرجل؟ هل يتماسك ظاهره وفي داخله حزن قاتل؟
قال أدهم أبو حمد بعد أن صحب الكاشف سيف النصر إلى جلسة المهدي اللبان: دم كل الشهداء في رقبة حكومة الوفد.
وعلا صوته: المفروض أنه حين ألغت المعاهدة كانت قد تحسبت لكل الاحتمالات.
تداخل في صوت الكاشف دهشة: هل نحارب الإنجليز؟
– نقاومهم … ولن يحدث هذا إلَّا إذا تسلح الشعب.
قال الكاشف: يبدو أنك لم تقرأ عن الحوادث التي ادعى أصحابها أنهم فدائيون.
شوح أدهم بيده في غضب: لا أفهم كل هذا … لكن إلغاء المعاهدة أشبه بإعلان الحرب … وكان علينا أن نستعد لذلك.
قال سيف النصر: كنت واحدًا من مستقبلي النحاس باشا في محطة مصر يوم ٢٠ أكتوبر الماضي. هتف الناس: نريد السلاح للكفاح … فقال لهم: تريثوا … إن كل شيء سيتم في أوانه بإذن الله … والله مع الصابرين.
ثم وهو يكتم انفعاله: الله مع الصابرين!