مدينة صغيرة في كهف كبير!
حدد القبطان «يروف» و«أحمد» و«عثمان» خط سيرهما في القارب الصغير، بقدر المعلومات التي قالوها له نقلًا عن «جانسن» … وحملا معهما بعض الخرائط الملاحية، وبوصلة، وطعامًا، وأسلحة … كان «عثمان» و«أحمد» صديقين، وكل منهما قريب من الآخر، ويفهمه سريعًا، وكانا يدركان أنهما يواجهان الموت معًا هذه المرة، بشكل لم يسبق له مثيل … فإن اكتشاف وجودهما في القارب قرب الجزيرة لن يكون له جزاء إلا طلقة مدفع، تقضي عليهما في لحظة … لكن الواجب هو الواجب … وهكذا أخذا يجدفان سريعًا … لقد قدَّر القبطان «يروف» المسافة بنحو ثلاثين ميلًا، يمكن أن يقطعاها في ساعتين، أي أنهما يمكن أن يصلا إلى شاطئ الجزيرة قرب الثانية بعد منتصف الليل … والظلام يناسبهما أكثر، فمن الواضح من حديث «جانسن» أن شواطئ الجزيرة ليست كلها محروسة، وفي إمكانهما التسلل إليها من مكان مناسب.
ظلا يجدفان فترة في الظلام الدامس والبرد القارس، ولم يكن هناك بصيص من نور هنا أو هناك، في هذه المنطقة الموحشة من بحر الشمال … ولكن تقدير القبطان «يروف» كان دقيقًا، فعندما أشرفت الساعة على الثانية، شاهدا ما يشبه الفنار … ضوءًا متقطعًا يمسح البحر ويختفي واتجها إليه.
وبعد نصف ساعة، كانا قد اقتربا تمامًا من شاطئ الجزيرة وحسب الأوصاف التي سمعاها من «جانسن»، كان الاحتمال الأكبر أنهما قد عثرا على جزيرة «القرصان».
أخذا يهدئان من سرعة القارب، ويقتربان من الجزيرة في حذر شديد … وسرعان ما اختارا مكانًا بدا ساكنًا تمامًا، بجوار سور يشبه سور القلعة، واقتربا ثم ربطا القارب في صخرة كبيرة، يمكن أن تخفي القارب، ثم تسللا، بعد أن حملا بعض الأسلحة الخفيفة إلى الشاطئ الأسود.
قال «عثمان» هامسًا: إنني لا أرى المدمرة هنا!
أحمد: هذا يعني أن خطة رقم «صفر» قد نجحت … فقد تسربت الأنباء إلى «القرصان» عن السفينة «وايت إيجل»، فخرجت المدمرة لتسرق الشحنة.
عثمان: إنها فرصة.
وقبل أن يكمل جملته، سمعا صوتًا يحمله الريح إليهما، فانبطحا على الأرض … كان صوت شخصين يتحدثان، ولكن لم يكن في الإمكان تبين الكلمات … وظل الرجلان يقتربان، ثم سمع «أحمد» و«عثمان» صوت كلب ينبح، فأدركا أن هناك حارسين ومعهما كلب … وخطر لهما معًا أن الكلب سوف يشم رائحتهما سريعًا، عندما يمر بهما الرجلان، وهو لم يستطع شم الرائحة الآن لأنه كان يسير في اتجاه الريح.
ظلا رابضَيْن … وهمس «أحمد»: تعالَ نعود إلى القارب.
ولكن قبل أن يتحركا، كانا الحارسان قد أصبحا على بعد أمتار منهما … ويبدو أنهما سارا في طريق مختصر بين الصخور، فوصلا بأسرع مما توقع «أحمد» و«عثمان»، نبح الكلب بشدة، واتجه جريًا إلى حيث مكان «عثمان» و«أحمد»، وانطلق كشافان عاليان في نفس الوقت من يد الحارسين … وصاح أحدهما: لا تتحركا.
لقد استطاع أن يرى «أحمد» و«عثمان» وهما يقفان … كان «أحمد» و«عثمان» يفكران بنفس الطريقة … إن في إمكانهما التغلب على الرجلين، وهكذا انطلقت رصاصتان في وقتٍ واحد، كسرتا الكشافين وساد الظلام … ولم يطاوع قلب «عثمان» أن يقتل الكلب، الذي انقضَّ عليهما، فاكتفى بضربه بهراوة من الرصاص، ضربة قوية على رأسه، سقط الكلب على إثرها ساكنًا.
أسرع «أحمد» و«عثمان» يقفزان من مكانهما، فقد انطلق سيل من الرصاص … وفي لحظات كانا قد دارا حول الحارسين، وانقضَّ «أحمد» على الأول من الخلف، فأداره أمامه، ثم وجَّه إليه لكمةً ساحقةً طوَّحت به على الأرض … بينما كان «عثمان» قد أمسك الآخر من ذراعه، ثم لواه بشدة حتى اضطره إلى الركوع على ركبتيه، ثم تقدَّم «أحمد»، فوضع على فمه شريطًا لاصقًا حتى لا يصرخ. ثم قيَّداه وألقياهما معًا بجوار الصخرة.
تسلقا الصخور، حتى وصلا إلى السور الكبير، الذي يحيط بالنصف الجنوبي من الجزيرة … وكم كانت دهشتهما أن شاهدا أن السور يحيط بوادٍ عميقٍ من صنع الطبيعة، وفي وسط هذا الوادي، الذي يهبط إلى أسفل نحو ثلاثين مترًا، كانت هناك مدينة صغيرة، قد ظهرت فيها الأنوار الخافتة.
