أين تذهب
(١) السويد
لم يكذب من قال: إنَّ النور يصل إلينا من الشمال؛ ذلك الشمال الذي يتكون من شبه جزيرة اسكنديناوه؛ وشبه جزيرة اسكنديناوه: هي السويد والنرويج. ويبلغ عدد سكان السويد ضعف عدد سكان النرويج، ولا تختلف لُغة السكان في كل من المملكتين إلا اختلافًا بسيطًا، كما تتشابه إلى حدٍّ ما صناعات السكان وعاداتهم وأخلاقهم.
ولكن سُكَّان السويد يتميَّزون على من عداهم من سكان الشمال سواء كانوا من أهل النرويج أو من أهل الدانيمرك، إنهم يتميزون بشيء من الزهو الطبيعي، فإنهم يعتبرون أنفسهم أرقى سكان الشمال ما داموا أعظم منهم ثروة، وأكثر منهم في تعداد السكان.
ولعلَّ مصدر الزهو أنَّ السويد كانت هي الحاكمة في شبه جزيرة اسكنديناوه إلى أن انفصلت عنها النرويج.
وقد يظنُّ من يزور السويد لأول وهلة أنه يتعامل مع شعب جامد الإحساس، مُتبلِّد العاطفة، أرستقراطي النَّزعة، ولكن الواقع أنَّ هذا المظهر الزَّائف يُخفي وراءه أدبًا رفيعًا هو الذي جعل كثيرًا من الكُتَّاب يقولون عن السويديين: إنهم أكثر الشعوب أدبًا في العالم.
والشعب السويدي — إلى جانب أدبه — شعب شديد الإيمان بأسمى وأرفع ما في الإنسان من فضيلة وخير، وقد يستغرق الفرد منهم وقتًا أطول من المعتاد حتى يمنحك صداقته، ولكنه إذا منحها إيَّاك، فهي صداقة العمر، لا يفصم عُرَاها إلا القبر.
(١-١) أدب رفيع
والواقع أنَّ رُقي السكان وارتفاع مستواهم في المعيشة هو الذي أدَّى إلى تمسُّكهم بالآداب العالية رغم هذه الأرستقراطية التي تبدو عليهم لأول وهلة، ورغم تحفظهم في بعض الأحيان.
وأنت لا تكاد تسأل سويديًّا عن مكانٍ ما حتى يرفع يده بالتحية وإن لم تبدأه أنت بالتحية، وتراه بعد ذلك مُتهافتًا على خدمتك، يكثر من التحيات والاحترامات.
وإنهم ليُبالغون أحيانًا في هذه التحيات والاحترامات إلى درجة تُثير دهشة الأجانب، وتشهد ذلك بسهولة عندما يجلسون إلى مائدة الشراب أو الطعام ويَتَبَادلُون شرب الأنخاب.
يبدأ الشراب بِملءِ الأقداح والكئوس، ويُمسك كل بكأسه، ثمَّ يرفعه وينظر إلى الآخرين، ويحني كل رأسه للآخر في تحية رقيقة قبل أن يرفع الكأس إلى فمه، وبعد أن يتناول رشفة، ويستعد لوضعه على المائدة يتبادل الجميع تحية أخرى، فيحني كل منهم رأسه للآخر مبتسمًا ويضع كأسه على المائدة بعد ذلك.
ويتكرَّر هذا كُلَّما رفعوا الكئوس، وكلما هموا بوضعها على المائدة من جديد!
(١-٢) شعب عملي أمين
وإلى جانب هذا الأدب الرفيع، يعيش في السويد شعب عملي نشيط حساس، يصمد رجاله ونساؤه للعمل، وإذا أدَّى الواحد منهم عملًا أتقنه إلى أبعد حد، حتى لقد تميزت مصنوعاتهم بالنوع الحسن، وإن ارتفع ثمنها عن مصنوعات الدول الأخرى، فقد يؤدِّي العامل منهم ما يُطلب منه عمله في ضعف الوقت الذي يُؤدِّيه العامل الآخر؛ وذلك لأنه يحب أن يعمل متمهلًا حتى يُتقن عمله.
ولكن أهم ما يتميز به أفراد هذا الشعب هو الأمانة، الأمانة المطلقة التي لا حد لها! كما أنَّ الحياء يغلب عليهم على الرغم من حبهم للناس وترحيبهم بالأجانب ترحيبًا قلبيًّا.
وقد يستعينون — للتخلص من هذا الحياء — بالمشروبات الروحية، وقد يُسرفون قليلًا في استعمالها، ولذلك لم يسع الحكومة السويدية إلا أن تفرض عليها أشدَّ القيود باعتبارها عاملًا مساعدًا على ارتكاب الجرائم.
ولقد كانت السويد في الماضي دولة فقيرة حتى لقد قيل: إنه لما تركت أسراب «الرنجة» بحر البلطيق لسبب من الأسباب اضطر أهل السويد إلى إعلان الحرب على روسيا؛ وذلك لأنهم كانوا مهددين بالموت جوعًا، فقد كانوا يعتمدون على «الرنجة» في حياتهم، وقد نزح كثير من فلاحي السويد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى أمريكا سعيًا وراء العمل.
ولكن هذه الدولة الفقيرة ما لبثت أن احتلَّت مكانها بين الدول الكبرى بفضل التصنيع الذي غنمت منه كثيرًا، فإنَّ مناجم الحديد الخام والغابات التي تُغطِّي القسم الشمالي كله مكَّنت السويد من أن تُحقِّق في عالم الإصلاح الاجتماعي ما لم تُحقِّقُهُ دولة أخرى، وذلك دون أن ينخفض مُستوى المعيشة فيها، وهو يُعتبر مستوى رفيع في العالم أجمع.
(١-٣) ارتفاع مستوى الحياة
ومن مظاهر ارتفاع مستوى الحياة في هذه البلاد ارتفاع أجور العمال، وارتفاع الدخل الفردي، وقد قابل ذلك ارتفاع نسبة الضرائب كذلك، وكان أهم سبب في ارتفاعها الاستعدادات الدفاعية للحرب.
ويكفي أن تزور منزلًا من منازل العمال حتى تُدركُ أنَّ العامل يعيش في تلك البلاد حياة كريمة لا تختلف عن حياة أي إنسان يشعر بإنسانيته وكرامته، فالدولة تهيِّئُ له في المنزل وسائل التدفئة الكهربائية، كما تضع له في ذلك المنزل ثلاجة كهربائية، وغازًا يستعمله في الطَّهي، وآلة كهربائية لغسل الملابس، وفي مُتناول يده الماء الساخن والبارد.
هذا هو المسكن العادي الذي يقطنه أي عامل من العمال.
كل أربعة من الناس في السويد يملكون جهازًا للراديو (أو بمعنى آخر يُوجد جهاز واحد للراديو لكل أربعة أشخاص).
ويوجد جهاز تليفوني واحد لكل ستة أشخاص.
وكل ٢٩ شخصًا يملكون سيارة واحدة.
ورغم هذا الرُّقي، فإنَّ أهل السويد قوم يُحافظون على التقاليد، وهم يحتفلون بعيد منتصف الصيف حين تشرق الشمس في منتصف الليل احتفالًا كبيرًا، فيرحل الناس من المدن إلى الريف ويرتدون — رجالًا ونساء — الملابس الوطنية المطرزة المزركشة المُختلفة الألوان، ويقيم المحتفلون عمودًا خشبيًّا طويلًا كُسي بالخضرة والزهور، وعلقت فيه باقات الورد، وهم يرقصون وينشدون الأغاني الوطنية في حلقات يتوسطها هذا العمود الخشبي، ويستمر الرقص طول الليل، أو بالأحرى طول النهار؛ إذ لا ليل هناك في ذلك الوقت، وإذا كان النَّوم — كما نعرفه — مقصورًا على الليل، فلا نوم في تلك الحفلة، ومن مُعتقداتهم أنَّ من يفضِّل النوم على الاشتراك في ذلك الاحتفال، فإنه لن يُصادف حظًّا حسنًا.
وحتى سُكَّان المدن الذين لا تُمكِّنهم ظروفهم من السفر إلى الريف أو الانتقال إلى الضواحي للاحتفال بهذا العيد يحتفلون به في المدن نفسها بإغلاق المتاجر، وتعطيل الأعمال، ولا يقل احتفالهم بليلة منتصف الصيف روعة عن احتفالهم بليلة عيد الميلاد التي ينتقلون فيها بالقوارب عبر البحيرات — في منتصف الليل — لكي يشتركوا في صلاة الميلاد على أن يقضوا بقية الليل في الكنيسة أو في منازل خاصَّة أقيمت بجوارها، ولا يعودون إلى منازلهم إلا في الصباح.
ولعلَّ أهم مظهر من مظاهر الحضارة في بلاد الشمال تلك الحياة الهادئة التي يعيشها الناس هناك، فهي حياة لا ضجيج فيها ولا صخب، حتى الشوارع المزدحمة بالحركة والممتلئة بالسيارات لا تسمع فيها صوت النفير أو المنبهات الأخرى؛ وذلك لأنَّ كل سائق يعرف حَدَّه ولا يتعدَّاه، وهو يسير في طريقه دُون أن يُحاول أن يسبق غيره، كذلك المُشاة الذين يسيرون على أقدامهم لا يُحاولون أن يعبروا الطريق إلا إذا سُمِحَ لهم بذلك.
ولا يعرفون هناك من أنواع الحياة الليلية إلا المسارح والملاهي ودور السينما، أما دور اللهو الأخرى، فإنَّها غير شائعة في بلادهم، ولعلَّ ذلك من أسباب استقرار الحياة العائلية في بلادهم.
(١-٤) حرب ضد الخمر
وبقدر وفرة الطعام بكافة أنواعه في بلاد السويد، فإنَّ الخمور قليلة، وترجع قلَّتها إلى القيود التي فرضتها الدولة على استيرادها وعلى شرائها واستهلاكها.
والشيء الوحيد الذي يُباع في السويد بالبطاقات هو الخمر، فقد حُدِّدَ استهلاك كل فرد وكل أسرة من الخمر، بحيث لا يمكن الحصول على أكثر من المُقرَّرِ إلا عن طريق السوق السوداء، وهي ليست رائجة على كلِّ حال.
وزائر البلاد أو عابر الطريق لا يمكنه أن يحصل على الخمر في أي مطعم من المطاعم إلا إذا طلب لنفسه طعامًا، وقد يعمد البعض إلى طلب الطعام حتى يكون من حقهم طلب الشراب، وهم يتركون الطعام كما هو، ويتناولون الشراب وحده، ولكن ليس في مقدور كل شخص أن يفعل ذلك.
وقد كان من أثر ذلك كُلِّه أن هبط استهلاك المشروبات الروحية في السويد، في خلال ربع قرن إلى أقل من النصف.
(١-٥) سبب الإجرام
وقد يتساءل المرء عن السبب الذي حدا بالمسئولين في السويد إلى شنِّ هذه الحرب الشعواء على الخمر؟
فنقول: إنه ثبت من الإحصاءات الرسمية هناك أنَّ السبب الأول في ارتكاب الجرائم هو الخمر.
قال لي أحد كبار موظفي وزارة الشئون الاجتماعية هناك: إنَّ حكومة السويد قضت على البطالة منذ عشر سنوات، فلم يعد لها وجود، كما أنَّ المؤسسات الاجتماعية تتكفَّل بمساعدة أي سويدي لا يجد طعامًا إذا تعطل عن عمله بسبب كبر سنه أو بسبب إصابته بعاهة من العاهات؛ ومعنى هذا ألا يموت أحدهم جوعًا.
لم يبق بعد ذلك من سبب لارتكاب الجريمة إلا تأثير الخمر، أو الرغبة في الحصول على مزيد من المال لإمكان شراء الخمر.
وقد نجحت السويد في مكافحة الجريمة إلى حدٍّ بعيد، ويمكن التثبُّت من ذلك بالاطلاع على إحصائيات مصلحة السجون، ولو اطَّلَعتَ على إحصائية عام ١٩٤٧ وهي آخر ما تَمَّ إعداده لظهر منها أنَّ عدد جرائم القتل العمد، ومُحاولة القتل لم يزد في ذلك العام على ثلاثة جرائم!
وبلغ عدد المسجونين بسبب ارتكابهم جريمة ضرب أفضى إلى موت سبعة أشخاص، وعدد المسجونين بسبب ارتكاب جريمة القتل خطأ ستة أشخاص، وعدد المسجونين لأنهم سبَّبوا الموت لغيرهم — بشكلٍ من الأشكال — أربعة أشخاص!
لا شكَّ أنه لا تُوجد دولة أخرى في العالم تُنافس السويد في هذه النسبة الضئيلة من الجرائم، وخاصَّة جريمة القتل، بالقياس إلى عدد سكانها.
وعدد سكان السويد يبلغ نحو سبعة ملايين نسمة، ومع ذلك فإنَّ عدد من دخلوا سجونها (طبقًا لإحصاء عام ١٩٤٧) لم يزد على ٢٢٠٠ شخصٍ.
أمَّا سويسرا — وهي الأخرى من أرقى بلاد العالم — فإنَّ عدد سُكانها يزيد على أربعة ملايين ونصف، ومع ذلك فقد ضمَّت سُجونها في نفس العام نحو أربعة آلاف شخص.
ويقول السويديون في تعليل هذه النسبة الصغيرة من الجرائم: إنها لا تعود فقط إلى القضاء على الجهالة والأمية؛ فإنَّ سويسرا هي الأخرى قد قضت على الأمية — ولكنها تعود إلى تحريم الخمر، وتحديد بيعها، وقصر استهلاكها على طبقة معينة، ومُحاربة انتشارها بكافة الوسائل، والأرقام تشهد على صدق ما يقولون!
(١-٦) أعداء الجريمة
ومن الطريف، ونحن في معرض الحديث عن الجرائم في هذه البلاد المتعلمة الراقية الهادئة أن نذكر ظاهرة غريبة أخرى تُشير إليها الإحصائيات.
إنها تدلُّ على أنَّ أكبر نسبة من الجرائم تُرتكب في العاصمة «ستوكهلم» وفي المدن الكبيرة الأخرى! وعلى أنَّ نسبة الإجرام تقلُّ بين طبقة الفلاحين، وأنها تندر حتى تكاد تنعدم بين طبقة صيادي الأسماك في الشرق والغرب!
إنَّ صيَّادي الأسماك — وهم عادة أفقر السكان — أمناء جدًّا وادعون، لا همَّ لهم إلا تحصيل قوتهم وأداء واجبهم؛ ولذلك فإنهم لا يعرفون طريق الجريمة، ويتلوهم الفلاحون!
أما مُعظم مرتكبي الجرائم — ممن تضمهم السجون — فإنهم من طبقة الصُّناع غير المهرة.
(١-٧) الحياة الطيبة
وأساس هذه الحياة الطيبة التي يعيشها الناس في السويد يقوم على عدَّة عوامل أوَّلها الثروة الطبيعية التي يحرص عليها الناس وتُحافظ عليها الحكومة، فلا تصرح باقتناء الملكيات الكبيرة المساحة.
ويطلق على أهل السويد اسم «أمريكان أوروبا»، فقد تمكنوا بفضل التصنيع وبفضل تفتق أذهانهم للعلوم الهندسية والدقائق الفنية، وحبهم للتنظيم والاقتصاد، وميلهم لإحراز النتائج الحاسمة من عملهم، تمكَّنُوا من استغلال موارد البلاد والوصول بها إلى المستوى الرفيع الذي بلغته في عالم الصناعة والتجارة الدولية.
ولكن هل كان هذا وحده هو السبب في الحياة الطيبة التي ينعم بها السويديون في بلادهم؟
هل هذا وحده هو سبب تقدم الطب وانتشار أحدث وسائل العلاج وأحسن المستشفيات في بلادهم؟
هل هذا هو سبب وجود أعظم نظام للتأمين الاجتماعي لديهم؟ وأحدث وسائل العناية بالأطفال والأمهات العاملات؟ وأرقى بيوت للعمال تتوفر فيها كل وسائل الراحة؟
قد يكون السَّلام الذي تمتعت به السويد لمُدَّة ١٤٠ عامًا مُتتابعة من أسباب هذا التقدم، فإنها خلال قرن ونصف تقريبًا لم تشهر ولم تشترك في حرب واحدة، حتى في الحرب العالمية الثانية التي اشتعل لهيبها حتى شمل أوروبا كلها تقريبًا، وامتدت من أقصى الشمال في بلاد النرويج إلى جزيرتي صقلية ومالطة في أقصى الجنوب، حتى في هذه الحرب الضروس عرفت السويد كيف تُحافظ على حيادها.
إنك لتجول أيامًا عدَّة في البقاع الشمالية من هذه البلاد، فلا تُصادِف منزلًا واحدًا! ولذلك أمكن للإنسان هناك أن يتمتع بمزايا الحضارة الصناعية، ومظاهر الرُّقي المنوعة، مع المحافظة في نفس الوقت على معاني الجمال الطبعية، وراحة الفكر، وتقاليد الفلاحين القديمة، وصناعاتهم اليدوية والحياة الهانئة.
هذه الغابات التي لا نهاية لها، والهدوء العجيب في مناطق لم يمتد إليها يد الإنسان أو الصناعة، والسلام الشامل والأمان المطلق!
إنَّ كل هذا يجعل الزائر يكتشف ما تنطوي عليه الطبيعة من سرٍّ يغلق فهمه على الإنسان في أي مكان آخر، ويجعله يُدرك كيف بَرَزَ هُناك هذا العدد الكبير من الشعراء والكُتَّاب والقصصيين والرَّسَّامين، والمخترعين.
(١-٨) ماذا ترى في السويد
في «ستكهلم» — العاصمة — يجب أن تزور دار البلدية؛ فهي مثال رائع للهندسة السويدية العصرية، وفي وسعك أيضًا أن تزور القصر الملكي من الداخل، ولا تغفل زيارة «سكانسن» التي تضم جميع أنواع المساكن السويدية من قديمة وجديدة، وتُقام بها الحفلات الشعبية التي يُعرض فيها الرقص الوطني وتلقى فيها الأغاني القومية.
وفي وسط السويد إقليم بحيرات وغابات من أجمل أقاليم السويد هو إقليم «دارنا» أو «داليكارليا»، ومن أجمل القرى التي يمكن أن تزورها في ذلك الإقليم: «راتفيك» و«مورا» و«ليكسند» و«تالبري».
وإذا أردت أن تزور الإقليم القطبي، فيمكنك أن تستقل قطارًا مُريحًا تقضي به ليلة كاملة حتى تَصِل إلى مُقاطعة لبلاند في أقصى الشَّمال، ومِنَ السَّهل — وأنت هناك — أن تزور مدينة «نارفيك» لترى الشمس في منتصف الليل.
ومن أجمل الرِّحلات أيضًا الرِّحلة إلى مدينة «فيسبي» في جزيرة «جوتلاند» ببحر البلطيق، وتستقل الباخرة من ميناء نيناسهمن بعد سفر بالقطار — من العاصمة — لا يزيد عن ساعة، وتقضي في الباخرة ليلة كاملة، ثم تصل في الصباح إلى الجزيرة التي عاصمتها فيسبي، وهي تتميز بمبانيها الباقية على حالها منذ القرون الوسطى، وشواطئها المُعدَّة للاستحمام من أفخم الشواطئ.
ولا يجب أن تغفل وأنت في استكهلم أن تزور الأرخبيل أو «الأرشبيليجو» كما يُسمُّونه هناك، وهو عبارة عن آلاف الجزر الصغيرة المُتناثرة المختلفة الحجم، التي يَفِدُ إليها سكان العاصمة في فصل الصيف، ويعيشون فيها معيشة بسيطة في منازل الفلاحين وصيادي الأسماك أو في منازل خاصة يحتفظون بها لأنفسهم علاوة على مساكنهم في العاصمة، ومن أشهر هذه الجزر وأجملها جزيرة «أوتيه».
ومن أحسن ما يُمكن أن تشتريه في السويد: المنسوجات والزجاج المنقوش والصيني والمصنوعات الخشبية والآلات الحادة (السكاكين والمقصات).
(٢) النرويج
ظلت النرويج حتى عام ١٩٠٥ تُكوِّن مع السويد والدانيمرك دولة واحدة، ولكنها في ذلك العام حرَّرت نفسها من هذه الصلة التي دامت مئات السنوات، واستقلَّت بنفسها، وتخيَّرت لنفسها أميرًا دانيمركيًّا ليحكمها، هذا الأمير هو اليوم ملك النرويج الذي يحمل لقب «هوكن السابع».
ومما هو جدير بالذكر أنَّ النرويج فازت باستقلالها دون حرب أو سفك دماء؛ وذلك لأن هذه الشعوب التي تعيش في الشمال تحب السلام، ولا تحب الحرب.
وقد تمتع النرويجيون بالسلام عهدًا طويلًا، إلا أنَّ ألمانيا — في الحرب العالمية الثانية — اعتدت على استقلالهم في عام ١٩٤٠ واحتلَّت بلادهم، نظرًا لأهمية شواطئ النرويج من الوجهة الاستراتيجية، فاضطروا اضطرارًا للاشتراك في الحرب، واتَّخذوا مكانهم إلى جانب الحلفاء، وهرب ملكهم «هوكن» ورجال حكومته إلى إنجلترا حيث ألَّفوا حكومة حرَّة، ولم يعودوا إلا بعد أن تحررت حكومتهم.
والنرويج بلاد ضيِّقة تمتدُّ بين الجبال والمحيط، وتتعرَّج سواحلها وتتوغل مسافات طويلة في اليابس إلى درجة أنَّه قدر أن هذه السواحل لو استقامت في خطٍّ واحد؛ لامتدت من المحيط المُتجمد شمالًا إلى المحيط المُتجمِّد جنوبًا.
وقد قدر عدد الجزر الصغيرة الممتدة على سواحل النرويج بنحو ١٥٠ ألف جزيرة صغيرة.
وطبيعة البلاد في كل من السويد والنرويج كثيرة الشبه، لولا تلك الخلجان الضيقة الممتدة في اليابس والمعروفة باسم «الفيوردز»، فهي عبارة عن مجارٍ مائية ضيقة تمتدُّ من المحيط، وتتغلغل إلى مسافات بعيدة في الأرض، وتُحيط بها في كثير من الجهات الجبال الشاهقة الارتفاع التي تُغطِّي قممها الثلوج البيضاء، كما تنمو الغابات الكثيفة على سفوحها.
ويُمكن للسائح أن يسير أيامًا في هذه الفيوردات تُحيط به مناظر رائعة الجمال لا مثيل لها في مكان آخر في العالم كله، فمن ثلوج بيضاء تُكلِّل هامات الجبال طول العام، إلى مجارٍ مائية دقيقة تنسابُ من أعلى الجبال العالية نتيجة لذوبان بعض الثلوج، إلى مياه زرقاء هادئة لا تُدركها أمواج المحيط الصاخبة، إلى أشجار عالية دائمة الخضرة، وسماء داكنة، وسُحُب تتعلَّق بأهداب الجبال هنا وهناك.
هذه هي جنة السائحين بلا نزاع.
(٢-١) صراع مع الحياة
والحياة في تلك البلاد الشَّمالية عبارة عن صراع قاس مع الطبيعة، فإنَّ أراضي الجبال قليلة الخصب، ويجب على الفلاح أن يبذل جهده حتى يحصل منها على شيء.
وقد كان لهذا الصراع القاسي نتيجته؛ إذ أخرج شعبًا ذكيًّا ديمقراطيًّا، بلغ من ديمقراطيته أن ألغى ألقاب الملك، واكتفى بأن يُطلق عليه «جناب الملك»، وكان أول شعب في العالم منح النساء حق الانتخاب.
كما كان من نتيجة هذا أن فضلت النرويج ألا تحتفظ بجيش قوي أو بحرية حربية قوية، فإنَّ أهلها يُؤمنون بأنَّ الخير كل الخير أن تُنفق أموال الدولة في صرف معاشات للشيوخ والعجزة، وفي نشر التعليم، وفي العناية بالطفولة، ومُحاربة الفقر والعوز، والقيام بمُختلف المشروعات الاجتماعية النافعة.
(٢-٢) رابع الأساطيل
وإذا لم تحتفظ النرويج ببحرية حربية قوية، فقد أقامت أسطولًا تجاريًّا تُفاخر به الدول الأخرى، كان ترتيبه — قبل الحرب — الرابع بين الأساطيل التجارية في العالم كله، وكان ١٧ في المائة من سكان السويد الذكور يعملون في هذا الأسطول.
وهذا الأسطول ينقل التجارة عبر العالم كله، وهو يقضي مع بحَّارته الأعوام الطويلة، مُتجولًا في بحار ومحيطات العالم، وقلَّما يعود إلى شواطئ النرويج نفسها، حتى أنه قد تمضي الأعوام الطويلة دُون أن يرى أقارب رجال البحر الذين يعملون في هذا الأسطول بحارة الأسطول.
