آفاق قريبة
فاجأه بالزيارة.
كانت أنسية قد انصرفت، وتهيأ للنوم. حدثته — للمرة الأولى — فيما لم يكن يتصور أنها تبوح به: تأخر الإنجاب، والخوف من المستقبل. وقفت إلى جانب الطرقة المفضية إلى داخل الشقة. ترتدي جلابية من الكستور، وتحيط رأسها بمنديل أسود، وحافية القدمين.
قال مهوِّنًا: الأولاد عطية من الله … قد يمنحها، وقد يمنعها.
قالت أنسية: سيد لا يعرف ذلك.
علا صوته بالدهشة: أليس مؤمنًا؟
قالت: مؤمن وموحد بالله … لكنه يعتبرني مسئولة عن عدم الخلفة.
ومضت على شفتيه ابتسامة مترفقة: ربما العيب فيه هو.
أطل من عينيها تعب واضح: يرفض حتى إجراء التحليل.
– خطأ … الخلفة طرفاها اثنان … رجل وامرأة.
فطن إلى أنه ربما سار في طريق غير مأمونة، فسكت.
أجهشت في البكاء فجأة، بكاء منفعل عالٍ، تخالطه شهقات متصلة، تقطَّعت في نشيج مرتفع. لاحظ ارتعاشة نهديها تحت الجلابية، فأدار وجهه إلى الناحية الأخرى.
لم يدرِ كيف يتصرف: وحِّدي الله … سيكون خيرًا بإذن الله.
أمسك رأسه لحظات، ثم رنا إليها بنظرة مشفقة: اجعلي سيد يقرأ على رأسك بردة البوصيري … ربما تفيد.
– سيد يا دوب يفك الخط.
– لا نريد أكثر من هذا.
انتزع ورقة بيضاء من كراسة على بوفيه الصالة. كتب فيها كلمات، ودفعها إليها: هذه الكلمات من البردة … أعرف أنها للجمع بين النافرين من الأحباب.
استطرد موضحًا: الأزواج طبعًا!
في لهفة: ليت الكلمات تكون حجابًا يأتي بالولد.
قهره الارتباك. لم يجد ما يقوله: هل أكلم سيد؟
قالت من بين شهقاتها: لو عرف أني أشكو … قد يطلقني.
وهو يمسح — بتلقائية — جانبي فمه: لي طريقتي في الكلام معه.
أن تعاني مع سيد، يضايقها ويخاصمها ويثور عليها، أفضل من التلطم في البيوت، تسلم جسمها لمَن تختلط ملامحهم في رأسها. تخلي له أكثر من مساحة السرير، لا تسلم عينيها للنوم إلا إذا أحست باقتراب أنفاسه، والتصاق جسمه. حتى لو أدار وجهه إلى الناحية المقابلة، تعزت بسماع شخيره العالي، لا يضايقها. تحيا بالأمل منذ يعلق الجنين في الرحم. شحذت الطفل من الله تعالى. نذرت إن وُلد الجنين في موعده، وعاش، تشحذ له من المصلين على باب المرسي أو ياقوت العرش.
دفعت بيديها خطرًا غير مرئي: أنت لا تعرف سيد!
خالط صوته حنو واضح: زوجك طيب … لكنك تصعِّبين الأمور.
رفضها لتدخله، وشي بالطريق المسدودة. اكتفى بهز الرأس، والغمغمة بكلمات لم يتدبرها، ولا قصد بها معنى محددًا. مجرد أن تنتهي اللحظات القاسية.
داخلته راحة لاتجاه أنسية إلى المطبخ. ظل في مكانه على الكرسي المجاور للبلكونة المطلة على سيدي البوصيري. أصاخ سمعه لصوت فتح باب الشقة وإغلاقه. ثم تابعها وهي تميل من البيت، في طريقها إلى السيالة.
مع أنه اطمأن إلى إبراهيم سيف النصر، وتكلم معه فيما لم يكُن يتصور أنه يبوح به. أنس إليه، فأقبل عليه. أفرغ له كل ما في نفسه. لم يفرق بين ما يمكن البوح به، وما هو سر. حتى دخائل بيته لم يكن يجد حرجًا في روايتها … مع ذلك، فإنه كان يجد في جلساء القهوة معارف، شركاء وقت ينتهي بانقضائه، لا تمتد تأثيراته إلى حياته في البيت، ولا خارجه.
لاحظ أن الرجل يحرص على ارتداء البدلة والكرافتة، ويضع الطربوش على رأسه. لا يبدل حرصه طيلة العام. يمسك في الصيف مذبة يطرد بها الذباب، ويُخرج — من جيب الجاكتة — منديلًا، يمسح به العرق في وجهه وعنقه، ويدسه في الجيب ثانية.
استأذن — لامتلاء جسمه — في الجلوس على الكنبة المواجهة للطرقة.
– هذه موضوعات تهمك.
دفع له بمجلة لم يتبين اسمها.
قلب الغلاف وصفحات في الداخل: واضح أن موضوعاتها عن الشيخوخة.
قال أدهم أبو حمد: هذا صحيح.
داخله شعور لم يألفه من قبل. قلق غامض لا يدري مصدره، وإن حمل إليه شعورًا بأن زيارة الرجل تحمل ما ينغص عليه.
أضاف أدهم أبو حمد وهو يحك جبهته بظفر إبهامه: اشتريتها منذ أيام … تصورت أنها قد تفيدك.
ولون صوته بنبرة إشفاق: أنت الآن في سن الشيخوخة.
كان الموت دائم الإلحاح في الفترة الأخيرة. لكن الكلمات ضايقته. كره الوجه الأبيض المستدير، المشرب بالحمرة والنمش، والعينين الساجيتين المطلتين من نظارة طبية، واللغد الذي يغطي الرقبة، فتبدو مدسوسة داخل الجسم، والأذنين الكبيرتين، يتوضح تجويفهما على جانبي الوجه.
