القشور واللباب
ما شربتُ كأسًا علقميَّة إلَّا كانت ثُمالتها عسلًا.
ومَا صعدتُ عقبة حرجة إِلا بلغتُ سهلًا أخضر.
وما أضعتُ صديقًا في ضباب السماء إلا وجدتُه في جلاء الفجر.
وكم مرة سترتُ ألمي وحرقتي برداء التجلد متوهمًا أن في ذلك الأجر والصلاح، ولكنني لما خلعت الرداء رأيت الأمل قد تحول إلى بهجة والحرقة قد انقلبتْ بردًا وسلامًا.
وكم سرت ورفيقي في عالم الظهور فقلتُ في نفسي: ما أحمقَه وما أبلَدَه، غير أنني لم أبلغ عالَم السر حتى وجدتُني الجائر الظالم وألفيته الحكيم الظريف.
وكم سكرتُ بخمرة الذات فحسبتُني وجليسي حَمَلًا وذئبًا، حتى إذا ما صحوت من نشوتي رأيتني بشرًا ورأيته بشرًا.
أنا وأنتم أيها الناس مأخوذون بما بان من حالنا، متعامون عما خفِي من حقيقتنا. فإن عَثَر أحدُنا قلنا: هو الساقِطُ، وإن تَمَاهَلَ قُلنا: هو الخَائِر التلِف، وإن تَلَعْثَمَ قلنا: هو الأخرس، وإن تَأَوَّهَ قلنا: تلك حَشَرجَةُ النَّزعِ فهو مائِتٌ.
أنا وأنتم مشغوفون بقشور «أنا» وسطحيَّات «أنتم»؛ لذلك لا نُبصرُ ما أَسَرَّهُ الروحُ إلى «أنا» وما أخفاهُ الروح في «أنتم».
وماذا عسى نفعل ونحن بما يساورنا من الغرور غافلون عما فينا من الحق؟
أقول لكم، وربما كان قولي قناعًا يغشي وجه حقيقتي، أقول لكم ولنفسي: إن ما نراه بأعيننا ليس بأكثر من غمامة تحجب عنا ما يجب أن نشاهده ببصائرنا. وما نسمعه بآذاننا ليس إلا طنطنة تشوش ما يجب أن نستوعبه بقلوبنا. فإن رأينا شرطيًّا يقود رجلًا إلى السجن علينا ألَّا نجزم في أيهما المجرم. وإن رأينا رجلًا مُضرَّجًا بدمه وآخر مخضوب اليدين فمن الحَصافة ألا نُحتِّم في أيهما القاتل وأيهما القتيل. وإن سمعنا رجلًا يُنشد وآخر يندُب فلنصبر ريثما نَتَثَبَّت أيهما الطروب.
لا، يا أخي، لا تستدل على حقيقة امرئ بما بان منه، ولا تتخذ قول امرئ أو عملًا من أعماله عنوانًا لطويته. فرُب من تستجهله لِثِقَلٍ في لسانه وركاكة في لَهْجَتِهِ، كان وجدانُه منهجًا للفِطَنِ وقلبه مهبطًا للوحي. ورُبَّ من تحتقره لدمامةٍ في وجهه وخساسة في عَيْشِهِ، كان في الأرض هبةً من هبات السماء وفي الناس نفحة من نفحات الله.
قد تزورُ قصرًا وكوخًا في يوم واحد، فتخرج من الأول مُتَهَيِّبًا ومن الثاني مشفقًا؛ ولكن، لو استطعت تمزيق ما تحوكه حواسك من الظواهر لَتَقَلَّصَ تَهَيُّبُكَ وَهَبَطَ إِلَى مُسْتَوَى الأسف، وانبدلت شفقتك وتصاعدت إلى مرتبة الإجلال.
وقد تلتقي بين صباحك ومسائك رجلين فيخاطبُك الأول وفي صوته أهازيج العاصفة وفي حركاته هول الجيش؛ أما الثاني فيحدثك متخوفًا وجلًا بصوت مرتعش وكلمات متقطعة، فتعزو العزم والشجاعة إلى الأول، والوهن والجبن إلى الثاني. غير أنك لو رَأَيْتَهُمَا وقد دَعَتْهُمَا الأيام إلى لقاء المصاعب، أو إلى الاستشهاد في سبيل مبدأ لعلمتَ أن الوقاحة المبهرجة ليست ببسالة والخجل الصامت ليس بجبانة.