وقد أُصيب هذا الأسطول أثناء الحرب بضربة قاسية؛ إذ فقد نصف حمولته تقريبًا، ومع هذه الخسارة التي يأمل أن يتمكن من تعويضها في عام ١٩٥٠ حين يعود إلى ما كان عليه قبل الحرب، مع هذا فقد حصلت حكومة النرويج في العام الماضي من هذا الأسطول المتجوِّل في البحار على ٤٣ مليون جنيه معظمها بالدولارات.
وهذا المبلغ هو حصيلة الضرائب المفروضة على الشركات التي تملك سفن هذا الأسطول.
(٢-٣) سلالة الفيكنجز
وليس عجيبًا أن تحتل النرويج هذه المكانة السامية في البحار؛ فإن أهلها يستمدون سرَّ نجاحهم في البحار بطريق الوراثة، فهم سلالة ملوك «الفيكنجز» الذين غزوا إنجلترا، وتجوَّلوا في البحر الأبيض، ووصلوا إلى أمريكا في القرنين السابع والثامن الميلاديين.
وقد أثبت النرويجيون حقًّا أنهم جديرون بأجدادهم العظام، فإنهم يعملون في جد وصمت، ويجوبون البحار في هِمَّة يُحسدون عليها، ويبنون الأساطيل الكبيرة، ثم يلهون ويمرحون في سكون وهدوء.
(٢-٤) «يقزقزون» الجنبري
ومن أظرف المناظر التي يُمكن أن تراها في ميناء أوسلو منظر المارَّة من نساء ورجال وهم يشترون قراطيس الجنبري من القوارب الصغيرة الواقفة بجانب الرصيف، ثم ينصرفون وهم ينزعون عن «الجنبري» قشره، ثم يلتهمونه تباعًا كما يفعل المصريون باللب!
ولا تكاد تخلو وجبة من وجبات الطعام، حتى الإفطار، من السَّمك، وهم يصطادون الحوت والرنجة، ويُصدِّرون من زيت الحوت ومن الرنجة كميات كبيرة.
(٢-٥) السياسة في النرويج
بعد الحرب التي نشبت بين روسيا وفنلندا استولت روسيا على مُقاطعة شمالية هامة اسمها «فينمارك» وباستيلاء روسيا على هذه المقاطعة أصبحت جارة مُباشرة للنرويج، وإذا وقعت الحرب في المستقبل، فسيكون من السهل على روسيا أن تنقض من هذه المقاطعة على النرويج.
ومع ذلك فإنَّ النرويجيين لا يكرهون الرُّوس؛ وذلك لأنه لم يسبق لهم أن حاربوهم مُطلقًا، وقد اضطروا، بإزاء هذه الحالة، إلى الاشتراك في حلف الأطلنطي مع الدول الغربية، وهم لا يزالون يحقدون على السويد؛ لأنها سمحت للجيوش الألمانية أثناء الحرب الأخيرة بالمرور في أراضيها لاحتلال النرويج!
(٢-٦) ماذا تزور في النرويج؟
إذا سافرت إلى الشمال، وزرت «ستكهلم» المدينة الأنيقة عاصمة السويد، فلا بدَّ أن تنتقل منها لزيارة «أوسلو» عاصمة النرويج.
وإذا زرت «أوسلو» عاصمة النرويج، فلا بد لك أن تزور «هولمن كولن» الضاحية الجميلة التي تشرف على «أوسلو» وعلى «فيورد أوسلو»، وهذه الضاحية تذهب إليها بواسطة الترام، وهي لا تبعد عن العاصمة بأكثر من ثلث ساعة.
ولا بدَّ لك أن تزور في «أوسلو» كذلك حديقة «فروجنر» المشهورة بتماثيلها الفريدة في نوعها؛ وهي تماثيل عارية للرجال والنساء والأطفال في أوضاع مُختلفة قُصِدَ بها أن تُعبِّر عن فكرة واحدة هي فكرة استمرار الحياة!
ولا تمكث في أوسلو طويلًا، بل سافر منها بسرعة ولا تغفل زيارة الفيوردات، وإذا كان السائح على عجل، فليسافر في رحلة إلى ميناء «برجن» تستغرق أسبوعًا في الذهاب والإياب، ويمكنه أن يرى خلالها أجمل فيوردات النرويج وهو فيورد «هاردانجر».
والسائح الذي يُحِبُّ أن يذهب إلى أبعد مُدُن العالم شمالًا يُمكنه أن يُسافر إلى مدينة همرفست، ففي هذه المدينة يُمكنه أن يرى الشمس في منتصف الليل؛ لأن الشمس هناك لا تغرب مُطلقًا في المدة من ١٣ مايو إلى ٢٩ يوليو.
وأحسن ما يُمكن أن تشتريه في النرويج: الملاعق الفضية والفراء والمنسوجات الصوفية القومية ذات الرسوم الجميلة.
(٣) الدانيمرك
مرحبًا بك في دانيمرك!
هذه هي العبارة التي تسمعها من موظفي الجمارك بمجرد وصولك إلى هذه البلاد الصغيرة الجميلة، وعندما تستقل سيارة الأجرة التي تحملك إلى الفندق يُدير إليك سائق السيارة رأسه قبل أن يضغط على المحركات، ويبتسم لك وهو يقول: مرحبًا بك!
ذلك أن أهل دانيمرك يحبُّون الأجانب، ويسرُّون برؤيتهم، وهم يرحبون بهم قلبيًّا.
وأعظم ما يميِّز الدانيمركيين عن غيرهم من أهل الشمال من سويد ونرويج؛ هو خلوهم من التكلُّف والتحفُّظ، وميلهم للمرح ولذلك أطلق على عاصمتهم «كوبنهاجن» لقب «باريس الشمال» تمييزًا لها عن عواصم الدول الشمالية الأخرى التي رغم جمالها الرائع تكاد تخلو من كل حياة ليلية مرحة.
وتتكون دانيمرك من شبه جزيرة جتلند، ومن أربع جزر كبيرة، ومن عدد كبير من الجزر الصغيرة لا يقل عن ٥٠٠ جزيرة!
والجزر الكبيرة الأربع تتصل ببعضها — فيما عدا واحدة منها — بقناطر تسير عليها قطارات السكك الحديدية، وتتميز جزر الدانيمرك كلها بالصداقة والزهور والغناء، والدرَّاجات.
الزهور تجدها في كل مكان، وفي كل ركن من أركان الطريق، حتى أقسام البوليس كثيرًا ما تجدها مغطاة بالزهور الجميلة!
وأما الغناء فقد أغرم به الدانيمركيون إلى درجة أنهم وضعوا أغنية لكل مناسبة وذكروا البحر الأزرق الجميل والسواحل التي تُغطِّيها الغابات الخضراء في كل أغنية.
لكل جزيرة، بل لكل مدينة وكل قرية أغانيها.
وعندما يعود من الخارج الدانيمركيون الذين يعيشون بعيدًا عن بلادهم الجميلة لكي يشهدوا حفلات الصيف يجتمعون أولًا في قلعة كرونبورج التي يرجع تاريخها إلى القرن الثالث عشر، وهناك ينشدون جميعًا في صوت واحد هذه الأغنية الجميلة التي تبدأ بالعبارة الآتية:
ولا يمكن لأجنبي أن يُصغي إلى هذه الأغنية دُون أن تطفر الدموع من عينيه!
ومن أظرف ما قيل في هذا الشعب: إنَّ دانيمركيًّا واحدًا يعني كتابًا، ودانيمركيين يعنيان أنخابًا وخطبًا، ودانيمركيين ثلاثة يعنون أغنية!
(٣-١) شعب مُجِّد
خرجت الدانيمرك من حروب نابليون، وقد تحوَّلت أرضيها إلى تُربة جرداء لا تنمو بها غير الحشائش التي تمنع أي نبت غيرها من النماء، ولم يمض قرن من الزَّمان إلا وتحولت هذه المملكة إلى أخصب الأراضي الزراعية، وأعظمها إنتاجًا، فقد قورن إنتاجها بإنتاج الأراضي في أمريكا، وظهر من المقارنة أنَّ الفدَّان في الدانيمرك يغلُّ من القمح والشعير ثلاثة أضعاف ما يغله الفدان في أمريكا، ومن البطاطس ضعف ما يغل الفدان الأمريكي.
والفلاحون في دانيمرك قوة مسيطرة، وإن كانت مساحة المزرعة التي يملكها كل منهم لا تزيد في المتوسط عن ٣٦ فدَّانًا، وهم يعتمدون على نظام التعاون الذي يسود حياتهم وينظِّمُها.
والجمعيات التعاونية عندهم لا تقتصر مهمتها على شراء الحاصلات من الفلاحين، ولكنها تنتج لهم الكثير مما يحتاجون إليه في حياتهم وتبيعهم إياه، ولذلك يمكن القول إنها تتحكم إلى حدٍّ بعيد في حياتهم الاقتصادية.
ويمكن لكلِّ فلَّاح أن يصير عضوًا في جمعية تعاونية إذا دفع «كرونًا» واحدًا في العام؛ أي ما لا يزيد عن خمسة قروش، وهو يتقاضى ربحه من الجمعية التعاونية في نهاية العام مُتناسبًا مع مجموع أثمان مشترياته، ومعنى هذا أنَّه كلَّما زاد الجمعية التي ينتسب إليها تشجيعًا وإقبالًا كلما زاد ربحه الشخصي من وراء ذلك.
(٣-٢) الأصدقاء الثلاثة!
وإذا كُنَّا في مصر لا نملُّ من ذكر الفقر والجهل والمرض، ففي الدانيمرك يتحوَّل الأعداء الثلاثة إلى أصدقاء ثلاثة! فأنت لا تجد فيها إلا الرخاء والعلم والصحة.
إن المقصود بها ليس أن تتمِّم تعليمًا، بل أن تضع جديدًا في العقول البشرية.
وهذه المدارس فريدة في نوعها، فهي تجمع طلبة جميع الأعمار ومن جميع الأجناس يتلقون كافة أنواع العلوم.
ويُقدِّر الدانيمركيون العلم حق قدره، وعدد ما يُطبع عندهم من الكتب يزيد على عدد ما يُطبع في أي مكان آخر بالنسبة لعدد السكان، ولقب «شاعر» عندهم من الألقاب التي تُستعمل تمييزًا وإجلالًا لحاملها، كما يُستعمل لقب «دكتور» أو «أستاذ» وعدد من نالوا جائزة «نوبل» أرفع الجوائز العلمية والأدبية قدرًا في العالم يزيد — بالنسبة أيضًا — عن عدد من نالوا هذه الجائزة في أية دولة أخرى.
وقد تقدمت العلوم الطبية تقدُّمًا ملحوظًا في الدانيمرك، حتى اشتهرت البلاد بجودة أمصالها، فاشتدَّ الطلب عليها في الأسواق العالمية، وعهد إلى هيئاتها الرسمية بمحاربة السُّل في أوروبا، وذلك بعد أن دلَّت الإحصائيات على أنَّ نسبة الوفيات بالسُّل في الدانيمرك هي أقل نسبة في العالم كله؛ لأنها لا تزيد عن ٣٠ في كل ١٠٠ ألف شخص.
ولا تجد شحَّاذًا واحدًا في الدانيمرك؛ إذ إنَّ هُناك معاهد خاصة تضمُّ العجزة والأرامل والفقراء، وهناك موارد دائمة للإنفاق على هذه المعاهد، وهناك منازل خاصة يقطنها المحتاجون ولا يدفعون فيها إلا إيجارًا رمزيًّا، وفي كل مدرسة حمَّامات ساخنة وأحواض للسباحة يستعملها التلاميذ ويفدون إليها من أبواب تصل بينها وبين المدرسة، ولكن أفراد الشعب يستعملونها أيضًا نظير أجر زهيد جدًّا ويدخلونها من أبواب خارجية.
ومن أعجب ما اكتشفته في الدانيمرك أنَّ أشهر مصانع البيرة لديهم وهي «كالسبرج» لها مجلس إدارة يضمُّ خمسة من أساتذة الجامعة العلماء، فإذا سألت عن السبب؛ علمت أنَّ جميع أرباح هذه المؤسسة العالمية للبيرة قد خُصِّص لتشجيع العلم والفن والأبحاث العلمية!
(٣-٣) بلاد الدراجات … والقلاع
إذا زرت هولندا، ولم تزر الدانيمرك، خيِّل إليك أنَّ في هولندا أكبر عدد من الدرَّاجات اجتمع في مكانٍ واحد، ولكنك إذا زُرت الدانيمرك بعد ذلك أدركت أنَّ أكبر عدد من الدراجات في العالم قد اجتمع في تلك البلاد الصغيرة الجميلة، ويُقال: إنه لا يقل عن خمسة ملايين دراجة أي أكثر من عدد السكان بمليون دراجة! ومن أعجب المناظر التي تشهدها منظر الدراجات ساعة انتهاء عمل اليوم عند الغروب، والعمَّال والعاملات يعودون إلى منازلهم، وقد امتطوا دراجاتهم!
وقد أُعدت للدرَّاجات طرق خاصة تسير فيها، كما أنها صنعت بحيث يمكن للأم أن تحمل طفلها الصغير في سلة تُوضع أمامها، كما يمكنها أن تضع ابنتها الأخرى أو ابنها في مقعد وضع خلفها.
وتتميز الدانيمرك كذلك بقلاعها القديمة الجميلة، وأهمها «كرونبورج» و«فريدركسبورج» و«روزنبرج»، وأشهرها كلها قلعة كرونبرج التي خلَّدها شكسبير؛ إذ جعلها مقرًا لهملت؛ ولذلك تمثَّل رواية شكسبير الخالدة كل عام في هذه القلعة، ولا تسمح الحكومة الدانيمركية إلا للفرق العالمية المشهورة بالتمثيل في القلعة، وقد سمحت في العام الماضي لفرقة أمريكية بتمثيل «هملت» في القلعة ثم اتضح بعد ذلك أن الفرقة قد مثلت بهملت نفسه — كما قال لي ناقد دانيمركي — وذلك لأنها جعلت منه بطلًا مُغامرًا أشبه بطرزان في حركاته؛ إذ يمسك بالمسدس في يده على طريقة رجال عصابات شيكاغو!
وإلى جانب قلعة كرونبورج التي تطل على ذلك المضيق الضيق الذي يفصل بين السويد والدانيمرك يكثر صيد سمك «التونة» المشهور.
كنت أزور هذا المكان مع الكاتب البريطاني الكبير «هانن سوافر» فلفت الرجل نظري إلى إعلان عجيب قرأناه معًا وضحكنا، وكان الإعلان يتضمَّن الشروط التي بمقتضاها يمنح كل من يرغب ترخيصًا يسمح له بصيد سمك «التونة»، وتتضمن هذه الشروط أن يدفع الطالب مبلغًا لا يقل عن عشرة جنيهات مُقابل الترخيص له بالصيد، كما يدفع إيجار القارب الذي يستعمله وأجر الملاح الذي يُعاونه، وأهم الشروط أن يسلم في النهاية كل صيده من سمك «التونة» للسلطات البحرية الدانيمركية، ولا حقَّ له في الاحتفاظ بأي شيء منه!
(٣-٤) الملك … مواطن
ويحب الدانيمركيون ملكهم، بل أسرتهم المالكة حُبًّا جمًّا، وهم لا ينظرون إلى الملك إلا على أنه مواطن مثلهم، له ما لهم من حقوق وعليه ما عليهم من واجبات! وإذا خطب الملك في شعبه وكان بمفرده قال: إنني أحمل إليكم تحية أنجريد! وأنجريد هي الملكة!
ولو قال الملك: «أحمل لكم تحية الملكة.» لهزَّ المستمعون أكتافهم واعتبروه مغرورًا!
وللملك حرس خاص كثير الشَّبه بحرس ملك إنجلترا؛ إذ يضع الجندي على رأسه ذلك الغطاء الأسود الطويل المصنوع من الريش، والذي ينحدر على جبهته حتى يكاد يغطي عينيه، وهم يقومون أمام قصر أمالنبورج بنوبة تغيير الحرس كما يحدث تمامًا أمام قصر بكنجهام في لندن.
ومن أعجب ما حدث لأفراد هذا الحرس، الذي يُشبه في ملابسه جنود القصة الخُرافية، من أعجب ما حدث لأفراده أنهم في عام ١٩٤٠ عندما رأوا جنود الألمان يتقدمون صوب القصر لاحتلاله أطلقوا عليهم النار!
إنها لا شك مُقارنة تدعو للسخرية والابتسام، أن تحاول هذه الحفنة من جنود الشَّرف إيقاف الجيش الألماني، إلا أنَّ فكرة أخرى تطرأ على ذهنك في الحال وأنت تعقد هذه المُقارنة فإنك تتساءل: ولكن جنود الشرف لا يزالون هنا، فأين اليوم جنود «الفيهرماخت»؟
لقد بقيت جنود الدمى، وزال الأقوياء!
(٣-٥) يحبون الطعام … والمرح!
إذا زرت الدانيمرك وجب عليك أن تفعل شيئين: يجب أن تأكل «السمور برود»، وأن تذهب إلى «تيفولي»!
أما «لسمور برود»: فهو الطعام الوطني الدانيمركي وهو عبارة عن نوع من السندوتش المفتوح، فعلى قطعة صغيرة من الخبز المدهون بالزبد يُوضع الكثير من اللحم أو السمك أو البيض، وإذا دخلت أحد المشارب، أو المطاعم وطلبت «سمور برود» قدَّم لك الخادم كشفًا طويلًا من صفحتين فيه أسماء ما لا يقل عن ١٣٠ نوعًا من أنواع السندوتش لتضع إشارة أمام الأنواع التي تريدها.
وبهذه الطريقة يتناولون طعامهم في الغالب، وهم يفخرون دائمًا بأنهم يأكلون جيدًا ويشربون جيدًا، قال لي أحد علمائهم: إنك تجد الدانيمركي يأكل دائمًا، فإذا لم يكن يأكل وجدته يشرب، وإذا لم تجده آكلًا أو شاربًا فلا بد أن يكون نائمًا.
وسمعت أحد البريطانيين يُعبِّر لأحد الدانيمركيين عن دهشته لوفرة الطعام في الدانيمرك بقوله: إنَّنَا في إنجلترا نأكل لنعيش، ولكن هنا — في الدانيمرك — يبدو أنكم تعيشون لكي تأكلوا!
وأما «تيفولي»: فهو أكبر مدينة ملاهي في أوروبا، بل في العالم كله، مدينة مُستقلة للمسارح والمراقص والمطاعم والألعاب المختلفة، تدبُّ فيها الحياة بعد ظهر كل يوم، وتستمر إلى مُنتصف الليل، وفيها تطعم وتشرب وتلعب وتستمتع بالتمثيل والرقص والغناء والتمثيل الصامت و«القره جوز».
وإذا شئت أن تستمر في اللهو والعبث بعد أن يغلق تيفولي أبوابه، وجدت مئات المشارب والمطاعم التي تطلق على نفسها اسم «الأندية الليلية»، وهي تفتح أبوابها حتى الصباح لطلاب المرح من دانيمركيين وأجانب.
(٣-٦) ماذا تزور في الدانيمرك
كوبنهاجن — عاصمة الدانيمرك — من أجمل مدن الشمال، فلا تغفل زيارتها، ولا تغفل زيارة «تيفولي» فهو أكبر مدينة ملاهي في أوروبا الشمالية، ولا تغفل زيارة سيرك «شومان» وهو سيرك ثابت له شهرة عالمية.
ويجب أن تزور بعض القلاع التاريخية، ولتزر على الأخص قلعة «كرونبرج» وهي مسرح رواية شكسبير المشهورة «هملت» وكثيرًا ما تمثل الفرق العالمية المشهورة هذه الرواية في نفس القلعة، وحديقة الحيوان كذلك تستحق الزيارة.
وقلعة «كرونبورج» تقع على مقربة من مدينة السينور القريبة من كوبنهاجن، وإذا وصلت إلى مدينة السينور أمكنك أن تُسافر بالباخرة إلى السويد، فتصل إليها فيما لا يزيد عن نصف ساعة بالباخرة الناقلة، والريف الدانيمركي جميل جدًّا يشبه ريف مصر في انبساط سطحه، ويتميز بوجود بعض الطواحين الهوائية، وبنظافته الفائقة، والحيوانات التي تعيش به من أنظف وأسمن الحيوانات في العالم، وهي موضع فخار لأصحابها، ومنتجاتها من أحسن الأنواع المعروفة في الأسواق.
ولتزر أيضًا مدينة «أودنسيه» التي تضمُّ متحف الروائي المشهور «كارا هانز أندرسون» المشهور بحكاياته الخرافية.
وأمَّا أحسن ما يُمكن أن تشتريه في الدانيمرك فهو: الصيني والآنية البرنزية والأقمشة التيلية.
(٤) هولندا
حين يطلق على هولندا اسم «الأراضي المنخفضة» لا يُقصد بذلك أنها منخفضة بالنسبة لغيرها من الدول المجاورة لها فحسب، وإنما يقصد بالتسمية انخفاضها عن سطح البحر (بحر الشمال) الذي يرابط عند حدودها الشمالية ويتهددها بالإغارة في كل لحظة من اللحظات.
في كثير من الأقاليم الشمالية بهولندا كنَّا نقف على أرض زراعة أو مرعى، فيقول لنا الدليل الهولندي: نحن الآن في منطقة تنخفض عن البحر بأربعة أمتار! وننظر إلى الأمام فنرى البحر على مسافة ليست بالقريبة وليست بالبعيدة، فنحس بالرعب، ونتساءل: إذا لم يكن ثمة خطر يتهددنا، وإذا لم يكن في وسع الأمواج الصاخبة أن تُغير في يوم ما على هذه الأراضي الواطئة فتكتسحها اكتساحًا بما عليها من نبات وحيوان وإنسان؟!
(٤-١) دولة على الماء
إن معظم أراضي هولندا وخاصة القسم الشمالي كانت جُزءًا من البحر في يومٍ من الأيام، والهولنديون ينظرون إلى البحر نظرتهم إلى عدوٍّ قديم ما من عداوته ومن صداقته بد!
إنهم يعتبرون البحر عدوهم؛ لأنه يتهددهم في كل لحظة باستعادة تلك الأراضي التي انتزعوها منه خطوة خطوة خلال جهاد وكفاح مرير طويل، إنهم كلما انتزعوا جُزءًا من البحر أحاطوه بالجسور القوية التي تعتبر بمثابة خطوط الدفاع للحياة التي ستدب عليه، ومع ذلك فإنَّ أقلَّ انهيار في هذه الجسور يُساعد مياه البحر على التسرُّب إلى الأرض التي أنشئوها وانتزعوها من قاع البحر، ومتى بدأت مياه البحر الأولى في التسرب تبعتها الجحافل القوية الكفيلة بهدم كل شيء، والقضاء على مظاهر الحضارة.
ومع ذلك فإنَّ الهولنديين لا يكفُّون عن الجهاد ضد البحر منذ أقدم العصور؛ وأعظم شاغل لهم اليوم هو إتمام تجفيف المنطقة البحرية المعروفة بخليج الزيدرزي، وإنشاء مناطق صالحة لحياة الإنسان والحيوان والنبات هناك.
(٤-٢) تجار بدمائهم
وقد ساعدهم ركوب البحر منذ العصور الأولى على النبوغ في الشئون التجارية، حتى لم يعد ينافسهم أحد في ذلك، ولا اليهود أنفسهم أصحاب الشهرة الأولى في هذا الميدان.
قال لي أحد رجالهم مُفاخرًا: إن الهولندي إذا لم يجد في بلده ما يتجر به ليربح، ذهب إلى بلد غريب واشترى منه ما يفيض عن حاجته من تجارة، ثمَّ جدَّ في البحث بعد ذلك عن مُشترٍ في حاجة إلى ابتياع ما اشتراه هو من البلد الغريب!
هذه هي حياتهم، تدور كلها حول التجارة، وقد بلغ من حرصهم على ربحهم من التجارة أن حرموا أنفسهم، حتى من مُنتجاتهم الخاصة، لكي تُباع في الأسواق الخارجية، أنت في مصر تشتري من الجبن الهولندي الذي يملأ الأسواق قدر ما تشاء، ولكن الهولندي في بلده لا يتناول من هذا الجبن إلا قدرًا ضئيلًا جدًّا هو المخصَّص له في التموين.
ولك بعد هذا أن تُسمِّي ذلك تجارة، أو «شطارة»، ولكن الإنجليز وقد درسوا الهولنديين وخبروهم جيدًا قالوا عنهم عبارة تصفهم أصدق وصف وهي: إنَّ ما يستلفت النظر في الهولندي هو أنه يأخذ منك كثيرًا ولكنه لا يُعطي إلا قليلًا!
(٤-٣) نظافة … وجمال!
