سفينة في ضباب
هذا حديث رجل جمعنا في منزله المنفرد القائم على كتف وادي قاديشا في ليلة مغمورة بالثلوج مرتعشة بالأهوية.
قال محدثنا وهو ينبش رماد الموقد بطرف قضيب كان بيده: تريدون، يا رفاقي، أن أعلن لكم سرَّ كآبتي.
تريدون أن أحدثكم عن المأساة التي تعيد الذكرى تمثيلها في صدري كل يوم وكل ليلة.
لقد مللتم سكوتي وتكتمي. وضجرتم من تنهدي وتململي. وقال بعضكم لبعض: إذا كان لا يدخلنا هذا الرجل إلى هيكل أوجاعه فكيف نستطيع الدخول إلى بيت مودته؟
أنتم مصيبون يا رفاقي. فمن لا يساهمنا الألم لن يشركنا في شيء آخر.
فاسمعوا إذن حكايتي. اسمعوا ولا تكونوا مشفقين، فالشفقة تجوز على الضعفاء وأنا لم أزل قويًّا بكآبتي.
منذ فجر شبابي وأنا أرى في أحلام يقظتي وأحلام نومي طيف امرأة غريبة الشكل والمزايا. كنت أراها في ليالي الوحدة واقفة قرب مضجعي. وكنت أسمع صوتها في السكينة. وكنت في بعض الأحيان أغمض عينيَّ وأشعر بملامس أصابعها على جبهتي فأفتح عينيَّ وأهُبُّ مذعورًا مصغيًا بكل ما بي من المسامع إلى همس اللا شيء.
وكنت أقول لذاتي: هل تطوَّح بي خيالي حتى ضِعت في الضباب؟ هل صنعت من أبخرة أحلامي امرأةً جميلة الوجه عذبة الصوت لينة الملامس لتأخذ مكان امرأةٍ من الهَيُولي؟ هل خُولِطتُ بعقلي فاتخذت من ظلال عقلي رفيقة أحبها وأستأنس بها وأركن إليها وأبتعد عن الناس لأقترب منها، وأُغلق عيني ومسامعي عن كل ما في الحياة من الصور والأصوات لأرى صورتها وأسمع صوتها؟ أمجنونٌ أنا يا ترى؟ أمجنون لم يكتفِ بالانصراف إلى العزلة، بل ابتدع له مِن أشباح العزلة رفيقة وقرينةً؟
قلت: «قرينة» وأنتم تستغربون هذه اللفظة. ولكن، هناك بعض الاختبارات التي نستغربها بل وننكرها؛ لأنها تظهر لنا بمظاهر المستحيل. ولكن استغرابنا ونكراننا لا يمحوان حقيقتها في نفوسنا.
لقد كانت تلك المرأة الخيالية قرينة لي، تساهمني وتبادلني كل ما في الحياة من الميول والمنازع والأفراح والرغائب، فلم أستيقظ صباحًا إلا رأيتها متكئة على مساند سريري وهي تنظر إليَّ بعينين يملأهما طهر الطفولة وعطف الأمومة. ولم أحاول عملًا إلا ساعدتني على تحقيقه. ولم أجلس إلى مائدة إلا جلستْ قُبالتي تحدثني وتبادلني الآراء والأفكار. وما جاء مساءٌ إلا اقتربت مني قائلةً: قم بنا نَسِر بين التلول والمنحدرات، كفانا الإقامة في هذا المنزل. فأترك إذ ذاك عملي وأسير قابضًا على أصابعها، حتى إذا ما بلغنا البرية المُتَّشِحَة بنقاب المساء المغمورة بسحر السكون نجلس جنبًا إلى جنب على صخرة عالية محدقين إلى الشفق البعيد. فكانت تارةً تومئ إلى الغيوم المذهبة بأشعة الغروب، وطورًا تسترعي سمعي إلى تغريد الطائر يبعث صوته تسبيحة شكر وطمأنينة قبيل أن يلتجئ إلى الأغصان للمبيت.
وكم مرة دخلتْ عليَّ وأنا أشتغل في غرفتي قلِقًا مضطربًا فلا تلمحها عيني حتى يتحول قلقي إلى الهدوء، واضطرابي إلى الائتلاف والاستئناس.
