ابن سينا وقصيدته
ليس بين ما نظمه الأقدمون قصيدة أدنى إلى مُعتقدي وأقرب إلى ميولي النفسية من قصيدة ابن سينا في النَّفْسِ.
في هذه القصيدة النبيلة قد وضع «الشيخ الرئيس» أبعد ما يُراود فكرة الإنسان، وأعمق ما يلازم خياله من الأماني التي تُولِّدها المعرفة، والسؤالات التي يثمرها الرجاء، والنظريات التي لا تصدر إلا عن التفكر المستمر والتأمَّلات الطويلةِ.
وليس من الغرائب صدور هذه القصيدة عن وجدان ابن سينا وهو نابغة زمانه، ولكن، من الغرائب أن تكون مظهرًا لرجل صرف عمره مستقصيًا أسرار الأجسام ومزايا الهيولي، فكأني به قد بلغ خفايا الروح عن طريق المادة، وأدرك مكنونات المعقولات بواسطة المرئيَّات، فجاءت قصيدته هذه برهانًا نيِّرًا على أن العلم هو حياة العقل يتدرَّج بصاحبه من الاختبارات العملية إلى النظريات العقلية، إلى الشعور الروحي، إلى الله.
قد يجد المُطالع في ما نظمه كبار شعراء الغربيين مقاطع متفرقة تُذكره بهذه القصيدة السامية. ففي روايات شكسبير الخالدة أبيات لا تختلف بمعانيها عن قول ابن سينا:
وفي أقوال تشلي ما يماثل:
وفي تأملات غوتي ما يُضارع:
وفي ما قاله براونن ما يضاهي:
ولكن «الشيخ الرئيس» قد تقدم جميع هؤلاء بقرون عديدة. فوضع في قصيدة واحدة ما هبط بصور متقطعة على أفكار مختلفة في أزمنة مختلفة. وهذا ما يجعله نابغة لعصره وللعصور التي جاءت بعده، ويجعل قصيدته في النفس أبعد وأشرف ما نظم في أشرف وأبعد موضوع.