نيكولاس كوبرنيكوس: فقدان المركزية
عالم الرياضيات الذي يدرس حركات النجوم يشبه بالتأكيد رجلًا أعمى عليه أن يقوم برحلة خطرة كبيرة لا نهائية وسط أماكن مقفرة لا تُحصى، وليس معه سوى عصًى تقوده. (ريتيكوس، «المقال الأول» (١٥٤٠)، ١٦٣)
(١) بطليموس وكوبرنيكوس
كتب المؤلف المسرحي الألماني برتولت بريشت مسرحيته «حياة جاليليو» في المنفى في عامي ١٩٣٨ و١٩٣٩، ومُثِّلت لأول مرة في زيوريخ في عام ١٩٤٣. في مسرحية بريشت، تصطدم وجهتا نظر: هناك الرؤية الكونية القائلة بمركزية الأرض، التي ترى أن الأرض هي مركز لكون مغلق. ومن بين العديد من أنصارها هناك أرسطو (٣٨٤–٣٢٢ قبل الميلاد) وبطليموس (٨٥–١٦٥ ميلادية)، ومارتن لوثر (١٤٨٣–١٥٤٦). على النقيض من ذلك هناك وجهة النظر المعارِضة لمركزية الأرض، وهي الرؤية الكونية القائلة بمركزية الشمس، والتي ترى أن الشمس تحتل مركز كون مفتوح. ومن بين العديد من أنصارها هناك كوبرنيكوس (١٤٧٣–١٥٤٣)، وكِبلر (١٥٧١–١٦٣٠)، وجاليليو (١٥٦٤–١٦٤٢)، ونيوتن (١٦٤٣–١٧٢٧).
يعرض عالم الرياضيات والفيزياء الإيطالي جاليليو جاليلي في الفصل الأول على مساعده أندريا نموذجًا للنظام البطلمي. تقبع الأرض في المنتصف، وتحيط بها ثماني حلقات. تُمثِّل هذه الحلقات الأفلاك البلورية التي تحمل الكواكب والنجوم الثابتة. تجهَّم جاليليو وهو ينظر إلى هذا النموذج، وقال ممتعضًا: «نعم، الجدران والمجالات والثبات. لمدة ألف سنة والناس يعتقدون أن الشمس وجميع نجوم السماء تدور حول الجنس البشري.» ويعتقد الجميع أنهم «كانوا يجلسون بلا حراك داخل هذا الفلك البلوري.» كانت الأرض ثابتة وكل شيء آخر يدور حولها. وأكد جاليليو لمساعده: «لكننا الآن سنتخلص منه.» لم تعُد النجوم في النموذج الجديد «مثبتة في سماء بلورية»، بل سُمح لها بأن «تدور في الفضاء دون دعم» (بريشت ١٩٦٣؛ بلومنباخ، ١٩٨١، المجلد الثالث، ٧٦٢–٧٨٢).
في الفصل الثاني، يزور رجلان مثقفان، عالمُ رياضيات وفيلسوف، جاليليو في مكتبه لإلقاء نظرة على أقمار كوكب المشتري من خلال التليسكوب المكتشَف حديثًا. يشرح جاليليو باختصار إخفاقات النظام البطلمي لهما. ببساطة، هذا النظام لا يتفق مع الحقائق؛ فالكواكب ليست «في المكان الذي ينبغي أن تكون فيه نظريًّا» وحركات أقمار كوكب المشتري حول الكوكب — اكتشاف جاليليو العظيم — ببساطة لا يمكن تفسيرها من خلال النظام البطلمي. لا يمكن وصف ذلك بالكلمات! رؤية العين أفضل من الكلام. وبسذاجة إلى حدٍّ ما، يسأل جاليليو ضيفيه المثقفَين هل كانا «مهتمَّين بالبدء من خلال مشاهدة أقمار كوكب المشتري تلك.» لسوء حظ جاليليو، رفض عالم الرياضيات والفيلسوف كلاهما دعوته، وبدلًا من المشاهدة، طلبا «مناقشة رسمية» بالطريقة العلمية. سأله الفيلسوف: «يا سيد جاليليو، قبل أن نتوجه إلى تليسكوبك الشهير، أتساءل هل كنا نستطيع الحصول على شرف إجراء مناظرة؟ يمكن أن يكون موضوعها: هل يمكن أن يوجد مثل هذه الكواكب؟» يريدهما جاليليو ببساطة أن «ينظرا من خلال التليسكوب» ويقتنعا بنفسيهما. ويقول عالم الرياضيات: «بالطبع، بالطبع، أعتقد أنك على معرفة برأي القدماء بأنه لا يمكن أن توجد نجوم تدور حول مراكز أخرى غير الأرض، ولا نجوم توجد دون دعم في السماء؟» أضفى بريشت فحسب بعض الدرامية على حدث حقيقي. في رسالة إلى يوهانز كبلر (بتاريخ ١٩ أغسطس ١٦١٠)، أعرب جاليليو عن حزنه للرفض القاطع من أساتذة علميين، مثل سيزار كريمونيني — أستاذ العلوم الإنسانية في جامعة بادوا — لمشاهدة القمر والكواكب عبر التليسكوب المُخترَع حديثًا (بلومنبرج، ١٩٥٥، ٦٣٧).
(٢) صراع رؤيتين كونيتين
يجسد بريشت في مسرحيته صراع رؤيتين كونيتين ببراعة وهو يرسم الحوار الدائر بين جاليليو وزائرَيه المثقفَيْن. تنتهي المناظرة بعدم رضا كلا يعرض عالم الرياضيات والفيزياء الإيطالي الطرفين، وسريعًا ما يغادر الزائران دون النظر عبر التليسكوب. إن الالتزام بفكرة مركزية الأرض يجعل زائرَيْ جاليليو يستخفَّان باستناده إلى الأدلة الرصدية. والتمسك بفكرة مركزية الشمس يجعل جاليليو يفقد الثقة في جدوى المناقشات العلمية. ومن أجل فهم طريقة وصول أنصار كلتا الرؤيتين المتعارضتين إلى هذا التصادم العنيف — على غرار الصدام الدرامي في مسرحية بريشت — علينا أن ندرس عن كثب الفرضيات الخاصة بهما. ينبغي أن ندقق في بنية الرؤية الكونية القائلة بمركزية الأرض والرؤية الكونية القائلة بمركزية الشمس.
مركزية الأرض تسبق مركزية الشمس بألْفِيَّة ونصف. كان كوبرنيكوس يعرف السلف القديم أرسطرخس الساموسي، الذي طرح فكرة أن الأرض تتحرك، لكن مركزية الأرض ظلت التفسير الرسمي لبنية الكون حتى ذبولها البطيء في القرنين السادس عشر والسابع عشر. جرى الحوار بين جاليليو وزائرَيه في صيف عام ١٦١٠، وكانت فرضية كوبرنيكوس معروفة منذ ٦٧ عامًا. واستغرق اعتراف نظرية مركزية الأرض بالهزيمة أخيرًا ٧٧ عامًا أخرى؛ حتى نُشِرَ كتاب «المبادئ» لنيوتن (١٦٨٧). استغرقت رؤية كوبرنيكوس الكونية ١٤٤ سنة من المناقشات النشطة والبحث لتصبح راسخة. هل يمكن أن تستغرق ثورة علمية كل هذا الوقت؟ ما يهم بشأن الثورة ليس طول المدة التي تستغرقها، وإنما عمقها؛ فما يجعل التغيير ثوريًّا هو الإرباك الذي يُحدِثه في البنية الراسخة، قلب وجهات النظر، استبدال المسلَّمات. إنه يُمثِّل إعادة ترتيب عامة لعناصر الشبكة، سواء أكان مفاهيميًّا أم سياسيًّا أم اجتماعيًّا. فتُقتلَع بعض عناصر النظام، ويُستبدل بعضها، ويبقى بعضٌ آخر. ولكي نفهم الثورة العلمية — الكتلة المتشابكة من العناصر الفلسفية والعلمية — نحتاج إلى فهم النظام «قبل» إعادة ترتيبه؛ لذلك، لكي نفهم الثورة الكوبرنيكية، نحتاج أن نفهم الرؤية الكونية القائلة بمركزية الأرض.
(٢-١) مركزية الأرض
الآن، بنى القدماء سماءً فوق سماء، مثل طبقات في جدار، أو باستخدام تشبيه أقرب، مثل قشر البصل: الطبقة الداخلية تدعم الخارجية (…). (كبلر، «خلاصة الفلك الكوبرنيكي» ١٦١٨–١٦٢١، الكتاب الرابع، الجزء الأول)
مركزية الأرض أكثر بكثير من وجهة نظر تقول إن الأرض توجد ثابتة بلا حركة في مركز الكون؛ فهي ترقى إلى رؤية كونية نشأت عبر مرحلتين. أولًا: قدَّم أرسطو علم الكونيات الفيزيائي؛ فن عمارة الكون الأكبر. تضمَّن علم الكونيات لديه نظرية مهمة للحركة. قدَّم أرسطو بعض الأفكار غير المُرضِية عن حركات الكواكب. قدَّم بطليموس في المرحلة الثانية علم الفلك الرياضي؛ هندسة حركات الكواكب. أعاق هذا التقسيم اليوناني للعمل بين علم الكونيات الفيزيائي وعلم الفلك الرياضي تطور علم الفلك لقرون (دكسترهوز ١٩٥٦؛ ميترشتراسيه ١٩٦٢، الفصل ٤.٤؛ دي سولا برايس ١٩٦٢). وذلك لأنه يفصل بين سؤال الديناميكا عن الأسباب الفيزيائية — لماذا تتحرك الكواكب بطرق معينة؟ — وسؤال علم الحركة عن الحركة، كيف يمكن وصف حركة هذه الأجرام رياضيًّا؟ يتبنى بطليموس في كتابه «المجسطي» (نُشر حوالي ١٥٠ ميلادية) هذا التقسيم صراحةً. تتعامل الفيزياء مع الأجسام القابلة للفناء الموجودة على الأرض؛ فلا ترقى إلى أكثر من تخمينات، وهذا بسبب «الطبيعة غير الواضحة للمادة» أما الرياضيات، فهي تقدِّم معرفة محددة؛ لأنها تدرس طبيعة «الأشياء المقدسة والسماوية» (بطليموس ١٩٨٤، ٣٦). واستمر هذا التقسيم حتى اكتشاف قوانين كبلر للكواكب في بداية القرن السابع عشر. وبوصفها رؤية كونية، ادعت نظرية مركزية الأرض أنها تقدِّم تفسيرًا علميًّا لما كان يُعتبر حينها أنه الكون، وألزمت أتباعها بعدد من الالتزامات الفلسفية، كما قدَّمت رؤية شاملة ومتَّسقة عن الكون إلى المؤمنين بها. وكذلك فعلت نظرية مركزية الشمس. ثمة الكثير من الأمور على المحك، وقد صوَّرت مسرحية بريشت على نحو صحيح اللقاء الفاتر بين رجال العلم الثلاثة في عام ١٦١٠ كتصادمٍ بين رؤيتين كونيتين.
(٢-٢) علم كونيات أرسطو
يبني أرسطو علم الكونيات الخاص به على أساس كونٍ ذي فلكَيْن ونظرية الحركة. وفي وقت لاحق قدَّم بطليموس بعض التحسينات الرياضية.
-
(١)
يبني أرسطو كونًا ذا فلكَيْن. وهو مقسَّم إلى «الفلك فوق القمري»، الذي يضم القمر والمنطقة الواقعة خلفه، و«الفلك تحت القمري»، وهذه هي المنطقة بين الأرض والقمر. والأرض هي فلك صغير يقبع ثابتًا في المركز الهندسي لفلك دوَّار أكبر بكثير يحمل النجوم. والنجوم عبارة عن علامات على الفلك الخارجي. وفي هذا التخيُّل يسبب الدوران المستمر للفلك الخارجي دورات النجوم اليومية. وبين الفلك الخارجي والأرض توجد أفلاك أصغر متحدة المركز تحمل الكواكب الستة التي كانت معروفة آنذاك، بما في ذلك الشمس (شكل ١-١).
يرى أرسطو أن الفلك فوق القمري منطقة في غاية «المثالية والتماثل والانتظام». رسم الإغريق هذه الدائرة كشكل هندسي مثالي؛ ولذلك تبعًا لمثالية الفلك فوق القمري، من المفترض أن تتحرك النجوم والكواكب في دوائر مثالية. وعلى النقيض من ذلك، يُمثِّل الفلك تحت القمري منطقة «تغيير وتقلُّب وفناء». ويمتلئ هذا الفلك تحت القمري بأربعة عناصر: التراب والماء والنار والهواء. وإذا لم تتعرض العناصر للاضطرابات، فإنها تستقر في صورة قشور متحدة المركز حول المنطقة المركزية التي تشغلها الأرض، ولكن بسبب الحركة في فلك القمر، تختلط العناصر في جميع أنحاء العالم تحت القمري؛ ومن ثَمَّ تُعد حركات الفلك القمري مسئولة عن جميع التغيرات ومعظم أوجه التنوع المرصودة في العالم تحت القمري (كون، ١٩٥٧، ٨٢-٨٣).
يبدو علم الكونيات المبني على مفهوم «البصلة الكونية» هذا غامضًا للغاية بالنسبة للشخص الحديث، لكن في نظر القدماء، قدَّم أرسطو النظرية الأكثر شمولًا وإقناعًا لبنية الكون؛ فقد بدت مفسِّرةً لبعض ملاحظات العين المجردة التي كانت موجودة في ذلك الوقت؛ فكما بدا، يمكن الاستدلال على مركزية الأرض من مسار الأجسام الساقطة على الأرض والحركة الدائرية للنجوم.
اقتداءً بالفيلسوف اليوناني والفلكي إيودوكسوس (٤٠٨–٣٥٥ قبل الميلاد)، افترض أرسطو أن الكواكب والنجوم كانت تتحرك في قشور متحدة المركز (أو أفلاك) حول الأرض الواقعة في المركز (شكل ١-٢). بدراسة أكثر دقة، يجب أن يفشل هذا النموذج البسيط، بل إنه حتى لم يتوافق مع ملاحظات الإغريق؛ فعلى سبيل المثال، إذا كانت الشمس محمولة حول الأرض المركزية في قشرة متحدة المركز، كان الليل والنهار سيبقيان دائمًا متساويَيْن في الطول. مع ذلك، عرف الإغريق من ملاحظاتهم أن النهار والليل لهما أطوال متغيرة، اعتمادًا على فصل السنة (انظر القسم ٣-٢). ولاحظ الإغريق أيضًا أن الكواكب تتحرك على مسافات متفاوتة حول الأرض. كان لا بد من إسقاط نموذج الأفلاك متماثلة المركز؛ فقد كان متناقضًا مع المشاهدات الأولية. كان من بين إنجازات بطليموس أنه شيَّد نموذجًا هندسيًّا على أساس الهندسة الأكثر تعقيدًا. وتضمَّن ذلك اختراع أجهزة جديدة هندسية: الدوائر اللامتراكزة وأفلاك التدوير والمؤجلات والموازِنات (دكسترهوز ١٩٥٦، ١٤٧؛ روزن ١٩٥٩، المقدمة؛ كوبرنيكوس، «الشرح المختصر» ١٩٥٩، ٥٧؛ كوبرنيكوس ١٥٤٣، الكتاب الخامس؛ دراير ١٩٥٣، ١٤٣). -
(٢)
رغم الاستبدال السريع لوجهات نظر أرسطو البدائية إزاء أفلاك الكواكب، كانت «نظرية الحركة» التي خرج بها هي المساهمة الأبقى أثرًا بكثير. لقد ابتكر أرسطو نظرية الحركة المهمة الخاصة به لدعم نموذجه للكون. فنموذج «البصلة» الكونية جعل الأرض جسمًا مركزيًّا ثابتًا. كيف يمكن تبرير هذه المركزية؟ ادعت نظرية الحركة تقديم آلية فيزيائية لتفسير مسار كافة الأجسام، الأرضية والسماوية على حد سواء.
وفقًا لنظرية الحركة لأرسطو، فالأجسام إما تظل ساكنة أو تتحرك في خط مستقيم: فالحجر يسقط عائدًا نحو مركز الكون، الذي تقبع فيه الأرض، والدخان يرتفع إلى أعلى نحو السماء؛ بحثًا عن مكانه الطبيعي. تُشكِّل الحركة صعودًا وهبوطًا الحركات «الطبيعية» للأجسام. ويتطلب صرف الأجسام عن حركتها الطبيعية دفعةً أو قوة خارجية. ولكي تتحرك الأجسام فإنها تحتاج إلى محرِّك يحركها؛ فلا حركة من دون محرِّك: «كل شيء يتحرك عن طريق شيء آخر» (أرسطو ١٩٥٢أ، الكتاب السابع والثامن). بالطبع، استطاع أرسطو أن يلاحظ أن المقذوفات لا تتصرف بهذه الطريقة؛ فالحجر المقذوف في الهواء أو السهم المنطلق من القوس يطير عادةً في مسار على شكل قطع مكافئ قبل عودته إلى الأرض. واستطاع أرسطو أن يفسر حركة القذيفة؛ فبعد إطلاق الجسم من المحرك، أصبح الهواء المضطرب هو مصدر الدفعة الخارجية، وأطال أمد حركة القذيفة.١ وفي النهاية يستسلم الجسم إلى زاوية ميله من أجل العودة إلى الأرض.الحركة الطبيعية للأجرام السماوية دائرية، والحركة الدائرية مستمرة ولا تنتهي. ويرى أرسطو أن الحركة المستمرة — الحركة الدورانية للكواكب — يسببها محرِّك ثابت؛ ذاتٌ إلهية (أرسطو ١٩٥٢أ، الكتاب الثامن).
وهكذا فإن الأجسام لها حركات طبيعية وغير طبيعية، كما أنها تحتل أماكن طبيعية في الكون. اعتقد أرسطو أن اللبنات الأساسية الأربعة للكون — التراب والماء والنار والهواء — تشغل مواضع طبيعية في الأرض وبالقرب منها. وإذا دُفعت العناصر بعيدًا عن مواقعها الطبيعية، فإنها «تسعى» لاستعادة موقعها الطبيعي؛ فعندما يُرفع حجر من الأرض ويطلق بعيدًا، فإنه يسعى إلى استعادة موقعه الطبيعي. وعندما تُشعل النار، فإن ألسنة اللهب والدخان تقفز لأعلى نحو مكانها الطبيعي في محيط المنطقة الأرضية. والمكان الطبيعي للتراب هو في المركز الهندسي للكون. وبالنسبة لجسم ثابت، يجب أن يكون موجودًا في مركز السماوات الدوارة؛ ولذلك، يخلص أرسطو إلى حتمية وجود الأرض (أرسطو ١٩٥٢ب، الكتاب الثاني). وأية قطعة من الأرض ستسقط دائمًا إلى حيث تنتمي طبيعيًّا؛ أي المركز الهندسي للكون. ومن خلال هذه الحجج المستمدَّة من الفيزياء الأرضية، لم يستنتج أرسطو مركزية الأرض وحسب، ولكن استنتج أيضًا ثباتها وكرويتها (أرسطو ١٩٥٢ب، الكتاب الثاني)، كما يشير إلى أنه خلال الخسوف القمري، يكون شكل ظل الأرض على القمر «منحنيًا دائمًا»، وعندما يسافر الراصدون شمالًا وجنوبًا على امتداد أحد خطوط الطول، فإنهم يرون نجومًا مختلفة في السماء. ولاحقًا أضاف بطليموس بعض الحجج الأخرى. كانت الشمس والقمر والنجوم تُشرق مبكرًا بالنسبة لسكان المناطق الشرقية من العالم عن إشراقها بالنسبة «لأولئك الذين يعيشون في الغرب» (بطليموس ١٩٨٤).
•••
يشكل كون أرسطو المادي ونظريته للحركة رابطًا منطقيًّا؛ فنظرية الحركة تجعل الكون منطقيًّا، ويوفر كونه الإطار اللازم للظواهر المادية كي توضع في فلكَيْن منفصلين. تحكم قوانين الحركة الأرسطية الفلك تحت القمري؛ فالفيزياء الأرضية تحكم الفلك تحت القمري، وتفسر قوانين الحركة المشاهدات المرصودة في هذه المنطقة من الفضاء: سقوط الأجسام الثقيلة وارتفاع الأجسام الخفيفة. وتنطبق الفيزياء السماوية في الفلك فوق القمري، وهذه هي منطقة الكمال، ولا تحوي سوى الأشكال الكروية والحركة الدائرية، كما أنها منطقة محدودة. في مسرحية بريشت، تذمر جاليليو من «جدران» و«جمود» كون مركزية الأرض. وقُدرت المسافة بين الأرض والنجوم بأنها عشرون ألف ضعف طول نصف قطر الأرض، وهذا التقدير أقل من المسافة بين الأرض والشمس المعروفة حاليًّا (زيليك ١٩٨٨، ٢٩–٣١). ويشمل الحد الخارجي فلك النجوم الثابتة. وعلى الرغم من أن هذا الفلك يدور دورة كاملة كل ٢٤ ساعة حول الأرض الثابتة، تبدو النجوم ثابتة لأنها تعود إلى الظهور في الموقع نفسه بعد كل دورة كما كانت في الفترة السابقة. والكواكب مناقضة لذلك، فهي «نجوم سيارة»، لأنها تقوم بحركات ملحوظة يمكن تتبُّعها خلال السماء. وكون أرسطو هو كون يعاني من نقص في الطاقة. وهذا النقص في الطاقة نتيجة مباشرة لنظرية أرسطو للحركة؛ فلا حركة من دون محرك؛ فالأجرام السماوية تتحرك في أفلاكها عن طريق محرِّك موجود خارج الفلك الخارجي. يتطلب كون أرسطو طاقة من وراء نطاق النجوم الثابتة؛ فهو كونٌ متناهٍ محدود. وكما سنرى فإن كون كوبرنيكوس أيضًا كون محدود ولكنه لم يعد يعاني نقصًا في الطاقة.
(٢-٣) مركزية الأرض عند بطليموس
قدَّم لنا أرسطو علم الكونيات ونظرية للحركة. وكانت هذه الخطوة الأولى في بناء نظرية مركزية الأرض. استُكملت الخطوة الثانية بعد عدة مئات من السنين، وتطلَّب الأمر هندسيًّا بارعًا للقيام بذلك؛ وهو كلاوديوس بطليموس. كان بطليموس الفلكي الأول الذي يصمم نظامًا رياضيًّا كاملًا للكون، وقد تنبأ بحركات الكواكب بدقة في حدود ٥ درجات من القيم الحديثة. كان نموذجًا يعتمد على مركزية الأرض مبنيًّا عن طريق المنطق الهندسي. ولاحقًا سيبني كوبرنيكوس نظامًا يعتمد على مركزية الشمس، وسيبنيه أيضًا معتمدًا على المنطق الهندسي. استخدم بطليموس الهندسة لوصف المشاهدات الفلكية. وكان يتفق مع أرسطو بأن الأفلاك السماوية، التي تحمل الكواكب، تقوم بحركة منتظمة. كما افترض أن الأرض كروية، وموجودة في مركز الكون، وثابتة؛ فكان يرى أنه إن لم تكن الأرض مركز الكون، لم يكن سيحدث اعتدالان، وأن «الفترات الفاصلة بين الانقلاب الصيفي والشتوي لن تكون متساوية» (بطليموس ١٩٨٤). قدَّم بطليموس أسبابًا وجيهة تمامًا لرفض الفكرة السخيفة بوجود أي حركة للأرض. ويقال إن أرسطرخس الساموسي (٣١٠–٢٣٠ قبل الميلاد) أشار إلى الدوران اليومي والسنوي للأرض (دراير ١٩٥٣، الفصل السادس، ١٣٦–١٤٨؛ دكسترهوز ١٩٥٦، الفصل الأول؛ كون ١٩٥٧، الفصل الأول؛ كوستلر ١٩٦٤، ٥٠–٥٢)، ولكن إذا كانت الأرض تتحرك، فسكانها سيشعرون بآثار ذلك بوضوح؛ فإذا كانت الأجسام التي تُلقى في خط مستقيم لأعلى في الهواء تعود في خط مستقيم إلى النقطة التي أُطلقت منها، والمباني تنهار تحت وطأة الحركة، وإذا كانت الطيور تطير من الغرب إلى الشرق (بطليموس ١٩٨٤؛ قارن كوبرنيكوس ١٥٤٣، الكتاب الأول)؛ كان منطقيًّا — بالنسبة للعقل الإغريقي — أن الأرض ثابتة.
ولكن ثمة مشكلة؛ فالراصد الأرضي لا يرصد انتظام حركة الكواكب مقابل خلفية من النجوم الثابتة. كان ينبغي على بطليموس — على غرار الفلكيين الآخرين من قبله — تفسير اختلافَيْن رئيسيَّيْن في حركة الكواكب من منطلق فرضياته الأساسية؛ أولًا: مسألة «الدوران غير المنتظم» للكواكب، وثانيًا: «الدوران القهقري» لها. تنشأ المشكلة بسبب أن المشاهدات لا تتفق مع الفرضيات البطلمية عن حركات الكواكب. المشكلة الأساسية لعلم الفلك القديم هي بناء نماذج هندسية تؤكد الفرضيات المسبقة وتفسر ظاهريًّا الحركات الواضحة للكواكب. إنها مشكلة الحفاظ على المظاهر البادية، وليس بناء نماذج واقعية للنظام الشمسي. وعلى غرار أسلافه الإغريقيين، اعتمد بطليموس على النماذج الهندسية لحل هذه المشكلات. حاول بطليموس ملاءمة المشاهدات مع فرضياته التي لا جدال فيها: الحركة الدائرية للأجرام السماوية ونظرية أرسطو للحركة، ولكن بطليموس حسَّن من فائدة النماذج. ابتكر بعض أسلاف بطليموس — على غرار هيبارخوس (١٩٠–١٢٥ قبل الميلاد) — أدوات هندسية جديدة للتعامل مع هذه المشكلات، وقد استُخدمت «الحركة اللامتراكزة» من أجل حل المشكلة الأولى، واستُخدمت «أفلاك التدوير» لحل المشكلة الثانية. وأشار بطليموس في كتابه المجسطي على نحو متكرر إلى أعمال هيبارخوس، عادةً بقصد تحسينها، وقدَّم جهازًا هندسيًّا جديدًا (الموازِن) للوصول إلى نموذج هندسي أفضل للظواهر البادية. وكان يعالج كل مشكلة على حدة. على سبيل المثال، في تعامله مع الحركة السنوية الظاهرة للشمس حول الأرض، تجاهل الحركة اليومية الظاهرة. وخلافًا لنموذج كوبرنيكوس، لا يقدِّم نموذج بطليموس نظامًا تكون فيه الظواهر البادية ناتجة عن عامل مشترك؛ على غرار حركة الأرض حول الشمس.
كانت المشكلة الأولى هي «الدوران غير المنتظم» للكواكب عبر دائرة الأبراج، بغضِّ النظر عن تأثير الدوران القهقري، كما أوضح كبلر لاحقًا، فإن الكواكب لا تدور حول الشمس بسرعة موحدة. فكلما كان الكوكب أقرب إلى الشمس، تحرك على نحو أسرع، وكلما ابتعد عن الشمس كان سيره أكثر بطئًا، ولكن لم يستطع الإغريق تقبُّل أن الدوران غير المنتظم حقيقي. كان يجب أن يكون ظاهريًّا.
وفق ذلك النموذج كانت الشمس تتحرك حول الأرض عبر دائرة لا متراكزة بسرعة منتظمة. وتوصف الدائرة بأنها «لا متراكزة» لأن الأرض لا تقبع في مركزها. فبينما تدور الشمس حول مركز الدائرة اللامتراكزة، فإن الأرض تكون بعيدة قليلًا عن المركز، والمسافة بين هاتين النقطتين مسئولة عن ظهور الاختلاف في الحركة. وكما يُرى من وسط الدائرة اللامتراكزة، يتحرك الكوكب من خلال زوايا متساوية في أزمنة متساوية، ولكن كما يُرى من الأرض، هذا الكوكب يتحرك من خلال زوايا مختلفة في أزمنة متساوية. بالنسبة للراصد الأرضي، عندما يكون الكوكب أقرب إلى الأرض، يبدو أنه يتحرك على نحو أسرع.
من أجل دراستنا الفلسفية اللاحقة، ينبغي أن نلاحظ عدة نقاط: كان بطليموس مدركًا للغاية لدور النماذج التمثيلية في نظريته. وكانت طريقته المعتادة هي استخدام النماذج الهندسية، ولكن من أجل تمثيل النجوم الثابتة اختار كرة مصمتة كنموذج مصغر (بطليموس ١٩٨٤). وفي الوقت نفسه، كان بطليموس قلقًا حيال ملاءمة فرضياته الخاصة بمركزية الأرض. وكان متشككًا بما فيه الكفاية لتحذير قرائه بعدم توقُّع أن يمثِّل نموذجه الهندسي الظواهر السماوية على نحو دقيق (بطليموس ١٩٨٤، ٦٠٠-٦٠١). وعلى غرار كون أرسطو ذي الفلكَيْن، حذر بطليموس من أن النماذج الهندسية المبتكرة على يد أحد سكان الأرض لا يمكن أن تصف بدقة كمال الظواهر السماوية. وكما سنرى، فإن مسألة كيفية تمثيل النماذج للواقع المادي تُعد محط اهتمام بالغ لدى الفلاسفة. وأخيرًا، اتفق بطليموس مع العرف الإغريقي بأن نماذج أفلاك التدوير والدوائر اللامتراكزة كانت أجهزة مماثلة (بطليموس ١٩٨٤؛ روزن ١٩٥٩، ٣٧؛ ١٩٨٤، ٢٧؛ دكسترهوز ١٩٥٦، ١). وأي من هاتين الفرضيتين سوف تفسر ظهور الدوران غير المنتظم للكواكب بالنسبة للراصد الأرضي، ومع ذلك، تبنَّى بطليموس مبدأ استخدام الفرضية الأبسط فحسب (بطليموس ١٩٨٤). ويثير قبول المتماثلات قضايا فلسفية مثيرة للاهتمام فيما يتعلق بالتفسير والتمثيل. فإذا كانت الدائرة اللامتراكزة تمثيلًا جيدًا مثل جهاز المؤجل-فلك التدوير، ألا توجد وسيلة لتحديد أيهما يتناسب مع النظام المادي الفعلي على نحو أفضل من الآخر؟ هذه المخاوف من التبعات الفلسفية للنظريات العلمية.
قبل أن نذكر بعض التطورات في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، والتي خلقت ظروفًا مناسبة لظهور الثورة الكوبرنيكية، ينبغي أن نضيف بُعدًا تاريخيًّا آخر؛ وهو التآلف بين «النظرية الأرسطية واللاهوت». وهذا البعد التاريخي هو ما يستطيع وحده أن يوضح أسباب الصدام بين جاليليو والكنيسة في القرن السابع عشر، وقد طوَّر هذا التآلف توما الأكويني (١٢٢٥–١٢٧٤) وألبيرتوس ماجنوس (١٢٠٦–١٢٨٠)، وغيرهما.