والهولنديون — بعد ذلك — من الشعوب المغرمة بالعمل الشاق، ينصرف الرجال إلى مزارعهم أو مراعيهم أو متاجرهم، أمَّا ربات المنازل، فإنهن ينصرفن إلى العناية بنظافة المنازل، وقد لا يبدو ما نقول غريبًا؛ لأن مهمة المرأة هي أن تنصرف إلى العناية بنظافة منزلها، ولكن الواقع هو أن الهولندية تُبالغ في ذلك مُبالغة غير مألوفة تسترعي نظر كل غريب يزور هذه البلاد.
وهم يُحبُّون الزهور والورود، بل لقد بلغ من اهتمامهم بها أن وضعوها فوق عربات كبيرة يدفعها أصحابها من مكانٍ إلى آخر، وهم يصيحون بأسماء أنواعها المُختلفة ليشتري كل راغب ما يشاء، وهم يقبلون عليها إقبالهم على الطعام، ولا يعتبرونها من الكماليات، فإنَّ المنزل الذي يخلو من الزهور يعتبرُ ناقِصًا من عنصر هام من عناصر الحياة!
(٤-٤) الفن والرياضة
وإلى جانب حبهم للزهور والورود تراهم يحبون الموسيقى، وتسير في شوارعهم عربات كبيرة أخرى تنبعث منها نغمات موسيقية تُوازي ما ينبعث من آلات فرقة موسيقية كاملة العدد والعدد! ويحبُّون التصوير إذ يفخرون ببعض الهولنديين الذين خُلِّدت أسماؤهم بين المصورين العالميين مثل ريمبرانت وهالز، ولا تزال أكبر مجموعة من صورهم في متحف أمستردام، كما أن منزل ريمبرانت لا يزال قائمًا كما كان مُدَّة حياة الفنان الكبير، يحجُّ إليه من يشاء من المعجبين والمعجبات.
ويحبون الرياضة بجميع أنواعها حتى لقد أقاموا الأعاب الأولمبية في بلادهم في دورة من دوراتها، وفي دورة لندن الأخيرة عام ١٩٤٨، اشتركت إحدى نسائهم في المباريات على الرغم من أنها زوجة وأم، وفازت في مسابقات كثيرة، فلما عادت إلى بلادها استُقبلت كما يُستقبل الملوك والأبطال.
وهم يُحبون الدرَّاجات ولا يستغنون عنها، ويستعملها رجالهم ونساؤهم وأطفالهم، يخيَّل إليك في ساعة انصراف موظفي المحال التجارية وغيرهم أنك تشهد سباقًا للدراجات في شوارع المدينة، إذ يخرج كل إنسان على دراجته في طريقه إلى منزله، وقد بلغ من عنايتهم واهتمامهم براكبي الدراجات أنَّ أعدوا لها في كثير من المدن والأحياء طُرُقًا خاصة بها لا يسلكها الراجلون.
(٤-٥) المرأة الهولندية
والمرأة الهولندية شقراء متوسطة الجمال فارعة القوام، ولكنها متدفِّقة العاطفة، شديدة الحيوية، تحبُّ العمل، وتتمسك بقواعد الدِّين والأخلاق تمسُّكًا كبيرًا.
رأيت سيدة هولندية من الطبقة الوسطى، تدخل في بار من البارات في مدينة ليدن، وكان زوجها يحتسي الخمر في ذلك البار، وما لبثت السيدة أن خرجت من البار وقد أمسكت بذراع زوجها بقوة، وأخذت تجرُّه في الطريق جرًّا؛ لتُبعده عن البار، وتُعيده إلى المنزل، والرجل يصيح بها ويهددها بالانتقام عند الوصول إلى المنزل، ولكن السيدة كانت لا تأبه لتهديده واستمرَّت في طريقها، والزوج يتبعها ثائرًا صاغرًا!
ولا تزال الفلاحات الهولنديات، في كثير من المناطق، شديدات الاعتزاز بملابسهن القومية الغريبة وأحذيتهن الخشبية الكبيرة، وإذا زرن العاصمة ارتدين أجمل وأنظف هذه الملابس، وسِرنَ بها في خيلاء وزهو، ولا يرقصن الرَّقص القومي مع الرجال إلا وهنَّ مُرتديات هذه الملابس، وللفلاحين أيضًا ملابسهم القومية وأحذيتهم الخشبية التي لا تختلف عن أحذية السيدات، يرتدونها حتى اليوم في كثير من بلاد الأرياف.
(٤-٦) التجارة قبل السياسة
ولم يكن قد انقضى على الحرب العالمية الثانية أكثر من عام واحد، حتى هبَّ الهولنديون يُنادون بوجوب إحياء ألمانيا ومساعدتها على النهوض وتشجيع تجارتها، ممَّا كان سببًا في الدهشة والتشاؤم، حتى قال بعض الناس: هل هذه حقًّا هولندا التي كانت من أولى ضحايا ألمانيا النازية؟! هي التي تُنادي بذلك؟!
ولكن عرف بعد ذلك أن الهولنديين صدموا بما فعله الحلفاء — وخاصة في المنطقة الأمريكية — إذ حوَّلوا جزءًا كبيرًا من التجارة الألمانية، كان يصدر من قبل عن طريق مواني هولندا، وكانت هولندا تُفيد منه كثيرًا، حوَّلوه إلى المواني الألمانية نفسها برغم طول الطريق وطول المُدَّة التي يستغرقها نقله، فحرموا هولندا بذلك مصدر ربح وفير كانت تحصل عليه عندما تصدر هذه التجارة من موانيها أو على سفنها.
لهذا نادى الهولنديون — بل ربما كانوا أوَّل من نادى — بضرورة إحياء ألمانيا، ولم يكن ذلك حُبًّا في سواد عيون الألمان، بل رغبة في الربح.
(٤-٧) عرش النساء
إن العرش الهولندي في يد النساء منذ قرن من الزَّمان، وقد بقي في يد النساء قرنًا جديدًا، فمنذ مائة عام تقريبًا وملكات هولندا لا يلدن غير الإناث!
تربَّعت الملكة السابقة «ولهلمينا» على العرش الهولندي أكثر من نصف قرن، ثم سلمت مقاليد الحكم في صيف عام ١٩٤٨ لابنتها الملكة الحالية «جوليانا»، وسوف يرث العرش بعد «جوليانا» ابنتها الكبرى؛ إذ إنها لم تُرزق إلا بفتيات.
ويُحبُّ الهولنديون أسرتهم المالكة التي لا يتوارث عرشها غير النساء، وهم يتفاءلون بها، ويحبُّون صغيرات الملكة حبًّا شديدًا، ويجزلون الحب بنوعٍ خاص لهذه الطفلة الصغيرة التعسة الأميرة «ماريكا» المهددة بفقد نظرها، وكلما ظهرت لهم في مكان هتفوا لها عاليًا.
من أحسن ما قاله أحد الكُتَّاب السياسيين: «لقد كان وُجود النساء على عرش هولندا من أسباب التفاف الهولنديين حول هذا العرش وتفانيهم في الإخلاص له؛ فإنَّهم يرون في الملكة شخصًا تقضي عليهم تقاليد الفروسية القديمة أن يسهروا على حمايته والدفاع عنه بكل قطرة من دمائهم …»
(٤-٨) ماذا ترى في هولندا
إذا زرت أمستردام، فلا بد لك أن تزور متحف الصور الذي تُعرض فيه بدائع فن ريمبرانت وهالز وغيرهما من الأساطين، وفي وسعك أن تزور منزل ريمبرانت نفسه وتسمع من الدليل قصة حياته العجيبة.
ويجب أن تقوم برحلة في قنوات المدينة المتعددة، وسوف تصل في هذه الرحلة إلى الميناء نفسه، وستقف طويلًا أمام القصر الملكي لتعجب ببساطته، وسيزداد عجبك إذا عرفت أنَّ هذا القصر المنيف، الذي يبلغ من العمر ثلاثة قرون، قد بُني على الماء فوق ١٣٦٥٨ عمودًا خشبيًّا متينًا؛ ذلك لأن أمستردام كلها تنخفض عن سطح الماء ببضعة أمتار، وسيخبرك الدليل أن القصر بني في الأصل على ١٣٦٥٩ عمودًا، فلما أراد المهندسون منذ عامين، أن يطمئنوا على سلامة الأساس، انتزعوا عمودًا لاختباره، ولما وجدوه في حالة حسنة لم يضعوا بديلًا عنه!
وفي وُسعك أن ترى «ماركن» القرية الصغيرة التي يعيش فيها الفلاحون بملابسهم الوطنية، ولتذهب أيضًا إلى «الكمار» سوق الجبن الكروي المعروف باسم «رأس الميت» وسترى هناك منظرًا عجيبًا لتجار هذا الجبن بالجملة، وسوف تسر لرؤية الفلاحين، وهم يحملون هذا الجبن في السوق وقد ارتدوا ملابس غريبة نظيفة!
ويجب أن تزور لاهاي، فإنَّ أمستردام هي العاصمة حقًّا ولكن لاهاي هي مقرُّ الحكومة! ويجد الهولنديون صعوبة كبيرة في شرح هذه النقطة للأجانب، وينتهي الأمر بقولهم أن أمستردام هي العاصمة التجارية ولاهاي هي العاصمة السياسية!
وإذا زرت لاهاي — وهي لا تبعد عن أمستردام إلا ساعة واحدة بالقطار — وجب أن تزور «قصر السلام» فهو من أجمل القصور العالمية بما حوى من مُختلف التحف والتذكارات التي قدمتها كل دولة من الدول لتوضع فيه.
وعلى مقربة من لاهاي يُوجد شاطئ من أجمل شواطئ أوروبا وهو شاطئ ضاحية سخيفنينجن البديع.
وتقع في منتصف الطريق تقريبًا، بين أمستردام ولاهاي، مدينة ليدن المشهورة بجامعتها، وعلى مقربة منها مطبعة «بريل» التي تطبع الكتب بجميع لغات العالم، ومنها العربية، كما يقوم إلى جانبها «معهد الدراسات الشرقية»، وقد ألحقت به مكتبة كبيرة، ويجدر بكل مصري أن يزور هذا المعهد؛ ليستمع إلى قصة «سيدة سالمة» ويرى صورها وآثارها.
وقلب المنطقة التي تنمو بها الأزهار الهولندية الجميلة هي مدينة آلزمير الواقعة بين ليدن وهارلم، هناك ترى في شهر أبريل أكثر من ١٥ ألف فدَّان، وقد كُسِيَت كلها بالزهور الجميلة المُختلفة الألوان حتى ليخيَّل إليك من بعيد أنك أمام سجادة عجمية كبيرة جميلة قد فُرشت على الأرض! وهذا منظر لا يُمحى من الذاكرة هو الآخر.
ولو زرت إقليم فرينجرمير في أقصى الشَّمال لأكبرت العمل العظيم الذي قام به الشعب الهولندي، فسيتاح لك هناك أن تقف على الأرض التي كانت في يوم من الأيام جزءًا من البحر، وما زالت يد الإنسان تعمل بها حتى حسرت عنها الماء وردته على أعقابه، وحولتها إلى أراض زراعية ينمو عليها النبات، ويعيش فوقها الحيوان والإنسان!
ومن أحسن ما تشتريه من هولندا: المصنوعات الفضية الدقيقة والفراء والسيجار.
(٥) بلجيكا «الواحة الغنية في أوروبا الفقيرة!»
لا يكاد يُوجد في بلجيكا شبر من الأرض لم يكن في يوم من الأيام مسرحًا لموقعة حربية، فإن موقعها الجغرافي وثروتها قد جعل منها — منذ ألف سنة — ميدان المعارك لأوروبا الغربية.
وفي القرن الحادي عشر كانت بلجيكا سوقًا تجارية، يستبدل فيها التجار منتجات جنوب أوروبا بمنتجات الشمال، فقد كان يرد إليها الصوف من إنجلترا، والفراء من روسيا، كما كانت ترد إليها الموالح من إسبانيا ومصر.
ومُعظم دول أوروبا الكبرى احتلت بلجيكا، في يوم من الأيام، وحاولت أن «تروض» البلجيكيين ولكن عبثًا!
ويتحدث الناس في بلجيكا ثلاث لغات كما هو الحال في سويسرا، فبعضهم يتحدث الفرنسية، والبعض يتحدث الفلامية، والبعض الآخر يتحدث الوالونية.
(٥-١) خلق عجيب
وقد طُبع الخلق البلجيكي بشيئين: البهجة، والانشراح وحب النكتة، وقد اكتسبوا كل هذه الأشياء من الفرنسيين، ثمَّ الصلابة ومواجهة الحقائق، وقد اكتسبوهما من الألمان، ومن هذا المزيج العجيب نشأ الخلق البلجيكي!
وصار الخلق البلجيكي نتيجة لهذا المزج يتميَّز بالمادية المحسوسة والروحية المتغلغلة! فأنت هناك لا تجد فرقًا شاسعًا بين الحياة اليومية وبين الدِّين.
وهم يُحيون الحفلات الدينية حتى الآن بتناول الطعام والشراب والمرح، مع مراعاة الطقوس الدينية مراعاة تامة!
ولا يدهشك أن ترى البلجيكي يدخل مرقصًا من المراقص أو ناديًا من أندية الليل وهو يتأبط حافظة أوراقه، ولا يدهشك أن ينشغل عن الرقص ببحث بعض الأوراق والمناقشة مع زميل آخر من رجال الأعمال، بل قد يتم البحث أثناء الرقص نفسه، ولا عيب في ذلك ما دام سيُسفر في النهاية عن «عملٍ» أو«صفقة».
(٥-٢) يحبون الحفلات والطعام
والبلجيكيون يحبون الحفلات والاحتفالات منذ عهد بعيد، وكثيرًا ما يُسافر السُّكان من مدينة إلى أخرى سعيًا وراء الاشتراك في الاحتفالات المحلية، وقد حدث في عام من الأعوام أن أراد أحد ملوكهم تحديد الاحتفالات والإقلال منها، فكادت الثورة تشب بسبب ذلك.
وإلى جانب الاحتفالات يحبُّ البلجيكيون الطعام الجيد، والسَّائح الذي يُحبُّ الطَّعام الجيد يجب أن يزور بلجيكا، ومن أحسن ما شبهت به هذه البلاد أنها واحة غنية تتوسط أوروبا الجائعة! أسواقها ملأى بالطيور واللحوم وأنواع الجبن والفواكه والحلوى، وسُكانها يمتازون بالبدانة!
(٥-٣) شعب يحتفظ بشخصيته
وعلى الرغم من أنَّ بلجيكا خضعت لحكم فرنسا وبرجنديا وإسبانيا والنمسا وألمانيا تباعًا، فقد ظلت مع ذلك مُحتفظة بشخصيتها، ولو زرت معرض بريجل الدَّائم في سراي الفنون الجميلة ببروكسل لرأيت أن بريجل منذ خمسمائة عام قد نقل صور أسلافه وأسلاف الناس الذين يسيرون حتى اليوم في شوارع بروكسل، ولأمكنك أن تكتشف بسهولة أنَّ هؤلاء الناس لم يتغيروا كثيرًا طول هذه المدة.
وإلى جانب هذا يتميز البلجيكيون بالنظام والترتيب وبعد النظر، ولا يستقيم عندهم عمل إلا إذا وُضع على أساس.
كان الألمان لا يَزالون يحتلون بلادهم عندما بدأ علماء الاقتصاد في بلجيكا يُنظِّمون قواعد النقد والاقتصاد التي ستسير عليها بلجيكا بعد أن تستعيد حريتها وتجلو عنها جيوش الاحتلال، وقد يكون هذا هو السبب في متانة مركز الفرنك البلجيكي بأسواق المال.
حدث هذا في الوقت الذي شغلت فيه باقي دول أوروبا بالخلاص أوَّلًا من الاحتلال ولم تفطن دولة منها إلى أنَّ الوقت قد أزف للتفكير في بحث مشكلات بعد الحرب أو تنظيم النقد على أسس جديدة.
(٥-٤) قسمان
وتنقسم بلجيكا إلى قسمين: إقليم جبلي مرتفع، وإقليم سهل منخفض، كذلك تنقسم بروكسل نفسها إلى قسم مُرتفع وقسم واطئ، وتتميز المدينة الواطئة بمنازلها التي يرجع تاريخها إلى القرون الوسطى وبطرقها الكثيرة التعاريج، ويقطنها الفلاميون الذين لا يميلون كثيرًا إلى الاختلاط بسكان المدينة العليا.
أما المدينة العُليا، فيقطنها البلجيكيون الذين يتكلمون الفرنسية؛ وذلك لأن الحُكَّام — عندما احتلَّ الفرنسيون بلجيكا في العصور الوسطى، وكان الواحد منهم يحمل لقب «كونت لوفان» — كانوا يُفضِّلون دائمًا هواء المرتفعات.
ومع ذلك، فإنَّ سكان القسمين يجمعهم إعجابهم المشترك بتمثال واحد صغير يقع عند مُفترق شارعين صغيرين في العاصمة البلجيكية ويعرف باسم «مانيكان بيس»!
(٥-٥) المانيكان بيس
ويمثِّل «المانيكان بيس» ولدًا صغيرًا يقضي حاجته فيملأ حوضًا في أسفل المكان الذي يقف فوقه بالماء، وقد انقضى عليه وهو في هذا الوضع ٣٣٠ عامًا.
وقد أصبح هذا التمثال العجيب قطعة من التاريخ البلجيكي، وإذا زرت بروكسل لأول مرة، فإنَّ أول ما يقودك إليه البلجيكي لرؤيته هو «المانيكان بيس» فإذا سألته عن قصة التمثال ولمن هو، أبدى دهشته وأسفه لجهلك!
ويقصُّ عليك البلجيكي أنَّ التمثال لأحد دوقات البلجيك، وقد ورث العرش وهو لا يزال طفلًا، فخرج عليه بعض أفراد أسرته ممن طمعوا في العرش، واضطر الوصي على عرشه إلى الاستنجاد بأمير «الفلاندر» الذي لبَّى نداءه وأرسل إليه جيشًا كبيرًا، ولمَّا وصل جيش الإنقاذ إلى بروكسل توجَّه إلى القصر وهتف باسم الطفل، وأرادت أمَّه أن تُذكي نار الحماس في قلوب الجند فحملت إليهم الطفل، فضاعف ذلك من حميتهم وصمموا على أن يحملوه معهم إلى ميدان القتال فقبلت أمه.
ويُقالُ إنهم وضعوه في مكان أمين بالغابة وخرجوا من ذلك المكان للقاء أعدائه الطامعين في عرشه، ونام الطفل في مكانه، ولمَّا كان الأعداء أقوياء، فإن جنود «الفلاندر» لم يتمكنوا من هزيمتهم، وما لبثوا أن ارتدُّوا إلى الموقع الذي بدءوا الهجوم منه فرأوا منظرًا عجيبًا!
رأوا الطفل الصغير وقد استيقظ من نومه فوقف يقضي حاجته كما يفعل أي طفل في سنه، وخيِّل للجنود أنَّ الطفل إنما يفعل ذلك احتقارًا لشأنهم بعدما لحقهم من هزيمة أمام أعدائه، فما كان منهم إلا أن ضاعفوا من جهودهم، حتى تمكنُّوا من الانتصار على أعدائه، وتثبيته على العرش الذي كان على وشك الإفلات من يده.
وقد خَلَّد المَثَّال جيروم دي كيزتوي قصة هذا الملك في «المانيكان بيس»، وأصبح التمثال موضع فخر لسكان بروكسل أو لأهل بلجيكا جميعًا، وهم يعتزون به، ويحافظون عليه، ويرون في تكريمه تكريمًا لهم كما لو كان تمثال الجندي المجهول!
وقد تلقَّى التمثال هدايا كثيرة كان منها: «كيمونو» من السفير الياباني وقبعة «خوص» من موريس شيفالييه وحُلَّة مُرصَّعة بالجواهر والذهب من لويس الخامس عشر، وفي أعقاب الحرب العظمى أنعمت عليه فرقة القناصة الألبية التاسعة عشرة في الجيش الفرنسي برتبة «صول» وذكرت في قرار الإنعام أن سببه هو ما أبداه لجيش الغزو الألماني الذي كان مُرابطًا في بلجيكا، من عدم المبالاة والاكتراث «بعلامة ثابتة»!
(٥-٦) مشكلة الملكية
ونظام الحكم في بلجيكا هو النظام الملكي؛ لأن الشعب البلجيكي ملكي بطبعه، وقد كان الشَّعب شديد الالتفاف حول عرش الملك ألبير — والد الملك الحالي — كما أنه أحب الملك ليوبولد، والتف حول عرشه في أوائل حكمه، إلا أن ما وقع في الجزء الأول من الحرب العالمية الثانية، من تسليم ليوبولد لألمانيا، وما قيل وقتئذٍ من أنه تواطأ معهم وطعن الحلفاء في ظهرهم، أحدث أثرًا سيئًا في نفوس البلجيكيين، فاعترض كثيرون منهم على عودته إلى العرش …
وقد دافع الملك عن نفسه، وأنكر التُّهمة التي وُجهت إليه وأعلن أنَّه لا يعود إلى العرش إلا إذا رضي الشعب عن عودته.
ووارث العرش — بعد ليوبولد — هو الأمير بودوان، والشعب يحبه ويعد له استقبالًا حافلًا عندما يتولى عرش بلجيكا، ويقدس الشعب ذكرى زوجة الملك ليوبولد الأولى «الملكة أستريد» وهي التي قتلت في حادث سيارة كان الملك نفسه يقودها في سويسرا، ولعلَّ من أسباب نفور الشعب البلجيكي من عودة ليوبولد إلى عرشه زواجه الثاني من ابنة أحد التُّجَّار الأثرياء، فإنَّ حب الشعب لأستريد جعله يكره من احتلت مكانها في قلب الملك ومنزله.
(٥-٧) ماذا ترى في بلجيكا
إنَّ بروكسل من عواصم أوروبا الكبرى التي تستحق الزيارة وهي تشبه باريس إلى حد ما.
وميناء أنتورب يستحق الزيارة وهو لا يبعد عن بروكسل أكثر من ٢٨ ميلًا. وتعتبر «أنتورب» ثالث مواني العالم في الأهمية وفيها أكبر أسواق الماس.
وإلى الغرب من بروكسل يقع السهل الفلامي الغني وأهم مدنه «غنت» و«بروج» و«أوستند»، وجميع هذه المدن تستحق الزيارة، و«أوستند» من الشواطئ الأوروبية المشهورة، ومنها تقلع البواخر إلى ميناء «دوفر» بإنجلترا.
•••
وأحسن ما تشتريه من بلجيكا — وخاصة من بروكسل وبروج — المخرمات أو (الدنتلا) التي تصنع باليد، وهي غالية الثمن، وفي وسعك أن تشهد السيدات اللاتي تخصَّصن في صنعها، وهن يشنتلن فيها بدقة لا مثيل لها في أية صناعة أخرى.
وتشتهر بلجيكا كذلك بأسلحتها وبخزفها.
(٦) فرنسا
الفرنسي صغير الجسم، صغير الرأس، صغير الأعضاء، صغير القدمين؛ ولذلك تحب شعوب أوروبا الأخرى أن تطلق على الفرنسيين اسم «يابان أوروبا» ومع هذا فإننا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن تاريخهم حافل بالأحداث والأمجاد وإنهم احتلوا في القارة مكانًا ساميًا.
ولكن آفاقهم محدودة! إنهم لا يطمئنون إلى المستقبل، ويضحكون إذا حدثهم أحد عن عالم بدون حرب، ويسخرون هازئين إذا سمعوا أحدًا يقول بإمكان إنشاء اتحاد عالمي يضم الشعوب البشرية جميعًا … إنهم لا يؤمنون بشيء من هذا مطلقًا، ولعل ما قاسوه في تاريخهم من ويلات جارتهم القوية — أو التي كانت قوية — ألمانيا، هو الذي جعلهم لا يؤمنون بقيام عالم دون حرب أو بإمكان إنشاء اتحاد عالمي … وشعارهم للمستقبل هو: «ما قدر سيكون …» و«لا جديد تحت الشمس» … ومع هذا فإنهم أقوياء يحبون العمل!
(٦-١) الفلاحون مصدر القوة
إن الزراعة هي التي خلقت قوة فرنسا، ومن المزارع الفرنسية يمون الجيش الفرنسي بالرجال ومن جهود الفلاح الفرنسي يعم الرخاء في فرنسا، وتمتلئ خزائن بنك فرنسا بالذهب … ولعلنا في مصر نفهم هذه الحقائق أكثر من أي شعب آخر فإن الفلاح المصري هو الجندي المجهول — أو بالأحرى الجندي الذي نتجاهله في بلادنا …!
