تصاريف التدابير
سعى إلى أقرب طاولة في القهوة، وجلس.
ماذا لو أنه طلب إجابة مهجة: هل هي تريده، فيعاود التقدم إليها، أو أن عباس الخوالقة سيزوجها لآخر، بعد طلاقها من فؤاد أبو شنب، فيكتم على الخبر ماجورًا، وينسى الأمر.
عانى، فتمنى الموت حين عرف بزواج مهجة من أبو شنب. ثم صادق اليأس. لم يعُد لديه أمل يربطه بها، ولم يعُد يذكر ما حدث إلا أن تعيده عبارة، وربما أعادته رؤيته — مصادفة — لعباس الخوالقة، أو محمود، في شوارع الحي. لحظات تتباعد، ثم تختفي. وعرف بطلاق مهجة من فؤاد أبو شنب، فلم تعُد حياته حياته. تبدَّل كل شيء. لم يغِب وجهها عنه في الأيام التالية: العينان البنيتان، الواسعتان، والشعر الأسود المنسدل على كتفيها، والوجه الباسم، والشفتان الرقيقتان كورقتي وردة. عادت مهجة إليه، وعاد إليها. تسدل شعرها من البلكونة. يتسلقه. تغلق عليهما باب الحجرة. تكلمه، ويتبادلان النظرات، ويتلامسان بالأيدي، ويتمشيان على الكورنيش، وفي حدائق النزهة وأنطونيادس والشلالات، ويصحو على عينيها، ويحاول النوم بعد أن يُلقي عليها السلام.
أظهر المعلم كشك ضيقه من إطلاق لحيته. لم يحلقها منذ فض الشيخ طه مسعود حفل الزفاف. طالت لحيته، فغطت عنقه. كستنائية اللون بما يناقض سواد شعر رأسه: هل مات أبوك أو أمك؟
قال هشام: واحد شايل ذقنه …
قاطعه المعلم كشك بصوت زاعق: كلم أباك بأدب.
وتململ في جلسته: لم يبقَ إلَّا أن تتبع الشيخ حماد، أو تقف على باب أبو العباس!
رحب المعلم عباس الخوالقة بالزيارة. قدم شايًا وباردًا، وأفاض في الذكريات الجميلة. أكدت أمه أن مهجة وهشام مخطوبين منذ طفولتهما. لم تشِر إلى فسخ القران، ولا إلى زواج مهجة من فؤاد أبو شنب.
قال عباس الخوالقة: ربنا يعمل ما فيه الخير.
وظلت لهجته على ودِّها: أمهلونا لسؤال البنت.
أدرك أنها مطلقة، فأردف: يجب سؤال مهجة.
ضربت أمه على صدرها بعفوية: هل تأخذ موافقتها على ما كانت قد وافقت عليه من قبل؟
قال الخوالقة: الظروف تغيرت.
وفاجأ هشام بالسؤال: أنت تعود لخطبة مهجة وما زلت طالبًا؟
قال هشام: أنا في السنة النهائية بكلية الحقوق.
في سخرية: لم تعد الحقوق — فيما أعلم — كلية الوزراء.
– إذا وفقني الله صرت وكيلًا للنيابة … أو اشتغلت بالمحاماة.
ارتفعت نبرة السخرية: ألتقي بالمحامين على باب المحكمة الكلية … يعرضون الترافع مقابل خمسة وعشرين قرشًا.
تدخَّل المعلم كشك: جئنا لخطبة البنت، لا لسماع مثل هذا الكلام الفارغ.
قال عباس الخوالقة: من حقي أن أطمئن إلى مستقبل ابنتي.
قاطعه المعلم كشك: وليس من حقك أن تهين الناس في بيتك.
ونفخ المعلم وهو يتعثر في ظلمة شارع السيالة: رجل قليل الأدب.
ثم وهو يهز رأسه في دهشة: يريد الرجل المغفل إقناعي بأن لابنته كلمة في زواجها.
قال له حسنين الدمنهوري: ما لك؟
كان قد ارتدى أفرول محطة البنزين، وتهيأ للانصراف.
أشاح هشام بيده: لا شيء.
قال الدمنهوري: هل شاركت في المظاهرات؟
رفع عينًا متسائلة: أية مظاهرات؟
– معقول! الناس بالآلاف يهتفون ضد الملك.
– أين؟
– في كل مكان.
وضرب الهواء بقبضته: فاتك نصف عمرك.
قال هشام في صوت ممزق: فاتني عمري كله.
احتواه بحنو واضح: ما لك يا أستاذ هشام؟
– قلت لا شيء.
– أنت تحمل الدنيا بدلًا من الثور.
وهو يُظهر التألم: أنا قرفان … هذا كل شيء!
اتجه بنظرة غير متأملة إلى شارع فرنسا.
كانت شمس الأصيل تعلو الجدران، والمارة قليلين، وشيخ يطل من نافذة لوكاندة دمياط المقابلة. ورائحة المخ واللسان والكوارع والممبار المحشي والكرشة والفشة تترامى من المسمط المجاور. وثمة عربة حانطور تغطت بالكبود، واهتزت عجلتاها بالسير على قطع البازلت الصغيرة.