وفقًا لتوما الأكويني، تعتمد المعرفة الحقيقية على التجربة الحسية. ويؤكد ألبيرتوس ماجنوس أيضًا أن دراسة الطبيعة تقوم على التجربة الحسية، التي تقدِّم أعلى شكل من أشكال الإثباتات. وحيثما نفتقر إلى المعرفة، علينا أن نلتمس الوحي. فكمال السماوات — المفترض في التقاليد الإغريقية — يكافئ الآن القدرة الإلهية. ونتيجة لذلك، تقتصر معرفتنا على العالم على المدار تحت القمري. فكمال السماوات يتجاوز قدرات التفكير لدينا. يرحب الأكويني بالدراسة المنهجية للطبيعة؛ لأنه يرى في ذلك وسيلة لاكتساب المعرفة من حكمة الإله. وبعبارات أكثر حسمًا نقول إن توما الأكويني يأمل أن تساعد الدراسة المنهجية للطبيعة في القضاء على الخرافات. وانقيادًا لهذه الشروط، لا يجوز نشأة صراع بين الفكر والوحي؛ لأن عقلنا ضعيف وذو نقائص، وفي مسائل الشك يجب أن يخضع للحقائق الأبدية كما وردت في الوحي. كان هذا توجهًا ذهنيًّا شائعًا في العصور الوسطى. يدافع روجر بيكون (حوالي ١٢١٠–١٢٩٢) عن فكرة مماثلة. تكمن قيمة العلم في مساهمته في تفسير الكتاب المقدس؛ فهو يساعد على تمجيد الرب. وبمجرد أن اعتنقت الكنيسة مذهب أرسطو، أصبحت كل الانتقادات التي وُجهت إلى نظرية مركزية الأرض نقدًا موجهًا أيضًا للاهوت والكنيسة.
ومع ذلك فقد حدث تقدُّم، وحدثت بعض التطورات قرب نهاية العصور الوسطى. بيد أن التقدم اعتمد على القدرة على التغلب على الفرضيات التي لا جدال فيها، والتي تفرض قيودًا على النماذج المسموح بها. ويمكن التعبير عن هذه الحاجة لإزالة الفرضيات المسبقة قبل أن يحدث التقدم بعبارات كانط. يسأل كانط على نحوٍ عامٍّ للغاية متقلدًا دور كوبرنيكوس ولكن في الفلسفة: «ما شروط إمكانية حدوث المعرفة؟» وقياسًا على ذلك، يمكننا أن نسأل: «ما شروط إمكانية حدوث الثورة الكوبرنيكية والداروينية والفرويدية؟» ما الفرضيات الجديدة اللازمة لتكون نظرية كوبرنيكوس قادرة على الظهور؟ وقع التشكيك في الفرضيات القديمة على مرحلتين: جذبت نظرية أرسطو للحركة التدقيق النقدي قبل التشكيك في فكرة الحركة الدائرية.
(٢-٤) تنحية الفلسفة جانبًا: دلائل المستقبل
إذا اتبعنا التعليمات، فإن قدرتنا على بناء نوع «واحد» من النماذج تمثِّل في الوقت نفسه عجزًا عن بناء نموذج «مختلف». يمكننا التفكير في مجموعة الأدوات كإنشاء فضاء، على نحو أدق «فضاء محدد»، لاستيعاب النموذج الكوني. هذا الفضاء المحدد فضاء منطقي؛ لأنه يخلق بعض الاحتمالات المحددة لبناء النموذج، سواء تحققت أم لا. سيُسمح لنماذج من النوع الهندسي أن تشغل هذا الفضاء، وستُستبعد أنواع النماذج الأخرى. وتخضع لعبة الاحتمالات والمستحيلات للقيود التي نقبلها. عمل أرسطو في ظل قيود نظريته للحركة والكون ذي الفلكَيْن. إذا غيَّرنا هذه القيود، فسيظهر فضاء منطقي آخر، ويستوعب أنواعًا أخرى من النماذج. ويمكن فهم «القيود» على أنها شروط مقيِّدة، يجب التوافق مع عباراتها الرمزية من أجل أن تصبح عبارات علمية مقبولة بشأن العالم الطبيعي. وهذا يعلِّمنا بعض الدروس التي ستُثير اهتمام فيلسوف العلم.
-
(١)
تأتي النظريات العلمية مصحوبة ببعض «القيود»: قيود تجريبية ونظرية يمكن تقسيمها أكثر إلى قيود حسابية ومنهجية وميتافيزيقية. وتعمل النظريات العلمية في ظل هذه القيود. وباستثناء القيود التجريبية، تُمثِّل هذه القيود «فرضيات مسبقة». الفرضيات هي افتراضات أساسية محمية — على الأقل في الوقت الراهن — من التحقيق النقدي، كما تُقبل على أنها «حقيقية»؛ فهي بمنزلة بداهات تاريخية. إنها ليست معصومة من الشكوك، لكنها تظل حقائق لا جدال فيها لفترات معينة من الزمن. وسواء كانت صحيحة أو خاطئة، فإنها توجِّه الأبحاث في اتجاهات معينة. تحتوي مجموعة أدوات أرسطو مثل هذه الفرضيات؛ فالكون ذو الفلكَيْن وأجهزته الهندسية — بما في ذلك نظرية الحركة — يشكلان الفرضيات الأرسطية. يمكن أن تتعرض الفرضيات للشكوك. وحدث هذا عندما اسْتُبْدِلَت أجهزة أخرى بحلقات أرسطو المتحدة المركز. ومن خلال هذا التدقيق، تُعدَّل القيود أو تُرفَض. وبالفعل، سوف يغير التعديل على تعليمات النموذج، مع الحفاظ على العناصر، احتمالات بناء النموذج. على سبيل المثال، اعتماد أفلاك التدوير خلق فضاءً لنموذج بطليموس. وأحيانًا التعديل على أحد القيود يكون أكثر تأثيرًا. حرر التشكيك في نظرية الحركة الأرسطية والاستعاضة عنها بما يسمى «نظرية الزخم» الفضاء المُقيَّد من أجل تطوير نظريات جديدة. من الصعب أن نتصور كيف يمكن أن تظهر نظرية مركزية الشمس لو لم تتغير بعض الفرضيات الأساسية (بلومنبرج ١٩٦٥، الفصل ١). على سبيل المثال، كان كوبرنيكوس قادرًا على رفض بعض الاعتراضات الكلاسيكية ضد حركة الأرض، لأنه لم يعد يُسلِّم بنظرية الحركة الأرسطية. فسمح له تطور نظرية الزخم باعتبار أن حركة الأرض أمر طبيعي.
-
(٢)
يمكننا أن نرى أيضًا أن بناء النموذج الكوني لا يقتصر على قراءته من المشاهدات المتاحة وحسب. فلا يمكن أن يكون كذلك إذا كانت الفرضيات واقعًا للتفكير العلمي بقدر وسائله ونتائجه (فاينرت ٢٠٠٤). حتى وجهة النظر الاستدلالية البسيطة للمنهج العلمي لن تكفي، على الأقل ليس في حالة الثورات العلمية. لنُسمِّ وجهة النظر، التي ترى العلم تعميمًا مباشرًا نابعًا من المشاهدات والتجارب، «الاستدلال بالتعدد». انتقد فرانسيس بيكون بالفعل وجهة النظر تلك. فثمة طريقة أكثر تطورًا تُسمى «الاستدلال الإقصائي»، وأوصى فرانسيس بيكون بوجهة النظر هذه باعتبارها منهجًا علميًّا مثمرًا. لقد أطلق عليها اسم «الاستدلال الإقصائي»؛ لأن النماذج البديلة أو المنافسة تُواجَه بالأدلة التجريبية وغيرها من صور القيود. والنموذج الذي يُبْلِي على نحو أفضل في ضوء هذه القيود سوف يكتسب مصداقية، في حين أن النموذج المنافس سوف يفقدها. إذن، تتطلب وجهة النظر هذه وجود نموذجين متاحَين على الأقل يواجهان الأدلة. وكما سنرى، حدثت الثورتان الكوبرنيكية والداروينية من خلال الاستبعاد التدريجي لنماذج فاشلة في مواجهة عدد متزايد من القيود. أما وجه الصعوبة في الثورة الفرويدية فهو بالتحديد أن الأدلة المتوفرة غير قادرة على ترجيح كفة بعض النماذج عن كفة منافسيها. هل الأسلوب العلمي الغالب هو الاستدلال الإقصائي أم مبدأ الدحض الأكثر شيوعًا، كما اقترحه كارل بوبر؟
- (٣)
ثمة سؤال مباشر يطرأ على الذهن، وليس فقط لذوي النزعة الفلسفية. هل هذه الأدوات الهندسية تُمثِّل فعليًّا أفلاكًا مادية، في حين أن الاختلافات غير المنتظمة مجرد ظواهر؟ هل هذه الأدوات الهندسية — فلك التدوير والمؤجِّل، والموازِن والدوائر اللامتراكزة — تصف آليةً فيزيائيةً ما موجودةً في الطبيعة؟ هذه هي مسألة القوة «التمثيلية» للنماذج العلمية، التي شغلت بطليموس بالفعل. هل التمييز بين الظواهر والواقع — بين الطريقة التي يبدو أن الكواكب تتحرك بها وفقًا للرصد بالعين المجردة والطريقة التي قيل إنها تتحرك بها وفقًا للفرضيات الإغريقية — يتوافق مع سمة فيزيائية ما للكون؟ إذا كنا مهتمين بماهية العلم وما يفعله، فإن مثل هذه الأسئلة — على الرغم من أنها فلسفية بطبيعتها — لا مفر منها. وأيًّا كان الموقف الذي نتخذه استجابة لهذه الأسئلة، فإنها فعليًّا تؤدي دورًا حقيقيًّا. انقسم أنصار نظرية مركزية الأرض حيال هذه المسألة؛ إذ اعتقد أرسطو أن الأفلاك كانت أفلاكًا مادية حقيقية، كما تمتلك حركة طبيعية: دوران دائري. والحركة الطبيعية لتلك الأفلاك تُحرك كل الأجرام السماوية، وهي تعتمد على محرِّك ثابت من أجل الحصول على احتياجاتها من الطاقة. كان بطليموس أقل تأكُّدًا بكثير من الواقع المادي للكرات البلورية وأفلاك التدوير والمؤجِّلات التي استخدمها كأدوات هندسية. بالتأكيد كانت وظيفتها هي «تفسير الظواهر»، ولكن بطليموس لم يعتقد أن الأدوات الهندسية ملائمة للظواهر السماوية على نحو تام (بطليموس ١٩٨٤، ٦٠٠-٦٠١؛ دراير ١٩٥٣، الفصل التاسع). حاولت النماذج الإغريقية التوفيق بين ما ترصده العين المجردة وبين فرضيات مسبقة بشأن العالم المادي. فلم تعتمد فرضيات وجود الحركة الدائرية المنتظمة، والكون ذو الفلكَيْن، والأدوات الهندسية على الرصد. بل على العكس من ذلك، بدت المشاهدات متعارضة مع الفرضيات. يا لسوء حظ المشاهدات! لم يشجع الفصل بين علم الكون الفيزيائي وعلم الفلك الرياضي علماء الفلك الإغريق على التفكير في المشاهدات كاختبارات للنماذج الرياضية. كان السؤال هو هل كانت النماذج تستطيع تحقيق ما هو أكثر من «تفسير الظواهر». يؤدي هذا السؤال إلى أفكار الفلسفة الذرائعية والواقعية؛ التفسير والتمثيل.
عانت نظرية مركزية الأرض من حالة عدم اليقين فيما يتعلق بالواقع المادي للنماذج الهندسية حتى لحظة زوالها النهائي، وقد أعرب العالم العربي تحديدًا، الذي حافظ على تقاليد علم الفلك الإغريقي طوال العصور الوسطى، عن كثير من المعارضة ﻟ «واقع» الأدوات الهندسية (روزن ١٩٨٤)، ولكنها ظلت مُستخدَمة لنحو ١٤٠٠ سنة، وقد تنبأت هذه الأدوات بمواقع الكواكب في حدود الدقة المطلوبة من جانب علماء الفلك الذين اعتمدوا على الرصد بالعين المجردة. واتبع هؤلاء العلماء نظرية الحركة الأرسطية وكون أرسطو.
كما نرى، أشار وصف نظرية أرسطو-بطليموس لمركزية الأرض إلى بعض القضايا الفلسفية العامة، التي يصعب فصلها عن المادة العلمية.
(٢-٥) زعزعة الفرضيات المسبقة: بعض التطورات في العصور الوسطى
(…) من خلال غاية الحركة ثبت «أن الحركة جزء من الأرض بوصفها وطنًا للمخلوق المفكر.» (كبلر، «خلاصة الفلك الكوبرنيكي» (١٦١٨–١٦٢١)، الكتاب الرابع، الجزء الأول)
لا أحد في صوابه، أو يمتلك أدنى معرفة بالفيزياء، سيعتقد أبدًا أن الأرض الضخمة الثقيلة بسبب وزنها وكتلتها، ستتمايل صعودًا وهبوطًا حول مركزها وحول مركز الشمس. فلو تحركت الأرض قيد أنملة، فسنرى انهيار المدن والحصون، والبلدات والجبال. (مقتبس من كون ١٩٥٧، ١٩٠)
كما رأينا، قدَّم بطليموس حججًا مماثلة تنطوي على سقوط الأجسام وتدمير المباني. كان الرد في جميع هذه الحالات هو صنع الدوران اليومي والسنوي للأرض الذي يشير بودين إليه بأنه حركة «طبيعية». ويرى نقولا الأورسمي وبوريدان أنه إذا كنا نشارك في هذه الحركة، فإننا لن نشعر بها. ويقول كوبرنيكوس إنها ليست حركة عنيفة كما كان يعتقد بطليموس؛ فالحركة العنيفة تدمر الأشياء بالفعل، ولكن دوران الأرض «يتوافق طبيعيًّا مع شكلها»، بحيث إن كل جزء من الأرض، «الغيوم وغيرها من الأشياء التي تسبح في الهواء أو تهبط أو تصعد لأعلى» يشارك في هذه الحركة الطبيعية للأرض (كوبرنيكوس ١٥٤٣، الكتاب الأول). استخدم كوبرنيكوس أفكار الزخم لدحض الحجة البديهية القديمة. إذا كان غلاف الهواء يتحرك مع الأرض ويشاركها حركتها الطبيعية، فإن عدم وجود رياح عنيفة أمر متوقَّع. ونحن اليوم لم نعُد نقبل نظرية الزخم، ومع ذلك، فإننا جميعًا على دراية بمثل هذه الظواهر؛ ففي المركبات التي تتحرك باستمرار، تحدث أفعالنا — شرب القهوة ولعب الورق وقراءة الكتب — كما لو كانت المركبة متوقفة. يُمثِّل مبدأ النسبية لجاليليو تفسيرنا لذلك. كانت نظرية الزخم خطوة مهمة نحو التفسير الحديث للحركة.
لعبت نظرية الزخم دورًا أساسيًّا في الثورة الكوبرنيكية؛ فكانت أحد الظروف التي جعلتها ممكنة. وكذلك اعتمد نقولا الأورسمي — تلميذ بوريدان — في دحضه لحجة أرسطو الرئيسية بشأن ثبات الأرض على نظرية الزخم، وقد وجه انتباهه إلى الحجة الأولى ضد حركة الأرض. ادعى القدماء أنه إذا كانت الأرض تتحرك شرقًا حول محورها، فإن الراصد الذي يرمي حجرًا لأعلى في خط مستقيم سيرى الحجر يعود إلى الأرض في ناحية الغرب من قدميه. في غياب نظرية الزخم، بدت هذه الحجة منطقية؛ ففي وجهة نظر القدماء، سوف يُدفَع الحجر بعيدًا عن موقعه الطبيعي وسيسعى للعودة إليه، ولكن بينما كان الحجر في الهواء، فإن الأرض ستدور نحو الشرق. وما دام الحجر لا يستطيع أن يصاحب الأرض في حركتها، يجب أن يقع إلى الغرب من نقطة انطلاقه، لكن أشار نقولا الأورسمي إلى أن الأرض المتحركة تمنح الحجر زخمًا نحو الشرق. وهذا سيجعل الحجر يتبع الأرض المتحركة (كون ١٩٥٧، ١٢١؛ ماسون ١٩٥٦؛ ولف ١٩٧٨، الجزء الثاني، الفصل ٧).
وسَّع نقولا الأورسمي وبوريدان هذه الحجة لتشمل حركة الأرض. لم تكن توجد حاجة إلى «قوة سماوية» لتحريك الأجرام السماوية. لم تكن توجد حاجة إلى افتراض وجود احتكاك بين الأفلاك البلورية لإبقائها متحركة وفق إيقاعها الدائم. ولم تكن توجد حاجة لمحرك أرسطو غير المتحرك. ولا حاجة لكونٍ يعاني من نقص في الطاقة. فخلال خلق الله للأرض، منحها قوة دافعة تُبقيها متحركة. وخلافًا للمقذوفات على الأرض — التي وفقًا لنظرية الزخم، تتباطأ لأنها تواجه مقاومة الرياح وقوة الجاذبية الخاصة بها المرتبطة بالأرض — لا توجد مثل هذه القوة لتتداخل مع الحركة الأبدية للأرض. وعلى نحو أعمَّ، تضمنت نظرية الزخم حركة دائرية مستدامة ذاتيًّا للكواكب أيضًا (كون ١٩٥٧، ١٢١-١٢٢؛ دكسترهوز ١٩٥٦، الفصل الثاني).
على المستوى المفاهيمي، كان لنظرية الزخم تبعات مهمة؛ فقد رفعت الحظر المفروض على إمكانية حركة الأرض؛ فالمنطق الأرسطي سبَّبَ ثبات الأرض، وبدت الحجج المعارضة لحركتها — الأجسام الساقطة، والرياح العاتية، وتهدُّم المنازل — منطقية. ثم أوضحت نظرية الزخم أن حركة الأرض كانت ممكنة من الناحية النظرية، كما أوحت نظرية الزخم أيضًا بتوحيد الفيزياء الأرضية والسماوية؛ لأنها فسَّرت مسار الأجسام على الأرض وفي السماء وفقًا للمبدأ نفسه؛ ومن ثَمَّ أدت إلى تدميرٍ محتمَل للكون ذي الفلكَيْن. فصَل أرسطو بين الحركة الدائرية — المخصصة للأجرام السماوية — والحركة المستقيمة للأجسام الأرضية، واعتبر أن الدوران هو الحركة الأساسية (أرسطو ١٩٥٢أ، الكتاب الثامن). وتضمنت نظرية الزخم احتمال التخلص من الانقسام بين الفلكَيْن فوق القمري وتحت القمري.
رغم التحرر الذي تمتعت به نظرية الزخم، لم تصل الحجج المدافعة عنها إلى نتائجها المنطقية. كان المفكرون في القرن الرابع عشر قانعين بدراسة البدائل المنطقية للنظرية الأرسطية، ولم يكونوا مهتمِّين بالإطاحة بها.
إذا كانت نظرية الزخم إحدى الظروف التي مكَّنت حدوث الثورة الكوبرنيكية، فإن ظهور «الحركة الإنسانية» في عصر النهضة كان ظرفًا آخر. وُجهت الحركة الإنسانية في عصر النهضة ضد «المدرسة السكولاستِيَّة» القروسطية؛ فكما يُبيِّن عالم الرياضيات والفيلسوف في مسرحية بريشت، تنظر المدرسة السكولاستِيَّة إلى تعاليم أرسطو كأمرٍ مقدَّس. فتمثلت الثقافة السكولاستِيَّة في تفسير نصوص أرسطو. فيذكِّر الفيلسوف في مسرحية بريشت جاليليو بأن «كون المبجل أرسطو يُمثِّل صرحًا من (…) نسب متقنة.» ويعارض جاليليو بروح العلم الحديث بأن «الثقة في أرسطو شيء، والحقائق الملموسة شيء آخر.» ولكن هذا الاعتراض دفع الفيلسوف فحسب إلى ثورة غضب عارم قائلًا: «إذا كنا سنُلقي بأرسطو في الوحل — الذي يُمثِّل سلطة لا يعترف بها كل عالم كلاسيكي فحسب، ولكن أيضًا يعترف بها رؤساء الكنيسة — فإن أي إطالة لأمد هذا النقاش في رأيي مضيعة للوقت. لا فائدة في المناقشات غير الموضوعية. هذا يكفي.»
ظهر مع الإنسانية اهتمام متجدد بالانتظام الرياضي والهندسي للظواهر الطبيعة. وهذا أمر مهم لأن كوبرنيكوس كان من بين الأوائل في إحياء علم الفلك الرياضي الإغريقي، الذي كان قد ازدهر في عصر بطليموس (بلومنبرج ١٩٥٧؛ ١٩٦٥؛ ١٩٨١). ركزت الحركة الإنسانية أيضًا تركيزًا جديدًا على التوجهات الذهنية البشرية حيال الكون، وقد عكست المبدأ القديم الموجود منذ بطليموس القائل بأن المعرفة الإنسانية لا يمكن أن تمتد إلى حد السماء. فرفعت الحركة الإنسانية عالِم الفلك إلى منزلة «المفكر السماوي» (بلومنبرج ١٩٥٧، ٧٧)، مؤكِّدةً على أن بمقدور البشر أن يفهموا طريقة عمل الكون. وهذا التأكيد نقل التركيز من الفهم عن طريق الملاحظة إلى الفهم عن طريق التفكير المنطقي. وكان للتركيز على الفهم المنطقي على أساس الرصد الشخصي من الأرض انعكاسات مهمة على نظرية مركزية الشمس.
(٣) نظرية مركزية الشمس
ولماذا لا نعترف بأن حركة الدوران اليومية تبدو منتمية إلى السماء ولكنها في الواقع تنتمي إلى الأرض؟ (كوبرنيكوس، «عن دورات الأجرام السماوية» (١٥٤٣)، الكتاب الأول، الفصل ٨ (١٧)).
تُوفي نيكولاس كوبرنيكوس في ٢٤ مايو ١٥٤٣. وبعد موته بأسابيع قليلة، نُشر كتابه العظيم «عن دورات الأجرام السماوية». كان العنوان الأصلي للكتاب «عن دورات الأفلاك السماوية»، وغُيِّر هذا العنوان المقصود عن طريق أندرياس أوزياندر إلى «عن دورات الأجرام السماوية» (بلومنبرج ١٩٥٧، ٧٩؛ ١٩٨١، المجلد الثاني، ٣٤٤). كان أوزياندر رجل دين ومبشِّرًا يعيش في نورمبيرج، وأشرفَ على نشر كتاب «عن دورات الأجرام السماوية»، كما أضاف أيضًا مقدمة مهمة فلسفيًّا لعمل كوبرنيكوس دون توقيع. وأشار كبلر لاحقًا إلى أن أوزياندر هو مؤلف المقدمة مجهولة المؤلف. كانت المقدمة مهمة فلسفيًّا لأن أوزياندر حاول تفسير الكتاب على أنه أطروحة لا تتحدى الرؤية الكونية الشائعة؛ وهو ما يخالف الانطباعات الأولى. ظل كوبرنيكوس يعمل على رائعته هذه لسنوات، ولكنه تردد في نشرها؛ فعلى غرار داروين من بعده، خشي كوبرنيكوس أن أفكاره سوف تَلْقَى ردَّ فعل عدائيًّا. ومع ذلك، قبل نشر هذا الكتاب، تم تداول نسخ مكتوبة بخط اليد من «صورة لنظريته حول الحركات السماوية» عُرفت بعنوان «الشرح المختصر». كانت قد كُتبت في الفترة بين ١٥٠٢ و١٥١٤ (انظر روزن ١٩٥٩، مقدمة). قدَّم كوبرنيكوس في هذين العملين نموذجًا للنظام الشمسي قائمًا على مفهوم مركزية الشمس.
(٣-١) نيكولاس كوبرنيكوس
لم يكن إنجاز كوبرنيكوس شيئًا تفرضه المشاهدات الجديدة، بل كان انتصارًا للعقل في تصوُّر ما كان في الأساس ترتيبًا أجمل للكواكب. (جنجريتش، «الكتاب الذي لم يقرأْه أحد» (٢٠٠٤)، ١١٦)
يتبين من النظرة الفاحصة أن كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» ينقسم إلى قسمين. يقدِّم كوبرنيكوس في الفصل الأول فكرة عامة عن نظامٍ شَمْسِيِّ المركز. يذهب كوبرنيكوس إلى أن اعتراضات الإغريق على فكرة أن الأرض تتحرك لا تستطيع الصمود أمام النقد. ويشير إلى عدد ممن سبقوه من الإغريق إلى فكرة مركزية الشمس، وقد ذهب إلى أن مركزية الشمس تقدِّم تفسيرًا للنظام الشمسي أكثر بساطة أو أكثر اتساقًا. وبالنسبة لكوبرنيكوس — وكذلك الإغريق — يتألف الكون من النظام الشمسي والنجوم الثابتة. ويحتوي الجزء الثاني من الكتاب على الحسابات الرياضية لحركة الكواكب. وهو جزء تقني أكثر بكثير، ولكن كوبرنيكوس يستخدم الأدوات الهندسية نفسها التي استخدمها الإغريق (الدوائر اللامتراكزة وأفلاك التدوير).
أصبح من المعتاد منذ عصر كانط أن تُوصف نتيجة أعمال كوبرنيكوس باسم «التحول الكوبرنيكي» (دكسترهوز، ١٩٥٦، الجزء الرابع؛ بلومنبرج ١٩٨١، الجزء الخامس). وهذا المصطلح مفيد للغاية؛ فهو يُميِّز الإنجاز الكوبرنيكي دون إعلاء عمل كوبرنيكوس إلى مصافِّ الثورة العلمية.
وهكذا، بعد توضيح الحركات التي أعزوها إلى الأرض في موضع لاحق من العمل، اكتشفتُ أخيرًا — بمساعدةٍ من المشاهدات الطويلة والعديدة — أنه إذا ما كانت حركات النجوم السيارة الأخرى مرتبطة بالحركة الدائرية للأرض، وإذا حُسبت الحركات وفقًا لحركة دوران كل كوكب، فلن يتضح أن جميع الظواهر تنبع من هذا فحسب، ولكن سيتضح أيضًا أن هذا الترابط يربط معًا على نحو وثيق ترتيب وأحجام جميع الكواكب وأفلاكها أو دوائرها المدارية والسماوات نفسها، بحيث لا يمكن لشيء أن ينتقل في أي جزء منها دون الإخلال بما تبقى من أجزاء وبالكون ككل. (كوبرنيكوس ١٥٤٣، ٦)
-
وفقًا لكوبرنيكوس، تفسِّر فكرة الأرض المتحركة — دورانها اليومي والسنوي — على نحو طبيعي كل المشاهدات السماوية. على سبيل المثال، يبدو أن المعضلتَيْن الكبريَيْن الموروثَتَيْن من العصور القديمة تُختفيان في نموذج مركزية الشمس؛ إذ تصبح حركة الدوران القهقري للكواكب (الداخلية والخارجية) نتيجة طبيعية لحركة الأرض حول الشمس (المركزية). فكوكب داخلي على غرار عطارد له فترة مدارية أقصر من الأرض؛ فهو يدرك الأرض ويتخطاها في مدارها السنوي. وبالنسبة للمراقب الأرضي، تبدو حركته كحركة دوران قهقري (شكل ١-٣). أما المشكلة الثانية فكانت الدوران غير المنتظم للكواكب. بدا أن الكواكب تستغرق أزمنة مختلفة لاستكمال رحلاتها المتعاقبة حول المسار الظاهري للشمس. تَمَثَّلَ جزء من الحل في وضع الكواكب على بُعدها الصحيح من الشمس. تحتاج الكواكب الخارجية لإكمال دورتها السنوية وقتًا أطول من الكواكب الداخلية، ولكن لم يحقق حل كوبرنيكوس سوى نجاح جزئي؛ لأنه كان لا يزال يفترض وجود الحركة الدائرية المنتظمة. مع ذلك، يمكن تفسير كلتا «الظاهرَتَيْن» دون استخدام أفلاك التدوير الكبيرة؛ فالاختلالات الرئيسية لحركة دوران الكواكب ظاهرية وحسب (كون ١٩٥٧، ١٤٩، ١٦٦–١٧١؛ زيليك ١٩٨٨، ٤٩). تَنتج هذه الظواهر بسبب الحركة المدارية للأرض. وبما أن الشمس ثابتة في النظام شمسي المركز، فلا يوجد لها حركة دوران قهقري (شكل ١-١، مربع ١-١) (انظر كون ١٩٥٧، ٦٦، ٦٩؛ كوبرنيكوس ١٥٤٣، الكتاب الثالث).
مربع ١-١: ترتيب الكواكب في النظام الشمسي المَركز
«الشمس، عطارد، الزهرة، الأرض، القمر، المريخ، المشتري، زحل، النجوم الثابتة.»
مقارنة مع ترتيب الكواكب في النظام الأرضي المَركز:
«الأرض، القمر، عطارد، الزهرة، الشمس، المريخ، المشتري، زحل.»
-
يحدد كوبرنيكوس أيضًا المسافات «النسبية» لبعد الكواكب عن الشمس مستخدمًا أسلوبًا معروفًا من العصور القديمة (كوبرنيكوس ١٥٤٣، الكتاب الأول؛ نوجيباور ١٩٦٨؛ كون ١٩٥٧، ١٤٢، ١٧٥؛ زيليك ١٩٨٨، ٤٠-٤١). إذا اعتبرنا أن المسافة بين الشمس والأرض وحدة واحدة، فإن عطارد يقع على بُعد ١ / ٣ وحدة من المسافة بين الأرض والشمس، والمريخ عند ، والمشتري عند ٥ وزحل عند ٩ وحدات من المسافة بين الأرض والشمس. يقول كوبرنيكوس: «يجب أن يُقاس حجم الدوائر المدارية بفترة زمنية» (كوبرنيكوس ١٥٤٣، الكتاب الأول). ويعني بهذا أن بُعد الكوكب عن الشمس ينبغي أن يُحدَّد من واقع فترته المدارية. وبهذا يرفض ممارسة استخلاص المسافات الكونية التي تعود للقرون الوسطى من خلال طريقة بطليموس الخاصة بتداخل الدوائر السماوية بعضها في بعض وفقًا لنِسَب معينة. ويشير كوبرنيكوس إلى أن النموذج الشمسي المَركز هو وحده الذي يفي بالعلاقة بين المسافة والفترة الزمنية؛ ففي النظام شمسي المَركز، يتحدد ترتيب الكواكب من خلال رصد الفترة المدارية للكواكب. فيعامل كوبرنيكوس الكواكب كنظام مترابط (شكل ١-٦).