ما معنى الشيخوخة؟
إنه ينام، ويصحو، ويأكل، ويقرأ، ويستمع إلى الراديو، ويخرج، ويجلس على القهوة، ويتمشى على الكورنيش. لا يشغله العمر، وما إذا كانت له طبيعة تستدعي المراجعة. خرج إلى المعاش في السن القانونية. لم يقرن انقطاعه عن العمل بمعنى آخر. الوحدة هي ما يضايقه. أحس بها قبل أن يبلغ المعاش بسنوات.
الشيخوخة؟ ما هي؟ وما صورته في أعين الناس؟ وكيف يجب أن ينظر إلى نفسه؟ هل يقرأ، ويتبع إرشادات، ويلتزم بما لم يكن مهيئًا له؟
اغتصب ضحكة: بلوغنا سن المعاش لا يعني الشيخوخة.
وهو يعالج ربطة الكرافتة: المكابرة مرفوضة … علينا أن نحسن مواجهة ما تبقى من أيامنا.
وأطل في عينيه أسى: الشخص البدين يموت دائمًا قبل السبعين.
واحتواه بنظرة متأملة: قوامك يمنحك فرصة العيش إلى سن متقدمة … أما أنا.
وأشار إلى جسمه: لا بد من أن ألتزم بريجيم حاد لإنقاص وزني.
خشي أن يكون الضيق ظهر عليه. حين أتبع نجاتي جرسون قهوة المهدي اللبان كلامه معه بالقول: يا بركة. بدت الكلمة ثقيلة الوقع. لم يعُد هو. لم يعُد مثل الأيام الخوالي. لعمره الحالي أسماء وصفات تقال لمَن هم في سنه. مجرد أنه يحيا، يأكل، وينام، ويجلس، وينقل خطواته، وينتظر.
فرضت المجاملة تظاهره بالإنصات. تمنى لو أن الرجل أنهى كلامه، وانصرف. فكر أن يقاطعه، يحدثه فيما اعتاد تناوله. بحث عن طرف الخيط مرات، ثم أفلته.
قال ليجاوز الإطار الذي وضع فيه الرجل حديثهما: أخبرني صديقنا إبراهيم سيف النصر ببطولاتكم.
زوى ما بين حاجبيه: أية بطولات؟
قال الكاشف: مشاركتكم في أحداث ثورة ١٩١٩.
غلب على لهجته فتور: شقاوة شباب!
لاحظ عزوفه عن الحديث في نشاطه السياسي، مشاركته في الأجهزة السرية، ظروف اعتقاله والحكم عليه بالإعدام، وإفلاته من حبل المشنقة. منطقة يخفيها، لا يتكلم عنها، ولا يشير إليها. إذا شعر بتلميح للاقتراب منها، تقنفذ، ولزم الصمت، وإن تناثرت في عبارات مبتسرة، لمحات من حياته، ومضات في مساحات من السواد. الحياة في الخطر والخوف وتوقع المجهول: تنقل الإقامة بين أكثر من مكان، النوم بعينين نصف مغمضتين، الاندساس في الزحام ووسط الناس، الحذر من الأعين المتسائلة والمتوجسة، متابعة ما تنشره الصحف. وقائع كثيرة، كان الفضول يناوشه للتعرف إلى ملابساتها. لكن الجهامة التي كسا بها الرجل وجهه، تصده، وإن أعطى انتباهه لكلام إبراهيم سيف النصر عن الرجل، وللمعلومات الومضات التي يعقب بها الرجل على مناقشات القهوة.
قال في لهجة محرضة: مقاومتكم للإنجليز لا تسمى شقاوة شباب.
– خرج الإنجليز، فكتم أنفاسنا من هو شر منهم!
– ذلك لا يلغي أنك واجهت الإعدام؟!
– وهل يختلف الأمر فيما نحياه الآن؟
– طبعًا … جهاد هذه الأيام يقتصر على المظاهرات وتحطيم الدكاكين والتراموايات.
بدا له الرجل كارهًا للناس، عزوفًا عن مخالطتهم، إلا بما يمليه عليه الشعور بالوحدة. فهم بواعث كرهه لحزب الوفد. ظلمته قياداته. أكلته لحمًا ورمته عظمًا، لكن الناس، حتى الذين يترددون على القهوة، لا يعرفون شيئًا من الماضي الذي رواه له عنه إبراهيم سيف النصر.
أصاخ السمع لأصوات بعيدة غير مرئية، بينما الرجل يواصل التحدث فيما لم يعطه انتباهه. داخله — للمرة الأولى — إحساس بالضيق، وربما الكره، من الرجل. يتكلم ويتكلم. تعمَّد ألا يتنبه للتعبيرات والمعاني، وإن توضحت كلمات لم يحاول وصلها بالسياق، ولا تدبر دلالاتها. ضايقته، فأهملها. شوش عليها في داخله، فلم تصله.
أغمض عينيه كالمنصت. يقاوم الرغبة في إسكات الرجل، في دفعه خارج الباب، هو والمجلة، ونصائحه.
أخرج أدهم أبو حمد من جيب بنطلونه الصغير، الأمامي، ساعة فضية بكاتينة. تأملها، ثم أعادها.
– أستأذن!
تنبه للعبارة لما أعادها الرجل بصوت مرتفع. كان قد ألقى بنفسه في جزر بعيدة، لا تصلها حتى أصداء كلام الرجل.
فزَّ بتلقائية.
سبق إلى باب الشقة. استعصت الكلمات المودعة، فاكتفى بهز رأسه، واستعار بسمة ود.
ظلَّ على صمته، وهو يُغلق الباب.