طيور الخريف
قال إبراهيم سيف النصر: متى ينتهي هذا العنف؟ اغتيال النقراشي واغتيال حسن البنا ونسف بيت النحاس ومحاولة اغتيال النحاس … وإبراهيم عبد الهادي — منذ تولى الوزارة — لا يتحرك إلَّا في حماية المدافع الرشاشة.
قال عبد الله الكاشف: العنف يجلب العنف!
ترامى صوت المهدي اللبان من مجلسه داخل القهوة: الإخوان هم الذين بدءوا.
كانت العتمة تزحف على الميدان. تتلاشى بقايا الشمس أعلى الجدران، وتذوي الظلال، وتتلاشى، فيما عدا التكوينات التي تصنعها اللمبات المضاءة تباعًا. وكانت طيور السمان قد ظهرت في سماء الإسكندرية، وفي شوارعها، قادمة من الشمال في هجرتها السنوية. وترامت من اتجاه البحر رائحة رطبة. وثمَّة أولاد يلعبون تحت فانوس الشارع، وقطان علا مواءهما بالتخويف أمام بقايا سمك، وباعة غزل البنات والنبق والحرنكش والدوم، وماسح أحذية يدق بالفرشاة على الصندوق: تمسح؟!
حرص أن يمارس الطقوس التي اعتادها، عند الذهاب إلى الحقانية كل صباح. يصحو في الموعد. يحلق ذقنه. يتناول كوبًا من الشاي بالحليب. يقرأ الجريدة التي يدسها له البائع من تحت الباب. ثم يرتدي ملابسه. يطيل التأمل في المرآة. ينزل السلم متباطئًا، يتمتم بدعاء الخروج من البيت. يُلقي السلام على مقام سيدي البوصيري، ويقرأ الفاتحة. يمضي في شارع الأباصيري إلى ميدان الخمس فوانيس. يطالعه الميدان باتساعه وهدوئه. بدلًا من المضي في شارع فرنسا إلى ميدان المنشية، يتجه ناحية قهوة المهدي اللبان. ربما الجرسون نجاتي — في تلك اللحظة — يرش الرصيف والجزء من الشارع أمام القهوة بخرطوم الماء، ويعيد ترتيب الكراسي والطاولات لصق الجدران والأبواب المغلقة. يختار الكرسي الذي اعتاد الجلوس عليه، أو كرسيًّا بالقرب منه. يُلقي السلام، ويجلس.
استقرَّ في داخله شعور بالألفة. يشارك فيما تشرق به الأحاديث وتغرب: السياسة، وأحوال الجو، والترقيات والدرجات والمرتب الأساسي وإعانة الغلاء والأجر الإضافي والبدلات والعلاوات والأقدمية والتنقُّلات والانتدابات، وخطب الشيخ عبد الحفيظ إمام جامع علي تمراز، وارتفاع إيجارات الشقق بعد الحرب.
تأمل البحارة الأجانب الثلاثة الواقفين أمام القهوة، يتكلمون بلغة ليست الإنجليزية التي يجيدها الجالسون، ولا الفرنسية التي يعرفون الكثير من مفرداتها. تشاغلوا بتخمين جنسية البحارة. هم من الروس … وهل تأذن الحكومة للروس بالنزول إلى الإسكندرية؟! بل هم من الألمان … الألمان مهزومون ولا يحق لهم ارتداء الزي العسكري … القامة الطويلة تشي بأنهم أمريكان.
قال إبراهيم سيف النصر: خيَّبهم الله جميعًا!
قال عبد الله الكاشف: ميزة هذا الحي أن كل شوارعه تأتي من البحر وتنتهي إليه … أينما سرت لا بد أن ينتهي بك الطريق إلى البحر.
هزَّ أدهم أبو حمد رأسه، وهو مغمض العينَين، وظلَّ صامتًا.
مع أنه يحيا بجوار البحر، فإنه لم يتأثر به. لم يشغله النظر إليه، أو النزول فيه، أو السير على الكورنيش. وأحسَّ — أحيانًا — أنه يكرهه. وكان دائم التذكر لدوريات الجنود الإنجليز على طريق الكورنيش، وبطاريات الأضواء الكاشفة، والمراكب الراسية وسط الميناء الشرقية.