-
على الرغم من أن افتراض الأرض المتحركة يسمح لكوبرنيكوس بالتخلي عن أفلاك التدوير الكبيرة، فإنه لا يزال بحاجة إلى أفلاك تدوير صغيرة. استُخدمت أفلاك التدوير الكبيرة لتفسير الظهور النوعي لحركة الدوران القهقرية. أما أفلاك التدوير الصغيرة فهي دوائر صغيرة لازمة لإلغاء التباينات الكمية الطفيفة بين المشاهدات والنماذج الهندسية (انظر كون ١٩٥٧، ٦٨). احتاج كوبرنيكوس أفلاك التدوير الصغيرة تلك؛ لأنه أيَّد المبدأ الإغريقي الخاص بالحركة الدائرية للكواكب، حيث كتب أن حركة الأجرام السماوية «دائرية منتظمة ودائمة» (كوبرنيكوس ١٥٤٣، الكتاب الأول). في الواقع يريد كوبرنيكوس إنقاذ المنهج الإغريقي من بطليموس. فيريد «نظامًا يدور كل شيء فيه على نحو منتظم حول مركزه السليم كما تتطلب قاعدة الحركة الدائرية المطلقة» (كوبرنيكوس، «الشرح المختصر» ١٩٥٩، ٥٧-٥٨). فيغير الموضع الهندسي للأرض ولكنه يظل متمسكًا بالمثالية الأفلاطونية للحركة الدائرية المنتظمة التي يعزوها إلى الأفلاك الحاملة للكواكب (شكل ١-٦). وينتقد بطليموس لإقحام الموازِن، على الرغم من أن نموذجه استخدم جهازًا رياضيًّا مكافئًا له وهو فلك التدوير الصغير (جنجريتش ١٩٩٣، ٣٦، ١٧٥؛ نوجيباور ١٩٦٨).
على الرغم من وجود العديد من المآخذ على أطروحة كوبرنيكوس «عن دورات الأجرام السماوية» (١٥٤٣)، فيمكن القول إنها بدأت مسيرة ظهور العلم الحديث، التي بلغت مرحلتها الأولى ذروتها عند نشر نيوتن كتاب «مبادئ الرياضيات» (١٦٨٧). وعلى الرغم من هذه المآخذ، فقد كان لنموذج كوبرنيكوس قوة تفسيرية أكبر من منافسيه؛ فقد مثَّل النظام الشمسي كنظام مترابط، وأظهر علاقات الترابط بين العديد من الظواهر السماوية ورَبَطَها بسبب أساسي واحد. ويمكننا أن نشهد قدرته التفسيرية في تفسير فصول السنة.
(٣-٢) تفسير فصول السنة
يُسمي بعض الناس الشمس — على نحو غير لائق — مشكاة الكون، ويسميها آخرون عقل الكون، ويطلق عليها البعض الآخر حاكم الكون. (كوبرنيكوس، «عن دورات الأجرام السماوية» (١٥٤٣)، الكتاب الأول، الفصل العاشر، مقتبسة في روزن، «كوبرنيكوس والثورة العلمية» (١٩٨٤)، ١٣٢)
الحركة الثالثة للأرض تسبب التغيرات الدورية المنتظمة لفصول السنة على الأرض كلها، لأنها تجعل الشمس والكواكب الأخرى تبدو متحركة على دائرة مائلة بالنسبة لخط الاستواء (…). (ريتيكوس ١٥٤٠، ١٥٠-١٥١)
(٣-٣) كوبرنيكوس والتحول الكوبرنيكي
كان هذا التحول إلى حلقات الكواكب من واقع مادي إلى ظاهرة بصرية حجة لا تُقهر على صحة علم فلك كوبرنيكوس. (روزن، «كوبرنيكوس والثورة العلمية» (١٩٨٤)، ١١٥-١١٦)
رغم كثرة المرجعيات التي تقول إن الأرض تقع في مركز العالم وإن الناس يعتقدون أن الافتراض المُعارِض لا يمكن تصوُّره، وحتى قد يكون سخيفًا؛ فإذا تأمَّلنا هذا الأمر بانتباه، فسنرى أن هذه المسألة لم تُقرَّر بعدُ، ووفقًا لذلك، لا يعني هذا أن تُزدرى؛ «فكل تغيير ظاهر في المكان يحدث بسبب حركة الشيء المرصود أو الراصد.» أو بسبب الحركة غير المتساوية بالضرورة لكليهما. وعدم الحركة يمكن إدراكه نسبيًّا من منظور الأشياء المتحركة على نحو متساوٍ في الاتجاه نفسه؛ أعني بصورة نسبية بين الشيء المرصود والراصد.
الآن تُرصد الدائرة السماوية وتظهر أمام أنظارنا من الأرض. ومن ثَمَّ، إذا كان يجب أن تُعزى بعض الحركة إلى الأرض فسوف تظهر في أجزاء الكون الخارجية، في صورة الحركة نفسها ولكن في الاتجاه المعاكس، كما لو أن الأشياء الخارجية تتجاوزنا. والدوران اليومي على نحو خاص يُمثِّل هذه الحركة. فيبدو أن الدوران اليومي يحمل الكون كله معه، باستثناء الأرض والأشياء من حولها. وإذا سَلَّمتَ بأن السماوات لا تمتلك أيًّا من هذه الحركة ولكن الأرض تدور من الغرب إلى الشرق، فسوف تجد — إذا أجريت دراسة متأنية — فيما يتعلق بشروق وغروب الشمس والقمر والنجوم ظاهريًّا، أن الوضع كذلك بالفعل.
ونظرًا لأن السماء هي التي تحتوي على كل شيء وتحتضنه كمكان عام لهذا الكون، فإنه لن يكون واضحًا أبدًا لماذا لا ينبغي أن تُعزى الحركة إلى المحتوَى بدلًا من المحتوِي، إلى الشيء الموضوع بدلًا من الشيء الذي يُمثِّل المكان. (كوبرنيكوس ١٥٤٣، الكتاب الأول؛ الكتاب الثالث)
يُلمح كوبرنيكوس إلى سمة «ثانية» للتحول الكوبرنيكي؛ إذ يجب أن يكون تغيير المنظور — الذي يحدث على خلفية من بعض السمات الثابتة — مصحوبًا ببعض المكاسب التفسيرية. وإن لم يكن كذلك، فهذا يعني أننا نتبادل المنظورات وحسب. فسيكون لدينا منظورات مختلفة، كلها صالحة على نحو متساوٍ، دون وجود ما يفصل بينها، ولكن لم يحدث هذا فعليًّا في تاريخ العلم، وقد بذل كوبرنيكوس جهدًا عظيمًا ليبين أن الفرضية الكوبرنيكية تمنحنا مزايا تفسيرية. وهو يستخدم حركة الأرض كمبدأ أكثر جدارة بالقبول ظاهريًّا (كوبرنيكوس ١٥٤٣، الكتاب الأول؛ انظر أيضًا المبادئ السبعة في «الشرح المختصر» ١٩٥٩، ٥٨). يمكن من خلال هذا المنظور تحديد المسافة النسبية للكواكب. إن حركة الدوران القهقري ليست مشكلة هندسية، بل هي انعكاس مادي لموضعنا في النظام الشمسي. صحيح أن تفسير فصول السنة أكثر تعقيدًا من منظور كوبرنيكوس، ولكن يمكن بسهولة تعديل هذا بالتخلي عن الأفلاك. وهكذا يُمثِّل التفسير الكوبرنيكي مقاربة لظاهرة فصول السنة أفضل من التفسير البطلمي.
إن تغيير المنظور يُمثِّل سمة مهمة للتحول الكوبرنيكي؛ فقد بدأ العديد من العلماء العظام حياتهم بتغيير في المنظور. فداروين — كما سنرى — دعا إلى تغيير في المنظور فيما يخص مشكلة عصره الكبيرة: «أصل» الأنواع. لقد دعا العلماء إلى تغيير المنظور من أجل زيادة المكاسب التفسيرية، مع إبقاء الأشياء الأخرى ثابتة. ماذا عن المفكرين المؤثرين في مجال العلوم الاجتماعية أمثال ماركس وفرويد؟ هؤلاء المفكرون، أيضًا، أحدثوا تغييرًا في المنظور، ولكن من مواضع الخلاف مسألة هل كانت المكاسب التفسيرية — التي نالوا الفضل فيها — تنشأ حقًّا من تغيير المنظور. وتخيم ظلال الشك تلك أيضًا على كوبرنيكوس. وهي تفسر سبب عدم النظر إلى كوبرنيكوس كثوري حقيقي على المستوى العلمي. تتطلب الثورة العلمية تغييرًا في المنظور، ولكن مجرد تغيير المنظور لا يشكل ثورة علمية؛ فثمة عنصر مهم في الثورة العلمية هو بعض «المكاسب التفسيرية». فإذا ظلت الشكوك حول المكاسب التفسيرية المتحققة بتغيير التفكير قائمة، فثمة شكوك حول تأثيرها الثوري الحقيقي. وكانت هذه هي مشكلة كوبرنيكوس، كما سنرى، ومع ذلك، فالمفكرون أمثال كوبرنيكوس وفرويد يذكِّروننا بنتيجة إضافية للثورة العلمية؛ أن يكون لها تأثير كبير على طريقة نظر الناس إلى العالم. في حالة كوبرنيكوس، يؤدي هذا إلى فقدان المركزية، وفي حالة داروين يسبب فقدان التصميم، وفي حالة فرويد يؤدي إلى فقدان الوضوح.
ربما تحتاج الثورة العلمية إلى وقت لتنتشر؛ فمن الممكن أن يبدأ أحد المفكرين تغييرًا في المنظور ويكمل الآخرون الصورة. وتاريخ علم الفلك من كوبرنيكوس حتى نيوتن يوضح هذه النقطة؛ فالمعاني الاشتقاقية لكلمة «ثورة» تتضمن «الاجتثاث»، بمعنى عكس وإسقاط وجهات النظر أو الشروط القديمة الراسخة. والعمل على مفهوم «تحويل الأفكار» أو «تغيير المنظور» يتيح لنا التركيز على العلماء الذين أتموا تغيير المنظور. تألف التحول الكوبرنيكي من إعادة ترتيب النظام الهندسي للكواكب. بنى علماء الفلك النماذج من المواد الموجودة فعليًّا: الكواكب الستة المعروفة من العصور القديمة حتى القرن الثامن عشر. وبمجرد أن تصبح المكونات في متناول اليد، ثمة سؤال مباشر يطرح نفسه؛ كيف ينبغي ترتيب هذه العناصر بعضها بالنسبة إلى بعض؟ استهل الإغريق تقليدًا قديمًا من بناء النماذج في تاريخ علم الفلك. وكان يتألف من مهمتين؛ تحديد بنية طوبولوجية للنموذج، من شأنها أن ترتب الكواكب في ترتيب هندسي أو مكاني. اختار معظم علماء الفلك الإغريق ترتيبًا يضع الأرض في المركز (أرضي المَركز). عكس كوبرنيكوس هذا التقليد من خلال اختيار ترتيب يضع الشمس في المركز (شمسي المَركز). بمجرد اختيار البنية الطوبولوجية، لا بد من إيجاد بنية «جبرية» للنموذج. تحدد البنية الجبرية العلاقات الكمية بين مكونات النماذج. استخدم الإغريق العديد من الأدوات الهندسية: الدوائر اللامتراكزة أو المؤجِّلات وأفلاك التدوير. غيَّر كوبرنيكوس البنية الطوبولوجية لنماذج الكواكب، ولكنه أبقى الافتراضات الهندسية لأسلافه الإغريق؛ لهذا السبب لم يحقق كوبرنيكوس المكاسب التفسيرية المرتبطة بالثورة العلمية. فأي تقدُّم تفسيري يمكن لكوبرنيكوس أن يدَّعي تحقيقه ينشأ عن البنية الطوبولوجية للنموذج الشمسي المَركز. فلم يقدِّم كوبرنيكوس أي إسهام للبنية الجبرية لنماذج الكواكب. وتحقق المكسب التفسيري في البنية الجبرية ببطء من خلال أعمال كبلر وجاليليو ونيوتن.
يمكننا أن نُشيد بكوبرنيكوس لطرحه تغييرًا في المنظور، ومع ذلك سنعزو الفضل لخلفائه البارعين في استكمال التحول الكوبرنيكي؛ ففي الثورة العلمية، تغيير المنظور على خلفية عناصر ثابتة يجب أن يُضاف إليه مكسب تفسيري في البنية الجبرية. سوف نرى أن نظرية داروين كانت قادرة على تقديم هذه المكاسب التفسيرية، في حين فشل فرويد مثلما فشل كوبرنيكوس في ذلك. نحن لسنا مخطئين عندما نعتبر عمل كوبرنيكوس بمنزلة فجر الثورة الكوبرنيكية والعلوم الحديثة؛ فكوبرنيكوس شخصية رئيسية تفُوق مكانتها في تاريخ الأفكار العلمية مكانتها في تاريخ الثورات العلمية (بلومنبرج ١٩٥٧؛ ١٩٨١، الجزء الأول؛ الجزء الثالث؛ ١٩٦٥) كان لكوبرنيكوس تأثير كبير على طريقة تحديد البشر لمكانتهم في الكون الأكبر. وسوف نرى أن أسئلةً فلسفيةً كبرى تنبع من التحول الكوبرنيكي والثورة الكوبرنيكية، ولكن لنكمل أولًا قصة الثورة الكوبرنيكية.
(أ) تنحية الفلسفة جانبًا: من الملاءمة التجريبية إلى الصلاحية النظرية
تتضمن الأقسام السابقة بعض الدروس الفلسفية؛ فتفسير فصول السنة في النماذج الأرضية المَركز والشمسية المركز، على الترتيب، يبين أننا في التفسير العلمي نطلب أكثر من مجرد توافق النموذج مع البيانات التجريبية. لنقُل إن نموذجين من النماذج غير المتوافقة، اللذين يتفقان مع الأدلة التجريبية، يتمتعان بالملاءمة التجريبية. يستطيع كلا النموذجين البطلمي والكوبرنيكي أن يفسر البيانات المتاحة جيدًا على نحو متساوٍ، لكنهما يفعلان ذلك بافتراض بنيتين مختلفتين. يُعد كلاهما تفسيرًا محتملًا بالنسبة للأدلة المتاحة غير أن النموذج الكوبرنيكي يقدِّم بنية طوبولوجية أفضل من النموذج الأرضي المَركز. من أجل تحديد الفرق في الملاءمة سنقول إنه يكتسب «صلاحية تجريبية». ونحن بحاجة أيضًا إلى نموذج يجب أن تتوافق بنيته الرياضية مع بنية النظام المستهدف. من أجل تحقيق هذه الملاءمة يجب أن يصبح النموذج نموذجًا بنيويًّا أو نظريةً (انظر القسم ٦-٥، أ). وفقًا لتفسير البنية الرياضية للظواهر المرصودة، نقول إن النظرية التفسيرية يجب أن تكتسب «صلاحية نظرية». ونرى الحاجة للصلاحية النظرية في تاريخ نماذج الكواكب. سعى الإغريق إلى «إنقاذ الظواهر». فحاولوا ملاءمة المشاهدات الحسية مع الفرضيات المسبقة حول حركة الكواكب. كان النموذج الأرضي المَركز دقيقًا إلى حدٍّ ما في توقعاته لحركة الكواكب، ولكنه كان يستند إلى بنية خاطئة: أجهزة مثل أفلاك التدوير والدوائر اللامتراكزة. وبما أن هذه الأجهزة لا تعكس أي آلية فيزيائية، فليس لها صلاحية نظرية. ورغم أن كوبرنيكوس استخدم أيضًا هذه الأجهزة، فإن نموذجه وضع الكواكب في ترتيب مكاني، وهو الترتيب القريب من البنية المكانية (الطوبولوجية) للنظام الشمسي. وفي هذا الصدد كان يتمتع بالصلاحية التجريبية. ويعزز نموذج مركزية الشمس — في الشكل الذي صاغه به كبلر — هذا القرب من واقع النظام الشمسي؛ لأنه استبدل بنية جبرية جديدة بأجهزة النموذج الأرضي المَركز التقليدية. وعن طريق نيوتن، يصبح النموذج أخيرًا نظرية؛ فكما سنرى في الجزء التالي، اكتشف كبلر قوانين رياضية لوصف حركة الكواكب بحيث لم يعد ضروريًّا حمل الكواكب على أفلاك مساراتها دائرية. والمحصلة هي أننا نريد أن تكون فرضيات النموذج أكثر من مجرد فرضيات خاصة بالأدوات. يجب أن تكون فرضيات النموذج متوافقة مع بنية النظام الطبيعي (انظر القسم ٦-٥). وهذا الشرط الضروري يوجهنا نحو مناقشة للذرائعية والواقعية (القسم ٦-٢).
(٣-٤) ترسيخ نظرية كوبرنيكوس: كبلر وجاليليو
إن إنجاز كبلر الرائع مثال جيد للغاية على حقيقة أن المعرفة لا يمكن أن تنبع من الخبرة وحدها، بل تنبع وحسب من المقارنة بين ابتكارات الفكر والواقع المرصود. (أينشتاين، «يوهانز كبلر» (١٩٣٠)، ٢٦٦)
-
في عام ١٥٧٢ اكتشف براهي نجمًا جديدًا، كان في البداية يضيء بضوءٍ زاهٍ جدًّا في السماء ولكنه اختفى لاحقًا. كان براهي في الواقع قد اكتشف مستعرًا أعظم؛ وهو ظهور في السماء لضوء ساطع جدًّا نتيجة الانفجار الهائل لنجم ضخم. يزيد سطوع الضوء مئات الملايين من المرات في غضون بضعة أيام فقط.
-
بين ١٥٧٧ و١٥٩٦، اكتشف براهي مذنَّبات في السماء، من المفترض أن تقع مداراتها وراء الفلك الخارجي للقمر. ربما المذنَّب الأكثر شهرة هو المذنَّب هالي، الذي سُمي على اسم الفلكي الملكي الذي استخدم نظرية نيوتن للتنبؤ بمداره. وفي الآونة الأخيرة، تلقَّى سكان الأرض زيارة من المذنَّب هيل-بوب، الذي حدث أقرب وجود له بجوار الأرض في ٢٢ مارس ١٩٩٧ على مسافة ١٢٣ مليون ميل (شكل ١-٩).
كانت هذه الاكتشافات مهمة للغاية؛ لأنها أثارت تساؤلات جدِّية حول ثبات السماوات، وهي سمة خاصة بالفلك فوق القمري في كون أرسطو؛ فقد كان ظهور مستعر أعظم فيما وراء الفلك تحت القمري غير متوافق مع عقيدة طبيعة السماوات غير المتغيرة أبدًا. إن مدارات المذنَّبات بيضاوية الشكل للغاية؛ فعلى سبيل المثال، فلك المذنَّب هالي يمر بمدارات الكواكب الخارجية، حيث يبلغ تقريبًا مدار بلوتو قبل أن يعود إلى الأرض. واجتاز المذنَّب هيل-بوب النظام الشمسي من الفضاء الخارجي، عائدًا من آخر زيارة له في عام ٢٢١٤ قبل الميلاد. ووفقًا لوجهة نظر أرسطو-بطليموس، ببساطة لا ينبغي أن توجد هذه المدارات. تذكَّر أنه لهذه الأسباب رفض زائرَا جاليليو التفكير في وجود أقمار لكوكب المشتري. إن التوجه الذهني البديل هو تبنِّي نوع من الانهزامية، نجدها في الجزء الختامي من كتاب «المجسطي» لبطليموس. معرفتنا بالأجرام السماوية قاصرة للغاية حتى إن ما يُعد مستحيلًا وفقًا لنموذجنا — المذنَّبات التي تجتاز الأفلاك — ربما يتضح أنه ممكن في السماوات (بطليموس ١٩٨٤، الكتاب الثالث عشر).
اقترح تيكو براهي حلًّا وسطًا بين النظامين الكوبرنيكي والبطلمي. فتمثِّل الأرض في نظامه مركز الكون مع دوران القمر والشمس حولها، ولكن تدور الكواكب الأخرى حول الشمس. كان نظام براهي مهمًّا لهؤلاء الفلكيين الذين يريدون استخدام النظام الكوبرنيكي بسبب مزاياه الحسابية، ولكن لا يمكنهم الموافقة على دوران الأرض لأسباب فلسفية (كون ١٩٥٧، ٢٠٢). ويؤدي هذا إلى جداول فلكية أفضل.
من دون بيانات براهي الفلكية، لم يكن يوهانز كبلر سيكتشف قوانينه الفلكية الثلاثة. وهي أول قوانين دقيقة حسابيًّا في علم الفلك:
-
(١)
ينص القانون الأول على أن مدارات الكواكب ليست دائرية ولكنها تتخذ شكل قطع ناقص. وبهذا القانون، أُودعت حركة الدوران الدائرية المثالية القديمة في مزبلة تاريخ الأفكار.
-
(٢)
يتخلى القانون الثاني عن فكرة وجود حركة موحدة، كانت لا تزال مفترضة في نموذج كوبرنيكوس. وهو ينص على أن الفترة المدارية لكل كوكب تختلف عن الكواكب الأخرى بحيث إن «الخط المرسوم بين كوكب ما والشمس يقطع مساحات متساوية خلال أزمنة متساوية» فالكوكب القريب من الشمس يتحرك أسرع من كوكب آخر بعيد عنها، ولكن الخط الواصل بين كل كوكب والشمس يقطع مساحات متساوية من القطع الناقص في فترات متساوية من الزمن.
-
(٣)
ينص القانون الثالث على وجود علاقة بين سرعة الكواكب في المدارات المختلفة P، ومتوسط المسافة التي تفصلها عن الشمس A: A3 ∝ P2.
يعتقد البعض أن صياغة هذه القوانين تجعل كبلر الثوري الحقيقي في تاريخ علم الفلك (كوستلر ١٩٦٤، الجزء الرابع). تذكَّر التمييز بين البنية «الطوبولوجية» و«الجبرية». يرفض كبلر كثيرًا من النهج الإغريقي الذي ظل كوبرنيكوس ملتزمًا به؛ فالدوائر والأفلاك الوهمية (كبلر ١٦١٨–١٦٢١، الكتاب الرابع، الجزء الأول، ١٢٤)، والأهم من ذلك عقيدة الحركة الدائرية، رُفضت كعناصر للبنية الطوبولوجية. يقدِّم كبلر من خلال قوانينه الثلاثة مساهمة كبيرة في تحسين البنية الجبرية للنموذج الشمسي المَركز. علاوة على ذلك، يريد كبلر بناء علم فلك معتمد على المسببات الفيزيائية لحركة الكواكب. ويقدم مقترحًا بأن حرارة الشمس وضوءها ربما يُبقيان الكواكب في مداراتها الإهليجية الشكل (كبلر ١٦١٨-١٦١٩، الكتاب الرابع، الجزء الثاني). كان يقصد أن يعزو حركة الكواكب إلى قوًى طبيعية، بدلًا من وجود «قوًى خارجية» هي التي «تحرك الكواكب»؛ فهو يعزو «الروح المحركة» إلى الشمس. أخفق مقترح كبلر على نحو لا يثير الدهشة. ظلت هناك حاجة إلى عدة خطوات أخرى قبل إكمال الثورة الكوبرنيكية. تطلَّب إكمالها أن يتشارك أنصار مركزية الشمس بعض القناعات الأساسية وليس جميعها.
هذه النقطة موضحة جيدًا في أعمال جاليليو جاليلي. جاليليو عالم كوبرنيكي لا يكترث لإنجازات كبلر؛ فهو يتجاهل اكتشاف كبلر للمدار الإهليجي الشكل لجميع الكواكب ويعتنق فكرة الحركة الدائرية كحركة طبيعية لجميع الأجرام. مع ذلك، لا يمكن التشكيك في أهميته في العلم، ولذلك ثلاثة أسباب:
-
(١)
دافع جاليليو عن النظرية الكوبرنيكية وقدَّم أدلة جديدة — من خلال استخدام التليسكوب — دحضت النظرية الأرسطية البطلمية، ومنحت المصداقية لفرضية مركزية الشمس. وكما ذكرنا بالفعل، بدأ جاليليو بفرضيات جديدة. والأكثر أهمية هو استخدامه للمشاهدات والوصف الرياضي للطبيعة، ذلك خلافًا لأتباع المدرسة السكولاستِيَّة مثل عالم الرياضيات والفيلسوف في مسرحية بريشت. وقدَّمت كل مشاهدات جاليليو دلائل على أن السماوات ليست ثابتة.
-
(أ)
تقدِّم أقمار كوكب المشتري — التي كان يود أن يراها ضيفاه من خلال التليسكوب بدلًا من المناقشة العلمية — نموذجًا مصغرًا مرئيًّا للنظام الشمسي الكوبرنيكي؛ فالأقمار تدور حول كوكب المشتري كمركز لها. فلو كان المشتري محمولًا على فلك بلوري، لاصطدمت الأقمار به وحطمته. وعلى النقيض من رأي الفيلسوف، ثمة أجرام سماوية «تدور حول مراكز أخرى غير الأرض».
-
(ب)
تُظهر دراسة تضاريس القمر التشابه بين الأرض والقمر. وهذا يلقي بظلال من الشك على الأساس المنطقي للكون ذي الفلكَيْن.
-
(جـ)
يتعارض رصد البقع الشمسية — على غرار سطح القمر — مع الكمال المفترض للمنطقة السماوية في الكون.
-
(د)
تقدِّم أطوار كوكب الزهرة معلومات مباشرة عن شكل مداره. فبما أن الزهرة يقع داخل مدار الأرض، فإن الراصدين الأرضيين يرونه مضيئًا في اتجاهات مختلفة. وهذا يقدِّم دليلًا مباشرًا على الأقل على أن كوكب الزهرة يدور حول الشمس (كوستلر ١٩٦٤، ٤٣١–٤٣٥؛ كون ١٩٥٧، ٢٢٢–٢٢٤؛ كوبرنيكوس ١٥٤٣، مقدمة؛ ديويت ٢٠٠٤، ١٥٦–١٦٤).
-
(هـ)
تشير دراسة مجرة درب التبانة إلى اللانهائية المحتملة للكون.
-
(٢)
طوَّر جاليليو علم الميكانيكا؛ وهو ما مهَّد الطريق لوضع نظرية حديثة للحركة تستغني عن «الدفعات» و«الزخم». وطور جاليليو قانون السقوط الذي ينص على أن جميع الأجسام تسقط بالسرعة نفسها، التي يسببها تسارع الجاذبية بالقرب من سطح الأرض، كما صاغ جاليليو أيضًا «مبدأ النسبية» (جاليليو ١٩٥٣، ١٩٩–٢٠١). إن النظام الثابت والنظام المتحرك باستمرار متكافئان من وجهة النظر الفيزيائية؛ فالأنظمة ثابتة بالنسبة لهذا التغير في المنظور. ويقدم جاليليو تجربته الفكرية الشهيرة للتدليل على تكافؤ أنظمة القصور الذاتي. في قُمرة تحت سطح سفينة كبيرة، ارصد سلوك «الذباب» و«الكائنات المجنحة الصغيرة» الأخرى و«سمكة في وعاء». في البداية تكون السفينة ثابتة. وعند اكتمال أول مجموعة من المشاهدات، دع السفينة تسير بسرعة ثابتة. سوف تكشف المشاهدات عن عدم وجود أي اختلاف في سلوك هذه الكائنات (جاليليو ١٩٥٣، ١٩٩–٢٠١). أي شيء يحدث للكائنات في هذه النظم يحدث وفقًا للقوانين نفسها. وهكذا، على الرغم من تغيير المنظور، فإن الانتظام ثابت. كان اكتشاف جاليليو لمبدأ النسبية حيويًّا بالنسبة لفهم السؤال الأكثر إلحاحًا في علم الفلك: «كيف تتحرك الكواكب في مداراتها؟» وتُرك أمر تقديم الجواب النهائي لنيوتن (القسم ٥).
-
(٣)
وأخيرًا، أصبح جاليليو مدافعًا متحمسًا عن حرية البحث العلمي ضد تدخُّل الكنيسة؛ فعلى غرار روجر بيكون في العصور الوسطى، طالب جاليليو بالفصل بين اللاهوت والفلسفة الطبيعية؛ فمقاطع الكتاب المقدس قد لا تعني حرفيًّا ما يبدو أنها تقوله؛ ولهذا السبب ينبغي عدم استخدام مقاطع الكتاب المقدس في التشكيك فيما تُعلِّمُنا إياه المشاهدات أو التفكير الرياضي.
طوَّر كبلر وجاليليو النموذج الشمسي المَركز. وأكمله نيوتن بالاعتماد على أعمالهما. وبهذا نبدأ في أن نرى بشكل أوضح السبب في أن كوبرنيكوس لم يُمثِّل ثورة علمية.
(٤) كوبرنيكوس لم يُمثِّل ثورة علمية
لذا، بما أن الشمس هي مصدر الضوء وعين العالم، فإنها تستحق أن تُوصف بالمركز بحيث إن الشمس (…) قد تفكر في سطحها المقعر كله (…) وتستمتع بصورتها، وتُضيء نفسها من خلال التألق وتُذكي نفسها بالدفء. (كبلر، «خلاصة الفلك الكوبرنيكي» (١٦١٨–١٦٢١)، الكتاب الرابع، الجزء الأول (٢٠))
منذ أن أحدث كوبرنيكوس التحول الكوبرنيكي، طُرح السؤال هل كان يُمثِّل ثورة علمية أم لا. كان كوبرنيكوس نفسه وتلميذه يواخيم ريتيكوس مدركَيْن للطبيعة المتفجرة للتحول الكوبرنيكي؛ ففي إهدائه كتابه للبابا بولس الثالث، يعترف كوبرنيكوس بأن فرضيته الخاصة بمركزية الشمس ستبدو للعديد من معاصريه سخيفة. ويبدو أن ريتيكوس وجد أنه من الضروري التأكيد على أن كوبرنيكوس لم يكن «منقادًا بشهوة الابتداع» (ريتيكوس ١٥٤٠، ١٨٧)، ولكن نظرية مركزية الأرض غير قادرة على تفسير حركة الكواكب بما فيها من «تناسق وترابط رائعَيْن». لقد فشل القدماء لأنهم لم يعتبروا الكواكب وحركاتها نظامًا (ريتيكوس ١٥٤٠، ١٣٨). وكما رأينا في المناقشة السابقة، من المهم للنظرية العلمية أن تفسر كل الظواهر التي تقع في مجالها. واحتكم ريتيكوس لهذا المعيار عندما أشار إلى أن هذه الفرضيات فحسب هي التي يمكنها أن تفسر أن كل الانحرافات الواضحة لحركة الكواكب مقبولة (ريتيكوس ١٥٤٠، ١٦٨).
ثمة أسباب كثيرة لهذا الحكم؛ أولًا: لا يزال كوبرنيكوس ملتزمًا بالمُثل الإغريقية الخاصة بالحركة الدائرية. ويتمثل اعتراضه الرئيس على بطليموس في استخدام الموازِن، الذي ينتهك الأفلاك الدائرية المنتظمة المثالية.