وكم لقيتْ الناس في روحي جيش يزحف متمردًا على ما أكرهه في نفوسهم، ولكنني ما تبينت وجهها بين وجوههم إلا انقلبت الزوبعة في باطني إلى أنغام علوية.
وكم جلست منفردًا وفي قلبي سيف من ألم الحياة ومتاعبها وحول عنقي سلاسل من مشاكل الوجود ومعضلاته، ثم ألتَفِتُ فأراها واقفة أمامي محدقة إلي بعينين تفيضان نورًا وبهاء فتنقشع غيومي ويتهلل قلبي وتبدو الحياة لبصيرتي جنة أفراح ومسرات.
وأنتم تسألون، يا رفاقي، ما إذا كنتُ مقتنعًا بهذه الحالة الشاذة الغريبة. تسألون ما إذا كان المرء وهو في عنفوان شبابه، يستطيع الاكتفاء بما تدعونه وهمًا وخيالًا وحلمًا بل وعلةً نفسية؟
أقول لكم: إن الأعوام التي صرفتُها في تلك الحالة لهي زُبدة ما عرفته في الحياة من الجمال والسعادة واللذة والطمأنينة. أقول لكم: إنني كنت ورفيقتي الأثيرية فِكرة مطلقة مجردة تطوف في نور الشمس، وتطفو على وجه البحار، وتسعى في الليالي المقمرة، وتَتَهَلَّل بأغانٍ ما سمعتها أذن، وتقف أمام مشاهد ما رأتها عين. إن الحياة، كل الحياة، هي في ما نختبره بأرواحنا؛ والوجود، كل الوجود، هو في ما نعرفه ونتحققه فنبتهج به أو نتوجَّع لأجله. وأنا قد اختبرت أمرًا بروحي، اختبرته كل يوم وكل ليلة حتى بلغتُ الثلاثين من عمري.
ليتني لم أبلغ الثلاثين. ليتني مِت ألف مرة ومرة قبل أن أبلغ تلك السنة التي سلبتني لُباب حياتي، واستنزفت دماء قلبي وأوقفتني أمام الأيام والليالي شجرة يابسة عارية مستوحدة، فلا ترقص أغصانها لأغاني الهواء ولا تحوك الأطيار أعشاشها بين أوراقها وأزهارها.
وسكت محدثنا دقيقة وقد ألوى رأسه وأغمض عينيه وأرخى زَنديه إلى جنب مقعده فبان كأنه اليأس مجسَّمًا. أما نحن فبقينا صامتين مترقبين استماع تتمة حديثه. ثم فتح أجفانَه وبصوت مُتقطعٍ خارج من أعماق كيانٍ مكلوم قال: تذكرون، يا رفاقي، أنه منذ عشرين سنة بعثني حاكم هذا الجبل بمهمة علمية إلى مدينة البندقية، وأصحبني برسالة إلى محافظ تلك المدينة الذي كان قد عرفهُ في القسطنطينية.
تركتُ لبنان وأبحرتُ على سفينة إيطالية، وقد كان ذلك في شهر نيسان وروح الربيع ترتعش بين ثنايا الهواء، وتنثني مع أمواج البحر، وتتمثل بصور جميلة متقلبة في الغيوم البيضاء المتلبدة فوق الآفاق. كيف أصف لكم تلك الأيام وتلك الليالي التي صرفتها على ظهر السفينة؟ إن قوة الكلام المتعارف بين البشر لا تتجاوز ما تحويه مدارك البشر وما يشعرون به. وفي الروح ما هو أبعد من الإدراك وأدق من الشعور فكيف أرسمها لكم بالكلام؟
لقد كانت تلك السنون التي صرفتها مع رفيقتي الأثيرية ممنطقة بالأنس والألفة، مغمورة بالسكينة والرضى، فلم يدر في خلدي أن الألم رابض لي وراء حجب سعادتي، وأن المرارة ثمالة راكدة في أعماق كأسي. لا، لم أخشَ قط ذبول زهرة نبتت فوق الغيوم، واضمحلال أنشودة ترنمت بها عرائس الفجر.