قال الشيخ أحمد أبو دومة: قررت بعون الله أن أضيف اللغة الإنجليزية إلى دروس كتَّاب ولي العهد.
قال فهمي الأشقر: ولي العهد أصبح ملكًا؟!
قال الشيخ أحمد: والتلاميذ … أليسوا أولياء عهد لآبائهم؟
قال سيف النصر: وتسميه الاسكول.
قال الشيخ أحمد: هذا ليس كتَّابًا عاديًّا … إن تلاميذه من أبناء الموظفين.
وعلا صوته بنبرة تفاخُر: لولا أنه — حتى الآن — يخلو من هيئة تدريس لاعتبرته روضة أطفال.
قال فهمي الأشقر: وأين العريف؟
– أي عريف؟
قال الأشقر في دهشته: ألا يوجد في الكتَّاب عريف يساعدك؟!
قال عبد الله الكاشف وهو يضع على شفتَيه ابتسامة مجاملة: الأولاد يأتون للتعلُّم على الشيخ أحمد.
قال إبراهيم سيف النصر: يعلِّمهم وهو نائم!
واتجه إلى الرجال: شيخنا يترك الأولاد وينام … لا حفظ للقرآن ولا يحزنون!
صرخ الشيخ: هذه فرية!
واصل سيف النصر كلامه: لا يصحو الشيخ من نومه إلَّا إذا الْتَقطَ صوت أقدام على السلم … يشخط في الأولاد فيرفعون أصواتهم.
قال أدهم أبو حمد في تأثر: السن له أحكام.
قال الشيخ أحمد أبو دومة محتجًّا: بلغة موظفي الحكومة … فأنا لم أبلغ سن المعاش.
كان قد ادَّخر من المال ما يؤمِّن له شيخوخة غير مُتعِبة. وقيل إنه شارك كمال مصباح تاجر المنيفاتورة بشارع الميدان في رأس ماله ليضمن إيرادًا ثابتًا. يشقيه أن غالبية الرجال في عائلته إذا جاوزوا الشباب أصيبوا بارتخاء في أعصاب الساقين، تضمران، وتعجزان عن السير إلَّا بواسطة عصا، ثم تتحولان إلى ما يشبه العَصَوَين المتهدِّلَين، فيلزم الرجل الفراش، أو ينتقل على كرسي متحرِّك.
لم يفلح في المدرسة الأولية. أحب الذكر والموالد والمدائح والإنشاد الديني. أتقنَ أصول تجويد القرآن: المد والغَنَّ والإخفاء والإدغام، وأتقنَ المد الكَلِمي والحرفي، والمد الثقيل والخفيف. وضع أبوه أصابعه في الشق، فأهمله. عمل لفترة صيِّيتًا في الموالد والمناسبات الدينية. ودار بتلاوة القرآن على البيوت. ثم شغل نفسه بقراءة التواشيح والابتهالات في نصر الدين. وتوسَّط له أمين عزب، فعمل مؤذِّنًا بياقوت العرش. عندما فتح الكتاب، زاوج — لفترة — بينه وبين رفع الأذان. ثم تفرَّغ للعمل في الكتاب.
الحجرة واسعة. تطل على شارع فرنسا. أرضها من البلاط. تجاورت فيها التخت. في الجانب دولاب، وضعت فيه المصاحف والأقلام والألواح والدوي. خلت من سبورة، فمهمة الشيخ تلقين الأولاد آيات القرآن. يتلو الآيات فيردِّدونها وراءه. وكان يعلمهم قواعد الوضوء والصلاة، وقواعد الإسلام الخمس، ويلقنهم بعض الحكم والأمثال وأبيات الشعر. يعلو صوته بطريقة غنائية، حتى لا ينساها الأولاد. بيده عصًا من الجريد، يهش بها ولا يضرب.