ثانيًا: يوجد عدم اتساق في معاملة كوبرنيكوس لحركة الكواكب، يكشف عن نفسه في التناقض بين الجزء الأول من كتاب «عن دورات الأفلاك السماوية» وبقية الكتاب؛ ففي الجزء الأول، يبدأ كوبرنيكوس بثقة بالتأكيد على الدوران السنوي للأرض حول الشمس. ويؤمن أن الحركة حقيقية وأن لها قيمة تفسيرية، ولكن في الأجزاء الفنية من كتابه، نواجه ما سماه بطليموس «تكافؤ الفرضيات». فثمة تقنيات هندسية مختلفة لوصف حركات الكواكب يُنظَر إليها باعتبارها متكافئة. صحيح أنها قد تكون «كافية للظواهر» لكنها لا تقدِّم تفسيرًا حقيقيًّا. وتُبيِّن لا مبالاة كوبرنيكوس تجاه الأساليب المختلفة أنه غير معنيٍّ بالتفسير المادي للظواهر، ومع ذلك، هذا التفسير المادي لازم لدفع علم الفلك لما هو أبعد من مجرد وصف مدارات الكواكب. ويوافق كوبرنيكوس الإغريق في أن «الكواكب ليست محمولة على دوائر متماثلة المركز» (كوبرنيكوس ١٥٤٣، الكتاب الخامس). وتخفق هذه الأداة الهندسية في تفسير الشذوذ الظاهر في حركات الكواكب، ولكنه يعتمد على التقنية التي لجأ إليها الإغريق بالفعل؛ استخدام المؤجلات وأفلاك التدوير. ويرى أن هذه التقنيات البديلة معادلة و«كافية للظواهر» (كوبرنيكوس ١٥٤٣، الكتاب الخامس). ولم يحرز كوبرنيكوس في هذا الصدد أي تقدُّم عن بطليموس. اشتكى كبلر — وكان محقًّا — من أن أسلافه سعوا إلى «موازنة فرضياتهم مع النظام البطلمي» (كبلر ١٦١٨-١٦١٩، الكتاب الرابع، الجزء الثاني). ولهذا السبب نحن بحاجة إلى التمييز بين الملاءمة التجريبية والصلاحية النظرية.
ثالثًا: ثمة أسباب أكثر ديناميكية لعدم اعتبار عمل كوبرنيكوس ثورة علمية. يستخدم كوبرنيكوس نظرية الزخم لإضفاء حركة دائرية طبيعية على الأرض. وهذا ما يفسر سبب عدم انهيار المباني على الأرض عندما تدور الأرض، ولكنه لا يجيب على السؤال الرئيس لعلم الفلك في القرن السادس عشر: لماذا تدور الكواكب حول الشمس بسرعات متفاوتة وعلى مسافات مختلفة؟ يقدِّم كوبرنيكوس أدوات هندسية، وتعيَّن على كبلر أن يُحِلَّ قوانين فيزيائية محلها. ولكن لم يكن كوبرنيكوس يمتلك فكرة عن مفهوم القصور الذاتي أو الجاذبية. تسمح فكرة دوران الكواكب حول الشمس لكوبرنيكوس بالتخلي عن أفلاك التدوير الكبيرة، ولكن فكرة الحركة الدائرية الثابتة تجبره على استخدام أفلاك تدوير صغيرة. ومن وجهة النظر الرياضية، لا يتمتع نظامه بكثير من البساطة. أما من وجهة النظر الفيزيائية، فإنه يترك أسئلة استفسارية دون إجابة.
حركة الأرض تربط معًا ترتيب وحجم الدوائر المدارية للنجوم السيارة. (كوبرنيكوس ١٥٤٣، الكتاب الخامس، مقدمة)
تعامل بطليموس مع الكواكب كلٍّ على حدة، أما كوبرنيكوس وبراهي فقد قارنا الكواكب بعضها ببعض. (كبلر ١٦١٨-١٦١٩، الكتاب الأول، الجزء الأول)
إن مفهوم اتساق ظواهر الكواكب يُلزم الكوبرنيكيين ببناء نموذج لنظام الكواكب يجب أن يستوعب جميع البيانات التجريبية المعروفة. وحقق نموذج كوبرنيكوس في هذا الصدد نجاحًا جزئيًّا؛ فعن طريق الربط بين حركة «النجوم السيارة» و«الحركة الدائرية للأرض»، فإن «كل الظواهر» تتبَع ذلك، هذا ما يذهب إليه كوبرنيكوس (كوبرنيكوس ١٥٤٣، تمهيد). وعلى الرغم من أنها لم تتبَع جميعها ذلك، فإن النظام الكوبرنيكي يفسر على نحو طبيعي ظاهرة حركة الدوران القهقرية للكواكب وفصول السنة، كما يحدد على نحو صحيح ترتيب الكواكب والمسافات وبعدها النسبي عن الشمس (كوبرنيكوس ١٥٤٣، الكتاب الأول). كما أنه يجعل الحركة اليومية والسنوية للأرض حول الشمس حقيقة واقعة، وليست جهازًا حسابيًّا (كوبرنيكوس ١٥٤٣، الكتاب الأول). وتوفر نجاحات وإخفاقات النظام الكوبرنيكي مؤشرات مفيدة لمعايير الثورات العلمية.
(٤-١) الأسلوب الكوبرنيكي
في وسط كل هذه الأجرام تقبع الشمس (…) كما لو كانت تجلس على عرش ملكي، تحكم أسرة النجوم التي تدور حولها. (كوبرنيكوس، «عن دورات الأفلاك السماوية» (١٥٤٣)، الكتاب الأول، الفصل ١٠، مقتبَسَة في جنجريتش «عين السماء» (١٩٩٣)، ٣٤)
رغم اعتماد كوبرنيكوس إلى حد بعيد على مشاهدات قديمة، فإنه كان معتادًا على القيام بمشاهداته الخاصة. في الوقت نفسه كان كوبرنيكوس على علم بالعمل النظري الذي قدَّمه أسلافه؛ فهو يبدي كثيرًا من الاحترام لبطليموس. ومما لا يثير الدهشة وجود تنويه محفوظ خاص بأرسطرخس الساموسي الذي استبق فكرة النظام الشمسي المَركز. وكما كانت أعمال أسلاف كوبرنيكوس تمهيدًا له، فقد كانت أعماله هو نفسه تمهيدًا لأعمال تشارلز داروين. ثمة نوعان من العناصر الجديرة بالذكر في قصص الاكتشاف هذه. يدخل كوبرنيكوس — وينطبق هذا أيضًا على داروين كما سنرى — فضاءً مفاهيميًّا تتنافس فيه بالفعل بعض الأفكار النظرية للحصول على الانتباه، وتدعي هذه الأفكار النظرية أنها قادرة على تفسير «الظواهر». يصل نموذج كوبرنيكوس إلى بيئة مأهولة؛ فهذا الفضاء المفاهيمي يستوعب بالفعل نظامًا محكمًا أرضي المَركز، وتقريرًا غير مفصل عن مركزية الشمس، ومشاهدات قديمة، ونظرية الزخم الخاصة بالحركة. وكما نعلم، قام كوبرنيكوس بالمشاهدات الخاصة به، التي — مع ذلك — لم تؤدِّ إلى اكتشافات جديدة. يسمح لنا وجود فضاء مفاهيمي أن نستنتج نقطتين؛ أولاهما: أن كوبرنيكوس لم يصل إلى نظامه الشمسي المَركز عن طريق إجراء تعميم استقرائي على المشاهدات المتاحة، وثانيهما: أننا نجد في الكتاب الأول من «عن دورات الأفلاك السماوية» وفي «النبذة الوصفية الأولى» تقديرًا تامًّا واضحًا لمناقب نماذج النظام الشمسي المتناقضة وعيوبها.
يرسِّخ هندسيًّا الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها منها (أي الفرضيات الجديدة) عن طريق «الاستدلال» الصحيح، وبعد ذلك يُحدث توافقًا للمشاهدات القديمة وبياناته مع الفرضيات التي تبنَّاها، وبعد تنفيذ جميع هذه العمليات يكتب أخيرًا قوانين علم الفلك. (ريتيكوس ١٥٤٠، ١٦٣)
(…) إن من الأكثر احتمالًا وجوب أن يكون فلك النجوم الثابتة أكبر بألف أو ألفَي ضِعف حجمه الذي أشار إليه القدماء، وليس وجوب أن يكون أسرع بأربعة وعشرين ألف ضِعف سرعته التي أشار إليها كوبرنيكوس. (كبلر ١٦١٨–١٦٢١، الكتاب الرابع، الجزء الأول)
حركة الدوران السنوية للأرض حول الشمس تمنحنا «سببًا أكثر احتمالًا لمبادرة الاعتدالات» (كبلر ١٦١٨–١٦٢١، الجزء الثاني، الكتاب الرابع؛ كوبرنيكوس ١٥٤٣، الكتاب الأول).
كما أدرك كوبرنيكوس وكبلر بوضوح، أن بعض النماذج أفضل في التعامل مع الأدلة من النماذج الأخرى؛ فعملية استنتاج النموذج، الأكثر توافقًا مع القيود المتاحة، ليست استنتاجًا للنموذج الوحيد الصحيح؛ فالقيود ذاتها تخضع لفحص دقيق. لا يزال كوبرنيكوس متمسكًا بالحركة الدائرية المنتظمة كقيد في غاية الأهمية، وطالب بأن تحافظ الفرضيات الكوبرنيكية على الظواهر (روزن ١٩٥٩، ٢٩). ويؤكد تاريخ مركزية الشمس من كوبرنيكوس حتى نيوتن أن النموذج الأفضل يكون أفضل بالنسبة إلى الأدلة المتاحة والاعتبارات النظرية على حد سواء، وقد أضفى كبلر من خلال القوانين التي وضعها للكواكب تغييرات مهمة على النموذج الكوبرنيكي. وسجَّل تيكو براهي وجاليليو جاليلي مشاهدات أكثر اتساقًا مع مركزية الشمس من مركزية الأرض. وفي نهاية القرن السابع عشر، جمع نيوتن فكرة القصور الذاتي والجاذبية للوصول إلى تفسير ميكانيكي معقول لسبب بقاء الكواكب في مداراتها. وفي عام ١٦٨٧ تغيرت قيود النموذج الفلكي الملائم إلى حد بعيد، ولكن ثمة معضلة تواجهنا الآن. تذكَّر أن النموذج الأرضي المَركز يفسر فصول السنة وكذلك يفسرها النموذج الكوبرنيكي. لماذا يجب علينا تفضيل هذا النموذج الأخير، مع الوضع في الاعتبار أنه يفترض حركة ثالثة إضافية زائدة للأرض؟
(٤-٢) نسبية الحركة
أدخل جاليليو في الفيزياء مبدأ نسبية الحركة. (تبنَّى أينشتاين لاحقًا هذا المبدأ وعمَّمه.) فالحشرات تطير عبر مقصورة السفينة بالطريقة نفسها، بغضِّ النظر عن الحركة القصورية للسفينة. وفقًا لمبدأ النسبية، حركة الجسم يمكن وصفها إما من إطار مرجعي ثابت أو متحرك. وما دامت الحركة قصورية (حيث يكون الجسم ثابتًا أو يتحرك بسرعة ثابتة)، فإن كلا الرأيَيْن متماثلان، ويجب أن يؤديا إلى النتائج العددية نفسها. إن مسألة اعتبار أي الإطارين ثابتًا وأيهما متحركًا مسألة اختيار؛ فهذا لا يصنع فارقًا في فيزياء الموقف.
من وجهة نظر النسبية يجب ألا يوجد فارق إذا ما تبنَّينا فكرة مركزية الأرض أو فكرة مركزية الشمس (بورن ١٩٦٢، ٣٤٤؛ دي سولا برايس ١٩٦٢، ١٩٨؛ روزن ١٩٨٤، ١٨٣-١٨٤). فيمكننا أن نتبع بطليموس: فنعتبر الأرض إطارًا ثابتًا والشمس إطارًا متحركًا. أو يمكننا اتباع كوبرنيكوس: فنعتبر الأرض إطارًا متحركًا والشمس إطارًا ثابتًا. وفقًا لمبدأ النسبية خيارنا لا يُحدِث فارقًا بالنسبة لفيزياء الموقف. وهذا ما يبدو عليه الأمر. تدور الأرض حول محورها مرة واحدة كل ٢٤ ساعة لتمنحنا الليل والنهار. ولو دارت الشمس حول الأرض الثابتة مرة واحدة كل ٢٤ ساعة، فسوف تمنحنا الليل والنهار. وتنتج فصول السنة إما بسبب دوران الشمس حول الأرض في مدار مائل أو دوران الأرض حول الشمس في مدار مائل. مع ذلك، ثمة أمور أخرى بخلاف علم الحركة المجردة (الكينماتيكا) في وصف النظام الشمسي؛ فمن وجهة نظر كينماتيكية بحتة، النموذجان متكافئان. فوجهة نظر الكينماتيكا معنية فحسب بالحركة النقية، بغضِّ النظر عن أسبابها (دكسترهوز ١٩٥٦، الكتاب الأول؛ الكتاب الرابع). وهذا هو المنظور البطلمي والكوبرنيكي، ولكن يوجد أيضًا سؤال الديناميكا: ما الذي يسبب حركة الكواكب؟ تخيَّل أنك تجلس في قطار توقَّف في المحطة. ولاحظت عبر النافذة قطارًا يتحرك ببطء على القضبان. يخبرك حدسك أنك ثابت وأن القطار الآخر يتحرك، ولكن الفيزياء تخبرنا أن قطارك يمكن اعتباره متحركًا والقطار الآخر ثابتًا. وسوف تخبرك الكينماتيكا الأمر نفسه، ولكن تخيَّل الآن أن القاطرة فُصلت عن قطارك. هنا لم يعد الوضع الديناميكي متكافئًا؛ إذ يمتلك القطار المتحرك قاطرة تُسبب حركته على نحو واضح. لقد فقد قطارك سبب حركته. انشغل كبلر بمسألة الأسباب المادية، واشتبه في أن أشعة نشطة من الشمس تقود دوران الأرض في مدارها الإهليجي الشكل؛ فعندما يوجِّه الكوكب «وجهه الودود» للشمس، تجذبه خطوطها المغناطيسية إليها. وعندما يوجِّه الكوكب «وجهه غير الودود» للشمس، تدفعه خطوطها المغناطيسية بعيدًا. وتُقيد لعبة التجاذب والتنافر الكوكب في حركته المدارية حول الشمس (كبلر ١٦١٨–١٦٢١، الجزء الثاني). وكما أوضح نيوتن، كان هذا التفسير الديناميكي مخطئًا، ومع ذلك، قدَّم كبلر حججًا ديناميكية لصالح الحركة المدارية للأرض. وبمجرد أن أوضح نيوتن سبب بقاء الكواكب في مداراتها الإهليجية حول الشمس، قدَّم النموذج الشمسي المَركز تمثيلًا للواقع المادي أفضل من النموذج الأرضي المَركز. حسَّن نيوتن من البنية الجبرية للنموذج، وقدَّم شرحًا ديناميكيًّا لمدارات الكواكب في النموذج الشمسي المَركز. وحتى إذا ركزنا فقط على الترتيب المكاني للنظام الشمسي، فإن النموذج الشمسي المَركز يرسم البنية الطوبولوجية للنظام الشمسي أفضل من النموذج الأرضي المَركز. ونعتقد أن بنية النماذج سوف تتوافق على نحو مختلف مع بنية النظام المادي.
(٥) الانتقال إلى نيوتن
كان التليسكوب شيئًا غريبًا معروضًا في المعرض السنوي قبل أن يتحول على يد جاليلي إلى أداة لصياغة النظريات. (بلومنبرج، «نشأة العالم الكوبرنيكي» (١٩٨٧)، ٦٤٨)
كان لدى نيوتن أسباب كثيرة للاعتقاد بأنه يقف على أكتاف من سبقوه. غير أنه تقدَّم خطوة للأمام وأنتج نظرياته الخاصة. فليست فيزياء نيوتن مجرد مجموعة من قوانين الميكانيكا التي تحكم عالم الأجسام الكبيرة سواء على الأرض أو في السماء، بل هي تلخص نظرة جديدة شاملة للكون؛ صورة جديدة كاملة لطريقة تصوُّر البشر للعالم المادي من حولهم.
يمكننا وصف الثورة العلمية بصفتين مرتبطتين ارتباطًا وثيقًا: (أ) تدمير الكون القديم واختفاء كل الأفكار المعتمدة على فرضياته. (ب) تحويل الطبيعة والعلوم إلى صيغ رياضية (كواريه ١٩٥٧، ٢، ٢٩، ٤٣، ٦١-٦٢؛ ١٩٦٥، ٦–٨). لنلقِ نظرة على هاتين الصفتين بمزيد من التفاصيل.
-
(أ)
«تدمير الكون القديم» لقد قابلنا بعض سمات النظام العالمي التقليدي للكون:
-
بنيته الهرمية ذات الفلكَيْن بين كمال الفلك فوق القمري ونقائص وفساد الفلك تحت القمري.
-
تمييزه ما بين الفيزياء الأرضية والسماوية.
-
طبيعته المحدودة والمغلقة.
-
معاناته من نقص الطاقة.
لقد رأينا كيف بدأت المشاهدات الفلكية والبناء النظري تدمير النظام العالمي التقليدي للكون. ويرتبط بتدمير النظام العالمي التقليدي اختفاء كل الأفكار المعتمدة على فرضياته. لقد حلَّت العلل المادية محل العلل الغائية. ليس هدف الحَجَر أن يسعى إلى موقعه الطبيعي في الكون. الحَجَر يخضع لقوة تسارع نحو الهبوط. والكواكب لا تحيد عن مداراتها لأنها تخضع للقوانين الفيزيائية. والنجوم في السماء لا تتلألأ من أجل متعة البشر (بيرت ١٩٣٢، ١٧–٢٤).
وينقل جاليليو إلى تلميذه أندريا المتعة التحررية لكسر «الجدران والأفلاك والثبات»؛ فبمجرد «كسر دائرة» أو «تحطيم فلك» (كواريه ١٩٦٥، ٧ رقم ١)، يستطيع الكون الجديد أن يتخذ أبعادًا لا نهائية.
-
-
(ب)
السمة الثانية للثورة العلمية — «تحويل الطبيعة إلى صيغ رياضية» — لها تأثير، على القدر نفسه من الأهمية، على تطور الحضارة الغربية؛ فقد ألهمت نموذجًا للكون يعمل وفقًا لقوانين حتمية. وانتشرت صورة الكون الذي يعمل بدقة كالساعة بقدر انتشار الداروينية (انظر بيرت ١٩٣٢، ٢٠٢، ٢٠٦؛ فاينرت ٢٠٠٤، الفصل الأول؛ ويندورف ١٩٨٥، ١٤٤).
تنطبق لغة الرياضيات على العمليات الطبيعية. وهذا يقدِّم ميزة «الانضغاط الحسابي» الرائعة، التي تعني أن عددًا كبيرًا من البيانات يمكن ضغطه في معادلة رياضية دقيقة. على سبيل المثال، قانون كبلر الثالث يرسِّخ علاقة بين الفترة المدارية لكوكب ما حول الشمس P، ومتوسط المسافة التي تفصله عن الشمس A (معبرًا عنها بوحدات من المسافة بين الأرض والشمس AU). وينص القانون على أن مربع الفترة المدارية يتناسب طرديًّا مع مكعب متوسط بُعده عن الشمس:
ويمكن استخدام هذا القانون لإيجاد متوسط المسافة من الفترة المدارية أو الفترة المدارية من متوسط المسافة لأي جسم يدور حول الشمس (حتى مركبة فضائية). على سبيل المثال، إذا كان متوسط المسافة عن الشمس ٤ وحدات من المسافة بين الأرض والشمس، فإن الفترة المدارية ستساوي ٨ سنوات. وهكذا، يضغط قانون كبلر الثالث مجموعة كبيرة من البيانات في معادلة واحدة أنيقة. وكل الأشياء التي تدور حول الشمس — من الكواكب إلى الأقمار الصناعية — تخضع لهذا القانون. ويعبِّر هذا القانون عن بنية المدارات حول الشمس.
- (١)
ينص قانون القصور الذاتي على أن الجسم يظل على حالته من الحركة أو السكون ما لم تؤثر عليه قوة خارجية.
- (٢)
ينص قانون القوة على أن حركة القصور الذاتي يمكن أن تخضع لقوة تغيُّر اتجاهها وكمية حركتها.
- (٣)
ينص قانون التفاعل (الفعل ورد الفعل) على أنه لكل فعل رد فعل، مساوٍ له في القوة ومضاد له في الاتجاه.
-
«المادة»: عدد لا نهائي من الجسيمات الصلبة المنفصلة وغير القابلة للتغيير. وتمتلك هذه الجسيمات صفات أولية وثانوية، ولكن الصفات الأولية فحسب هي ما تهتم به الفيزياء (بيرت ١٩٣٢، ٢٣٥-٢٣٦).
-
«الحركة»: حركة الجسيمات يمكن وصفها من خلال قوانين الميكانيكا.
-
«الفضاء المطلق»: سفينة كونية خيالية، تؤدي بين جدرانها الجسيمات (والأجسام المكونة منها) حركاتها التي تتَّبِع قوانين الميكانيكا. اعتقد نيوتن بوجود الفضاء المطلق حتى عندما لا توجد مادة تملؤه.
-
«الزمن المطلق»: نهر خيالي يحدد تدفُّقَه المستمرَّ مقياسٌ زمني فريد يمكن من خلاله قياس جميع العمليات الطبيعية؛ فجميع الراصدين في جميع أنحاء الكون يحددون الزمن نفسه للأحداث، أيًّا كانت المسافة الفاصلة بينهم (فاينرت ٢٠٠٤، الفصل ٤).
ثمة جانب فلسفي واضح في فكر نيوتن.
(٥-١) حول الفرضيات
ما لا يمكن أن يُستمَد من الظواهر يسمى «فرضية»، وهذه لا تنتمي إلى الفلسفة التجريبية. (مقتبسة في دكسترهوز ١٩٥٦، ٥٣٧)
من أجل تخفيف حدة الصدام بين الكنيسة ونظرية مركزية الشمس، أقحم أوزياندر مقدمته في محاوَلةٍ لتقديم الفرضيات الكوبرنيكية كأدوات حسابية فحسب؛ فمن الممكن اعتبارها كاذبة أو قابلة للاستبدال ما دامت «تعيد إنتاج ظواهر الحركة بالضبط» (أوزياندر، رسالة إلى كوبرنيكوس، ٢٠ أبريل ١٥٤١، مقتبسة في روزن ١٩٨٤، ١٩٣-١٩٤). وبحلول الوقت الذي ظهر فيه نيوتن على الساحة، أصبحت الفرضيات أسلوبًا لا يحظى بالاحترام. ومن خلال رفضها، يدَّعي نيوتن أنه استقرائي؛ فكما يشير، استُنتِجَت قوانين الحركة من الظواهر، وجُعلت عامة من خلال الاستقراء، وهذا هو أعلى دليل على أن النظرية يمكن أن تتضمن فلسفة (كواريه ١٩٦٥، ٣٦-٣٧؛ دكسترهوز ١٩٥٦، ٥٤٤، ٥٤٦-٥٤٧). الظواهر عبارة عن مشاهدات رصدية أو تجريبية (موثوقة) تُشتق منها القوانين أو البديهيات. ويرفض نيوتن أي تفسير للظواهر الطبيعية يُبنى على فرضيات ميتافيزيقية لا يمكن إيجاد أي دليل لها.
لكن هذا لا يعني أن غير المرصود يجب أن يكون مشكوكًا فيه تلقائيًّا؛ فعلى سبيل المثال، المناطق الداخلية من الشمس غير مرصودة، ومع ذلك يمكن تمامًا عمل استنتاجات محددة للغاية حول تركيبها الكيميائي عن طريق استخدام التحليل الطيفي. علينا أن نميز المرصود «مباشرة» من المرصود على نحو «غير مباشر». الظواهر المرصودة مباشرة يمكن الوصول إليها من خلال أبصارنا أو من خلال استخدام الأدوات. والمرصود مباشرة ليس بالضرورة أن يكون الأكثر موثوقية؛ فكما يذكرنا كوبرنيكوس، حركة الدوران القهقري ما هي إلا خداع بصري. والظواهر المرصودة على نحو غير مباشر هي استنتاجات من مشاهدات، واستخدام لتقنيات موثوق بها، من أجل الوصول إلى الأجزاء غير المرصودة من الطبيعة. فلا يمكننا أن نرصد مباشرة سبب دوران الكواكب، ولكن يمكننا أن نستنتجه من مشاهداتنا وفرضية مركزية الشمس. لقد بدأنا ندرك أن قصة مركزية الشمس مشوبة بالدروس الفلسفية.
(٦) بعض الدروس الفلسفية
يعكس كوبرنيكوس التمييز الكوني بين وجهة النظر الضيقة من «ركنه» الأرضي ونقطة البناء المركزية التي لا يمكن في الواقع النظر إلى الكون منها ولكن يمكن التفكير فيه منها. (بلومنبرج، «نشأة العالم الكوبرنيكي» (١٩٨٧)، ٣٨)
تخلق الكوبرنيكية موقفًا إشكاليًّا ينبع منه عدد من التبعات الفلسفية. وكما سنرى في الفصلين اللاحقين، تنبع تبعات فلسفية أيضًا من الداروينية والفرويدية. وينشأ «الموقف الإشكالي» في العلم عندما يقدَّم عددٌ من التفسيرات المتنافسة حلولًا لمشكلة علمية مُدرَكَة. تُقدَّم الحلول على خلفية عدد من الفرضيات والتقنيات والنماذج المقبولة. وهذه الفرضيات والتقنيات تحدد مشكلات مقبولة ومجموعة من الحلول الممكنة لكل مشكلة. تأمَّل مشكلتين شهيرتين في تاريخ العلم: حركة الكواكب ووجود أنواع حية مختلفة. قدَّم كوبرنيكوس في عام ١٥٤٣ حلًّا للمشكلة الأولى، وفي عام ١٨٥٩ عرض داروين حلًّا للمشكلة الثانية. وطأ كلا الحلين فضاءً مفاهيميًّا ترسخت فيه بعض الفرضيات والتقنيات والنماذج بالفعل. قدَّم كوبرنيكوس وداروين نماذج منافسة كانت تنطوي على مجموعة من الحلول التي تختلف عن الحلول السابقة، كما أوجدا مجموعة من الفرضيات والتقنيات التي تباينت عن الفرضيات المقبولة سابقًا. كان الاختلاف بارزًا في حالة داروين، ولكنه كان جزئيًّا وحسب في حالة كوبرنيكوس. على الأقل عمل كوبرنيكوس مع نظرية حركة مختلفة عن نظرية الحركة الأرسطية. قدَّمت مجموعة الفرضيات والتقنيات والنماذج حلولًا معينة مقبولة وحلولًا أخرى غير مقبولة. بعض الحلول تكون ممكنة لأنها متوافقة مع مجموعة الفرضيات والتقنيات المقبولة. وتقدم المجموعة أيضًا حلولًا أخرى غير ممكنة. على سبيل المثال، ثمة صورة ناضجة من الكوبرنيكية ترى أن كل الفرضيات والتقنيات الإغريقية — الدائرة والكون ذا الفلكَيْن، والدوائر اللامتراكزة وأفلاك التدوير — باطلة؛ ومن ثم لم يعد من الممكن اعتبار مركزية الأرض حلًّا مقبولًا. من المهم أن نميز بين الحل «الممكن» والحل «الحقيقي». فحل معين «س» قد يكون ممكنًا فيما يتعلق بمجموعة من الفرضيات. ولا يمكننا أن نقبله على أنه الحل الحقيقي؛ لأن من الممكن وجود حلول أخرى فيما يتعلق بهذه المجموعة. ولكي يحوِّل الحل الممكن نفسه إلى حل حقيقي، فإنه يحتاج إلى إثبات قدرته على التحمل. فيجب على الحل الحقيقي أن يحل بعض المشكلات القديمة وبعض المشكلات الجديدة.
المواقف الإشكالية العلمية لها تأثير على القضايا الفلسفية، وهذا ما سنتحول إليه الآن. لاحظ أن هناك فرقًا بين النتائج «الاستنباطية» و«الاستقرائية» و«الفلسفية» للنظرية. تنبع النتائج الاستنباطية رياضيًّا أو منطقيًّا من مبادئ النظرية. ويمكن أن تحدث النتائج الاستنباطية في شكل تنبؤات جديدة أو توفيق للحقائق المعروفة بالفعل. وفي كلتا الحالتين فإنها غالبًا ما تكون متوافقة مع نظرية واحدة فحسب ومتعارضة — على نحو مثالي — مع منافساتها. سوف نتحدث لاحقًا عن الأدلة «الداعمة» إذا كان الموقف متضمنًا لها. تنبع النتائج الاستقرائية من النظرية التي تتضمن احتمالات. على سبيل المثال، إذا كانت النظرية إحصائية بطبيعتها، فإن نتائجها تتسم بدرجة احتمال أعلى أو أقل. تأمَّل الفارق بين عبارة «كل الغربان سوداء»، و«معظم الغربان سوداء»، فإذا كان «كل الغربان سوداء»، وعملية الرصد تقول إن «هذا الكائن غراب»، فإنه يتبع ذلك استنباطيًّا أن «هذا الغراب أسود»، ولكن إذا كانت العبارة هي «معظم الغربان سوداء»، فإنه يتبع ذلك استقرائيًّا فحسب أن «هذا الغراب أسود»، أما النتائج الفلسفية فهي مسائل مفاهيمية، يفضِّلها الفلاسفة. وعلى الرغم من أنها غالبًا ما تنبع من النظريات العلمية، فإنها نادرًا ما تخضع للاختبارات التجريبية المباشرة؛ ومن ثَمَّ فإنها لا تحظى بإجماع الخبراء الذي تحفزه عادةً النتائج الاستنباطية. بافتراض وجود نظرية «س»، فإنه غالبًا ما تُستقى منها نتائج فلسفية متعارضة. على سبيل المثال، تثير الكوبرنيكية والداروينية والفرويدية تساؤلات بشأن التفسيرات الذرائعية أو الواقعية لبعض افتراضاتها الأساسية. وحقيقة أن وجهتَيْ نظر فلسفيتَيْن غير متوافقتَيْن (ذرائعية أو واقعية) تكونان متوافقتَيْن مع نظرية واحدة لا تستبعد إمكانية أن تكون إحدى وجهتَي النظر أكثر توافقًا مع مبادئ النظرية من وجهة النظر الأخرى. فيما يتعلق بالكوبرنيكية، تناولنا أولًا تأثيرها على الرؤية الكونية العامة. ثم تظهر دروس للتوجهات الذهنية المعرفية: الواقعية والذرائعية ومسألة نقص الإثباتات. كذلك تثير الكوبرنيكية مسائل فلسفية تتعلق بالنماذج والنظريات والقوانين. ويحث التحول الكوبرنيكي أيضًا على تحليل معايير الثورات العلمية. وأخيرًا نتناول «المبدأ البشري» ونتساءل هل كان يُمثِّل نقيضًا للتحول الكوبرنيكي.
(٦-١) فقدان المركزية
علَّم كوبرنيكوس — من خلال عمله وعظمة شخصيته — الإنسان أن يكون متواضعًا. (أينشتاين، «رسالة بمناسبة الذكرى ٤١٠ لوفاة كوبرنيكوس» (١٩٥٣)، ٣٥٩)
يشرع كوبرنيكوس في كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» في إقناع قرائه أن فرضية مركزية الشمس ليست سخيفة كما قد تبدو، وقد تمكن من إقناع عدد من معاصريه مثل ريتيكوس ومايستلن في ألمانيا، ووجد بعض الأتباع في إنجلترا مثل توماس ديجس وويليام جيلبرت، وفي إيطاليا مثل جيوردانو برونو (دراير ١٩٥٣، الفصل الثالث عشر)، ولكن في بداية القرن السابع عشر ظل كبلر يشير إلى أن العديد من الناس كانوا يُصدمون بأفكار مركزية الشمس (كبلر ١٦١٩، ١٧٥). فواصل فرانسيس بيكون (١٥٦١–١٦٢٦) — الذي كان معاصرًا له — رفضه لقبول الكوبرنيكية.
