ارتعاشة الحلم المنطفئ
نفضت الداية يدها، وغادرت البيت مولولة: الحقوها بالحكيم!
جرى سيد بالقلق داخل الحجرة. هذه ثاني مرة ينبئ الجنين عن وجوده في بطنها، ثم يخذله. البخار يتصاعد من الأوعية المتناثرة في أركان الحجرة، يساعد على سرعة الوضع.
نقلها إلى مستشفى الملكة نازلي.
قال الطبيب: هذه حالة إجهاض.
وسأل سيد: متى بدأ الحمل؟
قال سيد: هذا شهرها الثالث.
ووشت ملامحه بالقلق: هذا ثاني سقط لها.
استطرد متذكرًا: أجرت في المرة الأولى عملية كحت وتوسيع لعنق الرحم.
أكدت الداية زمزم أنها لم تصادف — من قبل — ما رأته.
لما تأخر الحمل، نصحتها زمزم. ارتدت حول وسطها غزل صيد، لا تخلعه إذا استحمت، ووضعت حول وسطها قفلًا، حتى يحدث الحمل. ملأت زمزم فمها من كوب ماء، ونفخت على رأسها، وبين ثدييها، وقالت: اللهم إني أعيذها بك من الشيطان الرجيم. اللهم هب أنسية بنت أنور المدفع ما ترجوه من ذرية صالحة!
حين تأخر دم الحيض، عرفت أنها حامل. انداحت في أعماقها مشاعر ترفض الاطمئنان، وتتوجس من المجهول.
علا صوت زمزم بالنصيحة: احذري أكل الكرفس … خطره أكيد في حدوث السقط!
وبسملت، وحوقلت، وأطلقت البخور في أرجاء الشقة: ابتعدي عن المرضى، فخطرهم أشد.
قالت أنسية في استكانة: أنا لا أترك البيت!
توحمت.
اشتهت نفسها للحم والعنب والرمان وطين إبليس. لم يحرمها سيد من كل ما اشتهته، وتوحمت عليه، حتى لا تنعكس آثاره على جسم المولود. حتى الفاكهة في غير أوانها، أوصى قاسم الغرياني وحمودة هلول ومحيي قبطان أن يأتوا بها من المدن التي تسافر البلانسات إلى سواحلها. وأتى لها بأطعمة تفيد الحمل: الزيتون والجبن والخيار والجرجير. وأهداه الغرياني نجم بحر يتفاءل به، يجلب الحظ، ويمنع الشر، ويحدث المأمول.
شدد عليها، فأكثرت من أكل الخيار المخلل والبلح والخوخ واللحوم البيضاء والكبد والطحال، وأكلت البيضة كلها. امتنعت عن شرب الشاي والقهوة، وأكثرت من شرب الحلبة، وأكل لحم الضاني والشمبري. نصيحة عم محجوب حارس حمام الأنفوشي، كي تنجب ذكرًا، ولدًا يحمل اسمه.
أعفت نفسها من واجبات البيت. قام سيد بأدائها عن طيب خاطر. منعها من الوقوف في المطبخ. لم تعد حتى تطهو له، ولنفسها. يدخل المطبخ، أو يعود بطعام من السوق. أراحها من غسل ثيابهما، وكنس الشقة، ومسحها، وترتيبها، فلا تنعي همًّا. حرص، فلا يسرد الحكايات الحزينة أمامها، أو الأخبار السيئة، أو قصص الولادات المتعسرة. شدَّد عليها، ومنعها من التردد على مناسبات العزاء، أو زيارة المقابر، أو ارتداء الألوان الحزينة. وكان يحرص على اعتدال مزاجها.
أشفق على قعدتها في البيت: الشباك أمام الشباك … لماذا لا تدعين جاراتك لزيارتك؟
– لا أحب!
– لماذا؟
– أفضِّل أن أكون في حالي.
– الناس بالناس … وقد تملِّين الوحدة.
شوحت بظهر يدها: اعتدت عليها.
تمنت — في الأيام الأولى — أن تزور وتُزار، لكن معايرة جارة الطابق الأولى صدَّت نفسها. أزمعت أن يظل الباب مغلقًا، لا تفتحه ولا تواربه، فتصدمها المفاجأة بما تصورت أنهم لا يعرفونه، أو تناسوه.
علا مواء قطة من أسفل البيت. صرخت — داخل الحجرة — بأعلى ما عندها. فهم، دون أن يسأل عن سبب الصراخ. نزل، فطرد القطة.
حرصت على أن تظل اللمبة المعلقة على باب الشقة مضاءة، فلا يتسلل الشر إلى الداخل. علقت في صدرها ما شاء الله زرقاء. دلت رأس بصلة نيئة وحجابًا فوق سريرها، وحجابًا آخر فوق باب الشقة. وحرصت — كل صباح — على تبخير الشقة. تبدأ بحجرة النوم، وتنتهي بالصالة. يظل عود البخور داخل كوب على الترابيزة، حتى ينتهي.