وقد تنظر من نافذةِ منزلك فترى بين عابري الطريق راهبةً تسير يمينًا ومومسًا تسير شمالًا؛ فتقول على الفور: ما أنبل هذه وما أقبح تلك! ولكنك لو أغمضتَ عينيك وأصغيت هنيهة لسمعت صوتًا هامسًا في الأثير قائلًا: هذه تنشُدُني بالصلاة وتلك ترجوني بالألم، وفي روح كل منهما مظلَّة لروحي.
وقد تطوف في الأرض باحثًا عما تدعوه حضارة وارتقاءً، فتدخل مدينة شاهقة القصورِ فخمة المعاهد رحبة الشوارع، والقوم فيها يتسارعون إلى هنا وهناك؛ فذا يخترق الأرض، وذاك يُحلِّق في الفضاء، وذلك يَمْتَشِقُ البرقَ، وغيره يَسْتَجِوبُ الهواء، وكلهم بملابس حسنة الهندام، بديعة الطراز، كأنهم في عيد أو مهرجان.
وبعد أيام يبلغ بك المسير إلى مدينة أخرى حقيرةِ المنازل ضيقة الأزقة إذا أمطرتها السماء تحولت إلى جُزُرٍ مِن المَدَر في بحر من الأوحال. وإن شخصت بها الشمس انقلبت غيمة من الغبار. أما سُكانها فما بَرِحوا بين الفِطرَةِ والبساطة كَوَتَرٍ مُسْتَرْخٍ بين طرفي القوس. يسيرون متباطئين ويعملون متماهِلين وينظرون إليك كأن وراء عيونهم عيونًا تحدق إلى شيء بعيد عنك، فترحَل عن بلدهم ماقتًا مشمئزًّا قائلًا في سرك: إنما الفرق بين ما شَهدته في تلك المدينة وما رأيته في هذه لَهُوَ كالفرقِ بَينَ الحياة والاحتضار. فهناك القوة بمدها وهنا الضعف بجزره. هناك الجِد ربيع وصيف وهنا الخمول خريف وشتاء. هناك اللجاجة شباب يرقص في بستان وهنا الوَهَنُ شيخوخةٌ مُسْتَلْقِيَةٌ على الرماد.
ولكن، لو استطعتَ النظرَ بنور الله إلى المدينتين لرأيتهما شجرتين متجانستين في حديقة واحدة. وقد يمتد بك التَّبَصُّرُ في حقيقتهما فترى أن ما توهمته رقيًّا في إحداهما لم يكن سوى فقاقيع لمَّاعة زائلةٍ، وما حسبتَهُ خمولًا في الأخرى كان جوهرًا خفيًّا ثابتًا.
لا ليست الحياة بسطوحها بل بخفاياها، ولا المرئيَّات بقشورها بل بلبابها، ولا الناس بوجوههم بل بقلوبهم.
لا، ولا الدين بما تظهره المعاهد وتبينه الطقوس والتقاليدُ، بل بما يختبئ في النفوس ويتجوهرُ بالنياتِ.
لا، ولا الفنُّ بما تسمعه بأذنيك من نبرات وخفضات أغنية، أو مِن رنات أجراس الكلام في قصيدة، أو بما تبصره بعينيك من خطوط وألوان صورة؛ بل الفن بتلك المسافات الصامتة المرتعشة التي تجيء بين النبرات والخفضات في الأغنية، وبما يتسرَّب إليك بواسطة القصيدة مما بقي ساكتًا هادئًا مستوحشًا في روح الشاعر، وبما تُوحيه إليك الصورة فترى وأنت محدق إليها ما هو أبعد وأجمل منها.
لا، يا أخي، ليست الأيام والليالي بظواهِرِها. وأنا، أنا السائرُ في موكب الأيام والليالي، لست بهذا الكلام الذي أطرحه عليك إلا بِقَدْرِ ما يحمله إليك الكلام من طويتي الساكنة. إذن لا تحسبني جاهلًا قبل أن تفحص ذاتي الخفية، ولا تتوهمني عبقريًّا قبل أن تجردني من ذاتي المُقْتَبَسَة. لا تَقُل: هو بخيل قابضُ الكفِّ قبل أن ترى قلبي، أو هو الكريم الجواد قبل أن تعرف الواعِزَ إلى كرمي وَجُودِي. لا تَدْعُنِي محبًّا حتى يتجلى لك حبي بكل ما فيه من النور والنار، ولا تَعدَّني خَليًّا حتى تلمُسَ جراحِي الدامية.