لاقت الأطروحة الكوبرنيكية، في كثير من الأوساط، المعارضة والعداء. لم يجد معاصرو كوبرنيكوس صعوبة في تقبُّل التفاصيل الرياضية لعمله، بل كانت اعتراضاتهم فلسفية على نحو أكبر. فإذا اتُّبِعَت وجهة نظر كوبرنيكوس حرفيًّا، فإنها تزيل الأرض من محور الكون. عانى سكان الأرض من فقدان المركزية. ووفقًا لكوبرنيكوس، فإنهم شعروا أنه لم يعد صحيحًا أن الكون قد خُلق من أجل البشر. قدَّمت فرضية مركزية الشمس الكوبرنيكية أكثر من مجرد أطروحة رياضية في علم الفلك المقتصر فهمه على مجموعة صغيرة من البشر. كانت هجومًا على ما آمن به الناس حيال بنية العالم. ولم تكتسب فكرة مركزية الشمس تأييدًا خاصةً بين رجال الدين وعلماء الدين البروتستانتيين؛ فوصف مارتن لوثر كوبرنيكوس بأنه أحمق، مستشهدًا بالكتاب المقدس. ووصفه فيليب ملانكتون — رفيق درب لوثر — ببساطة بأنه وقح. كانت الكنيسة الكاثوليكية قد تبنَّت نظرية مركزية الأرض من خلال عمل توما الأكويني. وكانت مقاومة الكنيسة الكاثوليكية ضد الحركة الفيزيائية للأرض حول الشمس تعود جزئيًّا إلى الضغوط الكنسية؛ فقد رأت الكنيسة الكاثوليكية أن سلطتها مهددة بسبب صعود البروتستانتية. وفرضت الكوبرنيكية تحديًا إضافيًّا على العقيدة الكاثوليكية.
وخلال سعيهما لتخفيف الصدمة الناتجة عن أفكار مركزية الشمس، كان كبلر وريتيكوس حريصَيْن على استخدام الحجج الغائية. فبينما فُقدت المركزية المادية، لم ينغمس البشر في غياهب الحقارة الكونية. استُثمرت الظواهر السماوية بغرض محدد. فيُشير كبلر إلى أن الغرض من الحركة هو إثبات أن «الحركة تنتمي إلى الأرض بوصفها وطنًا للمخلوق المفكر» (كبلر ١٦١٨–١٦٢١، الكتاب الرابع، الجزء الأول). حتى إن ريتيكوس يؤكد على أن «الفلك قد رصَّعه الله من أجلنا بعدد كبير من النجوم المتلألئة» (ريتيكوس ١٥٤٠، ١٤٣).
لم يتقبل الكوبرنيكيون الأوائل أن مجرد الإزالة المادية للبشر من محور النظام الشمسي إلى الفلك الثالث تُمثِّل حَطًّا مؤلمًا للمكانة. للظواهر السماوية غاية، وهي لا تتأثر بالموضع المادي للأرض بين الكواكب، فغايتها تتمثل في خدمتها للبشرية. آمن أرسطو أن «الطبيعة علة تعمل لغاية ما» (أرسطو ١٩٥٢أ، الكتاب الثاني، ٨). و«كما أن الطبيعة لا تفعل شيئًا بلا غاية أو عبثًا، فلا بد أنها صنعت كل الحيوانات من أجل البشر» (أرسطو ١٩٤٨، الكتاب الأول، ١٢٥٦ب). يرى كوبرنيكوس أن وظيفته هي فهم «آلية العالم الذي بُني لنا عن طريق الصانع الأفضل والأكثر تنظيمًا» (كوبرنيكوس ١٥٤٣، تمهيد، ٦). وتتردد أصداء عقيدة الغائية — وهي أن «الطبيعة لا تفعل شيئًا دون غاية» — عبر تاريخ أفكار البشر حيال الطبيعة. حتى إن ريتيكوس استخدم الغائية لمجابهة السكولاستِيَّة. فلا بد أن الصانع الحكيم صنع نموذجًا شمسي المَركز، لأنه «سيتجنب إدراج أي دائرة زائدة في هذه الآلية» (ريتيكوس ١٥٤٠، ١٣٧).
ظل الوضع هكذا حتى أزال نيوتن التفكير الغائي من العلوم الفيزيائية. واستغرق الأمر فترة أطول في العلوم البيولوجية، كما سنرى في الفصل الثاني. فإقناع الناس أن النجوم ليست مصنوعة لتلمع من أجل تسليتهم أسهل من إقناعهم بأن العيون ليست مصممة لهم لكي يروا.
الرأي السائد اليوم هو أن الحياة — بعيدًا عن كونها مركزية، سواء كان ذلك هندسيًّا أو نظريًّا أو عمليًّا — بلا أهمية على نحو لا يمكن تصوره تقريبًا.
النظام الشمسي جزء ضئيل من مجرتنا، مجرة درب التبانة، وهي في حد ذاتها غير ملحوظة بين الكثير من المجرَّات في الكون المعروف؛ لذلك، وكما قال ستيفن هوكينج: يبدو أن «الجنس البشري مجرد زبد كيميائي على كوكب متوسط الحجم يدور حول نجم متوسط للغاية على الحدود الخارجية لواحدة من بين مئات مليارات المجرَّات.» (دويتش ١٩٩٧، ١٧٧-١٧٨؛ راجع واينبرج ١٩٧٧، ١٤٨؛ بلومنبرج ١٩٨١، الجزء الأول والسادس؛ ١٩٦٥)
تؤكد المشاهدات أن البشر لا يمكثون في مكان متميز هندسيًّا داخل الكون الشاسع. ولا يوجد أي دليل على أن الأجرام الأخرى في النظام الشمسي صُممت بوجه خاص لغرض الحياة البشرية. وبهذا المعنى، أدت الفرضية الكوبرنيكية إلى فقدان المركزية. ومع ذلك، أثبت الكوبرنيكيون أن المركزية المادية ليست ذات أهمية قصوى؛ فالعقل البشري يحلق في سماء أكبر بكثير من حدود مسكنه المادي؛ فما فقده البشر في المركزية الهندسية اكتسبوه في المركزية العقلية؛ فالمعرفة تحل محل الموقع، والعقل يعزز البصر.
يوجد تناظر معين بين كوبرنيكوس وداروين؛ إذ أبعد كوبرنيكوس البشر عن المركز المادي للكون، وأبعد داروين البشر عن ذروة الخليقة. ومؤخَّرًا واجهت هذه الآثار الفلسفية للتحول الكوبرنيكي والثورة الداروينية اعتراضًا، فبعض علماء الكونيات الجدد يرفضون ما يسمونه «العقيدة الكوبرنيكية»؛ فمن وجهة نظرهم، تشير هذه العقيدة إلى أنه لا يوجد شيء مميز بشأن البشر وبيئتهم؛ فالأرض واحدة من كواكب عديدة تدور حول جرم شمسي من الحجم المتوسط. والنظام الشمسي نفسه لا يوجد في موقع مركزي في درب التبانة. ومجرة درب التبانة هي مجرد واحدة من مليارات المجرَّات. ويبدو أن التطور الدارويني يدعم «العقيدة» الكوبرنيكية؛ فالتطور — وفقًا لداروين — أنتج فرعًا من شجرة تطورية يسميه البشر وطنهم، ولكن التطور منوط بالصدفة. فربما لم يكن ليتسبب في وجود حياة ذكية.
يرى بعض علماء الكونيات أن «المبدأ البشري» ينبغي أن يحل محل العقيدة الكوبرنيكية (انظر القسم ٨). في علم الأحياء التطوري، يوضع «التصميم الذكي» ضد الانتقاء الطبيعي لداروين. تسعى سيناريوهات التصميم الذكي إلى إعادة التفكير الغائي إلى علم الأحياء التطوري (الفصل الثاني، القسم ٥-٤). ويرفض المبدأ البشري الإيحاء بأن الوجود الإنساني ليس مميزًا بأي طريقة. فيؤكد المبدأ البشري أن البشر يعيشون في عصر مميز للغاية من التاريخ الكوني. وهو مميز لأنه سمح ﺑ «تطور الحياة الكربونية» (بارو/تِبلر ١٩٨٦، ٦٠١). وقبل أن نتناول هذا المبدأ، ثمة عدد من المسائل الفلسفية الأخرى التي تتطلب انتباهنا.
(٦-٢) هل كان كوبرنيكوس واقعيًّا؟
رأينا سابقًا أن كوبرنيكوس لم يكن صاحب ثورة علمية، ولكن من خلال تغييره للمنظور على خلفية بعض الملامح الثابتة، غرس كوبرنيكوس بذور ثورة علمية. كان التحول الكوبرنيكي — الذي هو تغيُّر في المنظور مع بعض المكاسب التفسيرية — خطوة افتتاحية كبيرة مكنت ظهور العلم الحديث. لقد وقف كوبرنيكوس عند بوابة الحداثة.
-
المشاهدات المنتظمة.
-
التجربة الخاضعة للسيطرة.
-
التحويل لمعادلات رياضية.
أورد كوبرنيكوس عددًا من المشاهدات الخاصة به، التي قام بها في فرومبورك في بروسيا (كوبرنيكوس ١٥٤٣، الكتاب الثالث؛ ريتيكوس ١٥٤٠). كما أنه اعتمد على العديد من المشاهدات الإغريقية. وضع كبلر قوانينه المتعلقة بالكواكب على أساس اكتشافات تيكو براهي، وقدَّم جاليليو إضافات مهمة لمجموعة قواعد البيانات الفلكية. واستخدموا جميعًا المشاهدات على نحو «منتظم». وهذا يعني أنهم استخدموها لتأسيس الفرضية الكوبرنيكية. تعني «المشاهدات المنتظمة» أن المشاهدات تُستخدم لاختبار مدى ملاءمة نموذج معيَّن. ووجد جميع هؤلاء العلماء أن النموذج الشمسي المَركز كان أكثر احتمالًا مقارنة بالنموذج البطلمي. في حالة علم الفلك، لا يمكن تطبيق «التجارب الخاضعة للسيطرة». تعني التجربة الخاضعة للسيطرة التلاعب المتعمد في عوامل متغيرة مختارة في المختبرات العلمية. وهذا يعني أنها تنطوي على إقصاء متعمد وإدراج متعمد لعوامل متغيرة في التجربة. على سبيل المثال، في تجارب التشتت الشهيرة لرذرفورد (١٩٠٩–١٩١١)، استخدم رذرفورد ومعاونوه ذرات هيليوم متأينة، وأطلقوها باتجاه ذرات الذهب من أجل اكتشاف أن الذرة تمتلك نواة. في هذه التجارب تجاهل رذرفورد عمدًا الإلكترونات؛ لأنها لا تتداخل مع مسار ذرات الهليوم الثقيلة داخل ذرات الذهب. حصر مُجرو التجارب تركيزهم على التفاعلات بين الأنوية. لقد رأينا بالفعل أن «التحويل لمعادلات رياضية» يوفر قابلية ضغط البيانات جبريًّا (القسم ٥). استخدم علم الفلك القديم الهندسة استخدامًا واسع النطاق؛ فكانت الزوايا والدوائر هي الأدوات الرئيسية المتاحة لعالم الفلك، حتى كوبرنيكوس. والهندسة تحد من الاستفادة من الرياضيات في وصف الطبيعة. وجعل استخدام الهندسة من المستحيل على كوبرنيكوس تقديم نظرية كمية دقيقة لحركة الكواكب، ناهيك عن التحليل الديناميكي، فقد كان مكسبه التفسيري قاصرًا على الهيكل الطوبولوجي لنموذجه.
ولكن هل يعني هذا المكسب التفسيري أنه يوجد في متناولنا تفسير فلكي أفضل؟ هذا السؤال يكمن في منطق الموقف الإشكالي الكوبرنيكي؛ فعن طريق تغيير المنظور بين الأرض الثابتة والمتحركة، يدَّعي كوبرنيكوس الوصول إلى تفسير أفضل للظواهر المرصودة. فتظهر مسألة فلسفية على الفور، كان معاصروه يدركونها: بالتسليم بأن كوبرنيكوس حقق بعض المكاسب التفسيرية، هل هذا المكسب التفسيري يخبرنا، ببساطة، بشيء عن بنية نظرياتنا أو يقدِّم معلومات أكثر عن بنية العالم المادي نفسه؟ هل كان كوبرنيكوس واقعيًّا؟ أثار أوزياندر هذا التساؤل في مقدمة كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» التي لم يكتب اسمه عليها. ويقبع هذا التساؤل أيضًا وراء الاستخدام المتناقض لمصطلح «الفرضيات». وبهذا فنحن نتعامل هنا مع القضية الفلسفية الخاصة بالواقعية والذرائعية.
(أ) دروس للذرائعية والواقعية
التفكير في أو بناء أي أسباب أو فرضيات يشاء بحيث يمكن، من خلال افتراض هذه الأسباب، حساب تلك الحركات نفسها في الماضي والمستقبل أيضًا عبر مبادئ الهندسة.
يكفي [الفرضيات] أن تقدِّم حسابات تتفق مع المشاهدات.
لذلك دعونا نُتِح الفرصة لهذه الفرضيات الجديدة للظهور علنًا بين الفرضيات القديمة التي هي نفسها أصبحت أقل احتمالًا، وخصوصًا لأن الفرضيات الجديدة رائعة وسهلة وتجلب معها كمية ضخمة من المشاهدات المكتسَبة. وبقدر ما تصل الفرضيات، فلا يتوقع أحد أي شيء مؤكد من علم الفلك، حيث إن علم الفلك لا يمكن أن يقدِّم لنا شيئًا مؤكدًا؛ إذ إنه لو أن أي شخص صدق شيئًا ما على أنه صحيح رغم أنه أُوجد في الأساس لاستعمال آخر، فإنه سيخرج من علم الفلك أكثر حمقًا مما كان عليه عندما دخله. وداعًا.
توقَّع أوزياندر شكوك نيوتن اللاحقة بشأن فرضيات علم الفلك. فأشار إلى مركزية الشمس كفرضية رياضية، ولكنها ليست زعمًا بشأن الواقع المادي. فبوصفها زعمًا بشأن الواقع، سوف تكون كالشوكة في عين عالم اللاهوت؛ فمن خلال تشتيت فرضية كوبرنيكوس على سطور الذرائعية، سعى أوزياندر لإزالة الألم الذي تسببه؛ فكانت أداة رياضية أخرى لا تزعم تقديم تفسير أفضل للواقع. وكانت تمتلك احتمالًا قليلًا مساويًا لاحتمال الفرضيات الإغريقية المعمول بها؛ فالأسباب الحقيقية لحركة الكواكب لا يمكن أن تُعرَف، لأن العقل البشري أضعف من أن يفهم الفلك السماوي. وفي غياب الفهم المادي، يحل الوحي محله.
لم يكن كوبرنيكوس واقعيًّا إزاء أدواته الهندسية؛ فقد عانى بعض الصعوبة في تصديق أن البنيات النظرية المستخدمة في النموذج الشمسي المَركز — الحركة الدورانية اللامتراكزة وأفلاك التدوير المسئولة عن تفسير الظواهر المرصودة — لها نظير في الواقع المادي. لم يكن كوبرنيكوس واقعيًّا إزاء البنية الجبرية لنموذجه. كان كوبرنيكوس واقعيًّا إزاء الأجرام السماوية وحركاتها والنظام الذي يضمها معًا. وآمن أن المكان الذي حدده للأرض في النموذج الشمسي المَركز يتوافق مع جزء من بنية النظام الشمسي. كان كوبرنيكوس واقعيًّا إزاء البنية الطوبولوجية للنموذج الشمسي المركز. وحجج كوبرنيكوس الواقعية مقدَّمَة في مقدِّمة وإهداء كتابه إلى البابا بولس الثالث والجزء الأول من الكتاب.
فسَّرنا الظواهر بوصفها ناتجة عن حركة الأرض حول الشمس، واقترحنا هذه الوسيلة نفسها من أجل تحديد حركات جميع الكواكب. (كوبرنيكوس ١٥٤٣، الكتاب الرابع، مقدمة)
كما آمن كوبرنيكوس بالحالة السيارة للأرض؛ إذ آمن أن موقع الأرض مسئول سببيًّا عن بعض الظواهر المرصودة. إذًا ليس كوبرنيكوس واقعيًّا إزاء موضع الأرض فحسب، فلا بد أنه واقعي كذلك بشأن النتائج الفيزيائية لهذا الموضع.
نتحول الآن إلى حركات النجوم السيارة الخمسة؛ فحركة الأرض تربط ترتيب وحجم دوائرهم المدارية معًا في تناغم رائع وبتناسب مؤكَّد … (كوبرنيكوس ١٥٤٣، الكتاب الخامس، مقدمة)
تنبع نتائج كثيرة قابلة للرصد من فرضية أن الأرض تتحرك. بمجرد أن يؤدي هذا الافتراض إلى نموذج متسق، يعزز هذا الاتساق من مصداقية الفرضية الأصلية. فالنموذج الشمسي المَركز — اعتمادًا على اتساقه — تمثيل أفضل لترابط الطبيعة من النموذج الأرضي المَركز. وكما أدرك كبلر ونيوتن لاحقًا، يمكن تعزيز تمثيل النموذج الشمسي المَركز من خلال التخلي عن العديد من فرضيات كوبرنيكوس المسبقة.
(٦-٣) الواقعية الحديثة
إذن، لو أن ثمة درسًا يجب أن يعلِّمه العلماء للواقعيين فهو أن الواقعية — كلها أو أي شيء منها — لا تستحق القتال من أجلها. (سيلوس، «الواقعية العلمية» (١٩٩٩)، ١١٣)
كان النموذج الكوبرنيكي قادرًا على تقديم تفسير متسق للمشاهدات المعروفة خلال حياة كوبرنيكوس، كما كان متوافقًا أيضًا مع المشاهدات اللاحقة، ولكن افتقر النموذج الكوبرنيكي الأصلي إلى آلية ذات مصداقية يمكنها تفسير المشاهدات. تمتع النموذج الكوبرنيكي بصلاحية تجريبية، نظرًا لبنيته الطوبولوجية، ولكن يجب أيضًا أن يلبي نموذج أو نظرية أكثر تطورًا مطلب وجود بنية جبرية دقيقة. ويجب أن تتوافق الآلية التي تفسر «الظواهر» مع بنية العالم الحقيقي. والنظرية التي تتميز ببنية جبرية دقيقة تتمتع بالصلاحية النظرية. والخلاف الفلسفي بين أوزياندر وكوبرنيكوس، بين الذرائعية والواقعية، له نظير حديث. فمتبع الذرائعية في العصر الحديث متردد حيال الآليات والبنيات الكامنة وراء السمات المرصودة كما كان أوزياندر. ومتبع الواقعية في العصر الحديث واثق حيال الآليات والبنيات الكامنة كما كان كوبرنيكوس واثقًا حيال واقع حركة الأرض.
يدَّعي متبع الواقعية أنها هي «الفلسفة الوحيدة التي لا تجعل نجاح العلم يبدو معجزة» (بتنام ١٩٧٥، ٧٣)، ومع ذلك فإن قصة علم الفلك تُبيِّن أن مُعارض الواقعية يبدو أن لديه وجهة نظر. كان النموذج الأرضي المَركز والنموذج الشمسي المَركز في البداية متكافئين على المستوى الرصدي؛ إذ كان كلاهما يعتنق «تكافؤ الفرضيات»، ومع ذلك فقد كانا مختلفين بنيويًّا. وانتهى المطاف بجزء كبير من البنية النظرية في سلة مهملات الأفكار المصرَّة على الخطأ. لم يبالغ بطليموس في الزعم ﺑ «واقعية» أدواته الهندسية، وكان كوبرنيكوس واقعيًّا فحسب فيما يتعلق بالترتيب المكاني للكواكب. قدَّم كبلر حججًا قائمة على الاحتمالات لصالح النموذج الكوبرنيكي، رغم تخلُّصه من بعض فرضياته الرئيسية. تخلى نيوتن عن أسباب كبلر «الفيزيائية»، بينما استكمل الثورة الكوبرنيكية.
يتجمع العديد من المكونات في النظم الطبيعية بطريقة منتظمة؛ ومن ثم فإن النظم الطبيعية تُظهر بنْيةً تتألف من مترابطات النظام والعلاقات بينها. ويحاول العلم بناء نظريات ذات نماذج تمثِّل هذه النظم. يجب أن يكون للنماذج بنية نموذجية، تُمثِّل بنية النظام الطبيعي على نحو رمزي. إذا كان المشروع العلمي منشغلًا بوصف وتفسير النظم الطبيعية والاجتماعية، فإن الواقعية البنيوية تقدِّم أطروحة مفادها أن بنية النموذج تُمثِّل بالتقريب الجوانب البنيوية، المؤكَّدة جيدًا، للنظام المستهدف؛ فهي تهتم بالصلاحية النظرية لبنية النموذج؛ ولذلك فإن متبع الواقعية البنيوية سيرغب في أن يدَّعي أن نماذج العلم تهدف إلى تمثيل بنيات النظم الطبيعية أو الاجتماعية (الطوبولوجية والجبرية). وتتألف بنية النموذج — من أجل غرضنا الحالي — من المكونات وترابطها؛ أي المترابطات والعلاقات. ولدعم وجهة النظر هذه، فإن متبع الواقعية البنيوية سيرغب في توضيح طريقة توفيق الاستمرارية والانقطاع في النظريات العلمية على المستوى البنيوي. يمكن تدبُّر هاتين السمتين على نحو تفاضلي فيما يتعلق بالبنية الطوبولوجية والبنية الجبرية. عند الانتقال من بطليموس إلى كوبرنيكوس، تغيرت البنية الطوبولوجية للنماذج، لكن ظلت البنية الجبرية كما هي، باستثناء الموازِنات وأفلاك التدوير الكبيرة. وعند الانتقال من كوبرنيكوس إلى كبلر، بقيت البنية الطوبولوجية دون تغيير، ولكن خضعت البنية الجبرية لتغييرات جذرية. ومن كبلر إلى نيوتن، خضعت البنية الجبرية لتحسينات، ولكنها لم تتعرض لتغييرات كبيرة. ومنذ نيوتن، لم يشهد النموذج البنيوي للنظام الشمسي تغييرات جذرية. وإنها لحقيقة أن التمثيل العلمي (في سياق النماذج) يواجه دائما قيودًا في عمليتَي التقريب والتجسيد المثالي. على سبيل المثال، تُعَدُّ الدائرة تجسيدًا مثاليًّا للقطع الناقص. سيؤكد متبع الواقعية البنيوية على وجود أدلة قاطعة كافية في تاريخ العلم للتسليم بالاستمرارية في البنيات الأساسية. وتمتد الاستمرارية إلى البنيات الجبرية والبنيات الطوبولوجية على حد سواء. وأخيرًا، النماذج الناضجة فحسب هي التي يمكن أن تُمثِّل بنية النظام المستهدف تمثيلًا كاملًا. وعلاوة على ذلك، تتغير هذه العناصر على نحو مختلف وعادةً لأسباب علمية جيدة؛ ومن ثم ربما نشك في أنه حتى في المراحل الثورية في العلوم، ثمة عملية معينة من تسلسل الاستدلال تربط الانتقال من النظريات القديمة إلى الجديدة، وسوف نناقش هذا في (القسم ٧).
(٦-٤) نقص إثبات النظريات بالأدلة
كان عدم القدرة على التخلص من تكافؤ الفرضيات واحدًا من أسباب فشل أعمال كوبرنيكوس في أن تصبح ثورة علمية. يجب أن يرى الواقعيون أن البنية النظرية التي ينسبها العلماء إلى مجموعة من البيانات الرصدية أو التجريبية تشير إلى بعض العمليات الفيزيائية التي يمكن أن تفسر المشاهدات. على النحو المثالي، يرقى هذا إلى مكانة التفسير السببي (انظر الفصل الثاني، القسم ٦-٦). كيف يمكننا أن نتأكد من أن تفسيراتنا النظرية تجسد حقيقة العالم المادي تقريبًا؟ هذا في جزء منه يتعلق بمسألة كيفية استطاعة التفسيرات العلمية تمثيل أجزاء من العالم الطبيعي. ويتم ذلك من خلال استخدام مجموعة متنوعة من النماذج كما سنرى (انظر القسم ٦-٤ و٦-٥)، لكن قبل أن ننتقل إلى هذه الأمور، يجب إزالة حجر عثرة. ثمة حجة شهيرة — أطروحة دوهيم-كواين — تسعى إلى توضيح أن الأدلة لا تكون قوية بما فيه الكفاية «مطلقًا» للتغلب على جميع التفسيرات النظرية المنافسة. إذا نجحت هذه الحجة، ربما سيوجد دائمًا عدد لا نهائي من التفسيرات النظرية المتوافقة مع الأدلة والمتعارضة وجوديًّا. ولن تكون الأدلة قادرة على تحديد تفوُّق أحد التفسيرات على التفسيرات الأخرى. وستكون كل التفسيرات النظرية ناقصة الإثبات بالأدلة المتاحة. وسيتاح لمُتَّبِعي الذرائعية حجة قوية في ترسانتهم.
ربما لا يغير متبع الذرائعية المتشدد رأيه متأثرًا بمثل هذه الحجج. وسوف يشير إلى: (أ) أن من الممكن دائمًا دحض الدليل بوصفه بانعدام الثقة. ويمكن القول إن عالم الرياضيات والفيلسوف في مسرحية بريشت كانا محقين في كونهما متشككين في التليسكوب، الذي لم يكن في عام ١٦١٠ بعد أداة موثوقًا بها. (ب) وأن من الممكن دائمًا تغيير بعض الافتراضات الأساسية لإنقاذ النظرية. (ﺟ) وأن تاريخ العلم مليء بحالات نقص الإثبات بالأدلة. حتى بداية القرن السابع عشر كانت النماذج الفلكية يعارض بعضها بعضًا، ولكنها كانت متفقة على نحو متساوٍ مع الأدلة. وسادت حالة مماثلة في البيولوجيا التطورية حتى بداية القرن العشرين. ولا تزال نماذج العلوم الاجتماعية المتعلقة بالظواهر المجتمعية تعاني من ويلات نقص الإثبات بالأدلة.
(أ) أطروحة دوهيم-كواين
مربع ١-٢: أطروحة دوهيم-كواين بعبارات منطقية
مخطط بوبر للدحض:
أطروحة دوهيم-كواين:
مفتاح الرموز:
يقدِّم لنا تاريخ علم الفلك أمثلة مفيدة لتوضيح وتقييم أطروحة دوهيم-كواين.
(ب) قوة القيود
ثمة حل عملي لأطروحة دوهيم-كواين يعتمد على استخدام القيود. يمكن عمومًا اعتبار القيود كشروط تقييدية على المقبولية؛ فهي تتحكم في العوامل المتغيرة التي تُقبَل في أي نظرية علمية أو نموذج علمي، أو تتحكم بصورة أعم في النظريات والنماذج التي ينبغي قبولها كبنيات علمية. تخيَّل بوابًا يقف خارج ملهًى ليلي. يقدِّم الملهى الليلي المشروبات الكحولية ولكن فقط للمقامرين الذين تجاوزوا حدًّا سنِّيًّا معيَّنًا. يجب أن يتأكد البواب من أن المقامرين الذين يستوفون الحد الأدنى للسن هم مَن يدخلون فحسب. إذا كنت مقامرًا أقل من الحد السني، يفرض البواب شرطًا تقييديًّا على دخولك إلى الملهى الليلي. إذا أدى وظيفته على نحو صحيح، فلن تدخل. وكما سنناقش الآن، ثمة مجموعة متنوعة من القيود التي تُطبَّق في التنظير العلمي. في الأساس، توجد قيود تجريبية وأخرى نظرية، وهذه القيود يمكن تقسيمها لمستويات فرعية أكثر.
ومساحة القيود عبارة عن بنية تحددها أنواع مختلفة من القيود، يمكن مزج النماذج الفعلية والمحتملة فيها. تطبق القيود على البنيات المقبولة وغير المقبولة. ودائمًا ما تكون القيود محدودة، ولكن تسمح مساحة القيود بعدد لا نهائي من النماذج والنظريات المحتملة (غير المصوغة)، ومع ذلك، يمكن لعدد محدود من القيود أن يحكم عددًا لا حصر له من النماذج أو النظريات المحتملة، تمامًا كما يندرج عدد لا حصر له من الحالات المحددة — الفعلية والمحتملة — تحت القانون العلمي الواحد. ويمكن لعدد قليل من القيود أن يُقصي عددًا لا حصر له من النماذج والنظريات، تمامًا كما يستطيع بواب واحد رد عدد كبير من المقامرين؛ ومن ثم فإن بإمكان بنية شمسية المركز، بالاتحاد مع قوانين كبلر، أن تُقصي كل النماذج الأرضية المركز باعتبارها بنيات غير مناسبة. وينجح الإقصاء؛ لأن النماذج الأرضية المَركز تصبح متعارضة مع القيود الجديدة. بعبارة أخرى، تسبب محاولة إدراج النماذج القديمة في مساحات القيود الجديدة تناقضات.
من أجل أغراض مناقشة أطروحة دوهيم-كواين، وفي ضوء القيود، سوف نستخدم البيانات التجريبية فحسب كأمثلة على القيود التجريبية، والاتساق كمثال على القيد النظري.
لنلقِ نظرة أولًا على بعض الأمثلة حول طريقة مساعدة استخدام القيود «التجريبية» على حل معضلة دوهيم-كواين، على الأقل من وجهة النظر العملية. تذكَّر موقف مركزية الأرض في القرن السادس عشر. في ١٥٧٢، كان تيكو براهي قد اكتشف نجمًا جديدًا (مستعرًا أعظم)، وفي الفترة ١٥٧٧–١٥٩٦، اكتشف براهي المذنَّبات، وأثبت أنها كانت تقع خارج فلك القمر. شكلت هذه المشاهدات مشكلة خطيرة لإحدى العقائد الرئيسية في نظرية مركزية الأرض: ثبات الفلك فوق القمري. لا يمكن من وجهة نظر منطقية استبعاد أن نظرية مركزية الأرض قد وجدت طريقة للتكيف مع هذه الظواهر. في الأجزاء الأخيرة من كتابه «المجسطي»، يشير بطليموس إلى أن أي معرفة دقيقة للفلك فوق القمري تتخطى فهم البشر. إن ادعاء الجهل يُمثِّل طريقة غريبة للتكيف. من المهم التأكيد على أنه كان «ينبغي» على نظرية مركزية الأرض التكيف مع هذه الظواهر. كانت ظواهر عنيدة، وكان إنكارها سيؤدي إلى دوجمائية الفيلسوف. السؤال هو ما التكلفة التي سيفرضها التكيف؟ (كيتشر ١٩٩٣، ٢٤٧–٢٥٦؛ كواين ١٩٩٠، ٣–٢١)، كما رأينا، كان التكيف طبيعيًّا بالنسبة لنظرية مركزية الشمس. ومن وجهة النظر العملية، فإن تكلفة التكيف كانت تفرض ضغطًا شديدًا على نظرية مركزية الأرض؛ فليس من الاتساق أن تفترض ثبات السماوات وتقبل الدليل على الحركة.