قالت للطنطاوي بائع الفول: لا تلف الطعمية في هذه الورقة … أريد صورة الطفل.
التمعت عينا الرجل بابتسامة. أدرك أنها تتوحم، تتطلع إلى طفل يشابه — في جماله — طفل الصورة.
قال: إذا جاء المولود يشبهك، فسيكون أجمل من الصورة … أما إذا جاء شبيهًا لأبيه، فالعياذ بالله!
قالت وهي تداري فمها الضاحك بأصابعها: مَن قال؟ أبوه من أجمل الرجال!
العين لقاطة.
تعمدت أن تنظر إلى الأطفال والشبان ذوي السحن الجميلة. تلتقط عيناها مناظرهم، فيأتي الجنين على صورهم.
ابتسمت لتهدئة خطواتها أمام قهوة الزردوني. تطيل النظر — بجانب عينها — إلى قاسم الغرياني: قامته الطويلة، وشعره المتدلي على عنقه وقفاه، وعينيه اللوزتين الملتمعتين، وبشرته البيضاء، أكسبتها الشمس لونًا برونزيًّا، والشفة السفلى الممتلئة. والشارب النحيل المائل إلى الصفرة. سبقته إلى بيت سيدي داود ثلاث مرات، ثم لم تعُد تراه. شحبت صورته باقتصار علاقتها على سيد. وتذكرته في توحمها على الولد. تمنَّت أن يكون ولدها في مثل فحولته ووسامته.
ألقت زمزم بشيء في صدرها. تحرك، فصرخت.
قالت المرأة: لا تخافي … هذه ضفدعة ذكر … لكي يأتي المولود ذكرًا!
وشى انتفاخ صدرها بالحمل الذي تنتظره.
اعتادا التمشي على الكورنيش إلى السلسلة. تتشابك أيديهما، ويتكلمان، ويحلمان بالمستقبل.
سأل بالقلق: لماذا؟
قال الطبيب وهو يعينها على القيام: هل كنت تعانين متاعب نسائية قبل الزواج؟
في حوالي الخمسين. يرتدي بالطو أبيض. نحيل القامة، شعره الأبيض الكثيف يضفي عليه مهابة. أبرز ما فيه حاجبان أسودان كثيفان. يرتدي نظارة طبية مقعرة في إطار ذهبي، تبدو عيناه من ورائها دائرتين سوداوين صغيرتين. وجهه ساكن الملامح، وعلى شفتيه بسمة ثابتة، تُخفي ما يدور في داخله.
هل يورطها، فتحدثه عن أحوالها القديمة؟
– هل تصعدين سلالم؟
قالت: أسكن في الطابق الأرضي.
حدجها بنظرة متأملة: هل تحملين في عملك أشياء ثقيلة؟
ومض في داخلها شعور بالتباهي: أنا ست بيت!
– هل تربين قططًا أو كلابًا؟
وهي تشير إلى سيد: لا … أحيا مع زوجي وحده.
قال الطبيب: هل تأكلين بسطرمة أو بولوبيف أو لحومًا نيئة؟
لوت بوزها بما يعني التقزز: لا أحب اللحوم النيئة … وآكل البسطرمة والبولوبيف أحيانًا.
قاطعها الطبيب: لا داعي! لعلك مصابة بطفيل التوكسوبلازما.
رمقه سيد بنظرة متسائلة: ماذا؟
قال الطبيب: المهم أنه يؤدي إلى الإجهاض أو قصور نمو الجنين في الرحم.
ثم بلهجة تأكيد: لذلك حدث الإجهاض.
قالت أنسية: هل إذا امتنعت عن أكل البسطرمة والبولوبيف يأتي الولد؟
قال الطبيب: هذا مجرد احتمال … الجرثومة التي تؤدي إلى الإجهاض موجودة … وأسبابها كثيرة!
وداخل صوته رنة إشفاق: لعله مجرد التهاب … علاجه تناول قرص إسبرين كل مساء.
أضاف مستدركًا: أو كل صباح.
أعاد سيد القول من خلال حيرته: هذه ثاني مرة.
قال الطبيب وهو يشير إليهما بالانصراف: ما دمنا قد توصلنا إلى السبب … فلا بد أن نتوصل إلى العلاج.
علقت على باب حجرة النوم خمسة وخميسة، ونعل حذاء.
قال سيد: ألم يكفك التعاليق على باب الشقة؟!
وهي تواجه الفراغ بأصابع مفتوحة: حتى ترد العكوسات أمام من يزورنا.
وغمغمت: أنا لا أطمئن إلى نفسي!
نذرت — إذا أنجبت — أن تتولى التسحير في شوارع بحري وحواريه وأزقته. تحمل الطبلة، وتدعو الناس إلى السحور.
ابتسم سيد لفكرة النذر: هل خلت الدنيا من الرجال؟
قالت: رأيت بنفسي مسحراتية من النساء.
أين رأت؟
تنبه لسخف السؤال، فابتلعه.