ولما تركتُ هذه التلول والأودية كانت رفيقتي جالسة بقربي في المركبة التي حملتني إلى الساحل. وفي الثلاثة الأيام التي قضيتها في بيروت قبيل سفري، كانت قرينتي تذهب حيثما أذهب وتقف عندما أقف، فلم أجتمع بصديق إلا رأيتها تبتسم له، ولم أزُر معهدًا إلا شعرتُ بيدها قابضة على يدي، ولم أجلس مساء في شرفة النُّزل مصغيًا إلى أصوات المدينة إلا شاركتني في التأمل وسَاهَمْتَنِي الْفِكَرَ.
ولكن، لمَّا فصلني الزورق عن ميناء بيروت، في الدقيقة التي وَطِئتُ فيها ظهر السفينة، شعرت بتغيُّر في فضاء روحي، شعرت بيد خفية قوية تتمسك بساعدي وسمعت صوتًا عميقًا يهمس في أذني قائلًا: ارجع، ارجع من حيث أتيت. انزل إلى الزورق وعد إلى شواطئ بلادك قبل أن تبحر السفينة.
وأبحرت السفينة وأنا على ظهرها أشبه شيء بعصفور بين مخالب باشق يسبح محلِّقًا في الخلاء. ولما جاء المساء وقد انحجبت قمم لبنان وراء ضباب البحر، رأيتني واقفًا وحدي على مقدمة السفينة وفتاة أحلامي — المرأة التي أحبها قلبي، المرأة التي رافقت شبابي — لم تكن معي. الصبيَّة العذبة التي كنت أرى وجهها كلما حدَّقتُ إلى الفضاء، وأسمع صوتها كلما أصغيت إلى السكينة، وألمُس يدها كلَّما مددت يدي إلى الأمام، لم تكن على ظهر تلك السفينة. لأول مرة، ولأول مرة وجدتُني واقفًا وحدي أمام الليل والبحر والفضاء.
وبقيت على هذه الحالة أنتقل من مكان إلى مكان مناديًا رفيقتي في قلبي، ناظرًا إلى الأمواج المتقلِّبة لعلي أرى وجهها في بياض الزَّبَد.
وعندما انتصف الليل وقد التجأ ركاب السفينة إلى مراقدهم وبقيتُ أنا وحدي هائمًا ضائعًا مضطربًا، التفتُّ بغتة فرأيتها واقفة في الضباب على بُعد بضع خطوات فانتفضت مرتعشًا ومددت يدي إليها هاتفًا: لِمَ تركتِني؟ … لم تركتِني في وحدتي؟ إلى أين ذهبتِ؟ أين كنتِ يا رفيقتي؟ اقتربي، اقتربي مني ولا تتركيني بعد الآن.
فلم تدنُ مني، بل ظلَّت جامدة في مكانها ثم بدت على وجهها سيماء تَوَجَّع ولهفةٍ ما رأيت أهول منهما في حياتي، وبصوت خافت ضئيل قالت: جئت من أعماق اللجة لأراك لمحة واحدة. وها أنا راجعة إلى أعماق اللجة. ادخل مخدعك وارقُد واحلم.
قالت هذه الكلمات وامتزجَت بالضباب واضمحلت. فطفِقتُ أناديها بلجاجة الطفل الجائع وأبسُط ذراعَيَّ إلى كل ناحية فلا أقبِض إلا على الهواء المثقل بندى الليل.
دخلتُ مخدعي وفي رُوحي عناصر تتقلب وتتصارع وتهبط وتتصاعد، فكنت في جوف تلك السفينة سفينة أخرى في بحر من اليأس والالتباس. وللغرابة أنني لم أُلقِ رأسي على وسائد مضجعي حتى أحسست بثِقَل في أجفاني وبتَخَدُّر في جسدي فنمُتُ نومًا عميقًا حتى الصباح. ولقد رأيت في نومي حُلمًا. رأيت رفيقَتي مصلوبة على شجرة تفاح مُزهرة وقطرات الدماء تَسيل من كفيها وقدميها على غصنَي الشجرة وعُمُدِها ثم تنسَكِب على الأعشاب وتمتزج بأزهار الشجرة المنثورة.