صاغوا نظرياتهم وأجهزتهم لتصحيح حركة الأجرام السماوية مع عدم الالتفات كثيرًا إلى القاعدة التي تُذكِّرنا بأن ترتيب وحركات الأفلاك السماوية تتوافق ضمن نظام مطلق. (ريتيكوس، ١٥٤٠، ١٤٥)
مع ذلك، إذا كان حقيقيًّا أن النظريات العلمية تميل إلى إظهار كم كبير من الاتساق (الترابط) بين مكوناتها، فمن الصعب الاعتقاد — في ظل نظرية دوهيم-كواين — أن النظام العلمي يواجه حكم الأدلة ككل فحسب؛ فكما رأينا للتو، يبدو أن شرط الاتساق يحد عدد التغييرات التي يمكن إجراؤها، كما أنه يحد من طبيعة التغيرات التي تكون مقبولة. فيمكننا استهداف عناصر معينة من النظام، عالمِينَ أن ذلك سيؤثر على النظام بأكمله. استهدفت الفرضية الكوبرنيكية عناصر فردية من نظرية مركزية الأرض، وهي الموضع الطوبولوجي للأرض، وأداة الموازن الجبرية. واستهدف كبلر عقيدة المدارات الدائرية.
(٦-٥) النظريات والنماذج والقوانين
تكلمنا في الصفحات السابقة عن النظريات الفلكية والنموذجين الأرضي المَركز والشمسي المركز وقوانين كبلر للكواكب. يرتكز المشروع العلمي على عدد من الركائز، منها النظريات والنماذج، والقوانين، والقيود. كيف ترتبط هذه الركائز بعضها مع بعض؟ كيف تختلف النظرية عن النموذج؟ ما هو قانون الطبيعة؟ إن القيود، كما أكدنا، ترسم مساحة مقيدة. ويمكننا توسيع مساحة القيود عن طريق إدخال مزيد من القيود، كما يوضح تاريخ علم الفلك. وسَّع تيكو براهي الأساس الرصدي الذي ينبغي بناء النماذج الفلكية عليه. وعندما رفض كبلر ميتافيزيقا الأفلاك الدائرية أصبح صاحب التغيير الأكثر ثورية في مساحة قيود علم الفلك على مدار ألفي عام.
(أ) النظريات والنماذج
يمكننا التفكير في النظرية العلمية كنظام مفاهيمي متسق يربط عددًا من العناصر النظرية، التي تكون مهمة للممارسة العلمية. تنطبق النظرية العلمية على مجال ما، ويتضمن هذا المجال كافة الظواهر في جميع الأنظمة الممكنة التي تنطبق عليها النظرية. تضم النظرية الكوبرنيكية كل الأنظمة الكوكبية الجامدة كمجال لها. وتضم النظرية الداروينية كل النظم البيولوجية الحية كمجال لها. وتزعم كلتا النظريتين أنها تستطيع تفسير جميع أنواع السلوكيات ذات الصلة في النظم التي تقع ضمن مجالها. ترغب النظرية الكوبرنيكية في تفسير توزيع الأنظمة الشمسية وحركات الكواكب، وترغب النظرية الداروينية في تفسير جميع الظواهر التطورية، وتقدم النظريات العلمية إلى حدٍّ ما أيضًا رؤًى كونية؛ وهذا يعني أنها تقدِّم منظورًا معينًا حيال النظم الطبيعية أو الاجتماعية التي تُشكِّل مجالها. تخبر الرؤى الكونية الناس بماهية العالم ومكانة البشر فيه. تُعبِّر نظريات مركزية الشمس والداروينية والفرويدية عن هذه الآراء الميتافيزيقية إزاء العالم. وعندما تتغير النظرية، تواجه تلك الرؤى الكونية تهديدًا. وهذه اللحظات في تاريخ العلم تُمثِّل مناسبات للثورات العلمية. يمكن أن تُفسَّر مقاومة تغيير النظريات العلمية جزئيًّا بسبب ارتباطها بالرؤى الكونية. وتتضح هذه العملية على نحو جليٍّ في الانتقال من مركزية الأرض إلى مركزية الشمس. وسنرى هذه العملية في الانتقال من مرحلة ما قبل الداروينية إلى النظريات التطورية للأنظمة البيولوجية.
عادةً ما تجسد النظريات العلمية عددًا من المبادئ الأساسية، التي تكون بمنزلة قيود. على سبيل المثال، ذكر كوبرنيكوس في كتابه «الشرح المختصر» سبعة مبادئ لعلم الفلك، بما في ذلك حركة الأرض (كوبرنيكوس، «الشرح المختصر» ١٩٥٩، ٥٨-٥٩؛ كوبرنيكوس ١٥٤٣، الكتاب الأول). وثمة مبادئ «ميتافيزيقية» مثل الاعتقاد بوجود حركة دائرية ووحدة الطبيعة، والتسليم أن كل حدث طبيعي محتم الحدوث. وكذلك يُعد اعتقاد جاليليو أن كتاب الطبيعة مكتوب بلغة الرياضيات أيضًا قناعة ميتافيزيقية، كما أنه توجد «مبادئ منهجية» مثل الاعتقاد باتساق النظام، وبساطة التفسير، وإمكانية التثبت من الصلاحية التجريبية للنظرية. وثمة «مبادئ رياضية» مثل الأدوات الهندسية الخاصة بالإغريق أو استخدام الجبر في الفترة التي تلت كبلر. وفضلًا عن هذه المبادئ، تحتوي معظم النظريات العلمية الحديثة على مجموعة من «القوانين الرياضية». أصبح هذا واضحًا — لأول مرة — في أعمال كبلر. ولاحقًا عندما أصبح النموذج الشمسي المَركز أكثر تطورًا، استطاعت النظرية أن تظهر طريقة ارتباط القوانين المختلفة أحدها مع الآخر. أوضح نيوتن كيف يمكن أن تُستمد قوانين كبلر من قانون أساسي على نحو أكبر، وهو قانون الجاذبية. وأخيرًا، يجب أن تجسد النظريات العلمية مجموعة من «الفرضيات التجريبية». وهذه الفرضيات التجريبية تواجه القيود التجريبية؛ أي الأدلة التجريبية، التي يجب أن تُستقى من المبادئ المجردة. ويمكن رؤية تطبيق ذلك في نظرية مركزية الشمس مثلًا. تقدِّم نظرية مركزية الشمس عبارة عامة للغاية مفادها أن «جميع» الأنظمة الكوكبية، وليس فقط النظام الشمسي، تتكون من عدد من التوابع التي تدور حول جرم ذي جاذبية مركزية. ومن أجل تأكيد هذه النظرية العامة، من الضروري استقاء عبارات قابلة للاختبار بشأن نظام معين. كان النظام الشمسي مناسبًا للغاية؛ لأنه يمكن رصده من خلال الأدوات المتاحة لجاليليو ومعاصريه. يمكننا أن نعامل هذه المبادئ على أنها تُشكِّل مساحة قيود. تتكون مساحة القيود من القيود التجريبية والنظرية، وتشمل النظريات العلمية أيضًا عددًا من النماذج، وتسمح النماذج للنظرية بتمثيل جوانب معينة من العالم، وتتمثل وظيفة النظرية العلمية في إلقاء غطاء من الاتساق على كل هذه العناصر، فتوضح النظرية طريقة توافق جميع هذه العناصر معًا، وطريقة ترابط نماذج النظرية، وتُبيِّن كيف تكون البيانات الرصدية والتجريبية من التبعات الاستنتاجية أو الاستقرائية لمبادئ النظرية.
«النماذج» ذات أهمية خاصة، لأنها توفر للنظرية وسائل التمثيل؛ فالنظرية تحتاج النماذج من أجل تمثيل جوانب معينة من العالم، ومن الممكن توضيح هذه الفكرة بسرعة. يمكن بسهولة الخلط بين النظرية الكوبرنيكية والنموذج؛ لأنها نظرية لها مجال محدود للغاية؛ فبالنسبة لكوبرنيكوس، كان النظام الشمسي والنجوم الثابتة يشكلان الكون كله. على وجه الدقة، النظرية الكوبرنيكية ليست سوى نموذج كوبرنيكي، ولكن هذا ليس سوى حالة عرضية لهذا الاكتشاف؛ فلا تقتصر النظرية الكوبرنيكية على النظام الشمسي؛ فغرضها ليس إدراج كواكب النظام الشمسي المعروفة فحسب في مجالها، ولكن أيضًا إدراج كل النظم الكوكبية في أي مجرة؛ فإذا وسعناها على هذا النحو، فإنها تصبح نظرية. وتشمل النظرية الكوبرنيكية في مجالها كل النظم الكوكبية في كل المجرَّات، ولكنها تتسع لما هو أكبر من ذلك بكثير؛ إذ تشمل أيضًا جميع النظم الاصطناعية، مثل الأقمار الصناعية، التي يمكن إرسالها إلى مدارات. ثمة سمة أساسية من سمات النماذج وهي أنها لا تغطي سوى نطاق محدود من البيانات. ويوفر النظام الشمسي بيانات كافية لبناء نماذج فلكية مختلفة.
تُعد قدرة النماذج على ربط عوامل متغيرة محددة في صورة نظام واحدة من أهم وظائف النماذج. ويمكن أن نسمي هذه الوظيفة «الاتساق» أو «الترابط». كان كوبرنيكوس مدركًا تمامًا أن النموذج الشمسي المَركز يجب أن يُمثِّل نظام الكواكب. وكي تتمكن النماذج من أداء هذا الدور، يجب أن تخدم ثلاث وظائف أخرى: الفصل، وإضفاء المثالية، والتحويل إلى حقائق.
تركز النماذج على عدد قليل من عوامل النظام المستهدف المتغيرة التي يمكن التحكم فيها بمعزل عن عدد من العوامل المتداخلة. تُهمَل العوامل المتداخلة من أجل غرض النمذجة، وهذا ما يُسمى عملية «الفصل». ربما تكون هذه العوامل المتداخلة عديمة الأهمية بوضوح، وفي هذه الحالة يتجاهلها النموذج على نحو مبرر. على سبيل المثال، تُهمَل أقمار الكواكب دومًا في النماذج؛ فالنموذج يركز على جرم مركزي وتوابعه، ومع ذلك، ربما يكشف التدقيق القوي أن العوامل المفصولة لها تأثير ذو أهمية على العلاقة بين العوامل المتغيرة، وفي هذه الحالة يجب إدراجها في النموذج؛ فقمر الأرض له تأثير مهم على المد والجزر.
مرة أخرى، قد تكون النماذج الأكثر تعقيدًا قادرة على الحد من عملية إضفاء المثالية على العوامل المتغيرة. ويُطلق على إدراج العوامل ذات التأثير المهم والقضاء على إضفاء المثالية على العوامل المتغيرة اسم «التحويل إلى حقائق». ومن أهم عمليات التحويل إلى حقائق في تاريخ علم الفلك وَضْع كبلر لقوانينه للكواكب.
-
«النماذج التناظرية»: تُمثِّل ما هو غير مألوف أو غير قابل للرصد في سياق ما هو مألوف أو مرصود. يشير هذا النوع من النماذج إلى أنه يوجد تناظر بين عناصر معينة من الأنظمة المعروفة بالفعل وبعض عناصر النظم المجهولة. وتستند النماذج التناظرية على علاقات تناظر شكلية أو مادية. من أجل تصور سبب مادي لحركة الكواكب، يستخدم كبلر تناظر الأشعة المغناطيسية للشمس التي تربط الكواكب، لكن التناظر وحسب لا يضمن أن الأنظمة الحقيقية سوف تشبه النموذج التناظري؛ فالشمس لا «تقود» الكواكب بواسطة الأشعة المغناطيسية، والكواكب لا تُظهر وجهًا «ودودًا» أو «غير ودود». تستغل النماذج التناظرية في كثير من الأحيان التناظر البصري بين النماذج والنظام الخاضع للنمذجة. يبدو أن الشمس تجذب الكواكب مثل المغناطيس الذي يجذب قطعة من المعدن. والنماذج التناظرية خطوة مفيدة — وإن كانت محدودة — في محاولة تحقيق الفهم الفيزيائي؛ فهي تقدِّم طرقًا مفيدة لفهم المواقف الإشكالية، ومع ذلك، نحن نريد مزيدًا من النماذج أكثر من مجرد التناظر وحده. فنريد أن تُمثِّل النماذج السمات البنيوية للأنظمة الطبيعية الخاضعة للنمذجة. ومن أجل تحقيق فهم فيزيائي حقيقي، نحتاج نماذج أكثر تطورًا.
-
«النماذج الافتراضية»؛ أو «نماذج كما لو»: تتضمن عمليتي الفصل وإضفاء المثالية؛ فهي تزعم تمثيل النظام الخاضع للنمذجة «كما لو» كان يتألف فقط من العوامل المتغيرة والعلاقات الواردة فحسب في النموذج. وتعد التمثيلات التخطيطية للنظام الشمسي نماذج افتراضية قياسية (شكل ١-٦)؛ فهي تُمثِّل النظام الشمسي «كما لو» كان يتألف — مثلًا — من ستة كواكب فحسب دون أقمار و«كما لو» كانت هذه الكواكب تدور حول الشمس في مدارات دائرية، ومع ذلك، ندرك أن هذه العوامل المثالية هي تبسيطات رياضية وأن العوامل المفصولة موجودة في النظم الحقيقية. (سنشير لاحقًا إلى أن النماذج الافتراضية تلعب دورًا مهمًّا في العلوم الاجتماعية.)
-
«النماذج المصغرة/المكبرة»: تُمثِّل أنظمة واقعية سواء كانت مصغرة الحجم (النظام الشمسي) أو مكبرة الحجم (النموذج الكواكبي للذرة). وتعد النماذج الأرضية المَركز والشمسية المركز نماذج مصغرة قياسية تُمثِّل النظام الشمسي بطرق مختلفة. وعادةً ما يكون هذا النوع من النماذج ثلاثي الأبعاد ويتطلب معرفة دقيقة إلى حدٍّ ما بطريقة عمل النظام. ويوضح تاريخ علم الفلك أن التمثيل الدقيق للنظام الشمسي كان من الصعب الوصول إليه.
-
«النماذج الداليَّة»: تُمثِّل — كما يوحي الاسم — التبعية الدالية بين العديد من العوامل المتغيرة. وتنتشر هذه النماذج في العلوم، بدءًا من دورة كارنو للغاز المثالي إلى مخططات الزمكان حتى منحنيات العرض والطلب في الاقتصاد. لا توجد حاجة إلى تعيين قيم محددة للرموز التي تشير إلى العوامل المتغيرة؛ فما يهم هو طبيعة العلاقة «الدالية» بين بعض العوامل المتغيرة. ونحصل على نموذج دالي إذا مُثِّلت العلاقة الدالية بين بعض العوامل المتغيرة في رسم تخطيطي أو رسم بياني. وتظهر العلاقة الدالية وفق «قانون بود». اكْتُشِفت هذه العلاقة عن طريق يوهان تيتيوس، ولكنها أصبحت معروفة على نحو أفضل من خلال يوهان بود (١٧٧٢). ينص قانون بود على أن المسافة بين الكواكب والشمس (التي تُقاس بوحدة قياس المسافة بين الأرض والشمس) تتبَع القاعدة:ومن ثم فإن المسافة، ، تختلف مع اختلاف الأس . على سبيل المثال، عندما ، نجد أن ، وهو ما يساوي المسافة بين الشمس والأرض بوحدة القياس المختارة. وعندما ، فإن ، وحدة، وهو ما يساوي المسافة بين كوكب المشتري والشمس. وفي هذه النماذج، يبدأ أساس التمثيل الانتقال من البنية الطوبولوجية إلى البنية الجبرية.
-
«النماذج البنيوية»: عادةً ما تجمع بين البنية الجبرية والبنية الطوبولوجية من أجل تمثيل طريقة تفسير بنية أو آلية أساسية لبعض الظواهر المرصودة. وتُعد النماذج البنيوية مفيدة للغاية في تمثيل الأنظمة الضخمة مثل الأنظمة الكوكبية، والأنظمة المجهرية مثل الذرات. ويجمع نموذج كبلر الشمسي المَركز البنية الطوبولوجية للنظام الشمسي الكوبرنيكي مع بنية جبرية محسَّنة؛ فكما رأينا، كان ترتيب كوبرنيكوس الهندسي للكواكب صحيحًا من الناحية البنيوية، ولكن كان إخفاق نموذجه يكمن في البنية الجبرية. وبمجرد الجمع بين البنية الطوبولوجية وقوانين كبلر ثم نظرية نيوتن للميكانيكا، ظهر نموذج بنيوي شمسي المَركز دقيق إلى حدٍّ ما. وكما سنرى في الفصل الثاني، يمكن أيضًا استخدام النماذج البنيوية لتقديم تفسيرات بنيوية.
(ب) قوانين الطبيعة وقوانين العلم
(ﺟ) وجهات النظر الفلسفية للقوانين
إن قابلية ضغط البيانات جبريًّا التي توفرها قوانين العلم مريحة للغاية. وتُعبِّر قوانين العلم عن علاقة منهجية بين العوامل المتغيرة، مما يتيح لنا الوصول لاستنتاجات حيال حالة غير معروفة من حالة معروفة. وتسمح القوانين للعلماء بإيجاد إجابات لما يبدو أنه مشكلات غير قابلة للحل. على سبيل المثال، سمحت قوانين نيوتن للعلماء بتحديد كتلة الأرض. وفضائل قوانين العلم عظيمة لدرجة أن الفلاسفة شيدوا عددًا من النماذج المفاهيمية حولها.
وجهة نظر الاستدلال
كيف ينبغي أن نرى وجهة النظر تلك؟ صحيح أن العلماء لا يستخرجون القوانين العلمية استقرائيًّا من المظاهر المنتظمة للطبيعة. فبينما يدرسون العالم الطبيعي، يضعون القوانين العلمية. مع ذلك، فكرة أن القوانين العلمية لا تتعلق بالطبيعة، ولكن بالشبكات المفاهيمية التي نَصِف الطبيعة من خلالها فكرة غير مرضية أبدًا. والصيغ الرياضية التي ينشئها العلماء يجب أن تتوافق مع المشاهدات. ومع أنه يمكن اعتبار العلماء متحررين في صياغة القوانين العلمية، فإن القوانين يجب أن تتوافق مع قيود العالم التجريبي. وبهذا المعنى فإن الانتظام المقبول للطبيعة يكون بمنزلة قيد على صياغة القوانين العلمية. وغالبًا ما يؤدي هذا القيد التجريبي إلى تعديل صيغ القوانين؛ فعلى سبيل المثال، بظهور قوانين كبلر، فَقَدَ قلقُ القدماء حيال تكافؤ الأدوات الهندسية مبرراته. لو كانت قوانين العلم بطاقات استدلال، فسنواجه دائمًا هذا السؤال: «لماذا بعض بطاقات الاستدلال أفضل من البطاقات الأخرى؟» «لماذا تُعَدُّ قوانين كبلر أفضل من أفلاك التدوير؟» مشكلة وجهة النظر الاستدلال هي أن قواعد الاستدلال لا يمكن تأكيدها أو نفيها؛ فهي ببساطة تكون ملائمة ضمن نطاق تطبيق معين، ولكن يمكن أن تكون القاعدة ملائمة دون أن تكون صحيحة؛ فقد قدَّم علم الفلك القديم العديد من التنبؤات الملائمة، رغم أن «قانون» الكواكب الذي استندت عليه كان خاطئًا. إن ملاءمة القانون العلمي لا تضعف نتيجة قدرته على تقديم تنبؤات ناجحة. فيجب أن يكون القانون صحيحًا؛ إذ يجب أن يصف بدقة النمط الأساسي لحالة منتظمة ضمن حدود تقريبية مقبولة. والقانون هو العمود الفقري الذي يجمع العظام الرصدية معًا، فيقدم بنية تحكم سلوك المشاهدات. ولكن قواعد الاستدلال لا يمكن دحضها؛ فكل ما بوسعنا هو إثبات أنها غير ملائمة للمهمة الحالية. إن المطرقة أداة غير ملائمة لربط برغي ولكنها ملائمة لتثبيت المسامير. وليس من الضروري إقصاء القواعد. وبما أن العلم يعمل عن طريق عملية إقصاء، فلا يمكن للذرائعية أن تفسِّر تقدُّم العلم (بوبر ١٩٦٣، ١١٢–١١٤؛ موسجريف ١٩٧٩-١٩٨٠، ٩٧).
يجب أن تكون النتيجة النهائية هي أن تفسير متبع الذرائعية لطبيعة القوانين الفيزيائية غير ملائم؛ فقوانين العلم تعبِّر عما هو أكثر من مجرد ترخيص لاستنتاج مجموعة معينة من البيانات من مجموعة أخرى.
وجهة نظر الحالة المنتظمة
أو بالرموز المنطقية:
تتمثل السمة المميزة لنهج الانتظام في تصويره للعالم الطبيعي بأنه محكوم بنظام متسق بمعنًى يتوافق مع فلسفة هيوم. بمعنى أننا إذا رصدنا أن كل حدوث للظاهرة «أ» يسبق الظاهرة «ب»، فإن لدينا سببًا للاعتقاد أنه كلما حدث «أ»، تَبِعه حدوث «ب». وهكذا نستنتج من شروق الشمس في الماضي أن الشمس ستُشرق في المستقبل.
- (١)
«جميع أملاح الصوديوم تحترق بلهب أصفر.»
- (٢)
«لا شيء يتحرك بسرعة أعلى من سرعة الضوء.»
(١أ) «لا بد أن تحترق جميع أملاح الصوديوم بلهب أصفر.»
(٢ب) ««ليس من الممكن» لشيء أن يتحرك بسرعة أعلى من سرعة الضوء.»
- (٣)
«جميع كتل الذهب لها نصف قطر أصغر من ميل واحد.»
وعبارة:
-
(٤)
«كل الذرات لها نصف قطر أصغر من ميل واحد.»
- (أ)
إما أن تكون «ص» فرضية كونية أو إحصائية.
- (ب)
تكون «ص» صحيحة في جميع الأوقات وجميع الأماكن.
- (جـ)
تكون «ص» مشروطة.
- (د)
تحتوي «ص» فقط على محمولات تجريبية غير محلية، بعيدًا عن الوصلات المنطقية ومحددات الكمية؛ أي تكون «ص» وصفية بحتة.
- (هـ) تتخذ «ص» صورة مشروطة (⊃).
ووفقًا لهذه الصياغة، تعاني نظرية الانتظام من عدد من نقاط الضعف، وقد أدى تناول نقاط الضعف هذه إلى نظرية أقوى بكثير، نظرية مذهب الضرورة للقوانين. ما نقاط الضعف تلك؟
يتمثل أحد المخاوف في أن تفسير نظرية الانتظام لا يميز على نحو صحيح بين التعميم العرضي والاتساق الكوني. فثمة تعميمات عرضية منتشرة لن نميل إلى اعتبارها قوانين طبيعية. العبارة (٣) تعميم عرضي، بينما العبارتان (٢) و(٤) اتساقان كونيان حقيقيان، لكن العبارة (٣) تستوفي الشروط التي تفرضها نظرية الانتظام على قوانين الطبيعة. من ناحية أخرى، بعض العبارات — على غرار العبارة (١) — تُعبِّر وحسب عن اتساق مشروط. مع ذلك، مؤهلة لتكون انتظامًا مسوغًا، تمامًا مثل قانون أوم:
-
(٥)
V = IR,
لذا، علينا أن نميز بين القوانين «الأساسية» والقوانين المرتبطة بالظواهر. القوانين الأساسية، على غرار العبارتين (٢) و(٤)، صالحة لجميع النظم الفيزيائية. أما قوانين الظواهر، على غرار العبارتين (١) و(٥)، فتنطبق فقط على النظم الفيزيائية في ظل بعض القيود الشرطية.
النتيجة الأخرى غير المرغوب فيها الناتجة عن نظرية الانتظام هي استبعادها للاحتمالات الفيزيائية غير المُحقَّقَة. وتُعد الاحتمالات الفيزيائية غير المحققة سمة مهمة من سمات العلم، تؤدي غالبًا إلى الابتكارات التكنولوجية. على سبيل المثال، قبل ٦٠ عامًا، كانت الأقمار الصناعية احتمالات فيزيائية غير محققة. وقبل مائة سنة، كانت أشعة الليزر احتمالًا فيزيائيًّا غير محقق. وقبل نحو مائة مليون سنة، كانت معظم الأنواع الموجودة اليوم احتمالات بيولوجية غير محققة. كانت كل هذه الاحتمالات الفيزيائية غير المحققة — لو أنها تحققت في ذلك الوقت — ستخضع للقوانين نفسها التي تحكمها اليوم. تخضع الأقمار الصناعية لقوانين كبلر، وتخضع أشعة الليزر لقوانين ميكانيكا الكم، وتخضع الأنواع لقوانين التطور، ولكن وفقًا لمتبع نظرية الانتظام، الاحتمالات الفيزيائية غير المحققة مستحيلة فيزيائيًّا؛ فهذا التفسير لا يقبل كقوانين طبيعية سوى الاتساق الكوني المتحقق. ولا يمكن لنظرية الانتظام التعامل مع الأوضاع «المغايرة للواقع»، لأنها تحدث عند تدبر الاحتمالات الفيزيائية غير المحققة.
تواجه نظرية الانتظام — على نحو قد يثير الدهشة — عددًا كبيرًا من المشكلات. فالنظرية الفلسفية للقوانين يجب أن تفسر الأوضاع المغايرة للواقع، والتمييز بين الاحتمالات الفيزيائية غير المحققة والاستحالة الفيزيائية الحقيقية، والفرق بين الاتساق العرضي والكوني. وينبغي أيضًا أن تبرر ثقتنا في تقديم استدلالات من الحالات المعروفة إلى غير المعروفة. وينبغي أن توضح النظرية الفلسفية طريقة عمل القوانين العلمية في تفسيراتنا لسلوك النظم الفيزيائية. وهذه مهمة صعبة. لم تفِ نظريتا الذرائعية والانتظام بالتوقعات. فهل تستطيع النظرية الأقوى — نظرية مذهب الضرورة — أن تساعد في ذلك؟
وجهة نظر مذهب الضرورة
يُعبَّر عن القوانين بعبارة واحدة تصف العلاقات القائمة بين الصفات الكونية والمكممات.
ويستند نهج نظرية الضرورة لقوانين الطبيعة على مفهومين أساسيين: (أ) تتضمن القوانين مسلَّمات و(ب) تُمثِّل القوانين العلاقات بين المسلَّمات.
-
(أ)
وفقًا لديفيد أرمسترونج — أحد أنصار نظرية مذهب الضرورة — «المسلَّمات إما أن تكون خصائص أو علاقات أو روابط بين بعض الأشياء الحقيقية» (أرمسترونج ١٩٨٣، الفصل السادس). المسلَّمات هي السمات الزمنية المكانية العالمية القابلة للتكرار.
-
(ب)
إذا قبلنا هذا التوصيف الأرسطي للمسلَّمات، فسيُترك لنا تحديد العلاقة بين المسلَّمات. وبالنظر إلى أن بعض الأشياء تُمثِّل F ونحن نعلم أن قانون الطبيعة ينص على أن ، يمكننا أن نستنتج أن F يجب أن تكون G، ما لم توجد بعض العوامل المتداخلة. من الضروري فيزيائيًّا أن F تكون G، تماشيًا مع قانون الطبيعة. وتُعد العلاقة التي يُفترض وجودها بين المسلَّمات علاقة ضرورة اعتيادية. مع ذلك، تكون علاقة الضرورة الاعتيادية حقيقية على نحو محتمل فحسب، حيث إنها قد لا توجد في جميع العوالم الممكنة.
تسمح الحالات العامة العرضية بحدوث استثناءات، أما الضرورة الاعتيادية فلا تسمح بها (عدا قيود المجال). ويتمثل أحد الانتقادات التي وُجهت ضد هذه النظرية في أن الضرورة الاعتيادية ليست قابلة للرصد. فلا يوجد في أدلتنا الرصدية ما يشير إلى وجود الضرورة الفيزيائية في الطبيعة، التي تتطلب نظرية مذهب الضرورة وجودها. يفترض أرمسترونج الضرورة الاعتيادية باعتبارها فكرة بدائية غير قابلة للشرح في نظريته (أرمسترونج ١٩٨٣، الفصل ٦.٤). يرصد العلم السمات القابلة للتكرار بين الأحداث المكانية-الزمنية. ونحن أحرار في أن نطلق على هذه السمات — على غرار الغراب والسواد — اسم المسلَّمات الأرسطية. وحتى إذا ما سلمنا بأن العلم يرصد المسلَّمات، فلا يمكننا أن نقفز إلى استنتاج مفاده أن الضرورة الفيزيائية تربط بينها. ولا تعني الشمولية الكونية ضمنيًّا الضرورة الاعتيادية (يتجاوز أتباع آخرون لنظرية مذهب الضرورة أرمسترونج ويشيرون إلى وجود مسلَّمات غير موضحة بالأمثلة، ومن ثَمَّ يعتنقون الأفلاطونية).
يجب أن نفرق بين معنيين للضرورة الفيزيائية؛ فمن ناحية لدينا معنى الضرورة الخاص بالضرورة الاعتيادية بين المسلَّمات. وهذه الضرورة الفيزيائية بين المسلَّمات تشكِّل قوانين الطبيعة؛ ومن ناحية أخرى لدينا المعنى العلمي للضرورة. ينص هذا المعنى على أن بعض الأنظمة الفيزيائية تخضع لقوانين الطبيعة؛ فالكواكب يجب أن تدور حول الشمس، لأنها مدفوعة إلى عمل ذلك وفق قوانين كبلر، في ضوء القيود الأولية. في نظرية مذهب الضرورة، تُختزَل كل العمليات المتسقة في الطبيعة إلى علاقة واحدة وحسب: ضرورة اعتيادية بين المسلَّمات، ولكن تُعلِّمنا قوانين العلم أن هناك العديد من العلاقات الرياضية المختلفة بين العديد من الأنظمة المختلفة، ويمكن التعبير عنها بعوامل متغيرة محددة بدقة. علاوة على ذلك، فإن هذه النظم مترابطة. تُعبِّر قوانين العلم عن عدد من العلاقات الجبرية المختلفة بين مترابطات النظم الفيزيائية. ولكي تُعبِّر قوانين العلم عن قوانين الطبيعة، يجب أن تقترب من أوجه الانتظام في الطبيعة.
لا تخبرنا نظرية مذهب الضرورة إلا بالقليل للغاية من المعلومات حول طريقة استخدام القوانين في العلم. وإذا كنا مهتمين بطريقة تعبير قوانين العلم عن العمليات المنتظمة في الطبيعة، فعلينا أن ننتقل إلى نظرية للقوانين، تقربنا من الممارسة العلمية. لنسمِّ هذه النظرية النهج البنيوي. وتتمثل الفكرة الأساسية وراء هذا النهج في أن قوانين العلم تُحوِّل العلاقات الموجودة في بنية النظم الفيزيائية إلى رموز.