يروى عن فوش — مارشال فرنسا — أنه كان يحمل عصا قصيرة صنع مقبضها بحيث يمثل صورة فلاح جندي من جنود فرنسا … وكان فوش إذا سئل في ذلك، قال: إن هذا الفلاح المحارب هو الذي تمكن في الحرب العظمى من وقف جحافل الألمان عند فردان … ولولا هذه الوقفة المشهورة لخسر الحلفاء تلك الحرب.
والفلاحون في فرنسا هم الذين يمدون البلاد بالأطفال، ولولاهم لسار عدد السكان في طريق النقصان؛ ذلك لأن أفراد الطبقة الوسطى لا يميلون إلى إنجاب أكثر من ابن واحد في حين أن المزارعين — لطبيعة عملهم — يحتاجون إلى أبناء كثيرين لمساعدتهم.
ووجوه الشبه متعددة بين فلاح فرنسا وفلاح مصر، فلا يزال عدد كبير من فلاحي فرنسا يعمل بيديه طول اليوم دون أن يشكو أو يتململ، ومزارع قليلة هي التي تستعمل الآلات.
وعدد كبير من فلاحي فرنسا لا يجد في القرية ما يتسلَّى به، وحتى إذا وجد السينما فإنه لا يذهب إليها، ولا يقرأ الصحف إلا نادرًا ولا يهمه ما يحدث خارج قريته، وإذا قلنا عنه إنه يحب أرضه أو يخلص لها كان ذلك قليلًا بالنسبة للحقيقة، فلنقل إذن إنه يعبد أرضه، ويتخذ منها دينه وكتابه!
(٦-٢) … والعمال!
أما العمال في المصانع والمناجم، فإنَّهم أيضًا من المُجِدِّين الذين يكدحون في حياتهم، ولكنهم أبدًا غير مستقرين تمتلئ نفوسهم ضغينة ضد الأثرياء وأصحاب رءوس الأموال.
وهم شديدو الاهتمام بالسياسة، بعكس الفلاحين، فإنهم يميلون للثورة السريعة، والالتفاف حول أي زعيم يتصدَّى لقيادتهم ولا يترددون في الإضراب والتظاهر.
وتُنَفِّسُ الملاعب المختلفة عن تعلُّقهم بالسياسة بما تُقدمه لهم من روايات سياسية خفيفة يسخر فيها الممثلون والمهرجون من قادة البلاد ووزرائها وعظمائها وهم يقومون بأدوارهم أمام جمهور يُصفِّق إعجابًا بهم وبنكاتهم ويعلق عليها!
(٦-٣) يكرهون الضرائب ويتهربون منها!
والفرنسيون يكرهون الضرائب بطبيعتهم، ويثورون كلما فُرضت عليهم ضريبة جديدة، بعكس الإنجليز الذين ضربوا الرقم القياسي في قبول الضرائب والترحيب بها، إذا كان هناك من يرحب بضريبة!
ولذلك لا يتردد أي تاجر فرنسي في أن يفتح لنفسه — في تجارته — حسابين؛ الحساب الرسمي الذي يقدمه لمصلحة الضرائب، وهو حساب لا يمثِّل الحقيقة، ويتحايل فيه على أن يخرج في نهاية العام خاسرًا أو قليل الربح حتى لا يدفع ضريبة، والحساب الرسمي — وهو حساب سرِّيٌّ — يعرف منه حقيقة أرباحه ولا يطْلِعُ عليه أحدًا.
ولا يرى الفرنسيون جُرمًا في التهرُّب من دفع الضرائب، إذا لم نقل إنهم يجدون ذلك واجبًا عليهم، وتعليل هذه الظاهرة أنهم يعتقدون أنَّ الضرائب التي يدفعونها إنما تذهب إلى جيوب السياسيين اللصوص الذين ينفقونها على ملذاتهم ونسائهم!
ويرى البعض أنَّ هذا وحده ليس السبب، وإنما يرجع إلى طبيعة الفرنسي الذي يحب الثروة، ويكره أن يُؤخذ منه ما تمكن من كسبه!
(٦-٤) السياسة والفن
والفرنسي حاضر النكتة يحب التلاعب بالألفاظ، وربَّما كانت باريس البلد الوحيد في العالم الذي يقدم لك فيه «البارمان» كأسًا من الشراب، دون أن يُطالبك بثمنه، على شرط أن يسمع منك نكتة جديدة يطرب لسماعها! وهو لا يخسر شيئًا في ذلك؛ لأنه سيتجر بالنكتة التي سمعها منك، وسيكسب وهو يقصها على زبائن البار، أضعاف ثمن الكأس!
وأوَّل ما يُحب أهل فرنسا أن يكون موضوع نكاتهم هو السياسة، ويتبعه موضوع الجنس الذي برعوا فيه إلى حد كبير، وهم لا يتورَّعون عن الخروج في نكاتهم — سواء في السياسة أو الجنس — عن وجود الآداب والأخلاق، ولكنهم مع ذلك يعرفون كيف يتلاعبون بالألفاظ بحيث لا يستعملون في هذه النكات الخارجة ألفاظًا نابية أو معيبة.
ومع ذلك فإنَّ ما ينشره البعض عن انتشار الرذائل الجنسية والخيانة الزوجية، والفضائح في فرنسا لا يقوم على أساس صحيح، وإنَّما يرجع تاريخ ذلك إلى منتصف القرن الماضي حين كانت ألمانيا تعتبر مثلًا في الفضيلة، وكانت إنجلترا تتمسك بالتقاليد والآداب، في ذلك الوقت كان مرح الفرنسيين وخروجهم على التقاليد المألوفة في صراحة لا تعرف الرياء يبدو في نظر العالم كله كأنه الرذيلة في أبشع مظاهرها، ولكن منذ ذلك الوقت تقدمت آداب الفرنسيين وأخلاقهم في حين تدهورت أخلاق جيرانهم، سواء أكانوا من الإنجليز أم من الألمان، وإن حاولوا التظاهر بغير ذلك.
(٦-٥) المرأة الفرنسية
قد يدهش القارئ أن يعرف أنَّ العناية التي تُبذل في سبيل تربية الفتاة الفرنسية، وأنَّ الرِّقابة التي تُفرض عليها أكثر كثيرًا من العناية أو الرقابة التي تُبذل على الفتاة الإنجليزية والأمريكية، إن الفتاة الفرنسية لا تعيش حياة بوهيمية ولا تتردد على «الفولي برجير» أو«الكازينو دي باري» ولا تقرأ الأدب المكشوف، كما يتصور بعض الناس.
ولكنها مع ذلك تتزوج في سن مبكرة، ولها بعد الزواج أن تفعل ما تشاء وأن تتمتع بحريتها كاملة إذا لم تُوفَّق في الزواج، وقد تُطلَّق في هذه الحالة، وقد تتخذ لنفسها صديقًا إذا شاءت، كما أنَّ من حق الزوج هو الآخر أن يتخذ لنفسه صديقة، ولكن مثل هذه الحالات الشائعة ليست القاعدة على كل حال، فالحياة العائلية مُستقِرَّة، وأكبر عيب من عيوبها أنَّ كل أسرة مُنطوية على نفسها فالتزاور قليل.
وزواج الحب هو الغالب أو أنه القاعدة، ولكن ما أن يتم الزواج بين العاشقين حتى يثوبا إلى رُشدهما، وتغلب على حياتهما وعلاقتهما الزوجية الرُّوح العملية بعد أن تخمد ثورة العاطفة!
وقد عرفت المرأة الفرنسية بدقتها، ولكنها تسير بدقتها هذه إلى أبعد مما تسير الإنجليزية أو الألمانية حتى تتحول الدقة إلى أناقة! وقد حباها الله هبة الرشاقة حتى أصبحت هي التي تنشر «الموضة» على العالم كله، وأصبح اسم باريس عنوانًا لكل جميل رشيق محبوب.
إنَّ الفرنسية لا تُوازي الإنجليزية أو الأمريكية جمالًا، ولكنها — مع ذلك — هي التي ترسم لهما ملابسهما! وكل ما يُؤخذ عليها أنها قد تُسرف أحيانًا في زينتها «التواليت» كما أنها تحب التعطر.
ولكل فرنسية عطرها الخاص لا تبدله ولا تُغيره حتى ينتهي الأمر بأن يلتصق بشخصيتها، وقد يبدأ الغرام بين الرجل والمرأة هناك بسبب عطر جميل ينفذ إلى أنف الرجل فيبحث عن صاحبته، وما يلبث أن يحبها، ويتزوجها.
(٦-٦) شعب رياضي
والفرنسيون يحبون الألعاب الرياضية حُبًّا لا يقلُّ عن حبِّ الإنجليز لها، وإن كان الإنجليز يُفاخرون دائمًا بأنهم هم الذين علموا الفرنسيين حب الرياضة، وذلك على أثر نزول قواتهم إلى فرنسا في الحرب العظمى (١٩١٤–١٩١٨) وعلى أي حال من الأحوال، فقد بلغ حب الفرنسيين للرياضة أن أصبح الراديو عندهم — كما قال أحد المتفكهين — يستعمل لسماع الأخبار الرياضية أكثر مما يستعمل لسماع أخبار هيئة الأمم المتحدة!
ولكن الرياضة لم تلهِهِم عن الاهتمام بالتعليم، فهو يُعتبر واجبًا أساسيًّا وأكبر ما يهتمون به في التعليم هو حفظ الشعر الفرنسي، ودراسة جغرافية فرنسا دراسة دقيقة، والاعتزاز بتاريخ فرنسا، لقد طبعوا التعليم كله بالطابع الوطني الصميم، وليس من الغريب أن تعثر في فرنسا على فتاة لا يزيد عمرها على ١١ سنة وهي تحفظ عن ظهر قلب شعر راسين وكورني، وهي تقصُّ عليك تاريخ جان دارك ومعاركها بالتفصيل، بل إن كل فتاة فرنسية تتخذ من جان دارك مثلًا أعلى، ولا تتردد — إذا سنحت لها الفرصة — أن تُقدم على أية تضحية تُطلب منها.
وللفتيان مثل هذه الروح الوطنية المتوقدة.
(٦-٧) بلاد الحرية!
إن زائر باريس أو فرنسا — لأول مرة — قد يشعر باليأس لما يلقاه من سوء معاملة «الجرسون» في المطعم أو من سرعة سائق السيارة أو لعدم استقباله في مقر الأسرة، أو لما قد يلقاه من جفاء في المعاملة إذا ذهب ليشتري شيئًا، أو غيره.
ولكن — على الرغم من كل هذا — ظلَّت فرنسا وباريس مركز جاذبية لكلِّ سكان العالم، والأجنبي يشعر في باريس أنَّه في بيته أكثر مما ينتابه هذا الشعور في أية عاصمة أخرى.
وأهم سبب لذلك ما تتمتَّع به هذه البلاد من حرية اشتهرت بها منذ نشرت الثورة الفرنسية الكبرى مبادئها الثلاثة: الحرية، الإخاء، المساواة.
فليس في فرنسا من يبحث وراء الغريب ليعرف من هو؟ ومن أين وصل؟ ولماذا جاء؟ وهل السيدة التي تصحبه هي زوجته أم لا؟
وإذا شاهدوه يقبِّل فتاة في «المترو» حوَّلوا أنظارهم إلى ناحية أخرى.
أمَّا أفكاره السياسية فهي ملك له وحده، لا شأن لأحد بها، ولهذا يشعر الأجنبي في فرنسا أنه في بيته!
(٦-٨) أين تذهب في فرنسا؟
تعتبر فرنسا من أولى بلاد السياحة في أوروبا أو في العالم؛ لأن السَّائح يجد بها كل شيء، بها مجموعة من مُدُن المياه تكاد تصلح لجميع الأمراض التي اكتشفها الطب حتى اليوم، وبها السواحل والشواطئ الجميلة ذات الشُّهرة العالمية في الصيف وفي الشتاء، وبها البقاع الجبلية ذات الجمال الساحر، وهي لا تقلُّ جمالًا في بعض الجهات عن سويسرا، والرِّيف الفرنسي مشهور هو الآخر بنظافته وجماله، وهكذا يجد السائح أنَّ فرنسا جمعت فأوعت.
أقاليم جبلية
وينتهي وادي شامونيكس إلى طريق يُشبه عنق الزجاجة يُؤدِّي إلى سويسرا، وتُوجد في ذلك الإقليم ثلاث بحيرات جميلة هي ليمان وبورجيه وأنيسي، وقد تغنى جميع شعراء فرنسا تقريبًا بجمال هذه البحيرات وعلى الأخص لامارتين.
ومن الأقاليم الجبلية الأخرى في فرنسا إقليم البيرنيه؛ والبيرنيه هي الجبال التي تفصل بين فرنسا وإسبانيا، وهذا الإقليم لا يزال على حالة الفطرة الأولى، ولذلك يقصده الذين يميلون إلى الحياة في قرى الرعي الصغيرة، وأهم المدن التي تستحق الزيارة في إقليم البيرنيه مدينة لورد، وهي إلى جانب شهرتها بجمال الطبيعة كعبة للحجَّاج المسيحيين الذين يُؤمونها بالآلاف تبرُّكًا بعذراء لورد المشهورة، ويصلُّون في الكهف المعروف هناك حيث ظهرت العذراء لبرناديت وأمرت بأن تُبنَى كنيسة في المكان الذي انبثق فيه الماء، ويعتقد كثيرون من المرضى أنَّ هذا الماء يشفيهم من أمراضهم.
وفي إقليم البيرنيه توجد «اندورا» وهي عبارة عن وادٍ مُستقل يعيش فيه نحو ستة آلاف شخص يشتغلون بالتهريب بين فرنسا وإسبانيا.
الأقاليم الساحلية
أشهر أقاليم فرنسا الساحلية هو ساحل الريفييرا؛ وهو شاطئ فرنسا الجنوبي الذي يطل على البحر الأبيض المتوسط، ويُطلق عليه الفرنسيون «الكوت دازور»؛ وذلك لامتيازه بالشمس والدفء، وخاصَّة في الشتاء، ويمتد الكوت دازور حتى مدينة «فنتيمليو» على الحدود الإيطالية، ويضم الكوت دازور مجموعة من أجمل المدن الساحلية والجبلية، وهي تتميز بالدفء في الشتاء؛ إذ تحميها جبال الألب من رياح الشمال الباردة، كما تشتد بها الحرارة صيفًا فيخفف من حدتها هواء البحر العليل.
وأجمل المدن التي تستحق الزيارة على هذا الساحل: «نيس» و«كان» و«أنتيب» و«جوان ليبان» و«جراس»، وتستطيع أثناء إقامتك في أي مدينة من هذه المدن أن تزور إمارة مُوناكو وتعود إلى فندقك في نفس اليوم، وتعتبر مدينة نيس عاصمة الإقليم كله.
ونيس مدينة لطيفة بها بعض حمامات متقاربة أنيقة، ويستحسن زيارتها في فصل الشتاء.
وأجمل ما في نيس هو «منتزه الإنجليز» الواقع على شاطئ البحر، وهو أشبه بشارع الكورنيش في الإسكندرية، ويتميز بأشجار النخيل المزروعة في وسط المنتزه.
ويمتاز منتزه الإنجليز بالفنادق الفخمة وصالات الموسيقى والرقص التي تنبعث منها الموسيقى بالليل.
والكورنيش الذي يصل بين نيس ونهاية الحدود الفرنسية يتكوَّن من ثلاث شعب فهناك الكورنيش الأعلى، والكورنيش الأوسط، والكورنيش الأدنى.
والأدنى: هو القريب من البحر، أمَّا الأعلى: فهو الجبلي المرتفع.
ولفرنسا ساحل آخر من أجمل السواحل على المحيط يطلق عليه اسم السَّاحل الفضي أو «كوت دارجان»، كما يطلق عليه أيضًا اسم ساحل الباسك، وأهم مُدُن هذا الشاطئ مدينة بياريتز، والإقليم قريب من حدود إسبانيا وجبال البيرنيه الشاهقة الارتفاع ذات المناظر الساحرة.
ومن أقاليم فرنسا الأخرى التي تستحق الزيارة: إقليم الألزاس واللورين. وأهم مدنه ستراسبورج، وإقليم نورمنديا وبريتاني.
(٧) باريس
باريس عاصمة فرنسا، أو عاصمة أوروبا، أو قل: إنها عاصمة العالم كله! ومن سافر إلى أوروبا، ولم يرَ باريس كان كمن لم يسافر ولم ينتقل.
والطريق البرِّي من مرسيليا إلى باريس ممتلئ بالمناظر الجميلة؛ فيه الجبال العالية المكسوَّة بالغابات والأشجار الخضراء والوديان والأنهار، وتمرُّ بك عشرات المدن والقرى الصغيرة المتناثرة هنا وهناك تلفت النظر بمنازلها المبنية بالطوب الأحمر ذات السقوف المنحدرة والحدائق الصغيرة والمداخن العالية.
وإذا وصلت إلى باريس لفت نظرك تلك الطُّرقات الفسيحة والمباني الفخمة ذات اللون القاتم الذي تتميَّز به مباني باريس.
لا بد لك أن تزور معالم باريس: قوس النصر الذي يرقد تحته الجندي المجهول تحيط به شعلتان من النار المضطرمة التي لا تخمد لترمز إلى التضحية وعظمة الاستشهاد في سبيل الوطن! ولا بد لك أن تزور نصب الحرية الذي أُقيم مكان سجن الباستيل الذي اعتبر يوم سقوطه عيدًا للحرية لا تزال فرنسا تحتفل به إلى اليوم، يوم ١٤ يوليو من كل عام، ولا بد لك أن ترى المسلَّة المصرية.
أود أن تستريح رفاتي على شاطئ السين إلى جانب ذلك الشعب الذي أجزلت له الحب!
ويُمكنك أن تقضي ساعات لطيفة في متحف الشمع العالمي المشهور المعروف باسم «متحف جريفان» وفيه صالات مرايا ومسرح تُعرض فيه بعض ألعاب الشعوذة.
ولا بدَّ لك أن تزور في باريس الجامع المشهور؛ فهو من معالمها الخالدة.
ولتَزُرْ كذلك بعض الكنائس المشهورة مثل نوتردام والمادلين والساكركير، فكلها تستحق الزيارة.
ولا تغفل زيارة دار الأوبرا وبعض المسارح المشهورة و«كازينو دي باري» و«الفولي برجير»، والحدائق المشهورة في باريس كحدائق التويلري، وغاب بولونيا وحديقة لكسمبرج.
ولا بدَّ لك أن تتجول في الحي اللاتيني، حي الطلبة، لترى مُستعمرة أجنبية في قلب باريس تمرُّ فيها جميع الجنسيات، وتسمع فيها جميع اللغات.
وستشهد في باريس منظرًا غريبًا لا مثيل له في مكان آخر، ستشهد قبلات العُشَّاق على قارعة الطريق وفي المشارب والمطاعم وفي قطار «المترو» وسيارة «الأوتوبيس» إنَّ العُشَّاق في باريس لا يُبالون بالحاضرين عندما يتبادلون القبلات، وتقضي الآداب والتقاليد الباريسية ألا ينظر أحد إلى العُشَّاق وهم يتبادلون عناقهم أو قبلاتهم، فحذار من النظر إلى ناحيتهم!
(٧-١) ماذا تشتري من باريس!
تشتري من باريس التُّحف والآثار القديمة، وأكبر تُجَّارها في شارع جاكوب وفوبور سان لو نوريه، وعلى شاطئ السين تجد كثيرًا من باعة الكتب القديمة والصور، وتجد في باريس المَحَالَّ ذات الشهرة العالمية كاللوفر والبرنتان، ويمكن أن تشتري منها أي شيء، وأحسن ما يُشترى من باريس ليقدم هدايا: العطور المُختلفة، وأدوات الزينة (التواليت) والملبوسات الجميلة، وفي باريس كذلك تجد أجمل الزهور وأحدث «الفساتين» والفراء والشرائط والمخرمات، وصيني ليموج وتطريز أوبيسون.
ولا يجب أن تغادر السيدة الأنيقة باريس دُون أن تمر بدار من دور الأزياء المشهورة، وإذا ذهبت إلى هناك فلتضع نفسها تحت تصرُّف البائعة، ولتستمع إلى نصائحها، فمهما كانت هذه السيدة مُتقدِّمة في السِّن غير أنيقة الملبس، فإنها تعرف ما يُناسب السيدة وما لا يناسبها، وقد تقول لها في صراحة: «آسفة يا سيدتي، هذا الثوب ليس لك!» ولكن يجب أن تصارح السيدة البائعة بما تريد.
(٨) موناكو
يطلق على شاطئ فرنسا الجنوبي الشرقي المُطلُّ على البحر الأبيض المتوسط اسم «الكوت دازور»، كما يطلق على الشاطئ الآخر الواقع في الغرب اسم الساحل الفضي، أو «الكوت دارجان» وإذا زرت السَّاحل الذهبي وقضيت به أسبوعًا بين «كان» و«نيس» أمكنك أن تزور إمارة موناكو التي تقع فيها مدينة مونت كارلو: مدينة الزهور.
وتشغل عاصمة الإمارة أكبر جزء من مساحة هذه الدولة الصغيرة، أو دولة الجيب كما يسمونها، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: لاكوندامين، وموناكو، ومونت كارلو.
(٨-١) استقلال تام
ومن السَّهل أن تقوم برحلة بحرية من نيس حتى الحدود الإيطالية التي منها تبدأ الريفييرا الإيطالية بعد أن تنتهي الريفييرا الفرنسية عند مدينة منتون.
وتزور في أثناء هذه الرحلة البحرية الجميلة إمارة موناكو المستقلة، وهي مستقلة بكل معنى الكلمة؛ إذ لها جيشها وحاكمها اسمه «الأمير» وأهلها لا يدفعون الضرائب لفرنسا، وأهم مُدُن الإمارة الثلاث الصغيرة هي مدينة مونت كارلو أشهر مدن القمار في العالم كله.
وفي وسعك أيضًا زيارة إمارة موناكو بطريق البر لكي تشهد قصر الأمير في موناكو وترى المتحف الأقيانوسي الذي يجمع أشهر أنواع الأسماك والأحياء المائية الأخرى في العالم.
قال الدليل …
إنَّ دخل الإمارة وإيرادها وأتعاب الأمير أو مُخصَّصاته كلها تحصل من أرباح كازينو مونت كارلو، ومن إيراد الفنادق المشهورة هنا وأهمها «أوتيل دي باري» و«أرميتاج» ويُقال إنَّ الأمير يُشرف بنفسه على الإدارة العُليا للفنادق ولكازينو مونت كارلو؛ لأن مصلحته مرتبطة بمصلحتها!
(٨-٢) هكذا الديمقراطية!
وهذا الاهتمام العظيم بإيرادات الدولة قد دعا الأمير إلى أن يفتح باب قصره للجميع، فلكل فرد في «الدولة» أن يحمل شكواه رسميًّا إلى القصر، وأن يطلب مُقابلة الأمير شخصيًّا، فيلبِّي الأمير طلبه.
والأمير شديد الاهتمام بنوع خاص بشكاوى الجرسونات، وخاصَّة إذا كان الواحد منهم يشغل منصب الرئيس أو (المتردوتيل)؛ وذلك لأنَّ استقالة رئيس الخدم أو غضبه قد تُؤدِّي إلى ارتباك في عمل الفندق، والارتباك في عمل الفندق المشهور، أو المطعم، قد يُؤدِّي إلى غضب الزبائن من أثرياء الإنجليز والأمريكيين والشرقيين النازلين في هذا الفندق.
وغضب الزبائن يُؤدي بالتالي إلى الانتقال من الفندق والإعراض عن الإمارة كلها مما يُؤثِّر في إيرادها، وإذا تأثَّر إيراد الإمارة تأثر معه ربح حضرة السمو الملكي أمير موناكو!
وكانت أصوات الضحك قد ارتفعت من جوانب الباخرة، ونحن نسمع هذا الشرح الظريف من دليلنا الفرنسي خفيف الروح، والمعروف أنَّ أغلب سُكَّان الساحل الجنوبي لفرنسا من الظرفاء، وخاصَّة أهل مرسيليا، فلا عجب أن أضحكنا هذا الدليل على حساب الأمير!
واستأنف الرجل حديثه فقال: ولا يستنكف الأمير من مُقابلة أي جرسون يعمل في أي فندق من فنادق الإمارة، وهو يستمع لشكوى كل فرد من رعاياه المخلصين، أما المظلوم فإن الأمير يُطيِّبُ خاطره، ويتدخَّل في الأمر، ويتوسَّط لدى الرؤساء حتى يمنح الشَّاكي حقه، كل ذلك حرصًا منه على مصلحة الدولة العليا!
ولإمارة موناكو جيشها، وهو يتكون من بضع عشرات من الضُّباط، وبضع مئات من الجنود، وللأمير قصره، وأمامه ساحة يستعرض فيها جيشه الباسل في المناسبات الرسمية.
ولا يزيد عدد أفراد هذا الجيش الباسل على ستمائة من الجنود، كما أنَّ الجيش يملك مدفعين من طراز قديم يستعملهما في المناسبات الرسمية!