قال «أحمد»: يا لها من مفاجأة!
عثمان: إنها شيء يُذكِّرنا بالمدينة التي عثرنا عليها يومًا في الصحراء الكبرى!
أحمد: نعم … في مغامرة الرجل الذي سرق الشمس.
عثمان: ماذا ترى؟
أحمد: سننتقل إليها.
ونزلا السلالم الحجرية، وسارا حتى أشرفا على المدينة الصغيرة … كانت مجموعة من المباني، بعضها بُني بالصخور والبعض بالألومنيوم … وفي وسطها وقف قصرٌ عظيمٌ يشمخ على ما حوله.
سارا في الظلام عبر الطرقات الضيقة الصامتة … كان هدفهما القصر … ففي هذا المكان بالتأكيد يعيش زعيم عصابة «القرصان» … ولكنهما عندما اقتربا من القصر تمامًا، وجدا أنه محاط بسور من الحديد والأسلاك الشائكة … وأخرج «أحمد» من جيبه مِفكًّا صغيرًا وضع طرَفه على السور، وسرعان ما أضاءت لمبة صغيرة في مقبض المِفك، وعرف أن السور تسري فيه شحنة كهرباء صاعقة.
أخذا يدوران حول السور المكهرب، فلاحظا أنه ليس هناك حراس … ويبدو أن العصابة اكتفت بكهربة السور فهم واثقون أن لا أحد سيتسلل إلى الجزيرة المهجورة، التي لا يعرفها أحد … ولكن هذا الوهم تبدد سريعًا، فعندما مرَّا أمام أحد الأبواب، انفتح الباب فجأة، وكان واضحًا أنهما داسا على شيء أمام الباب يفتحه أوتوماتيكيًّا، وسقط عليهما ضوء قوي … وقبل أن يتمكَّنا من عمل شيء، ظهرت مجموعة من فوهات المدافع الرشاشة، وسمعا صوتًا يقول: لا تتحركا.
لم يكن في إمكانهما عمل شيء، فوقفا في مكانهما … وعاد الصوت يقول: اقتربا.
اقتربا من الباب، وظهر رجل في ضوء الفجر الشاحب، وقال بصرامة: من أنتما؟
لم يرد «أحمد» ولا «عثمان»، فقال الرجل: ادخلا.
دخلا من الباب إلى ساحة واسعة، على يمينها ثلاث غرف كبيرة، قادهما الرجل إلى إحداها، ثم أغلق الباب … ووجدا حارسين مسلحين، قاما بتفتيشهما بسرعة، وجرَّداهما من كل الأسلحة التي يحملانها، عدا الأسلحة السرية الصغيرة المربوطة على السيقان، والتي لا يصل إليها أحد.
قال الرجل: أظن أنهما سيبقيان حتى الصباح.
رد الآخر: الكابتن «مورجان» سيستيقظ بعد قليل … وكما هي عادته، يجب أن يقوم لرحلات الصيد مبكرًا، ولكن عليه أن يستجوبهما.
رنت كلمتا «الكابتن» «مورجان» في آذان «أحمد» و«عثمان» رنينًا عجيبًا، فالكابتن «مورجان» هو أخطر قرصان ظهر في القرن الماضي … فما هي علاقة هذا بذاك؟
ودون كلمة أخرى، اقتادهما الحارس إلى غرفة داخلية، تطل على فناء القصر الداخلي، ثم أغلق عليهما الباب …
كانت غرفة صغيرة بها فراشان وحمام … وكان «أحمد» و«عثمان» جائعين، فصاحا بالحارس: هل من طعام؟
ردَّ الحارس: شاي وبعض البسكويت فقط.
أحمد: شكرًا لك … إننا نكاد نهلِك جوعًا.
بعد دقائق، جاء الحارس بالشاي وبالبسكويت … وفي ثوانٍ قليلة، كان «أحمد» و«عثمان» قد انتهيا من طعامهما الخفيف، ثم استلقيا كلٌّ على فراشه، ووضعا عليهما الأغطية الثقيلة، واستسلما للنوم … فقد كان أمامهما يوم شاق.
لا يدري «أحمد» و«عثمان» كم ناما، ولكنهما استيقظا على صوت الحارس، وضوء الشمس الضعيف يتسلل من النوافذ … ودون كلمة واحدة، فتح الباب، ثم أشار لهما بأن يتبعاه.
سارا في الدهليز الطويل إلى فناء القصر، ثم قطعا الفناء، ودخلا من باب جانبي، كانت السُّحب الدكناء تملأ السماء، والجو يُنذر بعاصفةٍ رهيبةٍ … ولكن القصر من الداخل كان يُشع بالدفء والفخامة.
وأمام أحد الأبواب، قال الحارسُ لحارسٍ آخر: هذان هما الشابان اللذان تسللا إلى الجزيرة، ولقد طلب الكابتن «مورجان» أن يراهما بنفسه.
دق الحارس الباب ودخل، وبعد لحظات عاد وأشار لهما أن يتبعاه، ودخلا إلى غرفة صغيرة قد حفلت بالكتب جلس فيها شاب طويل القامة، مفتول العضلات، قام بفتح باب آخر بجواره، ثم أشار لهما بالدخول، وقال: الكابتن «مورجان» في انتظاركما.
دخل «عثمان» و«أحمد» إلى غرفة واسعة، قد صممت بحيث تشبه كابينة في سفينة شراعية … وقد علقت على جدرانها أنواع من الأسلحة القديمة، وفي الوسط وقف رجل، عندما شاهداه تسمرا في مكانيهما.