وجهة النظر البنيوية
إذا افترضنا أن «أ» قانون طبيعي، فإننا نفترض أن «أ» تعبير عن سمة بنيوية في عالمنا؛ سمة تمنع وقوع أحداث فردية معينة يحتمل أنها منطقية. (بوبر، ١٩٥٩، ٤٣٢)
وبالتالي تعني الضرورة الفيزيائية أن القوانين تفرض قيودًا بنيوية على العالم الطبيعي (بوبر، ١٩٥٩، ٤٣٠). وفقًا لبوبر، تُعبِّر القوانين العلمية عن خصائص بنيوية معينة حول العالم الفيزيائي. تتعارض نظرية بوبر البنيوية للقوانين مباشرة مع نظرية الذرائعية لفيتجنشتاين. يؤكد بوبر أن قوانين الطبيعة تمنع بعض الخصائص البنيوية للكون الحقيقي. تمنع القوانين الحركة الدائرية للكواكب، وآلات الحركة الدائمة، والسرعات الأعلى من سرعة الضوء. ويتمثل عكس هذا التوصيف في أن القوانين ستسمح أيضًا بأحداث فيزيائية معينة. تفرض القوانين قيودًا بنيوية، يجب على الكائنات الفردية أن تتصرف وفقًا لها. ولكن الحقائق المفردة تواصل التمتع بحرية معينة داخل الشبكة البنيوية التي تربط كل الحقائق معًا. فأوراق الخريف التي تحملها الرياح، «تتحدى» قانون الجاذبية. وربما يُقصى كوكب يسير في مسار تصادمي مع نيزك من مداره. وتنتج الطفرات التطورية بسبب الصدفة الوراثية.
تفسر النظرية البنيوية جيدًا بعض السمات الرئيسية للقوانين العلمية؛ فهي تفسر عمليتَي الفصل وإضفاء المثالية الحتميتين الموجودتين في القوانين العلمية، كما تُبيِّن أسباب عدم قدرتنا على استنتاج الضرورة الاعتيادية من الأدلة المتاحة. كما تظل هذه النظرية على مقربة من الممارسة العلمية (فاينرت ١٩٩٣؛ ١٩٩٥أ، ب). إن قوانين الطبيعة تصوغ الخصائص البنيوية للأنظمة الفيزيائية في صورة رموز. وقوانين العلم هي تعبيرات رمزية عن هذه الجوانب البنيوية بلغة رياضية. تميز النظرية البنيوية بين قوانين العلم وقوانين الطبيعة، وهو التمييز الذي نجده في الممارسة العلمية. وهي تبرز الفارق بين الاتساق العرضي والكوني. فحالات الاتساق العرضي — «كل قطع الذهب قطرها أصغر من ميل واحد» — ليست سمات بنيوية للعالم الطبيعي. فلا يوجد شيء في التركيب الذري للذهب يمنع وجود قطع كبيرة من الذهب. أما حالات الاتساق الكوني — «كل الذرات قطرها أصغر من ميل واحد» — فتعبِّر عن بنية الذرة. فلا يمكن أن توجد ذرات لو كانت هذه هي أبعادها. وهي تفسر الاحتمالات الفيزيائية غير المحققة بوصفها احتمالات مسموح بها عن طريق البنيات. وهي تفسر الأوضاع المغايرة للواقع بالاعتماد على ما تسمح به البنيات وما لا تسمح به. إن عبارة «لو كان يوجد كوكب عاشر، فإنه سيتبع قوانين كبلر» تعني أن بنية النظام الشمسي من النوع الذي يجعل كوكبًا عاشرًا قد يدور حول الشمس وفقًا لقوانين كبلر. وهي تغطي التمييز بين القوانين الأساسية والقوانين المرتبطة بالظواهر؛ فالقوانين الأساسية تعبِّر عن بنية جميع النظم أو العديد منها، بينما تقتصر القوانين المرتبطة بالظواهر على عدد قليل من النظم التي تتطلب العديد من الشروط الحدِّيَّة.
ناقشنا حتى هذه اللحظة عددًا من القضايا الفلسفية التي نشأت من الموقف الإشكالي الناتج عن الكوبرنيكية. وقف كوبرنيكوس على عتبة العلم الحديث، وفتح التحول الكوبرنيكي الأبواب أمام الثورة الكوبرنيكية. فهل يمكن أن تخبرنا الكوبرنيكية شيئًا عن العملية التي تحدث وفقها الثورات العلمية؟
(٧) كوبرنيكوس والثورات العلمية
يتمثل أحد مقاييس عمق أي نظرية فيزيائية في المدى الذي تطرح به تحديات جدية أمام جوانب في نظرتنا للعالم كانت تبدو فيما سبق غير قابلة للتغير. (جرين، «الكون الأنيق» (٢٠٠٠)، ٣٨٦)
أشرنا إلى أن كوبرنيكوس أوجد تغييرًا في المنظور؛ إذ استهل كوبرنيكوس التحول الكوبرنيكي. وعلى الرغم من أن نظامه كان يتضمن العديد من المزايا، فإنه لم يرقَ إلى مستوى الثورة العلمية؛ فمن ناحية، يتمسك كوبرنيكوس كثيرًا بأسلافه الإغريق وأساليبهم الهندسية، كما يتبنى وجهة نظر حركية بحتة، ولم يُضِف أي بيانات رصدية جديدة مهمة إلى المشاهدات المتوفرة؛ ومن ناحية أخرى، يترك تكافؤ الفرضيات كما هو، كما يرى أنه من المقبول استخدام عدد من الأدوات الهندسية على نحو متبادل، دون أن يتساءل عن أيها أكثر توافقًا مع الآلية الفيزيائية لحركة الكواكب، ولكن نموذجه يتوافق على نحو أفضل مع البنية الطوبولوجية للنظام الشمسي، ويتمتع في هذا الصدد بصلاحية تجريبية أكبر، ومع ذلك، بنيته الجبرية ناقصة، ولهذا السبب فشل النموذج الكوبرنيكي في الوصول إلى الصلاحية النظرية التامة.
إذا كان التحول الكوبرنيكي خطوة أولى في اتجاه الثورة العلمية، فما المعايير المتاحة للحكم على حدث علمي بأنه ثورة علمية؟ اقْتُرحت عدة نماذج للثورات العلمية:
-
(أ)
«نموذج كُون الإرشادي للثورات»: وفقًا لتوماس كون، يتكون تاريخ العلم من سلسلة من الفترات «العادية» و«غير العادية» (كون ١٩٧٠،هوينينجن هونا ١٩٩٣). تتميز الفترة العادية من العلم بوجود نموذج مهيمن. ويكون هذا النموذج مقبولًا كإطار صالح للأبحاث الجارية. وخلال فترات العلم العادية، ينخرط العلماء في حل المشكلات. وتُحدَّد المشكلات والحلول المقبولة من خلال النموذج السائد. ومن الأمثلة النمطية للنماذج علم الفلك شمسي المَركز، والميكانيكا النيوتونية، والبيولوجيا التطورية الداروينية. خلال فترات العلم العادية، يقبل ممارسو المجال العلمي افتراضات النموذج الأساسية. ويتضمن عملهم صقل القوة التمثيلية والقدرة التفسيرية للنموذج. قَبِل كبلر وجاليليو ونيوتن فرضية مركزية الشمس. وقَبِل نيوتن قوانين كبلر؛ لأن جاليليو اختار أن يتجاهلها. غير أن مشاهدات جاليليو قدَّمت مساهمات كبيرة لنظرية مركزية الشمس. صقل كل منهم النموذج وحسَّنه بطريقته، ومع ذلك، فإن أي فترة علم عادية تواجه أزمة في نهاية المطاف، ثم تحل فترة علم غير عادية. يمكن أن تحدث أزمة العلم لعدد من الأسباب. فوفقًا لكون، غالبًا ما ترتبط بفشل النموذج في التعامل مع جميع الظواهر في مجاله. تحدث أزمة بسبب أن النموذج يواجه «شذوذًا» كبيرًا. حالة الشذوذ ليست مجرد فشل في التنبؤ أو وجود تناقض بين النظرية والمشاهدات؛ فهذه التناقضات لا يمكن تجنبها؛ فأجهزة الرصد ليست مثالية، والنظرية دائمًا ما تقوم بعدد من عمليات الفصل وإضفاء المثالية. تحدث حالة الشذوذ عندما يوجد خلاف مستمر بين النظرية وتوقعاتها. تنشأ حالة الشذوذ عندما تدعي النظرية أن العالم يسير بطريقة ما وتخبرنا المشاهدات أنه يسير في اتجاه آخر. واجهت نظرية الدوائر المتراكزة الإغريقية سريعًا حالة شذوذ. أشارت النظرية ضمنيًّا إلى أن الكواكب تكون دائمًا على مسافة ثابتة من الأرض، بينما أخبرت المشاهدات الإغريق بخلاف ذلك؛ فقد كانت المسافة بين الكواكب والأرض تتغير. وتمنع نظرية مركزية الأرض ظهور المذنَّبات بعد المجال القمري. وأصر عالم الرياضيات والفيلسوف في مسرحية بريشت على أنه لا يمكن لكوكب المشتري أن يمتلك أي أقمار. رغم أن مشاهدات براهي وجاليليو أخبرتهما بخلاف ذلك. واجهت هذه النظريات حالات شذوذ. لم تتمكن هذه النظريات من استيعاب المشاهدات التي كانت تقع على نحو واضح ضمن مجالاتها. وعندما تحدث مثل هذه الأحداث، يقع النموذج الذي كان مهيمنًا في أزمة، ويحاول ممارسو العلم حل المشكلة بعدد من الطرق. إذا نجحوا في ذلك، فقد يستمر النموذج في هيمنته، ولكن إذا فشلوا، يدخل المجال العلمي «فترة ثورية». وخلال الفترة الثورية — كما يشير كون — يُفَكَّك النموذج القديم ويحل محله نموذج آخر جديد؛ فالثورة العلمية هي عملية استبدال للنموذج.
والنموذج هو مخطط مفاهيمي يكون وسيطًا للتفاعل بين العالِم والعالَم؛ فهو يُسهِّل إضفاء البنيات الرمزية على العالَم التجريبي. وفضَّل كون لاحقًا الحديث عن «مصفوفة نظامية»؛ وهي مجموعة مرتبة من العناصر. وتضم المصفوفة عددًا من العناصر المفاهيمية؛ منها تعميمات رمزية مثل القوانين الأساسية، ومسائل نموذجية يستطيع الطلاب من خلال حلولها ممارسة تقنيات المجال، وقيم علمية مثل الاتساق والترابط وقابلية الاختبار والتوحيد، وقناعات ميتافيزيقية مثل الإيمان بأن الكون منظم، ووجود واقع خارجي مستقل وقوانين حتمية. أعاد كون تسمية نموذج العلم باسم «مصفوفة المجال» للإشارة إلى أن البنى المفاهيمية تُشكِّل شبكة متسقة. ثمة سمة مميزة لنموذج كون الإرشادي للثورات العلمية هي أن العلماء يُعتبَرون ملتزمين على نحو أساسي بنماذجهم؛ فالنموذج يمنحهم موطئ قدمٍ يمكنهم من دراسة العالم الطبيعي بطريقة منهجية. وفقًا لكون، يبدأ العلماء في رؤية العالم في سياق النموذج الحاكم. وكأن العالم يرتدي نظارات — نظارات نيوتونية أو نظارات داروينية — يستطيع من خلالها فقط رؤية العالم. ووفقًا لكون، لا يستطيع العلماء سوى تبنِّي نموذج واحد فقط في ذات الوقت. وإذا كانت هذه هي الحال، فإن النماذج التي تفسر مواقف إشكالية مختلفة تمامًا تجعل العلماء يرون العالم على نحو مختلف تمامًا. فيجدون صعوبة في التحدث بعضهم مع بعض، لأنهم يعيشون في «عوالم مختلفة»؛ فالأرسطيان في مسرحية بريشت كانا يعتنقان نظرية مركزية الأرض ويسكنان عالمًا مركزي الأرض. ومن المنطقي بالنسبة لهما أن يرفضا النظر عبر التليسكوب؛ لأن أقمار كوكب المشتري «لا يمكن أن تكون موجودة». وعلى النقيض من ذلك، كان جاليليو يؤمن بمركزية الشمس، وكان يعيش في عالم شمسي المَركز. ولم يغير لجوءه للأدلة الرصدية رأي عالم الرياضيات والفيلسوف؛ فقد كان يتحدث من منصة نموذج لا يستطيعان فهم لغته؛ فلا مجال هنا للخطاب النقدي.
إذا كان هذا السيناريو يصف تاريخ العلم على نحو صحيح، فإن كون يواجه مسألة كيف يصير التغيير العلمي ممكنًا من الأساس. إذ يبدو أن كلا طرفي النزاع مقتنع تمامًا بصحة نموذجه. يستخدم كون مصطلح «اللاقياسية» لوصف حالة الجمود هذه. يشير هذا المصطلح إلى أنه ليس من الممكن تحويل كل عنصر من نموذج ما إلى عنصر في النموذج المنافس له. من الممكن مقارنة النموذجين على مستوًى عام، ولكن ليس من الممكن مقارنة كل عنصر مفاهيمي في أحد النموذجين مع عنصر مفاهيمي في النموذج الآخر (انظر أندرسن/باركر/تشن ٢٠٠٦، الفصل الخامس). ربما نتساءل عن سبب اعتبار ذلك أمرًا جللًا أو يُمثِّل حتى مشكلة. فإذا لم يوجد ما يكافئ «فلك التدوير» في نموذج كبلر، فإن هذا يبدو مكسبًا وليس خسارة، ومع ذلك، يرى كون أن سمة اللاقياسية في النماذج سمة مهمة في تاريخ العلم؛ لذلك كان عليه أن يشرح كيفية تغيُّر النماذج إذا كان العلماء يرتبطون بها كرؤًى كونية. تتمثل إجابة كون في أن بذور التغيير الثوري موجودة في كل نموذج؛ فكل نموذج يواجه في النهاية حالة شذوذ. وعدم التوافق المستمر بين النظرية والبيانات التجريبية هو ما يدفع النموذج إلى حالة الأزمة.
وفي النهاية يظهر نموذج جديد. ومع النموذج الجديد، تبدأ مرحلة جديدة من العلم الطبيعي. ويكون معظم ممارسي العلم في هذه الفترة متفقين على نحو أساسي مع فرضيات النموذج الجديد. وهو يفرض مرة أخرى رؤية على العالِم تختلف على نحو ملحوظ عن الرؤية السابقة. «فما كان بطًّا في عالَم العالِم قبل الثورة أصبح الآن أرانب بعدها» (كون ١٩٧٠، ١١١). وفقًا لكون، النقلة النوعية من نموذج ما إلى آخر لها عواقب وخيمة؛ أولًا: تتغير الشبكة المفاهيمية بأكملها. يوجد اختلافات كبيرة في الأنطولوجيا — الخاصة بالأشياء التي من المفترض أن توجد في العالم — بين النموذجين القديم والجديد؛ فعلى سبيل المثال، استبدال كبلر بالأفلاك الصلبة كواكب تسير بحرية، وحلت قوانين كبلر للكواكب محل الأدوات الهندسية الإغريقية. يؤثر هذا التغيير المفاجئ أيضًا على مجموعة المشكلات المقبولة والتقنيات المقبولة. من كبلر لنيوتن أصبحت المشكلة المهيمنة هي السؤال الآتي: «لماذا تدور الكواكب في مدارات؟» أصبحت الأساليب الهندسية قديمة وحلت محلها تقنيات رياضية أكثر تطورًا. ثانيًا: يحدث انقطاع في التواصل، كما توضح مسرحية بريشت. لم يكن كون واضحًا دائمًا فيما يخص مدى انقطاع التواصل. وبعد الانتقادات بدا أنه تقبَّل أن انقطاع التواصل يكون جزئيًّا فقط (كون ١٩٨٣؛ نولا ٢٠٠٣، الفصل ١.٤.١). سيتقبل العلماء على الأقل جزئيًّا بعض الاستمرارية بين النموذج القديم والجديد، ولكن الأسباب المنطقية وحدها ليست كافية لإقناع العالِم المتشكك بمميزات النموذج الجديد. يفسر كون تبنِّي النموذج الجديد كحالة تحويل وإقناع. أما الواقع فهو أكثر تعقيدًا، كما اعترف كون في نهاية المطاف. فثمة روابط مستمرة ومتقطعة بين النماذج. وجرت مناقشة حادة بين الكوبرنيكيين والبطالمة وعلماء دين. لقد ظلت المراسلات بين أوزياندر وكوبرنيكوس وريتيكوس باقية، واستمر النزاع لمدة ١٥٠ سنة. كان هذا وقتًا كافيًا لترتيب النماذج المختلفة. قدَّم البطالمة حججًا مناهضة لحركة الأرض، وتبنى كوبرنيكوس نظرية الزخم لرفض حججهم، واتخذ تيكو براهي موقفًا وسطًا. والمناصر المتعصب للكوبرنيكية، مثل جاليليو، تجاهل ببساطة قوانين كبلر. تحول البعض إلى الكوبرنيكية، مثل ريتيكوس في ألمانيا وديجز في إنجلترا. وحتى بداية القرن السابع عشر لم توجد أدلة كافية على صحة فرضية مركزية الشمس حتى إن بعض العلماء قبِل أجزاء وحسب من النظام الكوبرنيكي (ريبكا ١٩٧٧؛ دراير ١٩٥٣، الفصلان الثالث عشر والرابع عشر). وانتصر الكوبرنيكيون أخيرًا عندما ضم نيوتن قانون القصور الذاتي إلى قانون الجاذبية.
لا يتفق التحول الكوبرنيكي فعليًّا مع نموذج كون (هايدلبيرجر ١٩٨٠)؛ فهو لا يشكل نقلة نوعية؛ فالنسخة الكوبرنيكية لمركزية الشمس لا تكاد تكون في حالة غير متكافئة مع مركزية الأرض بسبب التداخل الكبير بين النظامين. يستخدم كوبرنيكوس العديد من المشاهدات الإغريقية، ولم يبتكر أي طريقة جديدة، بل على العكس من ذلك، أراد أن يكون أنقى من بطليموس، حيث اعترض على استخدام الموازِن. وكما يوضح النقاش حول مصطلح «الفرضية»، من الصعب رصد مثل هذا القدر الضئيل من انقطاع التواصل الجزئي. وبطبيعة الحال، فإن المعارضين لم يقبلوا ذلك. يبدو أن غموض مصطلح «الفرضية» أرسى رابطة بين أنصار الكوبرنيكية ومعارضيها. وبعد ذلك، لم يتفق الكوبرنيكيون حتى على بعض العناصر الأساسية في مصفوفة المجال. واصل جاليليو الإيمان بوجود الحركة الدائرية. والرؤية الكونية الكوبرنيكية متوافقة مع الذرائعية والواقعية؛ فمن خلال التركيز على تكافؤ الفرضيات، دعم أوزياندر الذرائعية. ومن خلال التركيز على بنية نموذجه الطوبولوجية (في الكتاب الأول من كتاب «عن دورات الأجرام السماوية»)، وصل كوبرنيكوس إلى وجهة نظر واقعية.
لم تتغير الشبكة المفاهيمية بنقلة نوعية ولكن تغيرت عن طريق تحول بطيء. فمشاهدات تيكو وحسابات كبلر ونتائج جاليليو قدَّمت حججًا قوية لصالح الفرضية الكوبرنيكية. وشكلت هذه الإنجازات قيودًا قوية لم يستطع النظام الأرضي المَركز أن يتوافق معها؛ لذلك، فلنتناول بعض النماذج البديلة للثورات العلمية.
-
(ب)
«نموذج كوهين ذو المراحل الأربع»: اقترح مؤرخ العلم برنارد آي كوهين نموذجًا ينص على أن الثورة العلمية تتكشف على أربع مراحل (كوهين ١٩٨٥). تتألف المرحلة الأولى من الابتكار المفاهيمي، كما نجد في الكوبرنيكية والداروينية، وقد ناقشنا هذه المرحلة سابقًا على أنها تغيير في المنظور. مع ذلك، ليس تغيير المنظور كافيًا لتشكيل ثورة.١٦ وتتكون المرحلة الثانية من أساليب وتقنيات جديدة. رأينا أن كوبرنيكوس لم يقدِّم تقنيات جديدة؛ ومن ثم فإنه يخفق في الوفاء بهذا المعيار الثاني. وفي هذا الصدد قدَّم كبلر ونيوتن أعظم التحسينات. وكذلك قدَّم داروين أيضًا طريقة جديدة: الاستدلالات الداروينية؛ فكما سنرى، يتضمن مبدأ الانتقاء الطبيعي الذي قدَّمه بنية جبرية جديدة. أما المرحلة الثالثة فسماها كوهين «النشر». وفي هذه المرحلة تحدث الثورة على الورق. فتجد صدًى في الساحة العامة. بعبارة حديثة، يمكننا أن نقول إن العمل يجد ناشرًا. ثمة بعض تواريخ النشر الشهيرة في العلم التي توضح هذه المرحلة، منها كتاب كوبرنيكوس «عن دورات الأجرام السماوية» (١٥٤٣)، وكتاب داروين «أصل الأنواع» (١٨٥٩)، ونظرية النسبية الخاصة لأينشتاين (١٩٠٥). تقدِّم هذه المنشورات الأفكار الثورية للفحص العام. وتتكون المرحلة الرابعة من اعتناق المجتمع العلمي للأفكار الجديدة. وهذه ليست مسألة تحول فوري. عادةً ما تجد الأفكار الجديدة بعض الأنصار لكنها تواجه أيضًا شكوكًا ومعارضة، وفي مثل هذه الحالة تحدث مناقشات حادة، وليس من الضروري أن تشبه الصدام المؤسف بين جاليليو وعالم الرياضيات والفيلسوف. غالبًا ما تعتمد محاولات الإقناع على الحجج. في كتابه «النبذة الوصفية الأولى» (١٥٤٠) يحاول ريتيكوس إقناع معاصريه برجحان النظام الكوبرنيكي. في بداية القرن السابع عشر كتب كبلر أول مرجع لعلم الفلك. يُمثِّل كتاب «خلاصة الفلك الكوبرنيكي» (١٦١٨–١٦٢١) حجة طويلة تدعم نظامًا كوبرنيكيًّا معدلًا. رأى داروين كتابه «أصل الأنواع» على أنه «حجة طويلة» تدعم التفسيرات التطورية. لو لم يحدث أي تحول فوري، فإن النظريات العلمية الأكثر نجاحًا تحظى بتقارب في آراء الخبراء. وبعد فترة يصبح معظم ممارسي المجال العلمي مقتنعين بصحة النظرية الجديدة. ووفقًا للأدلة المجموعة في هذا الفصل والفصلين اللاحقين، فالأمر عبارة عن مسألة إقناع بالحجج. وبالنسبة للأدلة، كما رأينا، فإنها تتلاقى أيضًا في نموذج واحد أو نظرية واحدة. وإضافة إلى ذلك، فالأدلة ذاتها التي تزيد من مصداقية نظرية ما تبدأ في نزع مصداقية النظريات المنافسة.
يرى نموذج كوهين ذو المراحل الأربع الثورات العلمية كعمليات ممتدة زمنيًّا؛ فهي انتقالات وليست تحولات مفاجئة. تشير المرحلتان الأوليان — الابتكار المفاهيمي والتقنيات الجديدة — إلى جانب مهم من الثورات العلمية، وهو قدرات حل المشكلات الخاصة بالنماذج الجديدة. وجرى التأكيد على هذا الجانب بالفعل في نموذج كون الإرشادي، كما أنه يصبح بؤرة تركيز نموذج تسلسل الاستدلال.
-
(جـ)
«نموذج تسلسل الاستدلال»: يعاني نموذج كون من عيبين عند النظر إليه في ضوء الكوبرنيكية (والداروينية)؛ فمن خلال أطروحة اللاقياسية، يؤكد ذلك النموذج على الانقطاع الهدام بين النماذج المتعاقبة. وغالبًا ما يصور وجود انقطاع في التواصل بين العلماء، كما عُرض بسخرية في مسرحية بريشت، بينما يكون واقع الثورات العلمية في كثير من الأحيان أكثر تعقيدًا. ربما يرضي نموذج كوهين مؤرخ العلم لكنه لا يؤكد بما فيه الكفاية على الاستمرارية المفاهيمية بين الثورات المتعاقبة. تُظهر الثورات المتعاقبة طبيعة انتقالية يمكن أن تكون أكثر دقة. لنتحدث عن «النظريات»، بدلًا من النماذج الإرشادية، لتوضيح الشبكات المفاهيمية في تاريخ العلم. يمكن لعناصر كل منها أن تتغير على نحو «متفرق». وهذا يعني، كما هو جليٌّ في تاريخ الكوبرنيكية، أن نظرية مركز الأرض لم تسقط مرة واحدة. بدلًا من ذلك، سبق التخلي عن نظرية أرسطو للحركة إعادةُ ترتيب كوبرنيكوس أماكن الكواكب. ولم يحدث التخلي عن فكرة الحركة الدائرية إلا في وقت لاحق. هذه الجراحة التفريقية تعني أننا يمكن أن نبحث عن تحولات مُسَبَّبَة بين المكونات المفاهيمية للشبكة (شيبر ١٩٦٤؛ ١٩٦٦؛ ١٩٨٩؛ تشن/باركر ٢٠٠٠)؛ فنحن نستطيع تتبُّع تاريخ مفهوم المدارات الدائرية — مثلًا — من الإغريق إلى ما بعد علم الفلك الكوبرنيكي، وسنجد أنها تُركت ونتساءل عن سبب حدوث هذا. أو يمكننا دراسة دور نظريات الحركة في تاريخ النماذج الفلكية. أحل منظِّرو المدرسة الباريسية نظرية الزخم محل نظرية أرسطو للحركة؛ لأنهم وجدوا أن نظرية الزخم تقدِّم تفسيرًا أفضل للحركة. وساعدت نظرية الزخم النموذج الكوبرنيكي على طول الطريق، ولكن لم يُطوَّر مفهوم الزخم إلا في منتصف القرن السابع عشر (دريك ١٩٧٥؛ وولف ١٩٧٨، دكسترهوز ١٩٥٦). وهذه أمثلة على التحولات المسببة، وهي تحولات مسببة لأنها تنشأ عن مواقف إشكالية تُقيَّم فيها الحلول المقترحة من خلال سلاسل وحجج منطقية. في تاريخ النماذج الفلكية يمكننا تتبُّع تاريخ الافتراضات التأسيسية، ويُحكَم عليها وفق قدرتها على تقديم حلول لمشكلة حركة الكواكب. تؤدي التحولات إلى إعادة تنظيم جزء على الأقل من المخطط المفاهيمي. وتمثل التحولات جزءًا من محاولات حل المشكلة، وتخلف هذه المحاولات خطوط ارتباط يمكن تتبُّعها بين النماذج الفلكية؛ فهناك «عمليات حذف»: كما حدث مع نظرية أرسطو للحركة، و«عمليات تعديل»: كما في التخلي عن الدائرة لصالح القطع الناقص، و«عمليات إبدال»: مثل إحلال التحليل الرياضي محل الأساليب الهندسية. يمكننا تتبُّع خطوط الحجج عبر تطور النظريات المفاهيمية ومكوناتها: مثل تطور نظريات «الحركة» وترتيب «الكواكب» من نظرية مركزية الأرض إلى نظرية مركزية الشمس. ونستطيع أن نقيم هذه العمليات في السلاسل المنطقية. توضح تحولات تسلسل الاستدلال التحولات البطيئة للشبكات المفاهيمية والنظريات من خلال أهمية الحجج والأدلة. وبدمج هذه الأفكار، نصل إلى نموذج تحليلي ذي أربع مراحل للثورة العلمية على شكل سلسلة من الأحداث المتتالية:
- (١)
تحوُّل أو تغيُّر في المنظور، ينطوي غالبًا على تشكيك في الافتراضات القائمة.
- (٢)
تقديم أساليب وتقنيات جديدة ذات قدرة على حل المشكلة.
- (٣)
ظهور نظرية جديدة من خلال تحولات تسلسل الاستدلال التفريقية كنتيجة لنجاح النظرية الناشئة في حل المشكلة.
- (٤)
تلاقي آراء الخبراء عند نظرية جديدة. وسنبين في الفصل الثاني أن هذا التلاقي لا يستبعد وجود نماذج بديلة في الوقت نفسه ضمن النظرية الجديدة.
- (١)
لا يوجد ما يضمن أنه بمجرد أن يتخذ عنصر ما مكانًا آمنًا ضمن نظرية ما سيظل في موقعه دون أن يواجه تحديًا من الحجج الإضافية. ومن المفارقات أن حلَّ هذا المصير على المبدأ الكوبرنيكي نفسه. وإذا اتبعنا تسلسل الاستدلال المحدد هذا في نقاش معاصر، فسوف يؤدي بنا إلى التشكيك في المبدأ الكوبرنيكي؛ الذي يقضي بأننا لا نحتل مكانة متميزة في الكون.
(٨) المبدأ الإنساني: هل هو عكس التحول الكوبرنيكي؟
في إعادة صياغة لعبارة ديكارت أقول: «أنا أفكر، إذن، العالم موجود كما هو.» (كارتر، «المبدأ الإنساني» (١٩٧٤)، ٢٩٤)
يَعتبر فرويد أن الكبرياء البشري عانى ضرباتٍ خطيرةً من الكوبرنيكية والداروينية؛ ففي الواقع أزاحت الفرضية الكوبرنيكية البشر من العرش الوهمي للمركزية المادية في الكون. ويبدو أن داروين قد سلب البشر «تاج ذروة الخلق»، ولكن تغيير كوبرنيكوس للمنظور يوضح أيضًا قوة العقل البشري. أوضح كوبرنيكوس وخلفاؤه أن المجال فوق القمري لم يكن خفيًّا عن الفهم البشري إلى الأبد؛ فكما أشار كبلر بإصرار، العقل البشري أكثر إدراكًا من العين البشرية؛ فما يستطيع البشر رؤيته لا يُمثِّل حدود ما يمكنهم فهمه. فبما أنه يبدو أننا الكائنات الذكية الوحيدة في منطقتنا الكونية المباشرة التي تمتد لعدة سنوات ضوئية في كل الاتجاهات، يمكن للإنسان على الأقل أن يدَّعي تمتُّعه بالمركزية العقلانية. يوضح التحول الكوبرنيكي أن المركزية العقلانية لا تعتمد على المركزية المادية. بمجرد أن فُهم هذا الأمر، استطاع العلم الحديث الانطلاق؛ فالبشر لن يكونوا قادرين على ترك النظام الشمسي في المستقبل المنظور. ولن يستطيعوا حتى زيارة جميع أجزاء النظام الشمسي. مع ذلك، يعرف علماء الكونيات من التحليل العلمي أكثر بكثير مما قد يتعلمونه من مشاهدة أجزاء الكون. لقد رسم علماء الكونيات بنية النظام الشمسي ومجرة درب التبانة والكون إلى حد لا يمكن مضاهاته من خلال المشاهدات المجردة.
