البحر الأعظم
بالأمس — وما أبعدَ الأمس وما أقربه! — ذهبتُ ونفسي إلى البحر الأعظم لنغسل بمائه ما علِق بنا من غبار الأرض وأوحالها.
ولما بلغنا الشاطئ طفقنا نبحث مكان خالٍ يحجُبُنا عن العيون.
وبينما نحن سائران التفتنا فإذا برجل جالس على صخرة غبراء وفي يده كيس يأخذ منه الملح قبضة بعد قبضة ويطرحها في البحر.
فقالت لي نفسي: هو ذا المتشائم الذي لا يرى من الحياة سوى ظلها، وليس المتشائم بخليق أن يرى جسدينا العاريين، فلنغادر هذا المكان إذ لا سبيل إلى الاستحمام ها هنا.
فتركنا ذلك المكان وتابعنا المسير حتى وصلنا إلى خور في الشاطئ، فإذا برجل واقف على صخرة بيضاء وفي يده صندوقة مرصعة بالجواهر وهو يتناول منها قطعًا من السكر ويرمي بها في البحر.
فقالت لي نفسي: «هو ذا المتفائل الذي يستبشر بما لا بُشرَ فيه، وحذار من المتفائلين أن يروا جسدينا العاريين».
فعدنا نواصل السير حتى عثرنا على رجل واقف بقرب الشاطئ يلتقط الأسماك الميتة ويعيدها بحنو إلى البحر.
فقالت لي نفسي: «وهذا هو الشفوق الذي يحاول إرجاع الحياة لمن في القبور، فلنبتعد عنه».
ثم انتهينا إلى حيث رأينا رجلًا يرسم خياله على الرمال فتجيء الأمواج وتمحو ما رسمه وهو يتابع عمله المرة بعد الأخرى.
فقالت لي نفسي: «هو ذا المتصوف الذي يقيم في أوهامه صنمًا ليعبده، فلندعه وشأنه».
ومشينا إلى أن أبصرنا في خليج هادئ رجلًا يكشط الزبد عن سطح الماء ويضعه في إناءٍ من العقيق.
فقالت لي نفسي: «هو ذا الخيالي الذي يحوك من خيوط العنكبوت رداء ليلبسه، وهو ليس بجدير أن يرى جسدينا عاريين».
فتابعنا السير وإذا بنا نسمع صوتًا هاتفًا: «هو ذا البحر العميق، هو ذا البحر الهائل العظيم».
فبحثنا عن مصدر الصوت فرأينا رجلًا واقفًا مديرًا ظهره إلى البحر وقد وضع صدفة على أذنه وهو يصغي إلى دمدمتها.
فقالت لي نفسي: «سر بنا فهذا هو الدهري الذي يدير ظهره إلى كليَّات لا يستطيع الإحاطة بها، ويشغل ذاته بجزئيات تستميل كليته».
فسرنا إلى أن رأينا في مَعشَبَةٍ رجلًا بين الصخور وقد دفن رأسه في الرمال.
فقلت لنفسي: «هلمِّي يا نفس نستحم ها هنا، فهذا الرجل لا يستطيع أن يبصرنا».
فهزت نفسي رأسها قائلة: «لا وألف لا، إن من تراه هو شر الناس أجمعهم؛ هو التقي النقي الذي يحجب نفسه عن مأساة الحياة، فتحجب الحياة مسرَّاتها عن نفسه».
حينئذ ظهر على وجه نفسي حزن عميق، وبصوت تقطعه المرارة قالت: «لنذهبنَّ من هذه الشواطئ. فليس هنا مكان خفي محجوب نستطيع أن نستحم به. وأنا لا أرضى أن أسرِّح غدائري الذهبية في هذه الريح، أو أن أكشف صدري البض أمام هذا الفضاء، أو أن أتجرد وأقف عارية أمام هذا النور».
فغادرتُ ونفسي ذلك البحر العظيم، وسرنا ننشد البحر الأعظم.