عُرف عنه أنه يتعمد ألَّا يضحك مع الأولاد، أو يباسطهم، فلا يأخذون عليه. يزول حاجز الرهبة بينهم وبينه. وكان يرفض استخدام الأولاد في حاجاته الشخصية، أو في الخدمة في بيته القريب من الكتاب. يمضي خطوات في شارع فرنسا. ثم يميل إلى شارع سيدي خضر، المتقاطع مع شارع الميدان. بيوته متساندة، واطئة، به سكان كثيرون، لا يتكلم عن أي شقة يسكن، أم أنه يسكن — مع أسرته — في حجرة، أم أنه بلا أسرة. يقول الولد: أشيل عنك يا أستاذ. يحتضن ما يحمله بيدَيه، ويهز كتفَيه رافضًا. يتجه إلى داخل البيت. وكان يُظهر ضِيقه إذا مدَّ أحد الجالسين يده في جيبه ليدفع الحساب. ربما أقسم، ثم يهمل القسم، ويترك دفع الحساب لسواه. وكان أشد ما يعتز به أنه سافر إلى القاهرة لمشاهدة موكب المحمل، فاستطاع أن يتبرَّك بملامسته.
قال فهمي الأشقر: وهل ستعلم الأولاد الإنجليزية.
تفكر للحظة، ثم قال: لن تبخلوا عليَّ بإنجليزيتكم!
قال الكاشف في نبرة مجاملة: الكتاب خدمة عظيمة للقرآن الكريم.
وسرحت نظرته في المدى: سيدي البوصيري افتتح — لأعوام — كتَّابًا لتحفيظ القرآن.
تنبه إلى ضرورة الجلوس على القهوة بما يتحدث عنه: خبر في الراديو، حادثة في جريدة، معلومة في كتاب. يعتزم استعادة تعبير الْتَقطته أذناه. ربما رأى في الطريق ما يصلح لحكاية، وربما سجل ما استوقفه في ورقة صغيرة، يدسُّها في جيب الجاكتة العلوي. يشد انتباههم، طرف خيط ينسجون منه حوار القعدة.
قال الشيخ أبو دومة: نعم … أيامه كانت كلها حفظًا لكتاب الله!
قال إبراهيم سيف النصر: البوصيري هو الموظف الوحيد الذي صار وليًّا … ولو أنصفوا لجعلوا كل الموظفين أولياء.
قال الكاشف في لهجة معتذرة: لكن البوصيري الموظف فعل ما لم نستطعه نحن.
وأعاد كوب الشاي إلى موضعه على الطاولة، وأضاف: أتدري أنه طالب منذ ألف عام بقانون من أين لك هذا؟
وجاشت عواطفه: الرجل أمضى حياته الوظيفية بلسانه وشعره حتى فُصل من عمله.
وتنحنح ليزيل حشرجة في حلقه: كانت الوظيفة هي الصراط الذي مشى عليه سيدي البوصيري إلى الصوفية.
ونقر على الطاولة بإصبعه: سيدي أبو الدرداء ولي فاضل … لكن الطوربيد الذي تلقاه بيده، وألقى به في البحر … لم يكُن الكرامة الوحيدة التي أنقذت الإسكندرية من دمار محقق … فعل البوصيري الشيء نفسه أكثر من مرة.
علت وجه سيف النصر ابتسامة واسعة: رفض أبو الدرداء أن ينتقل من مكانه، فوسَّعت البلدية الشارع من جانبَيه لكي يسير الترام … كرامة لا تقل عن كرامته في إنقاذ الإسكندرية من الطوربيد!
فوت الكاشف الملاحظة: من حق سيدي البوصيري أن يصبح وليًّا.
أفاد من قراءاته عن ولي الله.
منذ ولد في البهنسا حتى أسلم الروح — وهو قطب ذائع الصيت — في الإسكندرية: شرف الدين البوصيري، حاول أن يجمع بين نسبه إلى دلاص وبوصير، سمى نفسه الدلاصيري، لكن الناس درجوا على تسمية البوصيري: محمد بن سعيد بن حماد بن محسن بن أبي سرور بن حيان بن عبد الله بن ملاك الصنهاجي. امتداد الانتماء إلى فروع قبيلة صنهاجة العربية في بلاد المغرب. هل كان افتقاد العدل هو الدافع للتصوف؟ وهل كان تصوف الناس رفضًا للواقع أو فرارًا منه؟ لماذا رفض وظيفة محتسب القاهرة؟ لماذا أبى أن يتقلدها؟
يغمض عينيه. يتخيل نفسه مريدًا في مسجد الظاهر، يستمع إلى مدائح البوصيري النبوية. ينشغل — مثل الآخرين — بتدوينها وروايتها. المطولة النبوية، البردة وغيرها، فرار من واقع لا أمن فيه. يعاني الإحباط والعجز والقهر. بدت غريبة دعوته ترك جهاد المغول والصليبيين، ومواجهة عدو الداخل: الفساد والظلم. قال: إن إصلاح البلاد ينبغي أن يبدأ من الداخل. عورضت البردة عشرات المرات، وشُرحت مئات الشروح، وتُرجمت إلى ما يصعب تذكره من اللغات. لها من الكرامات ما يفوق الحصر، ما يجاوز تصديق العقل البشري. تُقرأ في الخلوات، وفي حلقات الذكر. شرط قراءتها الطهارة والوضوء واستقبال القبلة. اتخذها الناس تمائم تمنع، أو تشفي، من الأمراض، أو من أذى طوائف الجن. قيل إن الضريح كان متواضعًا، بُني بالحجر الجيري، وغُطي بالأعشاب. زار البوصيري — في المنام — محافظ الإسكندرية في عهد الوالي محمد سعيد. دلَّه على مكان قبره، وطلب منه بناية الجامع فوقه. اعتذر المحافظ إلَّا إذا وافق الوالي. زار البوصيري محمد سعيد في الليلة التالية، فشيد الجامع.