وظلَّت السفينة تسعى الأيام والليالي بين اللُّجَتَيْن وأنا على ظهرها لا أدري ما إذا كنت بشرًا مسافرًا إلى بلد بعيد بمهمة بشرية أم شبحًا تائهًا في فضاء خالٍ إلا من الضباب، فلم أشعر بقرب رفيقتي ولم ألمح وجهها في اليقظة أو في المنام، وباطلًا كنت أنادي مصليًا مبتهلًا للقوى الخفية لتسمعني من مقاطع صوتها، أو لتريني ظلًّا من ظلالها أو تجعلني أشعر بملامس أصابعها على جبهتي.
ومر أربعة عشر يومًا وأنا في هذه الحالة. وعند ظهيرة اليوم الخامس عشر ظهرت عن بُعد شواطئ إيطاليا، وفي مساء ذلك النهار دخلت السفينة ميناء البندقية وجاء قوم بزوارق مطلية بألوان ورسوم بهجة لينقلوا الركاب وأمتعتهم إلى المدينة.
أنتم تعلمون، يا رفاقي، أن البندقية قائمة على عشرات من الجزر الصغيرة المتقاربة، فشوارعها تُرع ومنازلها وقصورها مبنية في الماء، والزوارق هناك تقوم مقام المركبات.
فلما نزلتُ من السفينة إلى الزورق سألني النوتي قائلًا: إلى أين يريد سيدي أن يذهب؟
فلما ذكرت اسم محافظ المدينة نظر إلي باهتمام واحترام وأخذ يضرب الماء بمقذافه.
سار بي الزورق وكان قد جاء الليل وألقى رداءه على المدينة، فظهرت الأنوار في نوافذ القصور والمعابد والمعاهد فانعكست أشعتُها في الماء متلألئة مرتعشة، فبانت البندقية كحُلم شاعر يفتنه الغريب من المشاهد والوهمي من الأماكن. ولم يبلغ بي الزورق إلى منعطف أول ترعة حتى سمعت رنين أجراس لا عداد لها تملأ الفضاء بأنات محزنة متقطعة مخيفة. ومع أنَّني كنت في غيبوبة نفسية تفصلني عن كل المظاهر الخارجية، فقد كانت تلك الطنات النحاسية تخترق لوح صدري كالمسامير.
ووقف الزورق بجانب سُلم حجري تتصاعد درجاته من الماء إلى الرصيف، فالتفت البحري إلي وأشار بيده نحو قصر قائم في وسط حديقة وقال: هذا هو المكان. فصعدت من الزورق وسرت مبطئًا نحو المنزل والبحري يتبعني حاملًا حقيبتي على كتفه، حتى إذا ما بلغت باب المنزل ناولته أجرته وصرفته، ثم طرقت الباب ففُتح لي، وإذا أنا أمام رهط من الخدم مُطأطئي الرؤوس وهم يبكون وينُوحون ويتأوهون بأصوات منخفضة، فاستغربت هذا المشهد واحترت بأمري.
وبعد هنيهة تقدم مني خادم كهل ونظر إلي من وراء أجفان مقروحة وسألني متنهدًا: ماذا يريد سيدي؟ فقلت: أليس هذا منزل محافظ المدينة؟ فحنى رأسه إيجابًا.
فأخرجت، إذ ذاك الرسالة التي أصحبني بها حاكم لبنان وناولته إياها، فنظر في عنوانها صامتًا ثم راح متماهلًا نحو باب في مؤخر ذلك الدهليز.
جرى كل ذلك وأنا بدون فكر ولا إرادة. ثم دنوت من خادمة صبية وسألتها عن سبب حزنهم ونواحهم فأجابت متوجعة: عجبًا، ألم تسمع أن ابنة المحافظ قد ماتت اليوم؟
ولم تزد على هذه الكلمات، بل غمرت وجهها بكفها واستسلمت إلى البكاء.
تأمَّلوا، يا رفاقي، حالة رجل قطع البحار وهو كفكرة سديميَّة ملتبسة أضاعها جبار من جبابرة الفضاء بين الأمواج المزبدة والضباب الرماديِّ. صوِّروا لنفوسكم حالة فتى سار أسبوعين بين عويل اليأس وصراخ اللجة، ولما بلغ نهاية الطريق وجد نفسه واقفًا في باب منزل تتمشَّى في جنباته أشباح التفجع وتملأ قرانيه أنَّات اللوعة. صوروا لنفوسكم، يا رفاقي، رجلًا غريبًا يطلب الضيافة في قصر تخيم عليه أجنحة الموت.
