المأزق!
أخذ الرجال الثلاثة ينظرون إليه في توجس ووحشية … وأنصت «أحمد» و«عثمان»، ومضى «جانسن» يقول: شاهدت أسوارًا عالية من الجرانيت، وقد أُقيم منها ميناء عظيم، ووقفت فيه سفينة ضخمة تُطِلُّ الصواريخ والمدافع من أبراجها.
وأخذ «جانسن» يلتقط أنفاسه، ومضى يقول: لم أصدِّقْ عيني! فمن المستحيل أن يوجد في هذا الجزء المهجور من المحيط مثل هذا الميناء … إنني أعمل في البحر منذ خمسين عامًا، وعملت في الأسطول النرويجي، وخضت الحرب ولم أسمع مطلقًا عن هذه الجزيرة!
قال أحد الرجال: وماذا حدث بعد ذلك؟
قال «جانسن»: أخذت أتحرك بصعوبة حتى وصلت إلى شاطئ الجزيرة، واستسلمت للنوم. ولما استيقظت أخذت أسير على شاطئ الجزيرة دون أن أدري ماذا أفعل، كنت متعبًا وجائعًا، ولكني كنت خائفًا في نفس الوقت … ولم أقابل أحدًا … ثم فجأة وجدت أمامي قاربًا في المياه، مجهزًا بكل أدوات الإبحار، فلم أتردد وركبته، ثم بحثت فوجدت فيه كل ما أريده من طعام وماء، فأكلت حتى شبعت، ثم أدرت القارب وأخذت أبتعد عن الجزيرة.
وكانت المفاجأة الثالثة في ذلك اليوم أن شاهدت الجزيرة وهي قريبة مني جدًّا … تختفي كأنها لم تكن … نعم … لقد أحيطت تدريجيًّا بسحابة من الضباب … واختفت … وظننت أنني أحلم … لولا القارب والطعام لكان من المؤكد أنه حلم!
عاد الرجل يسأل: وماذا بعد ذلك؟
رد «جانسن»: لاحظت بعد فترة، أن قاربًا مسلحًا قد غادر الضباب، وأخذ يبحث بالأضواء على سطح المحيط، وكان الليل قد هبط … وأحسست أن من في القارب يبحثون عني، وأنني معرض لخطر جسيم … وهكذا وبحكم خبرتي الطويلة بالبحر، اتجهت شرقًا ناحية شواطئ جزر «شتلند»، وخدمني التيار فابتعدت سريعًا، ولكن رغمَ مُضِيِّ ثلاثِ ساعات، فوجئتُ بأن القارب الكبير قد أخذ يقترب مني، وأخذت الأضواء تحاصرني ثم أطلقوا مدفعًا للإنذار … ولم أتردد، فألقيت بنفسي في المياه، وتركت القارب … وسرعان ما أصابوه بالطلقة الثانية وأصبح حُطامًا.
وأخذ «جانسن» يلعق شفتيه، فقال الرجل: أكمل قصتك أيها العجوز المخرف.
مضى «جانسن» على الفور يقول: واستطعت بعد جهدٍ كبيرٍ أن أصل إلى جزر «شتلند» … وبعض الناس هناك يعرفونني، وأخذت أقصُّ عليهم ما حدث لي، ولكن أحدًا لم يصدق «جانسن» العجوز … وكل ما فعلوه لي أنهم أعادوني إلى «برجن».
قال الرجل: وأخذت تقص تخاريفك على كل من يصادفك.
جانسن: أؤكد لك يا سيدي أن كل ما قلته لك صحيح … إنني تجاوزت السبعين من عمري، ولكن عقلي ما زال قويًّا.
هز الرجل رأسه وقال: وهذه هي المشكلة.
جانسن: أي مشكلة يا سيدي؟!
رد الرجل: المشكلة أن ما قلته صحيح يا «جانسن» … ومن حسن الحظ أن الناس لم تصدقك، وإلا تعرضنا لمتاعب ضخمة.
جانسن: إنني لا أفهم يا سيدي!
الرجل: ليس مهمًّا أن تفهم.
جانسن: إنني رجل عجوز أيها السيد … سوف أموت قريبًا، فدعني أعود إلى كوخي الصغير!
الرجل: كيف عرفت أنك ستموت قريبًا؟
جانسن: ألست رجلًا عجوزًا؟
الرجل: ولكنك لن تموت بالشيخوخة يا «جانسن». حدث شيء غير متوقع في هذه اللحظة … فقد أدرك «جانسن» العجوز ما سيحدث له، وقرر ألا يستسلم … وبسرعة وببراعة لا تتناسبان مع عمره وشكله، سحب الكرسي من تحته، ثم قذفه بسرعة في وجه الرجل الذي يمسك بالبطارية … وساد الظلام، وارتفعت اللعنات وسمع «أحمد» و«عثمان» صوت الأقدام وهي تجري وتتعثر في ظلام المخزن الكبير … ثم انطلقت بضع رصاصات، وسمعوا صوت سقوط جسم على الأرض، ثم أضيئت بطارية ثانية.