أضاف قراءة البردة إلى سور القرآن. صوت خافت منغَّم، يتوسل بهما حتى يخلو نومه من الأحلام المزعجة والكوابيس.
قال المهدي اللبان: مدد يا بوصيري.
ثم وهو يميل طربوشه إلى الوراء: لا تنسوا يا حضرات … الليلة سهرة أم كلثوم.
قال إبراهيم سيف النصر: ربما استمعت إليها في بيت صديق … الصحبة حلوة!
قال عبد الله الكاشف: منذ بدأ السنباطي في التلحين لها … أظهر أجمل ما في صوتها.
قال سيف النصر: لا أحد ينكر قيمة ألحان زكريا والقصبجي.
قال الكاشف: خلقت موسيقا السنباطي من أجلها.
غمز فهمي الأشقر بعينه: الأغنية الوحيدة التي أحبها: حمامة بيضا ومنين أجيبها … طارت يا عيني عند صاحبها.
الراحة والألفة. هؤلاء الجالسون قريبون منه، وأصدقاؤه. لا يتصور أنه يحيا بدونهم. بدوا طيبين. أحاديثهم تنقله من جزر الوحدة إلى عوالم يتعرف إليها للمرة الأولى، وتدهشه.
قال إبراهيم سيف النصر: صفيرك لاسترجاع الحمام، يصلني في بيتي.
في حوالي الثامنة والأربعين. أهم ما يميزه عينان صغيرتان تنطقان بالطيبة، وملامح منبسطة. مفلفل الشعر. على جانب وجهه خيط أسود طولي. خمن عبد الله الكاشف أنه من تأثير عملية. له شارب نحيل، يميل إلى الصفرة. يضع في عرقة جاكتته قرنفلة حمراء. عندما يتكلم، تغلب عليه حماسته، ويكثر من الإشارات. يمسح جبهته بجانب يده، ثم ينتر العرق حقيقة أو وهمًا.
جعل فهمي الأشقر الحمام هوايته. يستهويه هديله. يجيد التفرقة بين أنواع الحمام اليماني والهزازي والشقلباظ وحمام الزاجل. بنى له بنية فوق سطح البيت المطل على شارع التتويج. يفتح عصر كل يوم — عقب عودته من عمله ببورصة مينا البصل — أبواب الكوات المغلقة. يقضي ساعة في ترتيب البنية، ينظفها، ويغيِّر ماءها، ويستبدل الحب إن اختلط بالوسخ. يقف على كتفيه، ورأسه، ويأكل من يده. ثم يتوزع في أسراب، تعلو البيوت والقباب والمآذن. ربما تمضي إلى السلسلة، أو قلعة قايتباي، أو حاجز الأمواج في مدخل الميناء. يصفر بنغمة تعرفها، فتعود. ربما عادت بحمائم من بنيات قريبة، وبعيدة. وكان دائم التردد على العطارين. يشتري أزواجًا من الحمام، أو يوفق بينها وبين ما عنده. يضيفها إلى البنية الخشبية ذات الكوات المستديرة.
لاحظ عبد الله الكاشف أنه يكثر من القسم بالطلاق تأكيدًا لكلامه، أو لانتزاع موافقة محدثه.