(٨-٣) في مونت كارلو؛ مدينة القمار
مونت كارلو، مدينة القمار تكاد تكون جنَّة صغيرة؛ إذ تنتشر فيها الحدائق الجميلة وتتوفر فيها النظافة التامة، ويسودها السُّكون، فإنَّ أهلها ينصرفون إلى عملهم في حين ينفق الزوَّار الأجانب الساعات الطوال أمام موائد القمار.
وقد أُقيم كازينو القمار المشهور فوق ربوة عالية تُشرف على البحر.
ولكي تدخل إلى الكازينو تشتري تذكرة لا يزيد ثمنها على ٢٠ فرنكًا، كما تودع كل ما تحمل في مكان خاص عند الباب، وتدفع أجر ذلك مقدمًا، مع أنَّ العادة جرت ألا يدفع أجر حفظ هذه الأشياء في دور السينما والمسارح والمطاعم الكبرى إلا بعد الخروج.
ولكن يظهر أنَّهم في مونت كارلو يحتاطون لما قد يحدث من خروج بعض الأشخاص من الكازينو، وقد خسروا كل شيء، ولم يعد في جيوبهم حتى الفرنكات الخمسة التي تدفع أجرًا للمحافظة على المعاطف والقبعات!
وإذا دخلت كازينو مونت كارلو وجدت موائد «الروليت» في كل مكان، وهناك صالون خاص للاعبي «الباكارا» تشتري تذكرة دخول جديدة إذا شئت أن تدخله!
(٨-٤) الروليت
وتزدان موائد «الروليت» بطائفة من النساء معظمهن من العجائز، وأمام كل واحدة منهن مجموعة من «الفيشات» الملونة وهي عملة مونت كارلو أو كازينو مونت كارلو.
وترى النِّساء منهمكات في اللعب بشكل عجيب، وقد أمسكت كل واحدة منهن بيدها قلمًا من الرصاص، وأمامها الورق تُسجِّلُ فيه نتيجة كل دورة من دورات كرة الحظ بعد أن تستقر على الرقم الرابح.
ولا أعرف بالضبط ما هو المقصود بهذا الحساب، أهو الوصول بطريقة حسابية إلى الرقم الذي ستستقر فيه كرة الحظ في الدورة القادمة؟ أم هو نوع من الحساب السحري يُقصد به معرفة الرقم الرَّابح مُقدمًا؟
ويستولي «القمار» أثناء اللعب على مشاعر اللاعبين واللاعبات حتى أنَّ أحدًا منهم لا يُبالي بأن ينظر إلى الزائرين والزائرات الأجانب الذين يقفون من وراء الموائد يتفرَّجون عليهم ويراقبون حركاتهم.
ويوضع أمام كل لاعب عصا صغيرة يستعملها في سحب أرباحه بعد أن ينتهي الدور.
(٨-٥) التشاؤم والتفاؤل
ولاعبو القمار في مونت كارلو يتشاءمون ويتفاءلون بأبسط الأشياء، فقد يكتشف لاعب أنه وصل إلى الكازينو في سيارة تحمل الرقم ٨ وأن عدد اللاعبين معه على المائدة ٨ أيضًا، فيتفاءل بهذا الرقم ويلعب عليه فيربح، وبذلك يزداد إيمانه بهذا الرقم!
وإذا نظر المقامر صدفة وهو في طريقه إلى الكازينو، فوجد أنَّ سيارته تحمل رقم ٤٢٠١ مثلًا، ثم جمع الأرقام التي تتكون منها هذه النمرة ووجدها ٧ اعتقد أن القدر يُوحي إليه بأن يلعب تلك الليلة على رقم «٧» وأنه سيكون من الرابحين إذا قامر على هذا الرقم!
وقد يحدث فعلًا أن يربح المقامر في ذلك اليوم إذا لعب على الرقم «٧» فيعتقد أن هذا الرقم هو رقمه المختار وسر حظه الحسن!
(٨-٦) ممنوع الدخول
ويتشاءم المقامرون من رؤية الكهنة ورجال الدين، ولذا يحرم عليهم الدخول إلى كازينو مونت كارلو خوفًا من نفور اللاعبين عند رُؤيتهم، وخاصة الذين يخسرون منهم.
ورجال الدين طبعًا لا يتردَّدون على كازينو مونت كارلو، وإنما قد يحدث للأجانب منهم، الذين يمرون بإمارة موناكو، أن يرغب بعضهم في زيارة الكازينو من باب «العلم بالشيء» فقط!
وهناك أشياء غريبة يتفاءل بها اللاعبون ومنها: جلود الثعابين، وحدوات الخيل وذيول الخنازير! بل لقد تناقل الناس أحاديث مختلفة عن سيدة تتردد على الكازينو لتلعب وفي حقيبتها قلب غراب متعفن تعتقد أنها تربح كلما لامس نقودها، وقد كلفها الحصول عليه مبلغًا وفيرًا من المال.
ولعلَّ أغرب ما يتفاءل به اللاعبون «حبل المشنقة» ولا يمكن للمقامر طبعًا أن يحمل حبلًا بأكمله من حبال المشنقة، ولذلك فإنه يكتفي بجزء صغير من هذا الحبل يضعه أمامه وهو يلعب، وقد تكلَّف أحدهم للحصول على قطعة حبل المشنقة لا يزيد طولها على عشرة سنتيمترات نحو ألفي فرنك!
(٨-٧) سوق التمائم؟
وتزور في مونت كارلو سوق التمائم أو «جالبات الحظ السعيد».
وهي من أغرب الأسواق، ففيها تُباع حبال المشنقة، والعياذ بالله، والمحافظ القديمة والأواني الأثرية المشوهة وريش الطيور النادرة.
ويرتاد هذه السوق اللاعبات واللاعبون؛ لينتقي كل منهم ما يعتقد أنه سيجلب له الحظ الحسن، ولكنهم مع ذلك — جميعًا — يخسرون!
(٨-٨) مدينة الفضيلة!
ومما يستحق الذكر أنك لو حذفت كازينو القمار من مونت كارلو لصارت أنموذجًا للمدن الفاضلة؛ إذ إنك لا تجد فيها أماكن للهو أو منزلًا من المنازل التي يطلق عليها في فرنسا اسم «الصندوق».
ولكن، هل السبب في عدم وجود أماكن اللهو أو الصناديق هو تمسك أهل إمارة موناكو بأهداب الفضيلة؟
الواقع أن السبب الحقيقي هو أن المسئولين عن الإمارة عرفوا أن وجود أماكن اللهو أو الصناديق قد يصرف بعض زوار الإمارة عن القمار، وبهذا يقل الإيراد؛ لأن دخل إمارة مونت كارلو يقوم كله على أرباح كازينو القمار بألعابه المختلفة التي أهمها الروليت والبكارا.
(٩) ألمانيا
كان الألمان — قبل الحرب الأخيرة — أنظف شعوب أوروبا ولولا الفقر المدقع الذي تعانيه بلادهم اليوم لما نزلوا عن مركزهم هذا.
إنَّ معظم ما تهتم به المرأة الألمانية هو أن تحتفظ ببيتها نظيفًا، ولو كانت هذه النظافة على حساب التضحية بالطعام.
وكان الألمان أول من وضع الصابون والمناشف في محال الاغتسال بقطارات السكك الحديدية، وعنهم أَخذَت بقية الدول الأوروبية، ولما أرادوا الاقتصاد في النفقات بعد هزيمتهم في الحرب العظمى (١٩١٤–١٩١٨) اخترعوا زجاجات الصابون السائل والمناشف المصنوعة من الورق، وسرعان ما قلدتهم بقية الدول الأوروبية.
وبعد النظافة يعشق الألمان النظام، وأينما حلوا وجدت أثرًا من النظام.
قال كاتب إنجليزي كبير في يوم من الأيام: إنَّ الفوز بالمستعمرات الألمانية السابقة في إفريقيا كان من أكبر ما غنمته إنجلترا بعد الحرب العظمى — لا لقيمة المستعمرات في حد ذاتها، ولكن بسبب ما تركه فيها الألمان من أنظمة!
ولكن الواقع أن الألمان كانوا يقصدون بكلمة ممنوع حث الناس على المحافظة على النظام واحترامه، ففي الحدائق العامة يجب أن يتحاشى الناس السير على الحشائش، ولو رأى الناس عاشقين يتطارحان الغرام على الحشائش في حدائق برلين — كما يحدث في قلب لندن — لثاروا عليهما؛ لا من أجل الآداب العامة، ولكن من أجل النظام العام فقط!
ومن أجل النظام لا يسمح الألمان بوضع لافتات الإعلانات الكبيرة في شوارع مدنهم الكبرى أو في الريف على الرغم من اهتمامهم بالشئون التجارية.
ومن أجل النظام الوطني العام يضحي الألماني بمصلحته المادية، فهو من أفراد هذه الشعوب الراقية الذين يؤمن الواحد منهم أنَّ مصلحته المادية أن توجه إلى الطريق الذي تستدعيه مصلحة الوطن العليا.
وقد حدث في أعقاب الحرب العظمى أن فاجأت الحكومة الألمانية العالم كله بتخفيض قيمة المارك الألماني، وسبب ذلك خراب بيوت ملايين من الألمان ولكن لم يرتفع صوت أحدهم بالشكوى أو الاحتجاج؛ وذلك لأنهم كانوا يؤمنون بأن الواجب يدعوهم إلى احتمال النكبة ما دام ذلك في صالح بلادهم!
(٩-١) التفكير والتنفيذ
عرف كارليل العبقرية فقال: إنها مقدرة فائقة على احتمال الألم.
والواقع أن هذا التعريف ألماني المصدر، فالألماني قد تنقصه العبقرية، ولكن لا تنقصه المقدرة على بذل الجهد لاتقان القيام بعمله إتقانًا تامًا.
فالكمال يميز كل تدبير ألماني، ولم يصل أحد إلى براعة الألمان في البحث العلمي والدراسة النظرية.
وقد انتفع الأمريكيون بعلماء الألمان ونقلوا عددا منهم إلى أمريكا، ومهَّدوا لهم سبل البحث وتعهدوا لهم بالتنفيذ، والأمريكيون أبرع المنفذين في العالم!
(٩-٢) عباقرة التفصيلات والدقائق
ويميل الألمان دائمًا إلى التفصيلات والدقائق، ومن هنا ذاعت شهرة أقلام مخابراتهم السرية في أثناء الحرب، وكانوا يدربون ضباطهم دائمًا على الوصول إلى المعلومات الدقيقة، بحيث لا يقنع أحدهم بمجرد الحصول على معلومات.
روى العسكريون عندما وضعوا تاريخ الحرب العظمى أن هندنبرج في عام ١٩١٤ كان يعرف موضع كل شجرة في المنطقة التي انتصر فيها على الجيش الروسي إذ ذاك، ولعل ما تزود به جنود المظلات الألمان من معلومات ومعرفتهم التامة بكل جهة من الجهات التي نزلوا فيها أثناء الحرب الأخيرة، كان خير مُساعد لهم على النجاح فيما كلفوا به من مهام، وعلى احتلال البلدان المختلفة.
وعندما يهجم الألمان في الحرب تكون كل فرقة من الفرق، وكل وحدة من الوحدات على علم تام بأنها في ساعة معينة محددة يجب أن تكون في مكان معين محدَّد تُؤدِّي عملًا معينًا محددًا.
وهذه العبقرية في التنظيم لا تقتصر على الحرب كما قد يتبادر إلى الذهن، ولكنها تمتد إلى الصناعة، فقد تفوق الألمان على شعوب أوروبا في إنشاء المصانع، واستعمال الآلات والاقتصاد في نفقات العمل.
(٩-٣) عبادة البطولة
ومما يُؤخذ على الألمان عبادتهم للبطولة والأبطال إلى درجة غير مألوفة في الدول الغربية أو الشرقية، ويتبع عبادتهم للبطولة نقص كبير في شعورهم بالرحمة والشفقة؛ إنَّ الألمان لا يبكون ضحاياهم في الحرب كما يفعل الإنجليز أو الفرنسيون، لقد كانوا يُفاخرون بقنابلهم الصاروخية، وبما يفعله أبطال سلاح الطيران الألماني في غاراته دُون تفكير في الأرواح التي تُزهق والمنازل التي تهدم، ولعلَّ من أسباب نقص الشفقة أو الرحمة في قلوبهم شعورهم الدائم بأنهم شعب مُضطهد من الشعوب الأخرى، وقع عليه من الظلم ما لم يقع على أحد.
وتبدأ عبادة البطولة في الأسرة نفسها، فسيد الأسرة هو الأب وهو يفرض على زوجه وأولاده طاعة عمياء ونظامًا دقيقًا، وهو يفرض ذلك دون قسوة أو سوء معاملة، ولذلك ينظر الطفل منذ صغره إلى الأب نظرته إلى بطل!
(٩-٤) التعليم الفني
والألماني يعنى بتعليم ابنه؛ وذلك لأنه يعتقد أن مكان الفتاة ومصيرها هو المنزل، وقد اشتدت عنايتهم بالتعليم الفني مدَّة حكم النَّازي؛ وذلك لأنَّ المسئولين كانوا على علم بأنَّ هؤلاء الأولاد سيرثون في يوم من الأيام عالمًا من الآلات.
وهم يربُّون أولادهم على الحقائق فقط، ويبتعدون عن الأوهام، ولذلك يتهم البعض تربيتهم هذه بأنها تُؤدي إلى نشأة أولادهم بمعين ناضب من الخيال.
ويكره الألماني أن يترك شعر رأسه طويلًا، ولذلك فإنَّهم يقصونه باستمرار حتى يبدو بعضهم وكأنه حليق الرأس، أو كأنه خارج من السجن.
والموسيقيون منهم فقط هم الذين ينمون شعر رءوسهم.
(٩-٥) النكتة في ألمانيا
لا يميل الألمان كثيرًا للدعابة أو النكتة، والألماني لا يملك سرعة خاطر الفرنسي أو مرح البريطاني؛ وذلك لأنه أميل للجد، وإذا ألقى الألماني نكتة فلا بد أن يقصد من ورائها «تهزيء» أحد!
(٩-٦) المرأة الألمانية
كانت الفكرة التي تسود ألمانيا دائمًا، والتي أفهمت للألمانيات في صراحة أن دور المرأة في ألمانيا لا يعدو أن يكون قيامها بدور الأم الصالحة في المنزل، وإخراجها أولادًا أصحَّاء للدولة.
وجاء هتلر فأكد هذه الفكرة وقال: إن مكان المرأة هو المنزل.
والواقع أن الأم الألمانية لم تقصِّر يومًا من الأيام في واجبها ولم تطالب بأكثر مما طالبت به غيرها.
ولكن الحرب الأخيرة غيرت الأوضاع، وساعدت على انحلال الأخلاق وتفكك الروابط، ولذلك اضطرت فتيات ألمانيا وسيداتها إلى النزول إلى الميدان للبحث عن أعمال يرتزقن منها، ورجال يتزوجن منهم بعد أن فقدت ألمانيا نسبة كبيرة من رجالها، وزاد عدد النساء على عدد الرجال زيادة كبيرة، ولو أن الأمور سارت في طريقها العادي، ولو لم تشتعل الحرب لأمكن أن تكون المرأة الألمانية المثل الأعلى للأوروبية.
(٩-٧) منذ أكثر من قرن!
منذ أكثر من قرن كان شعب بروسيا — الولاية التي التفت حولها ألمانيا فيما بعد — شعبًا هادئًا يخاف الله، لا مطامع له في أوروبا، وإن اشتدَّ غرام ملوكهم وأمرائهم بالجيش إلى حد استيراد جنود طوال القامة من روسيا وغيرها للفخر بهم، وقد أطلق عليهم اسم حرس بروسيا أو بوتسدام!
وما لبثت بروسيا هذه — بواسطة بسمارك وفون مولتكه — أن وجهت ضربتها إلى الامبراطورية النمسوية، فأنقذت جنوب ألمانيا من براثنها، ثم ما لبثت أن شنَّت الحرب على فرنسا، ونجحت في توحيد الشعوب الألمانية كلها باستثناء النمسا.
وجاء هتلر بعد ذلك لكي يتمِّم ما بدأه بسمارك وفون مولتكه، وبدأ بإزالة وصمة هزيمة الحرب العُظمى، ثم أخذ يضم الشعوب الألمانية الأخرى مُبتدِئًا بالنمسا ذاتها، ولو قنع بذلك لأدَّى أعظم رسالة ألمانية في التاريخ، ولكن أحلام العظمة ما لبثت أن ساورته، وقرَّر أن الشعب الألماني يجب أن يسود شعوب أوروبا، بل شعوب العالم.
وما لبث العالم كله أن تألَّب عليه، فسقط من شاهق، وقدر ما ارتفع قدر ما كان سقوطه وسقوط بلاده شنيعًا مؤلمًا، حتى تنبَّأ الكثيرون بأنها السقطة الأخيرة، وبأنَّ قرنًا كاملًا لا بد أن يمر قبل أن تقوم لها قائمة.
(٩-٨) واليوم!
فقد تمزقت أواصر ألمانيا، واحتلَّ الروس شرقها، وتركوا لأمريكا وإنجلترا وفرنسا بقية أجزائها، حتى العاصمة نفسها مزقوها فيما بينهم وقطعوا صلاتها مع الغرب، فأصبحت أشبه بالجزيرة العائمة في البحر الأحمر المضطرب!
والويل للمغلوب!
ومع ذلك يعيش الألمان اليوم خاضعين مُمتثلين لأوامر قوات الاحتلال، وذلك لأنهم قد اعتادوا دائمًا الخضوع لأوامر الحكومة أو القيادة، ولكن إلى متى يدوم هذا الخضوع والاحترام؟
سيدوم بلا شك إلى أن يظهر هتلر جديد، أو قيصر ولهلم جديد، أو بسمارك جديد لكي يجمع من حوله البلاد ويدعوها إلى الثورة ضد الاحتلال.
إنَّ الألمان لم يُغيِّروا عقيدتهم في أنفسهم وهي أنهم أحسن جنود العالم، وهم يشعرون اليوم أنهم كانوا أسعد حالًا تحت حكم هتلر.
ويشعر الألمان جيدًا أنَّه لو نشبت الحرب بين الشرق، مُمثَّلًا في روسيا وتوابعها، وبين الدول الغربية، فإنَّ الأمريكيين سيحتاجون إلى الجندي الألماني، ويقول الألماني مفاخرًا: «ويومئذٍ سَنُعلِّم الأمريكيين كيف يُحاربون!»
ولكن هذه الحرب المرتقبة لو وقعت، فإنَّ ألمانيا نفسها ستكون مسرحها هذه المرة، ومعنى ذلك أن يتحول القليل مما بَقِي سليمًا من مبانيها إلى أنقاض، وأن يُقضى على البقية الباقية من شبابها وآثار حضارتها.
وهكذا يعيش الألماني اليوم خاضعًا حقًّا، مطمئنًا إلى ما تبيَّنه من أنَّه لا غنى للعالم عن ألمانيا، وإلى أنَّ الدول الغربية مضطرة — وأنفها راغم — أن تُساعد ألمانيا وتعينها وتعيد إنشاءها، بل وربما تُعيد تسليحها!
(٩-٩) بعث الصناعة
الذين رأوا ألمانيا في عام ١٩٤٧ وجدوها جُثَّة هامدة لا حراك فيها، وقال يومها الكثيرون إنه لا أمل في إحيائها قبل انقضاء قرن من الزمن، ولكن الذين يزورونها اليوم يستطيعون أن يشهدوا مُعجزة البعث الألماني.
ذلك أنَّ مصانع الروهر قد بدأت تنتج من جديد، وأخذت سحب الدخان الأسود تنعقد من جديد في جو هذه المنطقة الصناعية المشهورة، وأخذت واجهات المحال التجارية تمتلئ بالمعروضات والمبتكرات والمخترعات التي اشتهر بها الألمان.
إنَّ الصادرات مفتاح سعادة ألمانيا المستقبلة، وطريقها للوصول إلى مُستوى أرفع في الحياة.
وقد بلغ إنتاج الصُّلب في ألمانيا في العام الماضي ثمانية ملايين طن، وفي الاستطاعة مُضاعفة الإنتاج بحيث تتفوق ألمانيا على إنجلترا في هذا الصنف، ولكن الاحتلال بالمرصاد!
صدِّرُوا، وإلا فإلى رحمة الله!
وقرر الألمان ألا يموتوا، فعملوا بالنصيحة، وبلغت قيمة صادراتهم في عام ١٩٤٩ نحو ٢٥٠ مليون جنيه، وقد تصل في عام ١٩٥٢ إلى ٦٠٠ أو ٧٠٠ مليون جنيه.
وهكذا تدفَّقت الدولارات على ألمانيا، وأخذت مُنتجاتهم الصناعية تُنافس كثيرًا من منتجات بريطانيا الدولة المُحتلة!
(٩-١٠) عهد جديد
وهكذا أصبح الألمان اليوم على أبواب عهد جديد في تاريخ بلادهم الحافل بالأحداث الجسام.
فقد وقفت ألمانيا اليوم على قدميها، وإن كانت لا تزال تشعر بألم الصدمة.
إنَّ الفحم اللازم للصناعة موفور، وبدأ المال يملأ خزائن المصارف الألمانية، كما أخذ الطعام يعرف طريقه إلى كثير من البطون التي ذاقت مرارة الحرمان مدَّة طويلة، وبدأت القوة تعود إلى ساعد العامل الألماني الذي عُرِف عنه من قديم أنَّه من أكثر عمال العالم احتمالًا ودقة.
إنَّ سلطات الاحتلال نفسها بدأت تعرف أنَّه قد آن لها أن تخلع الثياب العسكرية التي حرصت على ارتدائها منذ انتهاء الحرب، وتستبدل بها أثوابًا مدنية تستتر وراءها، لكي ترقب التطورات الجديدة، وقد أزالت هذه السلطات في كثير من المدن والأماكن الأسلاك الشائكة، التي كانت تفصل بين المنتصر والمهزوم، ويقول كثيرون من الضباط الأمريكيين إن وزنهم قد زاد، حتى أصبحوا في حاجة إلى علاج يعيدهم إلى أوزانهم الأصلية، وذلك بسبب جودة ودسامة الطعام الألماني!
وفي ميناء همبورج، أكبر موانئ بحر الشمال على وجه الإطلاق، يجري العمل في بناء أسطول تجاري ألماني حدَّد الحلفاء الحد الأقصى لحمولة كل سفينة من سفنه المختلفة.
وكان لضباط الحلفاء في همبورج منزل للاستراحة يقضون فيه إجازاتهم، وكانوا قد أطلقوا عليه اسم «بيت النصر» حتى اشتهر بهذا الاسم وعرف به، ولكن هذا الاسم لم يعد يتفق مع الأوضاع الجديدة، ولذلك أُلغي الاسم وصار اسم المنزل: «بيت هامبورج».
(٩-١١) ولكن!
ويمكن أن تجد كل شيء في المحال التجارية، وكل أنواع الأطعمة والفاكهة في المطاعم، وترى في كثير من المشارب الألمان والألمانيات وقد جلسوا يشربون البيرة أو القهوة، وهم يستمعون إلى عزف الموسيقى الوترية.
وفي وسط الأنقاض والأطلال في المدن المهدَّمة المحطمة، تجد عشرات من الأندية الليلية التي تسهر مع روادها حتى ساعات الصباح الأولى، وإذا دخلتها خُيِّل إليك أنك في أندية مونمارتر ومونبارناس، فالشمبانيا تسيل أنهارًا والرقص لا ينقطع، ونغمات الموسيقى تملأ المكان، والنساء يرتدين أحدث الأزياء، والرجال ينفقون عن سعة!
وتخرج من «الكباريه» لكي تصطدم بطفل عاري القدمين يمد يده بالسؤال أو لتشهد ابتسامة حزينة على وجه امرأة من عابرات الإفريز!
فهل الألمان سعداء؟ وهل هذا هو كل ما حققه لهم السَّلام؟
إنَّ كل ما يُقال في هذا هو أنهم يعرفون أنه يجب أن يدفعوا، ويدركون أن مظاهر الرخاء ليست إلا مظاهر خادعة، فإنَّ عددًا كبيرًا من مواطنيهم لا يجد عملًا ولا مأوى، كما أنَّ أبناء وطنهم الذين وقعوا بين براثن الروس لا يَعرف مستقبلهم أو مصيرهم غير الله، وإنَّ لهم إخوة وأبناء وأقارب هناك.
سوف تكون مهمتنا أن نكشف للشعب الألماني عمَّا فقده في هتلر!
ولا شكَّ أنه سيكون لهذه الصحف أشد الأثر في العقلية الألمانية في هذه الفترة الدقيقة، التي تُعَدُّ بمثابة فترة انتقال، أو عودة من الهزيمة إلى الحالة الطبيعية.