وعاد الخادم الذي حمل الرسالة إلى سيده وانحنى قائلًا: تفضل يا سيدي فالمحافظ ينتظرك.
قال هذا ومشى أمامي فاتبعته حتى إذا ما بلغنا بابًا في نهاية الممشى أومأ إليَّ أن أدخل، فدخلت قاعة واسعة عالية السقف مُنارة بالشموع وقد جلس فيها بعض الوجهاء والكهان وكلهم في سكوت عميق. فلم أكد أخطو بضع خطوات حتى قام من صدر القاعة شيخ ذو لحية بيضاء وقد حنت ظهره الأشجان وثلَّمت وجهه الأوجاع وتقدم نحوي وأخذ بيدي قائلًا: يعز عليَّ أن تأتي من بلاد بعيدة وتجدنا مصابين بأحب من لدينا. ولكني أرجو أن لا يكون مصابنا حائلًا دون إتمام الغرض الذي جئتنا من أجله، فكن مطمئن البال يا ولدي.
فشكرتُ له عطفه مظهرًا أسفي لمصابه ببعض الألفاظ المشوشة.
وقادني الشيخ إلى كرسي بجانب مقعده فجلستُ صامتًا مع الجلَّاس الصامتين أنظر خلسة إلى وجوههم الكئيبة، وأسمع تأوهَهم فتتولد في صدري كُتلات من الضيم واللهفة. وبعد ساعة انصرف القوم الواحد تلو الآخر، ولم يبقَ سواي مع الوالد الحزين في تلك القاعة الخرساءِ، فوقفت إذ ذاك وتقدمت إليه قائلًا: اسمح لي يا سيدي بالانصراف. فقال ممانعًا: لا، يا صديقي، لا تذهب؛ كن ضيفنا إن كان بإمكانك احتمال النظر إلى كآبتنا واستماع أنَّة لوعتنا. فأخجلني كلامه وحنيت رأسي امتثالًا. ثم عاد وقال: أنتم اللبنانيين أبرُّ الناس بالضيف؛ فهلَّا بقيتَ عندنا لنريَك ولو قليلًا مما يلقاه الغريبُ في بلادكم!
وبعد هنيهة قرع الشيخ المنكوب جرسًا فضيًّا فدخل علينا حاجب بملابس مزركشة مقصبة، فقال له الشيخ مشيرًا إليَّ: سِر بضيفنا إلى الغرفة الشرقية، وانظر بشأن مأكله ومشربه، وتولَّ بنفسك شؤونه، وكن ساهرًا على راحته.
فقادني الحاجب إلى غرفة رحبة بديعة الهندسة، فخمة الرياش تغشي جدرانها الرسوم والمنسوجات الحريرية، في وسطها سرير نفيس مغطى باللحف والمساند المطرزة.
تركني الحاجب فارتميت على مقعد أفكر بنفسي ومحيطي وبغربتي ووحدتي ومآتي أول ساعة صرفتها في بلاد قصية عن بلادي.
وعاد الحاجب يحمل طبقًا عليه الطعام والشراب ووضعه أمامي فأكلت قليلًا، ولكن بدون رغبة ثم صرفت الحاجب.
ومرت ساعتان وأنا أتمشى تارة في تلك الغرفة وطورًا أقف في جوانب إحدى نوافذها محدقًا إلى الفضاء مصغيًا إلى أصوات البحارة، وخفْق مقاذيفهم في الماء حتى إذا ما نهكني السهر وتضعضعت فكرتي بين مظاهر الحياة وخفاياها، ارتميت على السرير مستسلمًا إلى غيبوبة تتآلف فيها سكرة الهجوع وصحو اليقظة ويتقلب فيها التذكار والنسيان مثلما يتناوب الشواطئ مدُّ البحر وجزره، فكنتُ كَسَاحَةِ حرب صامتة تتناضل فيها فيالق صامتة ويجندل الموت فرسانها فيقضون صامتين.