بالنسبة لبعض علماء الكونيات، هذه المركزية العقلانية ليست كافية. فاقترحوا «مبدأً إنسانيًّا»، يسعى إلى إعادة بعض الكبرياء قبل الكوبرنيكي إلى الجنس البشري. يسعى المبدأ الإنساني إلى عكس التحول الكوبرنيكي؛ فهو يستنبط من وجود الحياة الذكية على الأرض وجود ظروف مادية خاصة تجعل وجود الحياة الذكية ممكنًا. ربما لا يكون موقعنا في الكون مركزيًّا، ولكنه متميز (كارتر ١٩٧٤، ٢٩١). في الواقع ثمة نسختان من المبدأ الإنساني:
-
«المبدأ الإنساني القوي»: «يجب أن يمتلك الكون الخصائص التي تسمح للحياة بالتطور داخله في مرحلة ما من تاريخه.» (بارو/تِبلر ١٩٨٦، ٢١؛ كارتر ١٩٧٤، ٢٩٤)
هذا شرط صارم للغاية؛ لأنه يفترض أن الشكل المادي للكون يحتِّم على الكون أن يصير كونًا ذاتي الإدراك؛ فالكون سيؤدي في النهاية إلى خلق راصدِين بشريينَ أذكياء (بارو/تِبلر ١٩٨٦، ٢٤٨، ٥٢٣؛ بروير ١٩٩١، الفصل الأول). إن موطن قوة هذا الشرط يُمثِّل أيضًا موطن ضعفه. من ناحية، يجسد المبدأ الإنساني القويُّ مركزية البشر الحتمية، التي لم تعُد جزءًا من تفسير فيزيائي؛ فمنذ قيام الثورة العلمية في القرن السابع عشر، كان يوجد ميل جوهري تجاه القضاء على منطق مركزية البشر أولًا من العلوم الفيزيائية، وبعد ذلك من العلوم البيولوجية؛ ومن ناحية أخرى، يسير المبدأ الإنساني القوي مباشرة عكس التفسيرات التطورية للحياة؛ فالمبادئ البيولوجية، مثل الانتقاء الطبيعي، لا تدعي أن الأنواع الجديدة تتطور على طول مسار خطي تكون نهايته هي ظهور البشر؛ فقد تمثلت إحدى النتائج المترتبة على عمل داروين في اعتبار أي تفكير غائي في علم الأحياء التطوري يعامل البشر باعتبارهم غاية أخيرة للتطور تفكيرًا خاطئًا؛ لذلك يفضل معظم علماء الكونيات نسخةً ضعيفة من المبدأ الإنساني.
-
«المبدأ الإنساني الضعيف»: «يجب أن نكون مستعدين لنضع في الاعتبار حقيقة أن موقعنا في الكون متميز بالضرورة إلى حد يتوافق مع وجودنا كراصدين.» (كارتر ١٩٧٤، ٢٩٣؛ ديك ١٩٦١؛ بروير ١٩٩١، ٨)
ينص هذا الافتراض على أن وجود الحياة البشرية يمكن استخدامه لتفسير القيم الدقيقة للثوابت الفيزيائية الأساسية:القيم المرصودة لجميع الكميات الفيزيائية والكونية ليست محتملة على نحو متساوٍ لكنها تمثِّل قيمًا محددة بشرط أن وجودها يكمن في المواقع التي يمكن أن تتطور فيها الحياة القائمة على الكربون وبشرط أن يكون الكون قديمًا بما يكفي لفعل ذلك. (بارو/تِبلر ١٩٨٦، ١٦؛ ديك ١٩٦١)
تأمَّل على سبيل المثال عمر وحجم الكون. يؤكد أنصار المبدأ الإنساني الضعيف أن هذه السمات يمكن تفسيرها بدراسة حالة الوجود البشري. من الواضح أن الأرض لا بد أن تكون ملائمة ماديًّا لاستضافة تطور الحياة العضوية. يحدث تحوُّل الهيدروجين والهيليوم إلى جزيئات مساعدة للحياة في المقام الأول في النجوم، لكن إنتاج الجزيئات الثقيلة التي تعتمد عليها الحياة يستغرق مليارات السنين. يجب أن يكون الكون قديمًا بما فيه الكفاية لتوجد أشكال الحياة؛ ومن ثم، يرى أنصار المبدأ الإنساني الضعيف أن وجود الحياة البشرية يمكن أن يفسر عمر الكون. والعمر يفسر الحجم. «العديد من مشاهدات العالم الطبيعي (…) يمكن أن يُنظَر إليها على أنها نتائج حتمية لوجودنا» (بارو/تِبلر ١٩٨٦، ٢١٩).
بالنسبة لأنصار المبدأ الإنساني الضعيف، يعيد هذا المنطق شكلًا من أشكال المركزية الخاصة ويناقض التحول الكوبرنيكي؛ فلو أن ظروفًا خاصة للغاية تُنتج كونًا ذاتيَّ الإدراك، فثمة إعادة تأسيس لصلة وثيقة بين الجنس البشري والبيئة الكونية. يضع المبدأ الإنساني قيودًا على بنية الكون ذاتي الإدراك. ويؤكد أن الحياة الذكية بطريقة ما تختار الكون الفعلي (بارو/تِبلر ١٩٨٦، ٥١٠؛ بروير ١٩٩١، الفصل الأول). وهذا الكون وحده هو ما يُنتج راصدين أذكياء يمكنهم التعرف على موقعهم المتميز.
من مشكلات المبدأ الإنساني أنه مقاربة وحسب في أحسن الأحوال. وهو يوجه الراصد مرة أخرى نحو النظرية الفيزيائية، ولكن حتى حينها فإنه يشير فقط إلى القيمة الأُسِّيَّة للثوابت الأساسية، وليس القيم على وجه الدقة. يتنكر المبدأ الإنساني الضعيف في صورة تفسير فيزيائي بينما لا يزيد عن كونه استنتاجًا لا اعتراض عليه؛ فمن حقيقة أن الراصدين البشريين يسكنون زاوية صغيرة من الكون، يُستنتَج أن هذا المكان لا بد أن يكون ملائمًا للحياة، ولكن وجودنا لا يفسر بأثر رجعي سبب امتلاك الكون للظروف المادية التي جعلت الحياة الذكية ممكنة (سالمون ١٩٩٨، ٣٩٦). وحتى أنصار المبدأ الإنساني يعترفون بأن المبدأ يمكن أن يحل محله في نهاية المطاف تفسير فيزيائي (كارتر ١٩٧٤، ٢٩٢، ٢٩٥؛ كار/ريس ١٩٧٩، ٦١٢).
ثمة تشابُه معيَّن بين الحجج التي ساقها أنصار المبدأ الإنساني وأنصار التصميم الذكي الجدد؛ فيرى أنصار التصميم الذكي أن العديد من العمليات الكيميائية الحيوية مضبوطة بدقة شديدة لدرجة تمنع الانتقاء الطبيعي من تفسيرها (انظر الفصل الثاني، القسم ٥-٤). فيعتبرون أن أعضاء مثل العين معقدة بحيث لا يمكن أن تكون نتيجةً لتكيُّف تطوري بطيء. ويشير أنصار المبدأ الإنساني إلى توازن دقيق مماثل في الثوابت الأساسية. فيرون أن وجود راصد ذكي يمكن أن يفسر دقة ضبط الثوابت الأساسية. تلعب التفسيرات الغائية في كلتا الحالتين دورًا مهمًّا. ويستنتج أنصار التصميم الذكي وجود التصميم من تعقيد النظم البيولوجية وعدم أرجحية وجودها بمحض الصدفة. ويستنتج أنصار المبدأ الإنساني وجود مكان وزمن خاصَّين للبشر من القيم المحددة للمتغيرات الكونية. المشكلة هي أن الثوابت الأساسية لا تمتلك قيمها الخاصة لأننا موجودون؛ فالتغيير الطفيف في قيمة الثوابت الأساسية في الماضي البعيد ربما كان سيجعل بالفعل تطور الحياة على الأرض مستحيلًا، ولكن وجودنا «الآن» لا يعني بالضرورة أن الثوابت اكتسبت في الماضي قيمها المحددة. صحيح أن بوسعنا أن نستنتج قيمًا خاصة للثوابت الأساسية من وجودنا، ولكن هذا لا يفسر القيم. يبدو أن المبدأ الإنساني القوي يعني ضمنًا أن الراصد هو هدف التطور (بارو/تِبلر ١٩٨٦، ٢٨). وهذا التفكير الغائي — كما سنوضح في الفصل الثاني — كان سائدًا خلال معظم تاريخ الأفكار. وهو يتناقض بشدة مع تاريخ الداروينية. فحتى المبدأ الإنساني الضعيف فشل في إظهار أن أحجام النجوم والكواكب والناس نتائج لازمة لثوابت الطبيعة (بارو/تِبلر ١٩٨٦، ٣٨٧). أحد الأسباب هو أن التطور الكوني عرضي؛ فالأرض ليست محمية من بقية النظام الشمسي؛ فلملايين السنين كانت الأرض تخضع لقصف من الفضاء الخارجي. إن الكون نظام شاسع، ووفقًا لفرضية ألفاريز فقد حدث انقراض الديناصورات قبل ٦٥ مليون سنة بسبب اصطدام أحد الكويكبات بالأرض. وعندما اختفت كانت حياتها قد امتدت بالفعل أكثر من ٢٠٠ مليون سنة. ولو كانت الديناصورات قد استمرت في الحياة، لم يكن البشر ليُوجَدوا. خلال عهد الديناصورات، كانت الظروف ملائمة للحياة العضوية، ولكن هذا لا يعني وجوب ظهور الراصدين البشريين. ثمة سبب آخر للشك في التفكير وفق المبدأ الإنساني، الذي ينتج عن الانتقاد الأول؛ فالتفكير وفق المبدأ الإنساني يتجاهل تسلسل السببية. فلا يمكننا أن نفسر سببيًّا وقوع حدث سابق من خلال وقوع حدث لاحق. مع ذلك، يقفز التفكير وفق المبدأ الإنساني من حدث بعيد في الماضي إلى أحداث في الوقت الحاضر؛ فهو يجيب على أسئلة مثل: «لماذا الكون موحَّد الخواص؟» بعبارات مثل «لأننا موجودون فيه» (بارو/تِبلر ١٩٨٦، ٤٢٦)، ومع ذلك، فإن عرضية الأحداث الفيزيائية تمنعنا من تخطي عدة حلقات في تسلسل السببية. سيكون من قبيل التفكير الخاطئ الادعاء بأني موجود هنا لأن أجداد أجدادي تزوجوا في سبعينيات القرن التاسع عشر. يخبرنا التفكير الفيزيائي أن الاستنتاجات يمكن أن تُغيِّر مسار الحدث «المحدد سلفًا». ويخبرنا التفكير التطوري بأن شجرة الحياة نمَت على نحو عرضي. وإذا قبلنا هذه الأفكار، فإن البشر ليسوا نتيجة ضرورية للتطور. يبدو هذا التفسير على نحو مثير للريبة مثل التطور التدريجي للامارك. وكما سنرى، أدت ثورة داروين إلى الإطاحة بمفهوم التصميم الرشيد.
ربما نستنتج أن التحول الكوبرنيكي أدى إلى فقدان المركزية المادية، لكن الوجود الإنساني لا يزال ثمينًا في سياقين؛ فنحن النوع الذكي الوحيد في ضاحيتنا الكونية. وعلى هذا النحو فإننا لا نعتمد على أي مركزية مادية. ومن خلال قوة التفكير النظري تستطيع العقول البشرية أن تجوب الكون. ونحن نعرف من التفكير أكثر مما نعرفه من الرؤية. وهذا نوع أثمن من المركزية؛ إنها المركزية العقلانية.
أسئلة مقالية
-
(١)
كان علم الفلك الإغريقي معنيًّا ﺑ «إنقاذ الظواهر». اشرح معنى هذا والأثر الذي تركه على المكانة الفلسفية للنظريات العلمية.
-
(٢)
افترض علم الفلك الإغريقي وجود «كون ذي فلكين». اشرح معنى هذا وأثره على المكانة الفلسفية للنظريات العلمية.
-
(٣)
ما بنية نظرية «مركزية الأرض» ولماذا وجدها الإغريق مقنعة للغاية؟
-
(٤)
فسِّر كيف كان استبدال «نظرية الزخم» بنظرية أرسطو للحركة شرطًا مسبقًا منطقيًّا لتطور الكوبرنيكية.
-
(٥)
أوضِح أهم إنجازات الثورة الكوبرنيكية.
-
(٦)
فسِّر سبب عدم اكتمال الرؤية الكونية الكوبرنيكية إلا من خلال نظريات نيوتن.
-
(٧)
ما بنية نظرية «مركزية الشمس» ولماذا يجدها الكوبرنيكيون مقنعة للغاية؟
-
(٨)
«الواقعية»: هي «الاعتقاد بأن مجرد وصف البيانات لا يُمثِّل كل ما هو مطلوب من النظرية» (برنار ديسبانا). ناقش أهمية هذه العبارة مستخدمًا أمثلة مناسبة.
-
(٩)
ثمة نوعان من وجهات النظر حيال النظريات: «الواقعية» و«الذرائعية». اشرحهما. ما الحجج التي يقدمها الواقعيون ضد الذرائعيين؟
-
(١٠)
بأي صورة يمكنك استخدام الكوبرنيكية لدعم الذرائعية والواقعية على الترتيب؟
-
(١١)
أوضِح كيف نشأت قضية الواقعية في مواجهة الذرائعية من التحول الكوبرنيكي وناقِش بعض الحجج لصالح الواقعية والذرائعية على الترتيب.
-
(١٢)
اشرح ووضح وقيِّم بعض الحجج النموذجية المؤيِّدة والمعارضة للواقعية والذرائعية.
-
(١٣)
إذا كانت «النماذج» بعيدة عن «تمثيل» العالم الطبيعي والاجتماعي، فكيف يتحقق هذا التمثيل؟
-
(١٤)
اشرح دور النماذج في العلم. ما أنواع النماذج وما أهميتها؟ أوضح إجابتك في ضوء الكوبرنيكية.
-
(١٥)
يفترض النموذج الاستدلالي الطبيعي «تناظُر التفسير والتنبؤ». استخدم أمثلةً من علم الفلك لتقييم مدى ملاءمة هذا الافتراض.
-
(١٦)
اشرح ووضِّح دور «الفرضيات» في تاريخ علم الفلك من بطليموس إلى نيوتن.
-
(١٧)
اشرح «أطروحة نقص الإثبات» (أطروحة دوهيم-كواين). ما الحجج التي يمكن أن تقدِّم ضدها؟
-
(١٨)
اشرح ووضِّح «عكس المنظور» في الكوبرنيكية.
-
(١٩)
ماذا نفهم من «الثورة العلمية»؟ هل كانت «الكوبرنيكية» و«الداروينية» ثورتَين علميَّتين؟
-
(٢٠)
اشرح لماذا كانت فرضية مركزية الشمس الكوبرنيكيية «تحولًا كوبرنيكيًّا» وليست ثورة علمية.
-
(٢١)
اشرح لماذا استغرقَ استكمال الثورة الكوبرنيكية أكثر من ١٤٠ عامًا؛ من ١٥٤٣ إلى ١٦٨٧؟
-
(٢٢)
إذا كان كوبرنيكوس أطلق تحولًا كوبرنيكيًّا وحسب، لماذا يُعد كتاب داروين «أصل الأنواع» (١٨٥٩) ثورة علمية بينما لا يُعد كتاب كوبرنيكوس «عن دورات الأجرام السماوية» (١٥٤٣) كذلك؟
-
(٢٣)
اشرح ما يميز النموذج الكوبرنيكي عن النموذج البطلمي. لماذا لا يُعتبر مؤرخو العلم كوبرنيكوس ثورة «حقيقية» في العلم؟
-
(٢٤)
ناقِش على نحو نقدي قابلية تطبيق نموذج كون الإرشادي للثورات العلمية في سياق النموذج الكوبرنيكي.
-
(٢٥)
اشرح أسباب اعتبار يوهانز كبلر الثوري الحقيقي في تاريخ علم الفلك.
-
(٢٦)
حلل على نحو نقدي دور القيود في العلم بالإشارة إلى الكوبرنيكية والداروينية.
-
(٢٧)
اشرح الفرق بين قوانين الطبيعة وقوانين العلم. لماذا هذا التمييز مهم؟
-
(٢٨)
قيِّم على نحو نقدي التمييز بين النظريات والنماذج.
-
(٢٩)
ناقِش على نحو نقدي الحجج المؤيدة والمعارضة للنظرية البنيوية للقوانين.
-
(٣٠)
ناقِش على نحو نقدي الحجج المؤيدة والمعارضة لمذهب الضرورة للقوانين.
-
(٣١)
ناقِش على نحو نقدي الحجج المؤيدة والمعارضة لنظرية الانتظام للقوانين.
قراءت إضافية
-
Andersen, H./P. Barker/X. Chen [2006]: The Cognitive Structure of Scientific Revolutions. Cambridge: Cambridge University Press.
-
Aristotle [1948]: Politics, transl. E. Barker. Oxford: Oxford University Press.
-
Aristotle [1952a]: Physics. Great Books of the Western World, The Works of Aristotle, Vol. I. Chicago: Encyclopaedia Britannica.
-
Aristotle [1952b]: On the Heavens. Great Books of the Western World. Chicago: Encyclopaedia Britannica.
-
Armstrong, D. [1983]: What is a Law of Nature? Cambridge: Cambridge University Press.
-
Barker, P. [2002]: “Constructing Copernicus,” Perspective on Science 10, 208–27.
-
Barrow, J. D./F. J. Tipler [1986]: The Anthropic Cosmological Principle. Oxford: Oxford University Press.
-
Blumenberg, H. [1955]: “Der kopernikanische Umsturz und die Weltstellung des Menschen,” Studium Generale 8, 637–48.
-
Blumenberg, H. [1957]: “Kosmos und System,” Studium Generale 10, 61–80.
-
Blumenberg, H. [1965]: Die kopernikanische Wende. Frankfurt a./M.: Suhrkamp.
-
Blumenberg, H. [1981]: Die Genesis der kopernikanische Welt. 3 vols. Frankfurt a./M.: Suhrkamp [English translation: The Genesis of the Copernican World, transl. R. M. Wallace. Cambridge, MA: MIT Press, 1987].
-
Born, M. [1962]: Einstein’s Theory of Relativity. New York: Dover.
-
Brecht, B. [1963]: Leben des Galilei. Berlin: Suhrkamp [English translation: The Life of Galileo. London: Eyre Methuen, 1963].
-
Breuer, R. [1991]: The Anthropic Principle: Man as the Focal Point of Nature. Boston: Birkhäuser.
-
Brzeziński, J./F. Coniglione/Th. A. F. Kuipers/L. Nowak eds. [1990]: Idealization II: Forms and Applications. Atlanta, GA: Rodopi.
-
Brzeziński, J./L. Nowak eds. [1992]: Idealization III: Approximation and Truth. Atlanta, GA: Rodopi.
-
Burtt, E. A. [21932]: The Metaphysical Foundations of Modern Physical Science. London: Routledge & Kegan Paul.
-
Carter, B. [1974]: “Large Number Coincidences and the Anthropic Principle in Cosmology,” in M. S. Longair ed., Confrontation of Cosmological Theories with Observational Data. Dordrecht: D. Reidel 1974, 291–8.
-
Carr, B. J./M. J. Rees [1979]: “The Anthropic Principle and the Structure of the Physical World,” Nature 278, 605–12.
-
Carroll, John W., “Laws of Nature,” in The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2003 Edition), Edward N. Zalta ed., URL = http://plato.stanford.edu/archives/fall2003/entries/laws-of-nature.
-
Cartwright, N. [1999]: The Dappled World: A Study of the Boundaries of Science. Cambridge: Cambridge University Press.
-
Chen, X./P. Barker [2000]: “Continuity through Revolutions,” Philosophy of Science 67, S208–S233.
-
Cohen, I. B. [1985]: Revolution in Science. Cambridge, MA: Belknap Press at Harvard University Press.
-
Copernicus, N. [1543/1995]: On the Revolutions of Heavenly Spheres. Amherst, NY: Prometheus Books.
-
Copernicus, N. [1959]: The Letter Against Werner, in E. Rosen ed. [1959], 93–106.
-
Copernicus, N. [1959]: The Commentariolus, in E. Rosen ed. [1959], 55–90.
-
Crombie, A. C. [1961]: Augustus to Galileo. London: Mercury.
-
Crombie, A. C. [1994]: Styles of Scientific Reasoning in the European Tradition. London: Duckworth.
-
Cushing, J. T. [1998]: Philosophical Concepts in Physics. Cambridge: Cambridge University Press.
-
Davies, P. [1995]: “Algorithmic Compressibility, Fundamental and Phenomenological Laws,” in F. Weinert ed. [1995a], 248–67.
-
Deutsch, D. [1997]: The Fabric of Reality. London: Penguin.
-
DeWitt, R. [2004]: Worldviews. London: Blackwell.
-
Dicke, R. H. [1961]: “Dirac’s Cosmology and Mach’s Principle,” Nature Letters 192, 440-1.
-
Dijksterhuis, E. J. [1956]: The Mechanization of the World Picture. Oxford: Clarendon 1961.
-
Dirac, P. M. [1961]: “Dicke’s Cosmology and Mach’s Principle,” Nature 192, 440-1.
-
Drake, S. [1975]: “Impetus Theory Reappraised,” Journal of the History of Ideas 36, 27–46.
-
Dreyer, J. L. E. [1953]: A History of Astronomy from Thales to Kepler. New York: Dover.
-
Dretske, F. I. [1977]: “Laws of Nature,” Philosophy of Science 44, 248–68.
-
Duhem, P. [1962]: The Aim and Structure of Physical Theory. New York: Athenaeum.
-
Einstein, A. [1918]: “Prinzipien der Forschung,” in A. Einstein [1977], 107–10; English translation in Einstein [1954], 224–7.
-
Einstein, A. [1919]: “Was ist Relativitätstheorie?,” in A. Einstein [1977], 127–131; English translation in Einstein [1954], 227–32.
-
Einstein, A. [1930]: “Johannes Kepler,” in A. Einstein [1977], 147; English translation in Einstein [1954], 262–6.
-
Einstein, A. [1953]: “Message on the 410th Anniversary of the Death of Copernicus,” in Einstein [1954], 359-60.
-
Einstein, A. [1954]: Ideas and Opinions. London: Alvin Redman.
-
Einstein A. [1977]: Mein Weltbild. Hrsg. von Carl von Seelig. Frankfurt a./M: Ullstein.
-
Galilei, G. [1953/1632]: Dialogue on the Great World Systems. G. de Santillana ed. Chicago: Chicago University Press.
-
Gingerich, O. [1982]: “The Galileo Affair,” Scientific American 247 (August), 118–27.
-
Gingerich, O. [1993]: The Eye of Heaven: Ptolemy, Copernicus, Kepler. New York: American Institute of Physics.
-
Gingerich, O. [2004]: The Book Nobody Read. London: Heinemann.
-
Greene, G. [2000]: The Elegant Universe. New York: Vintage Books.
-
Gutting, G. ed. [1980]: Paradigms & Revolutions. Notre Dame, IN: University of Notre Dame Press.
-
Hacking, I. ed. [1981]: Scientific Revolutions. Oxford: Oxford University Press.
-
Hanson, N. [1958]: Patterns of Discovery. Cambridge: Cambridge University Press.
-
Heidelberger, M. [1980]: “Some Intertheoretic Relations between Ptolemean and Copernican Astronomy,” in G. Gutting ed. [1980], 271–83.
-
Hempel, C. [1965]: Aspects of Scientific Explanation. New York: The Free Press.
-
Herfel, W. E. et al. eds. [1995]: Theories and Models in Scientific Processes. Amsterdam: Rodopi.
-
Hoyningen-Huene, P. [1993]: Reconstructing Scientific Revolutions. Chicago: Chicago University Press [German original: Die Wissenschaftsphilosophie Thomas S. Kuhns. Braunschweig: Vieweg & Sohn 1989].
-
Jeans, J. [1943]: Physics and Philosophy. Cambridge: Cambridge University Press.
-
Kaufmann, W. [41974]: Nietzsche. Princeton, NJ: Princeton University Press.
-
Kepler, J. [1619]: The Harmonies of the World, in J. Kepler [1995], 1–164.
-
Kepler, J. [1618–21]: Epitome of Copernican Astronomy, in J. Kepler [1995], 165–245.
-
Kepler, J. [1995]: Epitome of Copernican Astronomy & Harmonies of the World. Amherst, NY: Prometheus Books.
-
Kitcher, P. [1993]: The Advancement of Science. Oxford: Oxford University Press.
-
Koestler, A. [1964]: The Sleepwalkers. London: Penguin.
-
Koyré, A. [1957]: From the Closed World to the Open Universe. Baltimore, MD: John Hopkins University Press.
-
Koyré, A. [1965]: Newtonian Studies. Chicago: University of Chicago Press.
-
Koyré, A. [1978]: Galileo Studies. Hassocks (Sussex): The Harvester Press.
-
Krajewski, W. [1977]: Correspondence Principle and Growth of Science. Dordrecht: D. Reidel.
-
Kuhn, T. S. [1957]: The Copernican Revolution. Cambridge, MA: Harvard University Press.
-
Kuhn, T. S. [21970]: The Structure of Scientific Revolutions. Chicago: The University of Chicago Press.
-
Kuhn, T. S. [1983]: “Commensurability, Comparability, Communicability” (PSA 1982). P. D. Asquith/T. Nickles eds. East Lansing, MI: Philosophy of Science Association, 669–88.
-
Ladyman, J. [1998]: “What is structural realism?” Studies in History and Philosophy of Science 29, 409–24
-
Leckey, M./J. Bigelow [1995]: “Necessitarian Perspective: Laws as Natural Entailments,” in Weinert [1995b], 92–118.
-
Mason, S. F. [1956]: Main Currents of Scientific Thought. London: Routledge.
-
McMullin, E. [1985]: “Galilean Idealization,” Studies in History and Philosophy of Science 16, 247–73.
-
Mittelstraß, J. [1962]: Die Rettung der Phänomene. Berlin: Walter de Gruyter.
-
Morgan, M./M. Morrison eds. [1999]: Models as Mediators. Cambridge: Cambridge University Press.
-
Musgrave, A. [1979-80]: “Wittgensteinian Instrumentalism,” Theoria 45/6, 65–105.
-
Neugebauer, O. [1968]: “On the Planetary Theory of Copernicus,” Vistas in Astronomy 10, 89–103.
-
Nietzsche, F. [1887]: On the Geneology of Morals. New York: Vintage 1967 [Translation of Über die Geneologie der Moral, 1887].
-
Nola, R. [2003]: Rescuing Reason. Dordrecht: Kluwer.
-
Nowak, L. [1980]: The Structure of Idealization. Dordrecht: D. Reidel.
-
Popper, K. [1959]: The Logic of Scientific Discovery. London: Hutchinson.
-
Popper, K. [1963]: Conjectures and Refutations. London: Routledge & Kegan Paul.
-
Psillos, St. [1999]: Scientific Realism. London: Routledge.
-
Ptolemy, C. [1984]: Ptolemy’s Almagest. G. J. Toomer ed. London: Duckworth [German translation: Des Ptolemäus Handbuch der Astronomie. Bd. 1, 2, übersetzt von Karl Manitius. Leipzig: B. G. Teubner, 1912].
-
Putnam, H. [1975]: Mathematics, Matter and Method. Philosophical Papers, Vol. 1. Cambridge: Cambridge University Press.
-
Quine, W. v. [1990]: The Pursuit of Truth. Cambridge, MA: Harvard University Press.
-
Rheticus, J. [1540]: Narratio Prima, in E. Rosen [1959], 107–96.
-
Rickles, D./S. French/J. Saatsi eds. [2006]: The Structural Foundations of Quantum Gravity. Oxford: Clarendon Press.
-
Roman, P. [1969]: “Symmetry in Physics,” in R. S. Cohen/M. W. Wartofsky eds.,Boston Studies in the Philosophy of Science, Vol. V. Dordrecht: Reidel, 363–9.
-
Rosen, E. ed. [1959]: Three Copernican Treatises. Mineola, NY: Dover.
-
Rosen, E. [1984]: Copernicus and the Scientific Revolution. Malabar, FL: Robert E. Krieger.
-
Ruby, J. [1995]: “Origins of Scientific ‘Law’,” in F. Weinert ed. [1995a], 289–315.
-
Rybka, E. [1977]: “The Scientific Reception of the Copernican Theory,” Studia Copernicana 17, 158–71
-
Salmon, W. [1998]: Causality and Explanation. Oxford: Oxford University Press.
-
Shapere, D. [1964]: “The Structure of Scientific Revolutions,” reprinted in G. Gutting ed. [1980], 27–38.
-
Shapere, D. [1966]: “Meaning and Scientific Change,” reprinted in I. Hacking [1981], 28–59.
-
Shapere, D. [1989]: “Evolution and Continuity in Scientific Change,” Philosophy of Science 56, 419–37.
-
Sklar, L. [2000]: Theory and Truth. Oxford: Oxford University Press.
-
Smolin, L. [1997]: The Life of the Cosmos. New York: Oxford University Press.
-
Solla Price, D. J. de [1962]: “Contra-Copernicus,” in M. Clagett ed.,Critical Problems in the History of Science. Madison: University of Wisconsin Press, 197–218.
-
Swartz, N. [1985]: The Concept of Physical Law. Cambridge: Cambridge University Press.
-
Toulmin, S. [1953]: The Philosophy of Science. London: Hutchinson.
-
Watson, W. H. [1938]: On Understanding Physics. London: Cambridge University Press.
-
Worrall, J. [1989]: “Structural Realism”: The Best of Both Worlds?” Dialectica 43, 99–124
-
Weinberg, S. [1977]: The First Three Minutes. London: Deutsch.
-
Weinert, F. [1993]: “Laws of Nature: A Structural Approach,” Philosophia Naturalis 30, 147–71.
-
Weinert, F. ed. [1995a]: Laws of Nature—Essays on the Philosophical, Scientific and Historical Dimensions. Berlin: de Gruyter.
-
Weinert, F. [1995b]: “Laws of Nature—Laws of Science,” in F. Weinert ed. [1995a], 3–64.
-
Weinert, F. [1995c]: “The Duhem-Quine Problem Revisited,” International Studies in the Philosophy of Science 9, 147–156.
-
Weinert, F. [1998]: “Fundamental Physical Constants, Null Experiments and the Duhem-Quine Thesis,” Philosophia Naturalis 35, 225–52.
-
Weinert, F. [1999]: “Theories, Models and Constraints,” Studies in History and Philosophy of Science 30, 303–33.
-
Weinert, F. [2004]: The Scientist as Philosopher. New York: Springer.
-
Weinert, F. [2006]: “Einstein and the Representation of Reality,” Facta Philosophica 8, 229–52.
-
Wittgenstein, L. [1921/81971]: Tractatus Logico-Philosophicus. Frankfurt a./M.: Suhrkamp.
-
Wendorff, R. [31985]: Zeit und Kultur. Opladen: Westdeutscher Verlag.
-
Wolff, M. [1978]: Geschichte der Impetustheorie. Frankfurt a./M.: Suhrkamp.
-
Zeilik, M. [51988/92002]: Astronomy. New York: John Wiley & Sons.