تنبه على قول جنيدي بصوت يعلو عن الهمس: زار القهوة صباح اليوم أحد المرشحين.
ثم بصوت ملون النبرات: عرض مبلغًا لجعل القهوة مقرًّا انتخابيًّا.
قال من بين شروده: مَن هو؟
– لا أعرف … في حوالي الخمسين، ويرتدي بدلة وطربوشًا.
– كل المرشحين يرتدون البدلة والطربوش.
استطرد في غضب: ما هو الحزب الذي يمثله؟
– لا أعرف!
جز على أسنانه: لا أعرف! لا أعرف! ما عملك في القهوة إذَن؟!
ورمقه بنظرة فاهمة: أثق أنك وراء مجيء هذا الرجل.
أشار جنيدي إلى نفسه: أنا؟!
مال بظهره إلى الوراء: هل تحسبني لا أعرف سبوبة المحكمة الشرعية؟!
كانت القهوة بالقرب من المحكمة الشرعية. وكان المترددون على المحكمة من المحامين وأصحاب الدعاوى وموظفي المحكمة، يلتقون في القهوة، للتحدث في القضايا، وعقد الاتفاقات والمحاسبة. لم يفُت هشام ولا نزلاء القهوة ترحيب جنيدي بالقادمين من المحكمة. يناديهم بأسمائهم، ويدخل معهم في مناقشات هامسة.
بدا غياب جنيدي جزءًا من حياة القهوة. ألِف اعتذاره بشراء حاجيات من السوق، أو أداء الصلاة في مسجد تربانة، أو لقاء صديق في شارع الميدان. ورأى جنيدي وهو يدخل المحكمة الشرعية، ويخرج. دقائق الغياب في الداخل يسبقها، ويليها، همسات جنيدي وغرباء. المشاريب تبرير لجلوسهم. ربما انصرفوا دون أن يقربوا ما طلبوه. عرف بصلاته مع المحضرين وسكرتيري المحكمة ووكلاء المحامين. التقط من تعبيراته فهمه لقانون الأحوال الشرعية. وكان يخرج من جيبه نوتة صغيرة، يسجل فيها — لا بد — مواعيد المحامين، وأصحاب الدعاوى، ومواعيد الجلسات … ذوي الاهتمام بتعويض الرجال ما كان على جنيدي أن يفعله أوقات غيابه. جاوز الأمر لقمة العيش في المحكمة الشرعية إلى مناقشة جعل القهوة مقرًّا انتخابيًّا.
هل يطول الانتظار حتى يبيع جنيدي القهوة؟
قال جنيدي: يقصدني بعض المترددين على المحكمة، فأدلُّهم.
وشت الكلمات بسخرية: سأدعوك جنيدي المحامي.
في لهجة متذللة: أنا خادمك يا أستاذ هشام … ما أفعله خدمات للناس.
شعر هشام أن الموقف أبسط من أن يثير فيه كل هذا الغضب. يعلو بصوته، ويحرك شفتيه بالأسئلة والاتهامات، لكن النيران المشتعلة في داخله تنشد فوهة بركان تنطلق منها.
الانتخابات!
لم يكن يحب السياسة ولا الأحزاب، وحين وجد نفسه وسط مظاهرة غادرت باب الكلية، مال في أول شارع جانبي.
هبت نذر الرياح الساخنة منذ أسبوع.
قال المعلم كشك: تلقيت أكثر من عرض لجعل القهوة مقرًّا انتخابيًّا.
أظهر هشام دهشته: وأين يذهب ناس القهوة؟
قال المعلم: النشاط الانتخابي له مواعيده.
ثم وهو يهز إصبعه مذكرًا: عملنا في النهار يقتصر على القهوة.
دخل ثلاثة يرتدون البدل. جلسوا بالقرب من باب القهوة. خمن هشام أنهم قدموا من المحكمة الشرعية، القريبة. عاد جنيدي بطلباتهم الهامسة إليه. حدجه هشام بعينين غير متنبهتين، ثم علا صوته بالسؤال: ماذا قلت؟
قال جنيدي: يريدون جعل القهوة مقرًّا انتخابيًّا لمرشح الوفد.
– هل يتبعون المرشح الذي جاء في الصباح.
– لا!
قال عم محمد الطوشي: وناس القهوة؟!
قال أوسط الرجال الثلاثة: تعرف أن القهوة لوكاندة أيضًا.
وأضاف مذكرًا: لن نحتاج إلى القهوة فترة الليل.
ماذا جرى في الدنيا؟
إعلان موعد الانتخابات ضغطة زر تحرك بعدها الجميع: اللافتات، والسرادقات، والبرامج الانتخابية، واللقاء في البيوت والدكاكين، وجلسات القهاوي، والمشاركة في المناسبات.
قال هشام: والدي من محبي سعد باشا.
ومد يده للمصافحة: لكن القهوة مكان أكل عيش.
قال أوسط الرجال: نحن نحتاج مكانًا يلتقي فيه مرشح الوفد بناخبيه.
قال هشام: أهلا بكم … وإن كانت الكلمة لأبي … المعلم كشك!