– أصارحكم بأني أنظر إلى الحمام وهو يحلق في الجو، فأحسده.
زاد في فضوله، همس إبراهيم سيف النصر وهو يتلفت حوله: أدهم أبو حمد … حكم عليه الإنجليز بالإعدام.
أعاد تأمل الرجل الصامت في كرسيه. ممتلئ الجسم، ذو وجه أبيض مشرب بحمرة. مليء باللحم. تناثر النمش في جبهته وخديه. يرتدي نظارة طبية فوق عينيه، وإن بدَت في سواد إحداهما نقطة بيضاء. يميل بذقنه على صدره، ويغمض عينيه. يتصور من ملامحه المسترخية، الساكنة، أنه أغفى. تشرق الأحاديث وتغرب، فلا يبدو أنه يدري بما يجري من حوله، ثم يفاجئه — ألف الباقون التصرف فلا يفاجئهم — برأي أو تعقيب، ثم تميل ذقنه على صدره ثانية، ويغمض عينيه.
برقت عيناه باهتمام: الإعدام؟! ولكنه …
قال سيف النصر: ظل مختفيًا حتى وقعت اتفاقية الاستقلال.
قال الكاشف في حيرته: لماذا؟
– اتُّهم بقتل عسكري إنجليزي.
التفت — بتلقائية — ناحية أبو حمد: لا يبدو أنه يستطيع قتل دجاجة.
– كان من أنشط أفراد الجهاز السري للوفد.
ثم وهو يداري تأثره: أُصيبت عينه من تعذيب الإنجليز في معسكرات كوم الدكة … وزاد من تألمه أن الهروب ضيع عليه فرصة إتمام تعليمه … عين — بعد وساطات — في وظيفة صغيرة بديوان المحافظ، حتى أُحيل إلى المعاش.
كانت نظراته محايدة، ووجهه خلا من انفعال ما، لا حزن ولا غضب ولا فرحة. عينان باردتان، لا تعكسان أي تعبير. ربما لأنه قد جرَّب — في حياته — كل الانفعالات، فهي لا تبين في أقواله وتصرفاته.
قال له في نفسه: لماذا تحتفظ بهذا القناع الجامد؟ هل المناضل السياسي يجب أن يكون عابسًا؟
لم تكُن ملامحه تشي بالتأييد أو الرفض لاختلاف الرأي، وإن بدا مهموم النفس دائمًا، وذهنه مشغول بمشكلات لا يبوح بها. الجهامة التي تكسو وجهه لم تكُن تأذن له بأن يتعرف إلى أسرار حياته. إذا تحدث اتجهت كلماته إلى العموميات، لا تنحاز إلى وجهة نظر محددة، ولا تؤكدها. مرة وحيدة علا صوته بالغضب لدفاع إبراهيم سيف النصر عن موقف النحاس في حادثة ٤ فبراير. قال: لم يعُد الوفد وفدًا منذ خان سعد القضية!
وخالط صوته نبرة حزينة: أفندية الوفد أصبحوا باشوات أيامنا!
أدرك أنه يأخذ على الوفد ما يسخطه، وإن لم يحاول التعقيب بملاحظة أو برأي. هل هو التألم مما أصبح فيه، وما كان يتوقعه؟ لم يكن يحدثه بالبساطة التي يتجه بها إلى الباقين. ثمة مشاعر غامضة تمور في داخله. ليست مشاعر نفور ولا كراهية، لكنها مغايرة لمشاعره نحو باقي جلساء القهوة. زادها حرص من الرجل في إضفاء الهيبة على ملامحه — أو أنها طبيعية — وتصرفاته، علا الحاجز بين الرجل وبينه، لا يأخذ منه ولا يعطي. قرر أن يتقبله على علاته، دون محاولة للفهم أو التفسير.
خمن من انتفاخ ركبتي البنطلون، أن الرجل يحرص على الصلاة. وكان يكثر من الضغط بإصبعه على النظارة فوق أنفه.
تحدث إبراهيم سيف النصر عن نجاح معهد الأحياء المائية في نقل زريعة البلطي إلى مياه العيون والمصارف بسيوة. عرفت الواحة — للمرة الأولى — صيد السمك.
قال بلهجة العارف: هذا ما فعله المعهد أيضًا في مريوط وإدكو والمنزلة وبحيرة قارون.