وفي نفس الوقت ارتفع في السكون الذي أعقب المعركة صوتُ سيارة تقترب من المخزن ثم تقف … وأدرك «أحمد» و«عثمان» أنهما في خطر شديد، فسوف يكشف القادمون المكان الذي يقفان فيه خارج المخزن … وبسرعة زحفا مبتعدين … توقفت السيارة ونزل منها رجلان، أسرعا إلى المخزن … وسمع «أحمد» و«عثمان» صوت رجال يتحدثون، ثم دار محرك السيارة الأولى، ثم الثانية، وأخذتا تبتعدان، قبل أن يتمكن «أحمد» أو «عثمان» من اللحاق بهما.
قال «عثمان»: لقد انتهى «جانسن».
أحمد: سنبحث عنه … لعله لم يمت بعد ونستطيع إنقاذه.
وأسرعا إلى داخل المخزن، انطلق شعاع من بطارية «عثمان»، وسرعان ما عثرا على «جانسن» ملقى على الأرض، في طرف المخزن … وانحنى «عثمان» عليه، بينما أرهفَ «أحمد» السمعَ، ثم قال: «عثمان»! … سيارة شرطة مقبلة!
ووقف «عثمان» على الفور، وقد أدرك أنهما في مأزق … فلو عثر عليهما رجال الشرطة في هذا المكان مع «جانسن»، لما أمكنهما الدفاع عن نفسيهما.
وقال «أحمد»: هيا سريعًا!
وأسرعا يخرجان من المخزن، بينما سيارة الشرطة تقترب، وقد ارتفع منها صوت «السارينة» وانطلقت كشافاتها تكشف المكان.
سقط شعاع من سيارة الشرطة على سيارة «أحمد» و«عثمان»، وتوقف رجال الشرطة عندها، ونزل ثلاثة منهم بينما بقي الرابع في السيارة، وأخذ الرجال يطوفون حول السيارة، ثم اتجهوا إلى المخزن، ودخلوا … وبعد لحظات سمع «أحمد» و«عثمان» أصواتًا مرتفعة، ثم ظهر أحد رجال الشرطة، وأسرع إلى السيارة وأخذ يتحدث في اللاسلكي.
كان الموقف حرجًا … هناك جريمة قتل، وسيارة «أحمد» و«عثمان» التي استأجراها … وهما مختبئان … وسوف تنقلب «برجن» كلها ضدهما، وسوف يتعرضان لمتاعب لا حدَّ لها.
كان في إمكانهما أن يسلما نفسيهما لرجال الشرطة ويشرحا كل شيء … ولكن المشكلة كانت أنهما لن يضمنا أن يتركهما رجال الشرطة بعد ذلك، على الأقل لمدة يوم أو يومين، لحين التحقق من صحة أقوالهما، أو العثور على القتلة الحقيقيين … وستأتي السفينة التي سيبحران عليها «الوايت إيجل»، فإذا لم يركبا في الموعد المناسب، فسوف تنهار خطة رقم «صفر» كلها.
لم يكن أمامهما إلا الهرب … فأخذا يسيران بهدوءٍ وحذرٍ مبتعدين عن المكان … كانت المسافة طويلة بينهما وبين المدينة، ولكن لم يكن هناك بدٌّ من السير … واستمرا يسيران حتى مضت أكثر من ساعة قبل أن يعثرا على تاكسي يركبانه، ثم طلبا منه التوجه إلى قلب المدينة … وبعيدًا عن الفندق نزلا، وأسرعا إلى هناك.
كان «بو عمير» و«فهد» و«قيس» هناك … وما كادا يدخلان حتى صاح «بو عمير»: أين أنتما؟!
رد «عثمان»: إن الأمور تطورت تطورًا سيئًا.
بو عمير: كيف؟!
رد «عثمان»: إننا متهمان بالقتل.
ساد الصمت بعد هذه الجملة، ثم قال «بو عمير»: كيف حدث هذا؟!
أخذ «عثمان» يروي لهما ما حدث، بينما استغرق «أحمد» في تفكيرٍ عميقٍ، وعندما انتهى «عثمان» من روايته، قال «بو عمير»: يجب أن نغيِّر مكاننا فورًا … فسوف يبحث رجال الشرطة عن مكتب تأجير السيارات، وسوف يُعثَر عليكما سريعًا …
أحمد: معك حق … هيا بنا …
نزل الخمسة مسرعين … تركوا ثيابهم، ولم يأخذوا معهم سوى الأدوات والأسلحة التي سيحتاجون إليها على السفينة … ولم يبتعدوا عن الفندق بأكثر من خطوات قليلة، حتى شاهدوا سيارة الشرطة وقد وقفت أمام الفندق، ونزل منها مجموعة من الضباط … أدركوا أن المطاردة قد بدأت، وأن عليهم أن يجدوا وسيلة يقضون بها هذا الليل البارد، قبل أن تأتي السفينة في الفجر … وأخذوا يبتعدون مسرعين … دون أن يعرفوا إلى أين يذهبون.