(٩-١٢) إفلاس وحرمان!
قال طبيب ألماني لمؤلف هذا الكتاب: قبل الحرب كانت الأموال كثيرة في يدنا، ولكننا لم نكن نجد البضائع التي نشتهيها؛ لأنها كانت تُصدَّر إلى الخارج، أمَّا اليوم فالبضائع كثيرة، ولكن المال غير موجود!
لقد أفلس كثيرون من الألمان بسبب النظام النقدي الجديد، الذي تسير عليه ألمانيا اليوم، فقد نقصت قيمة ما كان يملكه الواحد منهم من المال، حتى لم تعد تُوازي أكثر من ستة في المائة مما كانت عليه.
وهكذا يبدأ اليوم كثيرون حياتهم من جديد، فيبدو لهم الطريق شاقًّا طويلًا لا نهاية له، ولكنه يوصل في النهاية إلى الهدف!
(٩-١٣) أين تذهب في ألمانيا؟
دخول ألمانيا الغربية، سواء المنطقة الأمريكية أو البريطانية أو الفرنسية، ليس صَعبًا بالمرة، أمَّا دُخول المنطقة الشرقية الخاضعة لروسيا وكذلك الوصول إلى برلين فمن الصعوبة بمكان.
وقد عُرِفت البيرة في بافاريا في القرن الثاني عشر، ووقتها اشتدَّ الخلاف فترة من الزمن: هل تشرب البيرة كدواء أم تشرب للمرح والسرور؟
وقد اتفق الجميع هناك في مسألة واحدة وهي أن البيرة يجب أن تشرب! ويضع البافاريون الرَّيش في قبعاتهم، وقد عُرف عنهم دائمًا أنهم يشربون من البيرة كميات أكثر من الكميات التي يصدرونها، وأشهر مدن بافاريا ميونيخ ونورمبرج، وقد بدأ هتلر حركته في ميونيخ.
إنَّ بافاريا هي التي تجتذب أكبر عدد من السَّائحين الذين يُسافرون إلى ألمانيا، والجميع يقصدون إلى برختسجادن لزيارة المنزل الذي أنشأه هتلر هناك لكي يذهب إليه كلَّما أراد أن يلتمس الرَّاحة، وقد أطلق عليه «عش النسر».
وقد بنى هتلر عش النسر فوق قمة جبل كهلستين، وهي قمة جميلة على مقربة من قرية برختسجادن، وقد اشتغل في بناء هذا العش ٣٠٠٠ عامل ألماني لمدة ثلاثة أعوام، وكان العش يسع لمبيت ١٨ شخصًا.
وعلى بعد ٨٠ ميلًا من عش النسر تقع مدينة «أوبرمرجاو»، ولهذه المدينة شُهرة عالمية؛ إذ تُمثَّل بها قصة المسيح عليه السلام منذ ٣٠٠ عام، ويتوارث النَّاس هناك تمثيل الأدوار الرئيسية في هذه القصة، وقد استعدت أوبرمرجاو استعدادًا كبيرًا للاحتفال بتمثيل القصة في ١٩٥٠ بمناسبة العام المقدس.
ومن أبدع المناطق الأخرى التي تستحق الزيارة في ألمانيا الغربية منطقة الرين، كما أن المنطقة الصناعية في الروهر — وهي في منطقة الاحتلال البريطانية — تَضُمُّ مُدنًا كبيرة مثل دسلدورف وكولوني، وقد أصاب هذه المنطقة تخريب شديد إلا أنها بدأت تستعيد ازدهارها السابق، وعاصمة ألمانيا الغربية مدينة «بون» من أجمل المدن الألمانية، ولا يجب أن تغادر ألمانيا دون أن تمرَّ بها لتشهد فيها النشاط السياسي الألماني الجديد.
(١٠) سويسرا
هذه دولة فريدة في نوعها، فهي أجمل بلدان أوروبا، وربَّما العالم أجمع، حتى لقد أُطلق عليها اسم «المنتزه الأوروبي»، وقد اختيرت لعقد المؤتمرات الدولية التي تحل المشكلات الكبرى، وقالوا في تعليل ذلك أنَّ ما تميزت به من جمال الطبيعة والهدوء والسكون يؤثِّر في أعصاب المؤتمرين من الساسة، الذين يجتمعون على شواطئ بحيراتها، وعلى سفوح جبالها، فيساعدهم ذلك على النجاح في مهمتهم.
وكانوا قد اختاروها قبل الحرب العالمية الثانية مَقَرًّا لعُصبة الأمم، وبنوا للعصبة قصرًا منيفًا في مدينة جنيف أطلقوا عليه اسم «قصر الأمم»، ولكنه ما كاد ينتهي حتى اندلعت نيران الحرب في عام ١٩٣٩ فقضت على العُصبة، ولمَّا وقفت رحى القتال، واتَّفَقَ المُنتصرون على إنشاء هيئة الأمم، عُدِلَ عن فكرة اجتماع الهيئة الجديدة في سويسرا، وأدَّى اشتراك أمريكا في الهيئة الجديدة إلى اتِّخاذ ليك سكس مقرًّا لها، ولكن هذا لا يمنع من اجتماع كثير من اللجان التابعة لها في سويسرا.
وعلى الرغم من صغر مساحة سويسرا، فقد نجحت في ضم ٢٧ مُقاطعة في اتِّحاد فيدرالي، ومن هذه المقاطعات تتكون الدولة الصغيرة، والعجيب في الأمر أنَّ هذه الولايات التي يتألَّف منها الاتحاد السويسري ذات لُغات مُختلفة وثقافات وتقاليد مُختلفة، ولكنَّها مع ذلك تنسجم في الاتحاد انسجامًا عجيبًا.
ويرجع تاريخ هذا الاتحاد، الذي كوَّنه فريق من الأحرار، إلى القرن الثالث عشر، وقد آمن جميع المتحدين بقيمة الاستقلال وتمسكوا بأهدابه وحافظوا عليه، فظل سليمًا منذ ذلك العهد لم يعتَدِ عليه أحد، وعلى الرغم من التغييرات التي أُدخلت على دستور الاتحاد، فإنَّ شيئًا واحدًا فيه لم يتغير، وهو النص على استقلاله، وضرورة المحافظة عليه بجميع الوسائل من سلمية وحربية.
(١٠-١) دولة مُحايدة
ومنذ القرن الثالث عشر والاتحاد السويسري يعيشُ مُستقِلًّا، لا يجرؤ أحد على الاعتداء على حريته أو استقلاله مع صغر المساحة التي يشغلها وقلة عدد السكان الذين يتكوَّن منهم.
حتَّى «هتلر» الذي بطش بالنرويج في الشمال، والبلقان في الجنوب، وفرنسا في الغرب، وروسيا في الشرق، احترم استقلال سويسرا وحيدتها كما احترمهما الحلفاء!
وإن من أقوى الأسباب التي جعلت سويسرا — وهي الدولة الصغيرة الضعيفة — مهيبة الجانب مصونة الاستقلال في أوروبا لهو تكوينها الاتحادي الديمقراطي الذي جمع بين لغات وأجناس وأديان وثقافات مُختلفة فربط بينها بوثاق متين، هذا إلى سياسة الحياد التام التي آمنت بها حتى صارت جزءًا من كيانها، وهي سياسة من شأنها ألا تلجأ إلى سلاح القوة إلا إذا اضطرت إلى استعماله في الدفاع عن نفسها.
(١٠-٢) مصدر الجمال
تصل سلسلة جبال الألب — في سويسرا — إلى ذروة ارتفاعها، فتجد بها مجموعة من القمم كُلِّلت بالثلج الأبيض الجميل الذي لا ينقطع عنها صيفًا أو شتاءً.
وما أروع ذلك المنظر الخالد الذي لا يُمكن أن يُمحى من الذَّاكرة! تشهده والطائرة تُحلِّقُ بك فوق سويسرا، منظر سلاسل الجبال الشامخة؛ تبرز القمم العالية من وسطها هنا وهناك، وقد ميَّزتها تلك الأكاليل البيضاء النَّاصعة الخالدة، وانسابت من تحتها الوديان السَّحيقة مُكتسية كلها باللون الأخضر، ونامت القرى الصغيرة في أحضانها هادئة وادعة مطمئنة، إلى جانب البحيرات ذات اللون الأزرق الجميل!
هذا عدا مشاهد أخرى كثيرة يعجز القلم عن وصفها؛ فهنا قطعة من السحاب تعلق بأهداب الجبل كأنها تخشى من السقوط، وهناك منبع نهر من الأنهار الكبيرة التي تمد أوروبا كلها بالماء: فالرين العظيم — بعد مسيرة ٢٣٥ ميلًا يقطعها في سويسرا — ينساب إلى بحر الشمال مُخترقًا ألمانيا وفرنسا والأراضي المنخفضة. ونهر الرون يصل إلى الحدود الفرنسية بعيدًا عن منبعه في جبال الثلج السويسرية بما لا يقل عن ١٦٥ ميلًا، و«الاين» يمد الدانوب فيصل بين سويسرا والبحر الأسود.
قد يكون من السهل أن تصف امرأة جميلة، فتقول إنَّ جمالها يتمثَّل في عينيها، أو في استدارة وجهها، أو في أنفها، أمَّا أن تُطالب بوصف امرأة مُفرطة الجمال، كل ما فيها جميل، فمُهِمَّة شاقة، وهذه هي سويسرا التي قال لي عنها طبيب مصري كبير وأنا مقبل على زيارتها لأول مرة: «إنَّ جمالها يتعب النظر بحق، وخاصَّة لمن يشهده لأول مرة.»
وقد أكد لي الطبيب وزوجته أنَّهما لما زاراها لأول مرة كانا كثيرًا ما يغلقان عيونهما لإراحتها من مشاهد الجمال التي لا تنقطع!
(١٠-٣) جمال … وفقر!
إنَّ منطقة جبال الألب، وهي مصدر جمال سويسرا، تشغل نحو ثلاثة أخماس مساحة الدولة كلها، أمَّا منطقة جبال جورا، فتشغل حوالي ١٠ في المائة، والباقي القليل الذي لا يزيد على الثلث هو الذي يكون الأراضي المنخفضة.
ولذلك ليس من المُبالغة أن يُقال إنَّ جمال سويسرا كان السبب في فقرها، وخاصَّة من ناحية الثروة المعدنية التي تكاد تكون مُنعدمة.
وعلى الرغم من أنَّ عدد سكانها لا يزيد على أربعة ملايين ونصف، فإنَّ مواردها الزراعية لا تكفي لإطعام أكثر من ثلاثة أخماسهم، ولهذا يعتمد الباقون على الأطعمة المستوردة من الخارج.
ولو أنَّ شعبًا آخر هو الذي يعيش في سويسرا؛ لضجَّ بالشكوى وطالب بمجال حيوي يكفي لحياته، أمَّا شعب سويسرا فإنه — طبقًا لسياسته التقليدية القديمة: سياسة الحياد وعدم الاعتداء — قد حلَّ المشكلة الخطيرة التي واجهته على طريقته الخاصة.
(١٠-٤) شعب صناعي
وكان لا بد للشعب السويسري، مع قلة موارده، أن يبحث عن أحسن الوسائل للاستغلال الصناعي والتجاري، فانتفع بمساقط المياه، وولَّد منها الكهرباء لإدارة المصانع المختلفة، ولما كانت المعادن قليلة، فقد بحث عن صناعات لا تحتاج إلى خامات كثيرة، وسار في صناعته على طريقة التجميع، ومن هنا نالت سويسرا شهرتها العالمية بصناعة الساعات، فإنَّ السَّاعة لا تحتاج إلا إلى كمية قليلة من المعدن ولكنها تُباع بثمن كبير.
وقد يُدهشك أن ترى في سويسرا مصنعًا كبيرًا، فتسأل عمَّا ينتج هذا المصنع، فيُقال لك: إنه قد اختص بصناعة «العقرب الصغير» أو «العقرب الكبير» أو بصناعة الغلاف الخارجي للساعة، ولك أن تتصور بعد هذا عدد العقارب الكبيرة أو الصغيرة التي ينتجها المصنع الواحد في اليوم.
وهذه هي الطريقة التي تسير عليها مصانع فورد الأمريكية للسيارات، والتي ثبت أنها أحسن الوسائل لخفض التكاليف، وَمِن هُنَا احتلَّت الساعات السويسرية مكانتها في التجارة العالمية.
واستغلَّ شعب سويسرا كذلك المراعي التي نبتت عند سفوح الجبال، فعُنِي عناية فائقة بتربية المواشي واستغلال منتجاتها حتى احتلت منتجات الألبان السويسرية من جبن وزبد وشكولاته مكانتها في التجارة العالمية.
والنظافة التامة هي أول شروط نجاح هذه الصناعة، والنظافة صفة لا تعوز الشعب السويسري، بل هي في الواقع ميزة من مميزاته التي يُنافس فيها شعب هولندا.
بل لقد استغلت سويسرا الهواء، فأنشأت مصحَّات الأمراض الصدرية ذات الشُّهرة العالمية.
(١٠-٥) الرياضة والسياحة
وتُدِرُّ السِّياحة على سويسرا مالًا وفيرًا لعلَّه يُعدُّ من الموارد الأساسية في ميزانيتها، وقد عرفت الحُكومة «الفديرالية» قيمة السياحة، فأَوْلَتْهَا أكبرَ قِسط من عنايتها، وربطت جميع البلدان والقرى بحلقة ضيقة من السكك الحديدية، وأعدت سيارات كبيرة متينة تصعد بالسائح إلى أعلى الجبال، كما وضعت القطارات الهوائية (الفينكلير) في الجهات التي لا تستطيع السيارات الوصول إليها بحيث يتيسَّر لكلِّ من شاء أن يصل إلى القمم العالية دُون عناء.
وفوق هذه القمم يجد السائح فندقًا صغيرًا ومطعمًا يُمكنه أن يتناول فيه ما يُريد من طعام أو شراب، ويشتري منه الصور الفوتوغرافية التي تمثل البقعة التي وصل إليها، والطريق الذي سلكه، والقطار الكهربائي الذي حمله.
وتستغل سويسرا السياحة صيفًا وشتاء، فإذا أدبر الصيف استعدت لاستقبال هُواة رياضة الانزلاق على الثلج (السكي) من جميع أنحاء العالم، فتمتلئ بهم الفنادق الكبيرة، وتعج بهم المناطق التي تكسوها الثلوج.
وقد بَذَّ السويسريون سائر رياضِيِّي العالَم في هذه الرياضة بحكم إقامتهم في هذه المناطق طول العام، واضطرارهم إلى استعمال «السكي» أحيانًا في حياتهم اليومية.
(١٠-٦) رفاهية
وإلى هذا كله: الصناعة، والرعي، والسياحة، ترجع الرفاهية التي ينعم بها الشعب السويسري، ومستوى حياته الذي لا يقل ارتفاعًا عن مستوى الحياة في أمريكا، حتى بين العمال الذين لا يقل ما يربحه الواحد منهم عن ٤٠ أو ٥٠ جنيهًا شهريًّا ينفقها كلها ليعيش عيشة مناسبة.
فليس غريبًا أن تجد العامل العادي الذي يشتغل في أحد مصانع أجزاء الساعة، كمصنع العقارب أو الغلاف يخرج بعد الظهر للنزهة في سيارته الخاصة، ويقضي إجازته السنوية مع أسرته في فرنسا أو إيطاليا حيث ينزل في أفخم الفنادق.
لقد بلغ مقدار الرَّخاء في سويسرا، ومتانة مركزها المالي أن أصبح نقدها أحسن نقد في العالم من ناحية قيمته، فقد فاق مركز الفرنك السويسري مركز الدولار الأمريكي، وأصبح في وُسع من يشاء أن يشتري من سويسرا الدولار الأمريكي بأقل من سعره الأصلي في أمريكا.
(١٠-٧) نموذج للدولة الصغيرة
لا شكَّ أنَّ سويسرا تُعدُّ نموذجًا راقيًا لكلِّ دولة صغيرة فقيرة الموارد، نموذجًا راقيًا في اقتصادياتها، واستغلال بحيراتها، وطبيعة أرضها وهوائها وثلوجها ومساقط مياهها وعشبها وشجرها، بل نموذجًا راقيًا في سياستها المحايدة المسالمة الوقور، وفي اتحاد شعوبها المتنافرة لغة وأصلًا ودينًا.
(١٠-٨) أين تذهب في سويسرا
منذ مائة عام ميزت سويسرا أهميتها العظمى كدولة من دول السياحة، وكانت أول رحلة سياحية نظمت للسفر إلى سويسرا تهدف إلى تسلق الجبال، ومنذ ذلك الوقت اكتشف الناس فيها جمال الطبيعة، وبدأ عشاقها يُسافرون إلى هناك.
وفي الشتاء يسافر الناس إلى سويسرا للانزلاق على الثلج، فهذه أعظم رياضة تجتذب أكبر عدد من السائحين، وفي الربيع والصيف يجد السائح ملاعب التنس والجولف، كما يجد البحيرات التي يُصادُ منها السمك، وتمارس فيها أنواع الرياضة البحرية الأخرى.
إنَّ كل مكان في سويسرا تحل به له طابعه من الجمال، ولا يُمكن أن تجد مكانًا أو بلدًا ليست له شهرته السياحية، ومع ذلك فإن سويسرا تضمُّ بعض الأقاليم وجهات لها شهرتها باستقبال الأجانب وأهمها: «الجريزون» و«إنجادين» في الجنوب الشرقي، و«البرنيز» أو «برلاند» و«الفاليه» في الجزء الغربي من الحدود الإيطالية، والإقليم المحيط ببحيرة المقاطعات الأربع «بحيرة لوسرن» في سويسرا الوسطى، و«تيسان» فوق «لوكارنو»، وشواطئ بحيرة «ليمان» و«ألب الفودوا»، وبعض وديان «الجورا»، كل هذه الأقاليم تستحق الزيارة إن لم نقل تجب زيارتها.
ولسويسرا هذه الميزة الفريدة، فجبال الألب العالية تستقبل السائحين في الصيف وفي الشتاء، أمَّا عند شواطئ البحيرات وفي الوديان الواطئة، فإنَّ موسم السياحة هو الربيع والصيف.
و«الجريزون» جنَّة من جنات الرياضة الشتوية، وأهم مدنها «سان موريتز» التي تقع في منطقة عالية بالإنجادين، و«دافو» و«أروزا».
و«شتاد» من أجمل القرى الجبلية، وتقع بين المنطقة التي تتحدث الفرنسية، وتلك التي تتحدث الألمانية، وانترلاكن من أجمل المدن لوقوعها بين بحيرتين هُمَا تون وبرينز في منطقة الألب البرنيزية.
والرِّحلة من جنيف إلى مونتريه حول بحيرة ليمان من أجمل الرحلات سواء قُمت بها بالقطار أو بالباخرة، وعاصمة سويسرا، مدينة برن، تستحق الزيارة، وهي مدينة الدببة، ويجب أن ترى فيها جب الدببة فهو وحيد في نوعه.
وتشتهر مدينة «زيرمات» في إقليم «فاليه» بالرياضة الشتوية كذلك، ومدينة «لوسرن» من أجمل المدن كذلك، حتى ليُخيَّل لزائرها أنها منظر مسرحي قد أُعدَّ لاستعماله في تمثيل إحدى الأوبرات التي وضعها شوبير.
و«زيوريخ»: وهي تقع في الشمال على بحيرة تسمى باسمها، من أجمل المدن التي تجب زيارتها.
و«ليجانو» و«لوكارنو» في الطرف الجنوبي من الألب، ومناخها أقرب إلى مناخ إقليم البحر الأبيض المتوسط، وتختلط فيها مناظر الجبال السويسرية بمظاهر الثقافة الإيطالية.
ومدينة «نيوشاتل»: وهي مدينة جامعية، تستحق الزيارة، وكذلك مدينة «بازل» التي تقع عند ملتقى حدود سويسرا بفرنسا وألمانيا.
ولا بُدَّ من زيارة بعض القمم الجبلية المشهورة في سويسرا لكي تشهد الثلج وهو يغطيها صيفًا وشتاءً، ومن أهمها قمة سان برنار والينجفراو، والوصول إليها غير عسير بالسيارات أو بالقطر الكهربائية المعلقة (الفينكلير) أو بالمقاعد السلكية.
•••
وأحسن ما يُشترى من سويسرا الساعات.
(١١) بريطانيا
من أظرف ما قيل عن الإنجليزي: إنَّه مُغرم بالوقوف في الطابور. وإنَّه إذا ذهب إلى المسرح أو السينما ليحجز له مكانًا، ولم يجد طابورًا على باب ذلك المسرح أو السينما، فإنَّه ينصرف دُون أن يدخل تلك الدار! ولا يُمكن أن يُفكِّر إنجليزي في القفز إلى سيارة أو ترام أثناء تحرُّكه للمسير، إنَّه يقصد في هدوء إلى المحطة ويقف على رأس طابور جديد، إذا لم يجد هناك طابورًا من قبل يقف في ذيله!
أمام محطات السكة الحديدية والترام والمترو، وأمام المطاعم والمتاجر تجد الطابور ينتظر!
(١١-١) عُشَّاق النظام
في كل مكان في لندن، وفي كل مدينة من مدن إنجلترا تجد الصفوف الطويلة من الناس الذين ينتظرون دورهم، وإنك لتدهش كيف يقبل هؤلاء الناس أن يُضحُّوا بالوقت الطويل في الانتظار، وهم الذين اشتُهِروا بحبِّ العمل والحرص على الوقت؟!
والواقع أنَّ البريطاني يُؤمنُ بالنظام، ويحترم النظام، ويعتقد أنَّه لا يمكن أن يعيش بدونه، النظام في نظرهم أهم من أي شيء آخر، وقد يطول وقوف «الطابور» الواحد ساعات، فلا يتحرك من مكانه إلا من لا يقدر على الانتظار؛ فينسحب في سكون ويتقدم الواقف خلفه لكي يحل محله!
من أعجب المناظر التي تراها في لندن وفي أكبر شوارعها منظر طابور صغير يتكون من عدد من الأفراد لا يزيد على العشرة، وقد وقفوا أمام البائع المتنقل الذي يبيع الفاكهة أو الخضر على عربة صغيرة يدفعها بنفسه، حتَّى هذا البائع الصغير يقف عنده المشترون في طابور، وكلُّ واحدٍ منهم ينتظر دوره في الشراء!
(١١-٢) تسلية الطابور
وبسبب انتشار هذه الطوابير الكثيرة في إنجلترا — وخاصة في لندن، والمدن الكبيرة — نشأت هناك صناعة جديدة عجيبة لعلَّها الوحيدة من نوعها في العالم، تلك هي صناعة «تسلية الطابور»، والواقع أنَّ الطَّابور يحتاج إلى تسلية حتى لا يشعر أفراده بملل الانتظار، ولذلك يقبل الرجل الذي احترف هذه المهنة، مهنة تسلية الطابور، فيُغني أو يرقص أو يقوم ببعض الألعاب الرياضية أو البهلوانية أو السيماوية، وقد يعزف على آلته الموسيقية أدوارًا مختلفة، وكلما انتهى الرجل من دور من أدواره في الرقص أو اللعب أو الغناء تقدَّمَ بقبَّعتِهِ إلى المنتظرين في الطابور لكي ينفحوه بشيء من المال جزاء ما قام به في سبيل تسليتهم.
ولا تجد فقيرًا في إنجلترا يمدُّ يده بالسؤال، إنَّه يُثبت لك أولًا أنَّ في إمكانه أن يعمل شيئًا، وأنه يُؤدِّي شيئًا بالفعل، ولذلك ترى الكثيرين منهم يرسمون مناظر طبيعية جميلة على الأرض بالطباشير، وقد وضع كل واحدٍ منهم قبَّعته بجانب ما رسم حتى يلقي فيها المارة ما يتبرعون به له بعد أن يلفت نظرهم ما رسم على الأرض.
وبعض الفقراء يمرُّ في الطرقات ويقف في الأركان ليعزف أدوارًا على آلته الموسيقية، وإذا ما انتهى من العزف رفع قبعته على رأسه ولوح بها، فتفتح نوافذ المنازل في الحال، وتتساقط على الرجل التبرعات!
(١١-٣) بلاد الألعاب الرياضية
وبريطانيا هي بلاد الألعاب الرياضية من قديم الزمان، والصحيفة التي تصدر في أربع صفحات تُخصَّص صفحة كاملة لأخبار الألعاب الرياضية، وتنشر أخبار المباريات الهامَّة في مكان بارز وبأحرف كبيرة في الصفحة الأولى من الصحف.
والذين يشهدون المباريات يقدَّرُون بعشرات الألوف، وهم يحتملون تقلُّبات الجو وسقوط الأمطار عليهم عن طيب خاطر في سبيل الاستمتاع برؤية مباراة حسنة.