لا، لا أدري، يا رفاقي، كم ساعة صرفت أنا في هذه الحالة. إن في الحياة فسحات تجتازها أرواحنا، ولكننا لا نستطيع أن نقيسها بالمقاييس الزمنية التي ابتدعتها فكرة الإنسان.
لا، لا أعرف كم ساعة بقيتُ في هذه الحالة. كل ما عرفته إذ ذاك وكل ما أعرفه الآن هو أنني بينما كنت في تلك الحالة الملتبسة شعرت بكيان حي واقف بقرب سريري، شعرت بقوة ترتعش في فضاء الغرفة، شعرت بذات أثيرية تناديني ولكن بدون صوت، وتستفزني ولكن بدون إشارة، فنهضت على قدميَّ وخرجت من الغرفة إلى الدهليز مدفوعًا مأمورًا مجذوبًا بعامل قاهر ضابط كلِّيٍّ. سِرت ولكن بغير إرادتي. سرت كمن يسير وهو نائم، سرت في عالم مجرَّد عما نحسبه زمنًا ومسافة، حتى إذا ما بلغت نهاية الدهليز دخلت قاعة كبرى في وسطها نعشٌ تُنيره كوكبتان من الشموع وتحيط به الأزهار. فتقدمت وركعت بجانبه ونظرت، نظرت فرأيت وجه رفيقتي، رأيت وجه رفيقة أحلامي وراء نقاب الموت، رأيت المرأة التي أحببتها حبًّا فوق الحب. رأيتها جثة هامدة بيضاء بأثواب بيضاء بين أزهار بيضاء تخيم عليها سكينة الدهور ورهبة الأزل.
يا إلهي، يا إله الحب والحياة والموت، أنت الذي كوَّنت أرواحنا ثم سيرتها في هذه الأنوار وهذه الظلمات. أنت الذي فطرتَ قلوبنا ثم جعلتها تنبض بالأمل والألم. أنت، أنت الذي أريتني رفيقتي جسدًا باردًا. أنت الذي قدتني من أرض إلى أرض لتُظهر لي مراد الموت بالحياة، ومشيئة الوجع بالفرح. أنت الذي أنبت في صحراء وحدتي وانفرادي زَنبقةً بيضاء ثم سَيَّرتَني إلى وادٍ بعيد لتبينها لي زَنبقةً ذابلةً ذاويةً فانيةً!
نعم، يا رفاقي، يا رفاق وَحشتي واغترابي، إن الله قد شاء فسقاني الكأس العلقمية. لتكن مشيئة الله. نحن البشر، نحن الذرَّات المرتعشة في خلاء لا حدَّ له ولا مدًى، نحن لا نستطيع سوى الخضوع والامتثال. فإن أحببنا فحبنا ليس منا وليس لنا. وإن سُررنا فسرورنا ليس فينا بل في الحياة نفسها. وإن تألمنا فالألم ليس بكلومنا بل بأحشاء الطبيعة بأسرها.
لم أقص عليكم حكايتي شاكيًا، إن من يشكو يَشُكُّ في الحياة. وأنا من المؤمنين؛ أؤمن بصلاحية هذه المرارة التي تمازج كل رشفة أرتشفها من كؤوس الليالي، أؤمن بجمال هذه المسامير التي تخترق صدري، أؤمن برأفة هذه الأصابع الحديدية التي تمزق غشاء قلبي.
هذه حكايتي؛ فكيف أصل إلى نهايتها وهي بدون نهاية؟ لقد بقيت راكعًا أمام نعش الصبية التي أحببتها في أحلامي محدقًا إلى وجهها حتى وَضع الفجر يده على بلور النوافذ، فقمت إذ ذاك وعدت إلى غرفتي متوكئًا على أوجاع الإنسانية منحنيًا تحت أعباء الأبدية.
وبعد ثلاثة أسابيع تركت البندقية ورجعت إلى لبنان رجوع من صَرَفَ ألف جيل في أعماق الدهر. رجعتُ رجوع كل لبناني من غربة إلى غربة.
سامحوني، يا رفاقي، فقد أطلت حديثي. سامحوني!