ثم بنبرة متشكية: نأمل في حكومة مستقرة تساعد المعهد على أداء رسالته.
قال المهدي اللبان: أية انتخابات قادمة — ما دامت نزيهة — لا بد أن تأتي بالوفد.
تململ أبو حمد في جلسته: الوفد؟ أي وفد؟ وفد سعد ومكرم والنحاس وسينوت حنا … أو وفد سراج الدين وعبد اللطيف محمود وعبد الجواد حسين؟!
لاحظ عبد الله الكاشف أن زكي بشارة يستمع إلى المناقشات في صمت، كأنها لا تعنيه. سحنته جامدة، لا تبين عن انفعال بما ينصت إليه، أو يتكلم فيه. لا يتكلم إلا لضرورة. لم يكن أحد يتجه إليه بالحديث إلَّا إذا تدخل بحكاية تذكرها، أو بالرأي، أو بالتعقيب. يتقبل ما يستمع إليه بالصمت، دون أن يظهر انفعالًا. إذا فاجأه سؤال، أو ملاحظة تنتظر كلماته، تعثرت الكلمات بطيئة على شفتيه، بما يتصور أنه يحمل الإجابة.
كان يجلس في القهوة فترة العصر. يُلقي السلام — بعد أذان المغرب — ويمضي في شارع فرنسا. لا يدعو أحد الجالسين إلى مرافقته، ولا يتكلم عن المكان الذي يقصده، وإن روى إبراهيم سيف النصر أنه رآه — في ليالٍ كثيرة — يجلس في بارات شارع البيار، وشارع السبع بنات، وشارع البوستة. يسند كرسيه إلى الجدار، على الرصيف، وأمامه زجاجات بيرة، وطبق ممتلئ بقطع الجبنة التركي والفول السوداني والترمس والخيار المخلل والخس.
عندما اطمأن إلى إنصاته، مال على أذنه بصوت هامس: لن أنسى المشهد … كنت عائدًا من مشوار بمحطة الرمل … فوجئت بالرجل يستند إلى نخلة في طريق الكورنيش، ويفرغ ما بجوفه.
قال الكاشف في تأثر: ربما أثقل في الشرب.
سكنت ملامحه بالدهشة: وما يدفعه إلى هذا؟!
قال سيف النصر: الله أدرى بالظروف.
– وماذا فعلت معه؟
– لا شيء! صعدت معه إلى شقته، وفتحت الباب بنفسي … لم أتركه حتى نام.
مصمص شفتيه في تأثر: المصادفة ألقت بك في طريقه … فماذا عن الأيام القادمة؟
أعاد تأمله: الوجه القمحي الشاحب، والعينان من وراء النظارة الطبية في إطار ذهبي، دائرتان سوداوان صغيرتان، والشفتان المزمومتان على بسمة هازئة، تأكدت في أنصاف الدوائر الرقيقة على جانبي الفم. في يده خاتم يتوسطه فص من العقيق، وفي صدره دبوس ذهبي، واصفرار أصابعه يشي بأنه يكثر من التدخين. يرتدي بدلة كحلية، يطل منها قميص أبيض، وكرافتة منقوشة بزهور ملونة، صغيرة. نادرًا ما يضع الطربوش على رأسه، فهو يكتفي بالإمساك به.
قيل إنه بلا عمل محدَّد. يحيا من إرث تركه له أبوه في مديرية البحيرة. أطيان وعقارات وودائع في البنوك، وإن لم يكُن يعرف عنها إلا ما يبلغه به موظف عهد إليه بذلك كله. له شقة تطل على الميناء الشرقية، يحيا فيها بمفرده، ويسافر إلى أسرته في دمنهور كل أربعاء، ويعود صباح الأحد. زاره الجميع في شقته المطلة على الميناء الشرقية. وكان يسافر إلى دمنهور بمفرده. وروى فهمي الأشقر أنه التقى به في محطة مصر، فاكتفى بمصافحته، ومضى إلى القطار.
قال إبراهيم سيف النصر: هل قرأتم: روسيا أجرت تجربة على القنبلة الذرية.
قال فهمي الأشقر: مثل التي ألقيت على هيروشيما؟
قال عبد الله الكاشف: لعلها أخطر.
قال زكي بشارة: هل ننتظر حربًا ثالثة؟
قال الكاشف: ستكون آخر الحروب!