وقد انتشر لديهم نظام الاحتراف في الرياضة، ويدفع النادي عشرات الألوف من الجنيهات ثمنًا للاعب ممتاز يضمُّه إلى فريقه، وكذلك انتشر الرهان على نتائج المباريات الدورية بين أندية بريطانيا كلها، وتنفق فيه مئات الألوف من الجنيهات، حتى أصبح ذلك صناعة من أهم الصناعات في بريطانيا.
وقد اكتسب الإنجليز كثيرًا من مزاياهم وفضائلهم من الألعاب الرياضية، ولم يكذب هذا الذي قال: «إنَّ ملاعب «إيتون» هي التي أحرزت لإنجلترا الفوز في موقعة واترلو.»
(١١-٤) خُلُق ممتاز
ولعلَّ أعظم ما اكتسبه الإنجليز من الرياضة هو: الصبر والجَلَد وقوة الاحتمال، فقد قاسى الإنجليز في الحرب العالمية الثانية، أشكالًا وألوانًا من الأهوال، وذاقوا من قسوة الغارات وقنابل الألمان ومفرقعاتهم المختلفة الأنواع ما لم يذقه غيرهم من شعوب أوروبا، ومع ذلك لم تَهُنْ عزيمتهم ولم يُسْتَضْعَفوا ولم ييئَسوا، وفي أشد الأوقات ظُلمة كان تشرشل يطلب منهم العرق والدمع والدم ويُمنِّيهم بالنصر!
وانتهت الحرب بالنصر، ولكنه كان نصرًا في ميدان القتال، وهزيمة في ميدان المال والاقتصاد، فإنَّ سُكَّان بريطانيا يُعانون حتى اليوم كثيرًا من ألوان الحرمان ولا يأكلون كفايتهم من الطعام، والإحصاءات تدلُّ على أن نصيب الفرد من الطعام في ألمانيا الغربية — التي انهزمت في الحرب — أكثر من نصيب الفرد في بريطانيا التي انتصرت!
ومع ذلك وعلى الرغم من شظف العيش الذي يُعانيه البريطاني في اليوم، فإنه يعيش راضيًا، قانعًا بحاله، مُجِدًّا في عمله؛ لأنه يعرف أن العمل وحده هو الذي سيقوده إلى حياة أرغد وأحسن حالًا، وقد نسي الحرب ونسي آلامها، ولم يعد يهتم إلا بالمستقبل، وهذا المستقبل هو الذي يُزعج السياسيين ويقضُّ مضاجعهم.
(١١-٥) الصناعة في خطر
ولو عرفت بريطانيا أنَّ نتيجة دخولها الحرب التي نشبت في عام ١٩٣٩ ستُؤدي إلى الحالة الاقتصادية التي وصلت إليها اليوم لتردَّدت طويلًا قبل دخولها الحرب.
هذه الحرب التي خرجت منها مُنتصرة في الميدان الحربي إلى جانب حلفائها، ولكن مُنهزمة في ميدان المال والصناعة تترقَّب يد المساعدة من كل جانب!
وألمانيا التي تحطَّمت في الحرب، وتهدَّمت مدنها بدأت اليوم تنتعش اقتصاديًّا وصناعيًّا في حين أخذت بريطانيا تعود القهقرى، وهي تُحاول أن تُعالج الموقف بتصدير أكبر وأحسن جزء من إنتاج صناعتها إلى الخارج، كما أنها فرضت على أفراد الشعب ضرائب مُتعددة مُرتفعة النسبة، ولكنها مع كل ذلك لا تزال عاجزة عن إصلاح الموقف أو استرداد شيء من مكانتها السابقة.
كلما أخذنا من الفرد أكثر، كلما نال المجموع أكثر.
والبريطانيون يُؤمنون دائمًا بحكومتهم أيًّا كان لونها، وهم يعتقدون أنها تعمل في سبيل الصَّالح العام، ولذلك قلَّما يُحاول أحد أن يتهرَّب من دفع ما فرض عليه.
(١١-٦) الملك … والاشتراكية
ويُؤمن البريطانيون إيمانًا قويًّا بالنظام الملكي، وهم يُحبُّون أسرتهم المالكة حبًّا شديدًا، ويرون في شخص الملك عماد نظامهم الديمقراطي الذي تُضربُ به الأمثال بكماله، وإيمانهم اليوم بالمبادئ الاشتراكية لا يقلُّ عن إيمانهم بالملكية، فلقد أحدثت حكومة العُمَّال التي تولَّت الحُكم بعد الحرب ثورة في النُّظُم لا يُقابلها في التاريخ إلا الثورة الصناعية المشهورة في التاريخ.
أمَّمَت الحُكومة كثيرًا من الصناعات، ووضعت مشروعًا صحيًّا يضمنُ لكلِّ فرد من الأفراد أن يُعالَجُ بالمجان أيًّا كان نوع المرض الذي يشكو منه.
(١١-٧) البرود التقليدي
وقد اشتهر الإنجليز ببرود تقليدي يظهر أنَّهم أحرزوه بتأثير الجو البارد الذي يُحيط بهم، وقد وصَلَ هذا البرود إلى حدِّ التأثير في عواطفهم وإحساسهم، ويقول البعض إنَّ رجالهم يجدون صعوبة في فهم هذا الشيء الذي يُقالُ عنه «الحب».
ومن العجيب أنَّ رجال التربية هُناك ينصحون الأطفال بأن يلجئوا إلى آبائهم كُلَّما استعصى عليهم فهم أمر من الأمور العاطفية والجنسية، ولكن الآباء ليسوا أكثر فهمًا لهذه المسائل من أبنائهم، وكثيرًا ما يُلاحظ الأجانب على الرجال الإنجليز أنهم يهربون من مجالس النساء ويتحاشونها، وفي لندن فقط يمكن أن ترى أربعة من الرجال وقد جلسوا إلى إحدى الموائد وهم يتناقشون وحدهم باهتمام في موضوع من الموضوعات، وإلى جانبهم سيدة واحدة جلست في صمت ويدها تعبث ببقايا الخبز على المائدة دون أن يعيرها أحدهم التفاتًا!
ولكن هذا البرود لا ينقص من شأن فضائلهم الأخرى، وفي مقدمتها الأمانة، فهي من صفاتهم التقليدية التي يُضرَبُ بها المثل، ففي بريطانيا وحدها يترك بائع الصحف صُحُفه على الأرض؛ لكي يعود إلى منزله أو يشرب الشاي، فيأخذ كل قارئ الصحيفة التي يُريدها، ويترك للبائع ثمنها فوق الصحف الباقية دون حسيب ولا رقيب!
وليس في إنجلترا غير عدد قليل جدًّا من المجرمين، والباقون كلهم أمناء مع أنَّك في أيِّ بلدٍ آخر تجد عددًا كبيرًا إمَّا من المجرمين، أو من الأمناء!
ويفخر الإنجليز بلغتهم ويعتبرونها لغة صالحة للتفاهم العالمي، وهم يقولون إنَّ في وسعهم أن يتفاهموا بلغتهم في أي بلد من بلاد العالم إلا أمريكا!
ويتمتَّع الإنجليز في بلادهم بحرية لا نظير لها في أي بلد آخر من بلاد العالم، وتتجلَّى هذه الحرية في أروع أشكالها في حديقة هايد بارك بلندن.
(١١-٨) الأطفال والكلاب
من أظرف ما قاله شاعر أجنبي عن الإنجليز: إنَّه لو قُدِّرَ له أن يعيش في إنجلترا لاختار أن يكون طفلًا … أو كلبًا!
والواقع أن الإنجليز يعبدُون الأطفال حبًّا، وإذا ضلَّ طفل طريقه في قرية أو مدينة؛ خرج أهل القرية جميعًا للبحث عن الطفل، وقد يستمر البحث أيَّامًا عدَّة، وإذا قُتِلَ طفل في جريمة من الجرائم اهتمَّت صحف الدولة كلها، وكل صحيفة منها تطبع ملايين النسخ بهذه الجريمة، وحشد البوليس قواته كلها للبحث عن القاتل.
أمَّا عن الحيوانات — وخاصة الكلاب — فحدِّث عن حبهم لها دون تحفظ!
تقرأ في الصحف الإنجليزية كل يوم أخبار الذين صدرت ضدهم أحكام صارمة بالغرامة وبحرمانهم من اقتناء الكلاب؛ وذلك لأنهم اتهموا بعدم العناية بكلابهم أو بالتقتير عليها في الطعام! وأنت في بريطانيا، إذا وجدت كلبًا ضالًّا، فليس من حقك أن تأخذه إلى منزلك لإيوائه إلا إذا كنت تنوي أن تُسلِّمه بعد ذلك للبوليس!
ومنذ مُدَّة قصيرة تسلقت هرَّة شجرة عالية في لندن، ولم تتمكن من النزول فحضر رجال المطافئ ورابطوا عند الشجرة ساعات طويلة لمُساعدة الهرَّة على النزول، ولكنَّها لم تنزل، فعادوا يومين مُتتاليين بكامل معداتهم من أجل الهرة، وأخيرًا نزلت الهرة وحدها! هذا كله لا يحدث إلا في بريطانيا!
(١٢) لندن
لندن، أكبر مدن العالم، وقد أوشك عدد سكانها أن يبلغ الملايين العشرة، تستحق من السائح زيارة طويلة على شرط أن يعرف السائح كيف يقضي بها الوقت دون أن يشعر بملل أو سأم، فيها أكبر عدد من المتاحف والمعارض العلمية والتاريخية والفنية، وكل متحف منها يحتاج إلى أكثر من يوم واحد للمرور به لا للدراسة، ومن أهمها متحف «فيكتوريا وألبرت» للفنون والتصوير، ومتحف «الأكاديمي الملكية»، والمتحف البريطاني والمتحف الوطني.
ويجب أن تذهب إلى قصر بكنهام لتشهد «تغيير الحرس» فهذا منظر من المناظر التقليدية التي لا يجب أن تفوتك، كما يجب أن تمر بالدار نمرة ١٠ في شارع داوننج لتشهد المنزل المتواضع الذي يعيش فيه رئيس وزراء إنجلترا، والذي كثيرًا ما تصدر منه قرارات تغيِّر مجرى السياسة الدولية.
ومن أجمل الرحلات النهرية في التيمس الرحلة إلى «هامبتون كورت» حيث يمكن أن تشهد قصر الملك هنري الثامن، الملك الذي تزوَّج من ثماني نساء في تلك الضاحية الجميلة، وهي رحلة تستغرق يومًا بأكمله.
ويجب أن تسير في تلك الشوارع ذات الشُّهرة العالمية: أوكسفورد ستريت وبيكاديللي ستريت وبوند ستريت، كما يجب أن تمر ببعض الميادين المشهورة مثل: بيكاديللي سيركس وماربل أرش وميدان ليستر وميدان ترافلجار. ويجب أن تدخل بعض المحال الكبرى التي تجد فيها جميع أنواع البضائع كما تجد بها المطاعم المختلفة، ومكاتب البريد والبرق، ومحال التصوير الشمسي، سل عن محل «سلفريدج» بالذات.
ولتدخل مطعمًا من مطاعم «ليونز» المشهورة التي لا مثيل لها في أية عاصمة من عواصم أوروبا وخاصة «الكورنرهاوس».
ولتذهب كذلك إلى متحف مدام تيسو للتماثيل الشمعية، فهو أكبر متحف من نوعه في العالم.
وزيارة دار البرلمان البريطاني ميسورة لكل من يقف في «الطابور»، فلا تغفلها، وفي وسعك كذلك أن تذهب إلى جامع لندن، وأن تدخل أشهر كنائسها مثل: وستمنستر آبي وكاتدرائية سانت بول.
(١٢-١) حديقة هايد بارك
ولا بد لك من زيارة حديقة هايد بارك، فستشهد فيها منظرًا عجيبًا لا مثيل له في أي مكان آخر، ستشهد منبر العشب، وتسمع خطباء الشعب الذين احترفوا الخطابة، وستشهد الناس وهم يستمعون إليهم، أحيانًا في صمت وابتسام، وأحيانًا في غضب يدعوهم إلى مُقاطعتهم ومناقشتهم الحساب.
وفي مساء الأحد من كل أسبوع يبلغ النشاط والحماس ذروتهما في هايدبارك، ويتبارى الخطباء، كل على منصته، في اجتذاب أكبر عدد من الجمهور الذي يُقبلُ على التسلية الرخيصة التي لا تُكلِّفه شيئًا غير الوقت والإنصات، فإذا راق له أن يستمرَّ في الاستماع كان بها، وإلا انتقل في الحال إلى خطيب آخر أو إلى فرقة من المنشدين أو المغنين!
مُحافظ ومن أنصار الوحدة.
إنَّه يُهاجم حكومة العمال هُجومًا عنيفًا، ويُندِّدُ بوزرائها وبزعمائها، وانظر إلى زميله الآخر الواقف بجانبه، وقد رفع علمًا أحمر اللون، وأخذ يبشر بالشيوعية ويُهاجم الرأسمالية وما يطلق عليه «الاستعمارية الأمريكية».
واستمع إلى هذا الرجل العجوز الذي ترتسم الطيبة على وجهه، إنَّ مُستمعيه لا يزيدون على عشرة، ولكنه مستمر في الخطابة والمناقشة، إنَّه يتحدث عن الجنة والنار! وانظر إلى ذلك الركن ففيه منصة أعلى من زميلاتها، ترى حولها عددًا كبيرًا من السُّود، إنَّه ركن «الملونين»، وخطيبهم يُندِّد بالتعصب ضد اللون والجنس، ويُشيد بما قدَّمه السود لقضية الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية.
قد يتساقط المطر على الخطباء وعلى المستمعين فى هايدبارك ولكنهم مع ذلك لا ينصرفون.
وإذا سئمت الاستماع إلى الخطباء فى هايدبارك ففي وسعك أن تستمتع بجلسة هادئة إلى جانب البحيرة الجميلة أو فوق الحشائش، بعيدًا عن الصخب.
(١٢-٢) في الليل!
وإنَّك لواقع بعد ذلك في حيرة أخرى، فإذا قرَّرت الذهاب إلى المسرح فأي تمثيلية تُريد أن تشهد، هل تريد مأساة أو مهزلة أو رواية جدية هي وسط بين المأساة والضحك؟
وفي الروايات الكبرى المشهورة يجب أن تحجز لك مكانًا قبل شهر على الأقل من التاريخ الذي حددته لرؤيتها، فأنت إذا ذهبت في أي وقت عرفت أنه لا يمكن أن تشهدها قبل مرور شهرين أو شهر واحد على الأقل.
سترى على أبواب كثير من المسارح لافتات كبيرة تحصي عدد المرات التي مثِّلت فيها الرواية المشهورة التي تستمر أحيانًا ثلاثة أعوام، قد تقرأ على الباب: «هذه الرواية تُمثَّلُ هُنَا للمرَّة اﻟ ٤٣٥.»
حذار أن تُغادر لندن قبل زيارة مسارحها الكبرى المشهورة: كمسرح الأمراء وجلالته واللندن كازينو! حيث تعرض المتنوعات الخفيفة في غالب الأحيان، والبلاديوم.
إنَّ لندن تضمُّ ٥٦ مسرحًا كبيرًا و٤٥ دارًا للسينما، ويجب أن تُحسن الاختيار بدراسة البرنامج دراسة دقيقة، وستجد أي شيء تريد: الرقص الأسباني، والغناء الفرنسي، والرقص على الثلج، والمسرحيات الأمريكية المشهورة، والأوبرات الإيطالية، والباليه.
(١٣) تشيكوسلوفاكيا
تقع تشيكوسلوفاكيا في قلب أوروبا، ويسكنها شعبان سلافيان هما: التشيك والسلوفاك.
وتختلف لغة التشيك عن لغة السلوفاك اختلافًا بسيطًا، وقد عاش التشيك في هذه الجهات من أوروبا الوُسطى منذ ١٤٠٠ عام وخضعوا مُدَّة طويلة لحكم الأجانب، أمَّا السلوفاك، فقد خضعوا لحكم الهنغاريين (المجر) منذ ألف عام، وفي ١٩١٨ — في أعقاب الحرب العالمية الأولى — انضمَّ التشيك إلى السلوفاك.
وتكوَّنت منهما الدولة الجديدة: تشيكوسلوفاكيا التي رَأَسَهَا لأول مرة مازاريك الكبير، وفي الحرب العالمية الثانية اعتدى الألمان على استقلال هذه الدولة فكانت من أول ضحاياهم، ولكنها ما لبثت أن استردت استقلالها بعد انتصار الحلفاء، وتولَّى رئاستها الدكتور بينيش الذي كان من معاوني مازاريك الكبير، كما تولى وزارة الخارجية مازاريك الصغير: ابن الرئيس الأول للدولة.
وفي فبراير من عام ١٩٤٨ أُسدل الستار الحديدي على هذه الدولة، فدخلت في زُمرة الدول الأخرى التي أخضعها الاتحاد السوفيتي لسلطانه.
(١٣-١) جد ونشاط
لقد كان التشيك والسلوفاك — وتعدادهما معًا لا يزيد على ١٣ مليونًا — من أنشط شعوب أوروبا، وقد تميَّز التشيك بنوع خاص بنجاحهم في الصناعات، وأحرزت بعض صناعاتهم شُهرة عالمية حتى غمرت الأسواق، وكان منها صناعة الخزف والبلور والأحذية والسيارات والأسلحة.
أما السلوفاك فإن طبيعة بلادهم جعلتهم يعنون بالزراعة وبالرعي بنوع خاص، فأصبح للصناعة المقام الثاني في بلادهم.
ومن العجيب أنَّ الطبيعة التي ميَّزت بين أعمال السكان في كل من بوهيميا التي يسكنها التشيك وسلوفاكيا التي يقطنها السلوفاك، قد ميزت أيضًا بين أخلاق الشعبين اللذين تتكون منهما هذه الدولة، وبين ميولهما السياسية نفسها.
(١٣-٢) التشيك والسلوفاك
في أثناء جولة قمتُ بها في سلوفاكيا اشتريت بعض أشياء، وعندما سلمني البائع باقي نقودي وضعتها في جيبي ولم أخرجها إلا بعد عودتي إلى براج عاصمة تشيكوسلوفاكيا عندما احتجت إلى قطعة منها، وسلمت القطعة التي أحضرتها معي من سلوفاكيا للبائع التشيكي، فقلَّبها في يده ثم نظر إليَّ نظرة مريبة، وأبدى إشارة من يده فهمت منه أنه يسألني: «من أين حصلت على هذه القطعة؟»
وقلت له: «براتيسلافا!» أعني أنني أحضرتها من براتيسلافا وهي عاصمة سلوفاكيا.
وابتسم الرجل وردَّ إليَّ القطعة المعدنية بعد أن رفض قبولها، ولما استفسرت عن الموضوع من صديق تشيكوسلوفاكي وأريته القطعة ورويت له ما حدث دهش هو الآخر، وأخبرني أنَّ هذه القطعة هي: عملة سكتها قوات الاحتلال الألمانية مدة وجودها هناك، وأنَّه كان من الطبيعي بعد ذلك أن يُلغى استعمالها، ولذلك فإنه يُدهشه أن يستمر السلوفاك على استعمالها!
والحقيقة أنَّ التشيك يتَّهمُون السلوفاك — سِرًّا — بأنَّ ميولهم ألمانية في حين يكره التشيك الألمان.
والواقع أنَّ بعض السلوفاك لا يرضون بالاتحاد مع التشيك، ويتمنون الخلاص من هذه الصلة، وقد أرضاهم الألمان حين أعلنوا استقلالهم في عام ١٩٣٩!
ويُحب التشيك البيرة، في حين يفضل السلوفاك الأنبذة، وشرابهم القومي المشهور وهو «السليفوفيتس» المصنوع من عصير البرقوق.
وقد اشتهر السلوفاك بكرم الضيافة وبالصراحة و«البحبحة» والمرح بدرجة تفوق شهرة التشيك بهذه الصفات.
(١٣-٣) شعب رياضي
وشعب تشيكوسلوفاكيا من الشعوب الأوروبية الشديدة الميل للرياضة، ولا تكاد تمرُّ دورة أوليمبية أو رياضية إلا ويُسجِّل فيها الرياضيون التشيكوسلوفاك أرقامًا قياسية.
ومن أشهر الحركات الرياضية عندهم حركة السوكول، وهي حركة رياضية شعبية تشمل النساء والرجال في جميع الأعمار، وتشجعهم على ارتياد الملاعب، والقيام بمختلف التمرينات والألعاب، ولديهم كذلك حركة أخرى يُطلق عليها «حركة ألعاب العمال» وهي تُقيم دورة أوليمبية خاصة بالعمال كل ست سنوات.
ومما يدعو إلى الأسف أنَّه بعد أن استولى الشيوعيون على السُّلطة في تشيكوسلوفاكيا شنُّوا الحرب على مُؤسسات السوكول الرياضية التي كانت مُنتشرة في جميع بلدان تشيكوسلوفاكيا وقُرَاها حتى بلغ عدد أعضائها حسب التعداد الأخير نحو ٨١٠٠٠٠ عضو ينتظمون في ٣١٥١ وحدة من الوحدات.
وقد رأى الشيوعيون أنَّ هذه المنظمات الرياضية مما يتعارض مع كبت الحريات والآراء، فشرعوا في «تطهيرها»، ويعتبر هذا التطهير مقدمة للخلاص منها!
(١٣-٤) اشتراكية ثم شيوعية
وقد كانت تشيكوسلوفاكيا بعد الحرب أعظم دولة اشتراكية في أوروبا، حتى قال عنها هانن سوافر الناقد البريطاني المشهور: «لقد حلَّت تشيكوسلوفاكيا مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية بطريقة يجدر بإنجلترا أن تقلدها.»
وقال عنها هنداس: «إنَّها أعظم الدول اشتراكية بعد الاتحاد السوفييتي.»
وفي الواقع أنَّ البلاد كانت لا تضُمُّ غير طبقة واحدة من الناس، طبقة تعمل وتكد من أجل الحياة، وقطارات السكك الحديدية تتركب كلها من عربات الدرجة الثالثة باستثناء عربة واحدة في كل قطار يُخصَّص نصفها لركَّاب الدرجة الأولى، ونصفها لركَّاب الدرجة الثانية، وهذه العربة تكاد تكون خالية من الركاب في كل وقت، ولولا الأجانب الذين يزورون البلاد من حين لآخر لأُلغيت هذه العربة أيضًا.
ومع ذلك فإنَّ روسيا لم تقبل هذا الوضع الاشتراكي الذي ظلَّ هو الطابع الغالب على تشيكوسلوفاكيا حتى شهر فبراير من عام ١٩٤٨ وصمَّمت على أن تسدل الستار الحديدي على هذه الدولة التي كانت تعتبر قنطرة بين الشرق والغرب.
ولهذا أرسلت روسيا في نهاية سنة ١٩٤٧ وكيلًا من أشهر وكلائها — هو الرفيق زورين — إلى براج، كما أرسل «الكومينفورم» إليها بعض رسله وأخذ الجميع يُمهِّدون الطريق لهذا الانقلاب الشيوعي الذي تمَّ في فبراير سنة ١٩٤٨ وكان انقلابًا سلميًّا.
إنَّ الانقلاب الشيوعي تمَّ في تشيكوسلوفاكيا بسُرعة فائقة، وفي ليونة لم تعهد في الانقلابات السياسية الأخرى؛ ذلك لأن المسئولين في البلاد عرفوا أن «جوتوالد» زعيم الانقلاب لا تُؤيده قوات البوليس المسلَّح والعمال فقط، ولكن هناك عملاء الاتحاد السوفيتي أنفسهم ووكلاء «الكومينفورم» يترقَّبون الحوادث ويستعدون للتدخل إذا اقتضى الأمر، وقد يُحرِّكون قوات الجيش إذا لمحوا من أعداء الاتحاد السوفييتي أقل مقاومة.
وأعقب الانقلاب انتحار مازاريك وزير الخارجية الذي كان يُؤيِّد الغرب، ويُعارض الشيوعيين، ثم موت رئيس الجمهورية «بينيش» الذي كان هو الآخر من أنصار المُحافظة على الاستقلال وعدم الارتماء في أحضان الروس.
وبدأت بعد ذلك حركة تطهير الأحزاب السياسية ممن أطلق عليهم الشيوعيون اسم «أعداء الديمقراطية الشعبية» واقتصر النشاط الحزبي على الأحزاب التي ترضى عنها لجان العمل!
(١٣-٥) جحيم الألمان وجنة الروس!
وقد قبلت تشيكوسلوفاكيا الأمر الواقع؛ لأنها كانت تشعر بأنها في مركز لا تُحسد عليه، فجارتها القوية ألمانيا تحيط بها من أكثر الجهات، بل إن قسمها الشمالي كله، أو الغربي على الأصح، يقع في قلب ألمانيا، ولم تنس تشيكوسلوفاكيا كيف قدَّمتها الدول الغربية هدية لهتلر في عام ١٩٣٨ متوهمة أنها بذلك تُحافظ على السلام الأوروبي.
وكان من الطبيعي أن يستغل الرُّوس هذا المركز الحرج، مركز الدولة التي تخشى ألمانيا وخطرها ولا تأمن لوعود الدول الغربية، ولذلك لم يجد دُعاة الشيوعية صعوبة كبيرة في إحداث الانقلاب، وفي إيهام بعض أفراد الأُمَّة أنَّه في صالح تشيكوسلوفاكيا أن تنضم إلى معسكر السوفييت، وتترك معسكر الغرب.
ومع هذا فإنَّ كثيرًا من التشيكوسلوفاك يُؤمنون في قرارة نفوسهم، بعد ما شهدوه من أعمال جنود الاتحاد السوفييتي الذين دخلوا مع جيوش التحرير، أن جحيم الألمان كان أفضل لهم كثيرًا من جنة الروس!
بل ويؤمن التشيكوسلوفاك اليوم، أنَّهم في حاجة إلى ألمانيا وفي حاجة إلى غرب أوروبا، بل وفي حاجة إلى أمريكا، ولكن: العين بصيرة واليد قصيرة؛ قصيرة بفضل الروس!
(١٣-٦) قصر نظر!
ولقد حدث بعد تحرير البلاد أن حاول أهالي تشيكوسلوفاكيا أن يُزيلوا معالم الحكم الألماني من بلادهم، ولكنهم كلما أمعنوا في ذلك ازدادوا شعورًا بحاجتهم إلى الألمان وبالفراغ الذي تركه الألمان بعد رحيلهم.
كانوا يكتبون عبارة «ممنوع التدخين» على بعض عربات السكك الحديدية بأربع لغات: التشيكية والألمانية والإنجليزية والإيطالية، فلما هُزمت ألمانيا في الحرب بادروا بمحو العبارة الألمانية، واستبقوها باللغات الثلاث الأخرى، وقد كانوا جميعًا يتحدثون الألمانية كما يتحدثون بلغة بلادهم؛ أمَّا اليوم فقد تُلقي على الواحد منهم سؤالًا بالألمانية فيهز رأسه أسفًا ويرفض الإجابة مُتظاهرًا بأنه لا يفهم ما تقول مع أنه يفهمه جيدًا، ولكنه يرى التحدث بالألمانية جريمة أو خيانة وطنية بعدما أذاقه الألمان لبلاده مدة احتلالها.
وأسرع التشيك — في أعقاب الحرب — فطردوا جميع سكان بوهيميا؛ وخاصة السوديت الذين ينتسبون إلى أصل ألماني مع أن بعضهم انقضى عليه وعلى آبائه وأجداده في ذلك الإقليم مئات السنوات حتى انقطعت صلاتهم كلية بألمانيا.
ولكن أهل تشيكوسلوفاكيا جنوا على أنفسهم وبلادهم بهذا التصرف، فقد ترك الألمان الذين طردوا أو عادوا إلى بلادهم فراغًا كبيرًا يقدر بمليون نسمة، كما أنَّ بعضهم كان من أساطين الصناعة التي اشتهرت بها تلك البلاد منذ سنوات طويلة، وهي صناعة «الخزف» أو الصيني، وصناعة البلور أو الكريستال!
اعترف لي أحد التشيكوسلوفاكيين؛ وهو يلتفت حوله حتى لا يسمعه أحد؛ بأنَّ ساسة بلاده أثبتوا أنهم قصار النظر حقًّا حين شجعوا طرد الألمان، وقد جاء هذا الاعتراف على أثر زيارة قمت بها لأشهر المصانع بإخراج الخزف والكريستال، فقد وجدتها تعرض نماذج رائعة من مصنوعاتها، ولكنها تعتذر من عدم بيعها بحجة أنَّها تبذل المحاولات في سبيل تقليدها، ولما سألت صاحب المصنع عن ذلك رفض أن يُصرِّح بأكثر مما قال!
ولكن الصديق التشيكي هو الذي شرح الموضوع على حقيقته فقال: إنَّ مهرة الصُّنَّاع الألمان الذين طُردوا من الإقليم قد حملوا معهم «سر الصنعة» وإنه لا يمكن للعمال الذين تركوهم أن يُخرجوا ما نجحوا هم في إخراجه بعد تجارب استغرقت سنوات.
ولذلك اعترف بأن السَّاسة كانوا قصار النظر!
(١٣-٧) مستقبل غامض
وتشيكوسلوفاكيا اليوم لا تشعر بالأمن وهي في أحضان روسيا؛ لأنها تعلم أنها القنطرة التي سيزحف منها الغرب على الشرق، أو بالعكس في يوم من الأيام؛ ومعنى هذا أن تصبح مسرحًا لقتال يُقضَى فيها على مظاهر مدنيتها، وصناعتها.
ولهذا أسدلت روسيا عليها الستار الحديدي.
(١٣-٨) أين تذهب في تشيكوسلوفاكيا؟
العاصمة «براج» أو «براها» كَمَا يُسمُّونَها هناك من أجمل مُدُن أوروبا الوسطى، وهي تَضُمُّ آثارًا قديمة كثيرة، ومن أشهر المدن في تشيكوسلوفاكيا «كارلسباد» وهي من المدن ذات الشهرة العالمية بمياهها المعدنية، ويُطلقون عليها هناك اسم «كارلوفيفاري»، ومدينة «مارينباد» تليها في شهرتها بالمياه المعدنية، والمنطقة المحيطة بمدينة «كارلسباد» من أجمل المناطق بجبالها العالية وغاباتها.
ولا بدَّ لك أن تزور إقليم سلوفاكيا وعاصمته براتيسلافا، وهي من أشهر المدن الواقعة على نهر الدانوب.
وفي سلوفاكيا كذلك بضع مُدُن أخرى مشهورة بمياهها المعدنية وبجمالها؛ وأهمها: «بيشتني» التي تشتهر بخروج مياهها المعدنية ساخنة من باطن الأرض، و«سيلاك» المشهورة بوقوعها في مكان مرتفع، وتعالج بها الأمراض العصبية، وإذا وصلت إلى «سيلاك» فقد وجب عليك أن تصل إلى جبال تترا المشهورة بأنها «ألب تشيكوسلوفاكيا» ومن أجمل المدن التي تقع عند سفحها مدينة «ستاري سموكوفتز».
(١٤) إيطاليا
على الرغم مما تقرأه في الصحف باستمرار من أخبار الاضرابات المتوالية في إيطاليا، وأنباء الثورات الصغيرة، والصدام بين الشيوعيين والجمهوريين، على الرغم من هذا كله، فإنَّك لا تجد في إيطاليا غير الهدوء والسكينة، ولا تُقابَل إلا بالترحاب.
وإنك لتذكر هناك ما قاله الشاعر روبرت براوننج:
أو ما قاله الشاعر بيرون:
لقد أمكن للحلفاء أن يحصلوا مِنَّا على التعويضات، وأن يستولوا على مُستعمراتنا وراء البحار، ولكن هل أمكنهم أن يأخذوا شمسنا؟
ومن العجيب أنَّ إيطاليا — وهي الدولة المهزومة — خرجت من الحرب أحسن حالًا من كثير من الدول المنتصرة، رغم ما أصاب بعض سكانها من تشريد بعد أن هدمت القنابل منازلهم.
ومن الأقوال الطريفة التي يتندَّرون بها في إيطاليا أن شيئين فقط قد زادا هناك بعد الحرب وهما: الأسعار، وعدد السكان. والواقع أنَّ عدد السكان في إيطاليا قد زاد أربعة ملايين عمَّا كان عليه في عام ١٩٣٨، في حين تدهورت موارد البلاد وقُضي على الكثير من صناعاتها، وانتزعت منها مستعمراتها في هذه المدة، وذلك بسبب دخولها الحرب ضد الحلفاء دون مُبرِّرَات قوية، اللهم إلا قصر نظر ساسة الفاشيست الذين خدعتهم قوة هتلر وانتصاراته البرَّاقة في أول الحرب.
إن ٤٧ مليونًا من الإيطاليين — وهذا هو آخر تعداد لسكان إيطاليا — يعيشون اليوم في شبه الجزيرة الضيِّق الجبلي، المحدود الخصب في كثير من الأجزاء الجنوبية، وينضمُّ إليهم في كل عام نحو ٤٠٠ ألف مولود جديد، فماذا يمكن أن يفعل مشروع مارشال لكل هؤلاء؟ وإذا أمكن المشروع أن يقيهم عامًا أو أكثر من عام، فماذا يَكُون مصيرهم بعد ذلك؟
إنَّ كثيرين من الإيطاليين يرغبون لهذا السبب في الهجرة من بلادهم، وتتمنَّى الحكومة الإيطالية لو أنهم هاجروا فعلًا، إنَّها ترجو أن يرحل من البلاد خمسة ملايين نسمة على الأقل حتى لا تتعرض للمجاعة أو لأخطار البطالة، وإلى أن يرحل هؤلاء؟ لا يمكن لإيطاليا أن تعتمد على نفسها في سد حاجات سكانها.
(١٤-١) جمال ساحر
ولجمال الطبيعة في إيطاليا سحر غريب هو الذي يجتذب ملايين السائحين من جميع بقاع الأرض ويدفعهم لزيارتها.
إنَّ الجمال في إيطاليا يمتزجُ بشيءٍ من السرِّ والغموض خلفته هذه القرون الطويلة التي مرَّت على البلاد ومن تَنَاوَبَ عليها من الحُكَّام منذ عهد القياصرة والبابوات، كما امتزج تاريخها بتاريخ المسيحية حتى أصبحت عاصمتها عاصمة الكاثوليكية في العالم كله.
إنَّ كل مكان في إيطاليا يذكِّرك بالتاريخ، وفي كل جهة تشهد أثرًا من آثار الأجداد، فيعود إلى ذهنك الماضي كما صوره المؤرخون والكتاب.
إن وجه الشبه لعظيم بين إيطاليا ومصر، فآثار الماضي تربط بينهما، وقد ارتبط تاريخ كل منهما بتاريخ الأخرى في عهود كثيرة بالفعل.
لهذا يُقبل السائحون على إيطاليا، فهناك يشعرون بالحاضر، وهو يتَّصلُ بالماضي ويمدُّ إليه يده، وهناك يشعرون بالماضي وهو يطالعهم، حتى ليخيل إليهم أنه يمتزج بالحاضر!
وإيطاليا بعد هذا غنية بمظاهر الجمال، لقد جمعت فأوعت!
في الشمال تجد إقليم البحيرات الجميل: فيه كومو وجارديا، وفيه الجبال العالية التي تغطيها الثلوج، حتى ليعتبر هذا الإقليم جزءًا من سويسرا، ومن فنتيمليو تبدأ الريفييرا الإيطالية، بعد أن تنتهي الريفييرا الفرنسية، والريفييرا الإيطالية لا تقل جمالًا عن الفرنسية، وإن كانت أقل أناقة منها، وعلى مقربة من نابُلي توجد جزيرة «كابري» الجميلة وهي مشهورة بجزيرة شهر العسل، ويكفي هذا الاسم للدلالة على نصيبها من الجمال.
هذا كله علاوة على مدن الآثار القديمة، ذات التاريخ، وعلاوة على مدينة الفاتيكان التي يجلس على عرشها البابا، وهي أشبه بدولة في داخل الدولة، وعلاوة على الآثار الدينية، وعلى معاهد الفنون الجميلة من غناء وموسيقى وتصوير وتمثيل.
(١٤-٢) أين تذهب في إيطاليا؟
روما: عاصمة إيطاليا، مدينة قديمة تبلغ من العمر ٢٧٠٢ سنة، وإن كان المؤرخون يقولون إنها أقدم عمرًا من هذا.
وهناك النفق القديمة أو المخابئ التي كان المسيحيون يتعبدُّون فيها خلال الأعوام الأولى للمسيحية، وهناك حمَّامَات كاركلا وهي عبارة عن أنقاض، وهناك قلعة سانت أنجيلو، وقد دُفِنَ فيها الإمبراطور هارديان واستعملها البابوات حصنًا لهم في القرون الوسطى.
ومما يستحق الزيارة أيضًا: «الفورو ايتاليكو» وهو الملعب الرياضي الحديث الذي أنشأه الفاشيست والبلازاكولونا.
(١٥) الفاتيكان
في صباح الأحد في روما سوف تشعر بملل قاتل، وخير ما تفعله في هذا اليوم هو زيارة الفاتيكان!
هي دولة مُستقلة تمام الاستقلال عاصمتها مدينة الفاتيكان، إنَّها دولة لها سُفراؤُها الذين يمثلونها في العالم أجمع، كما أنَّ رئيسها — وهو البابا — يَستقبل في بلاطه ممثلين ومبعوثين من جميع أنحاء العالم.
إنَّ موسوليني نفسه، وهو في عنفوان سُلطته، اعترف باستقلال هذه الدولة اعترافًا كاملًا في مُعاهدة لاتيران سنة ١٩٢٩، ولم يجرؤ على الاعتداء على حدودها أو التدخل في شئونها حتى أثناء الحرب حين أعلن البابا عدم رضائه عن الحرب وعن اشتراك إيطاليا فيها.
ولست في حاجة إلى تأشير على جواز السَّفر عند اجتياز حدود هذه الدولة الصغيرة، فإنَّ وقوعها في داخل روما يجعل التأشير الإيطالي كافيًا.
من هذه الكنيسة الكبيرة: كاتدرائية القديس بطرس أو سانت بيترو كما يُسمونها وما يُحيط بها مِن مبانٍ تتكون الدولة كلها التي يحكمها البابا، ويُعتبر ملكها المتوج!
وقد بُنيت المدينة عام ١٣٧٧ لتكون مقرًّا دائمًا للبابا الذي يدين له المسيحيون الكاثوليك في العالم أجمع بواجب الطاعة الرُّوحيَّة.
إنَّ هدوء الدولة وهدوء سُكَّانها يميِّزها عن أي حي آخر من أحياء روما؛ حيث ترتفع أصوات الإيطاليين في مناقشاتهم بل وأحاديثهم العاديَّة.
ومع ذلك فإنَّ هذه الدولة التي لا يزيد سكانها على خمسة آلاف نسمة تعتمد على نفسها في مرافقها الحيوية، تعالَ مثلًا إلى الحي التجاري لتتأكَّد من ذلك بنفسك، إن المواد الغذائية تُباع في محلين على مقربة من كنيسة «القديسة أنا»، ويُوجد إلى جانبهما طاحونة ومخزن للأدوية.
ولكن ما هذا المشرب! ألسنا في دولة الدين والحياة الآخرة؟!
نعم! ولكن في دولة الدِّين هذه لا يُحرِّمون شرب الخمر، وإن حرموا الإسراف في شربها، وهم يقولون: إنَّ المسيح نفسه شهد حفلة عرس، وحوَّل فيها الماء إلى خمر حتى يتمكَّن أصحاب الحفل من إكرام ضيوفهم!
تعالَ إذن ندخل إلى المشرب الذي يؤمه سُكَّان الدولة وضيوفها، إنَّ الذين يُشرفون على خدمة المترددين عليه من الكهنة أنفسهم، وهم يقدِّمُون لك النبيذ الذي قام بعصره كهنة غيرهم، لا! لا! إيَّاك أن تطلب «الويسكي»؛ إنهم لا يُقدِّمُون هنا غير النبيذ، فالويسكي لم يكن معروفًا في عهد المسيح، ولو عرفوه إذ ذاك لحرم عليهم!
لابد أن تتذوق هذا النبيذ المُعتَّق الذي لم يدخله الغش؛ لأنَّ الذين عصروه هم الرُّهبان في أديرتهم البعيدة، وهم لم يعدُّوه بقصد التجارة، وإنما قاموا بعصره من العنب الذي يزرعونه بأنفسهم كذلك، لكي يحل محل الماء وخاصَّة في فصل الشتاء؛ حيث يشتد البرد في الجبال التي بُنيَت عليها أديرتهم.
تعالَ بعد هذا نُغادر الحي التجاري إلى الحي الصناعي؛ حيث تُوجد ورش النجارة وجراجات الدولة التي تضم سياراتها وعرباتها، هذه أيضًا هي محطة توليد الكهرباء التي تمد الدولة كلها بما يلزمها من تيار كهربائي تستعمله في الإضاءة وتوليد الحرارة وتسخين الماء.
إنك تسأل عن هذا البناء المستقل الذي يقف أمامه أحد حراس الدولة! إنَّه محطة الإذاعة الخاصة بدولة الفاتيكان.
وقد أنشأها ماركوني بنفسه في عام ١٩٣١ لكي يستعملها البابا في أحاديثه وخطبه التي يُوجهها لكاثوليك العالم دائمًا في أعياد الميلاد والفصح وغيرها وفي المناسبات الخطيرة.
وهذا هو مكتب البريد والتلغراف والتليفون الخاص بدولة الفاتيكان المستقلة!
وهذا هو مصنع «الموازييك» الذي يُخرج نوعًا ممتازًا من التحف الفنية والهدايا والآثار، يُعتبر آية في دِقَّة الصِّناعة والإتقان، إنَّ العمَّال هُنا يشتغلون بأيديهم فهذه صناعة لا يمكن أن تخرجها الآلات، والتحف ذات ألوان جميلة منوعة ولكنها ذات طابع ديني، وهي غالية الثمن لدِقَّة صناعتها، ولأنها لا تصنع في أي مكان آخر في العالم غير هذا المكان.
والآن وقد تجولنا في هذه الدولة وزرنا حيَّها التجاري وحيَّها الصناعي، تعالَ من هذا الطريق لنصعد في ذلك الطريق الجبلي المُؤدِّي إلى البناء الأبيض الصغير القائم عند القمة!
لا تلهث! ولا تتأفَّف من الصعود! فسوف لا تندم عندما تدخل هذا البناء! ها نحن قد وصلنا، نعم! إنَّ حارس الباب نفسه الذي يفتح لك مُرحِّبًا هو من الرُّهبان الذين انقطعوا عن الدنيا، ولكنه لم ينقطع للعبادة فقط كما تظن، إنَّه يحب البحث والعلم، فنحن في المرصد الخاص بالفاتيكان، وجميع هؤلاء الرُّهبان من عُلماء الفلك ومن مُحبِّي البحث واستقراء أسرار النجوم والسماء! إنك تزور الآن مرصدًا من أكبر المراصد المعروفة بدقتها في العالم، وهذا «التلسكوب» الذي ينظر من خلاله راهب عالم، من أشهر «تلسكوبات» العالم.
فلنعد الآن حتى نشهد البابا، فهذا الأحد من الآحاد القليلة التي يشترك فيها قداسته في الصلاة العامة بكاتدرائية القديس بطرس، ولكن لا تَنسَ قبل أن تُغادر المرصد أن تضع مبلغًا من النقود في صندوق التبرعات، فإنَّ موردًا هامًّا من إيرادات هذه الدولة الصغيرة — إن لم يكن أهم مورد لها — هو التبرعات!
أنت تسأل عن هذا البناء المُستقل المُغلق الذي لم تزره؟! إنه محكمة الدولة، إنَّ كل من يرتكب جريمة في داخل دولة الفاتيكان يُحاكم أمام هذه المحكمة ذات الدرجات الثلاث مثل أية هيئة قضائية في أية دولة أخرى.
والآن فلتبرز بطاقة الدعوة الكبيرة؛ إذ إنهم لا يسمحون بالدخول إلى الكاتدرائية في هذا اليوم الذي يشترك فيه البابا في الصلاة إلا لمن يحملونها، واترك آلة التصوير عند هذا الكاهن، فإنَّه لا يسمح بالدخول بها.
والآن دُر ببصرك جيِّدًا لتشهد روعة الفن في هذه التماثيل الكبيرة التي صُنِعت من أجود أنواع الرخام، وإلى هذه المصابيح الكهربائية المدلاة، وقد صنعت من أفخر أنواع البللور، وإلى هذه النقوش التي اشترك فيها أساطين رجال الفن.
أنت تسأل عن هذا الحرس الواقف بداخل الكنيسة مُدجَّجًا بسلاحه.
إنه الحرس السويسري — وهو خاص بالبابا — وله ملابسه التقليدية الجميلة التي لم يغيرها منذ قرون طويلة.
تعالَ نشق طريقنا بين هذه الجموع الحاشدة لنتخذ لنا موقفًا في الصفوف الأولى حتى نشهد البابا عن قرب حين يدخل الكنيسة! لو وقفنا هنا فإننا لن نرى كل شيء، فإن هذه الألوف التي أقبلت إلى الكنيسة من كل مكان في العالم تُريد أن ترى البابا هي أيضًا.
والآن كفى كلامًا، وكفى همسًا! إنَّ موكب البابا يقترب من باب الكنيسة، وقد طلب المسئولون عن النظام الصمت التام، ها هي ذي طلائع الموكب من رجال الحرس البابوي، وقد استلُّوا سيوفهم، وسارُوا بها مرفوعة إلى أعلى، وها هم أولاء في طريقهم إلى ميدان القتال.
لا تعجب! فإنَّ الكاثوليك بهذا يُريدون أن يُبرزوا قوة البابا، وأنَّ هذه السلطة أو القوة التي له هي ظل بسيط من قوة الله سبحانه وتعالى التي يجب أن يخشى الإنسان بطشها!
والآن وقد انتهى موكب رجال الحرس واصطفوا على الجانبين، فقد بدأ موكب الكرادلة وكبار رجال الدِين في البلاط البابوي، وهم يحملون الشموع والرموز الدينية المصنوعة من الذهب الخالص.
وها هو البابا محمولًا على الأعناق، وجالسًا على مقعده في وسط هذه المحفَّة يتمتم بكلماتٍ غير مسموعة، وهو يُشير بأصبعين من أصابع اليد اليمنى، تارة إلى الجماهير المحتشدة عن يمينه، وتارة أخرى إلى الجماهير المُحتشدة عن يساره.
هذه الإشارة بأصبعيه! إنها البركة التي يمنحها قداسته لهذه الجماهير التي تهلل وتصيح: البابا! البابا!
إنَّ بعضهم قد أُصيب بتأثُّر عميق لمرأى البابا، انظر مثلًا إلى هذه الرَّاهبة الصغيرة السن، وقد أخذت الدموع تنهمر من عينيها، وهي تتمتم بالصلاة ويدها تعبث بحبات سبحتها الطويلة!
تعالَ الآن نخرج! فقد رأينا أهم مشهد في هذه الدولة! إنَّ البابا سيشترك الآن في الصلاة، ثم يخرج بالموكب نفسه وعلى المحفة نفسها التي وصل بها.
ولكن تعالَ قبل الرحيل نعرج على هذا المتحف الموجود داخل الكاتدرائية، إنَّه متحف كنوز الفاتيكان، نعم! كل شيء هنا من الذهب الخالص، وهذه التِّيجان — التي تُنافس تيجان أغنى الملوك بما فيها من جواهر وأحجار كريمة — هي تيجان البابوات، عندما كان كل واحد منهم يملك الدين والدنيا معًا.
تعالَ بنا الآن نغادر المدينة المقدسة لنعود إلى الحياة العادية.
لقد كُنَّا في المدينة التي يجتمع فيها الدِّين والدُّنيا، فهيا بنا الآن إلى مدينة «الدنيا» وحدها.
ولكن ما هذه الأصوات التي تصل إلينا من بعيد؟! قف بنا لنستمع!
إنها أصوات الكهنة وهم يرتلون أناشيد المساء، ويُسبِّحُون باسم الله سبحانه وتعالى، وقد اختلطت أصواتهم بأصوات الأرغن.
استمع إليهم وهم ينشدون هذه الأغنية البديعة:
ثم استمع إليهم وهم يرددون معًا:
ولنعد في هدوء حتى لا يضيع من آذاننا صدى هذه الأغنية وموسيقاها البديعة ونحن في طريقنا إلى مدينة الأحياء.
(١٦) فينيسيا
إن هذه المدينة العائمة التي تبرز لنا من البحر كالحسناء الفاتنة، وقد وقفت تستحمُّ بعد أن تخلَّت عن «المايوه»، هي عروس البحر وسيدة الإدرياتيك، وصاحبة «الجندول» التي تَغَنَّى بجمالها الشعراء جميعًا.
هذه هي المدينة أو الميناء الذي ارتفع ذكره في العصور الوسطى حين كانت تتجمع فيها تجارة آسيا وحوض البحر الأبيض لكي توزع على أوروبا كلها، وقد أنشأت فيها التجارة جيلًا قويًّا من الحكام، كما زادتها سلطة على المدائن الأخرى حتى تحولت إلى جمهورية مُستقلة، وكان لها جيشها وأسطولها، فأخذت تشنُّ الحرب على الجمهوريات الإيطالية الأخرى سعيًا وراء السيادة حتى وصلت في ذلك الوقت إلى أوج عظمتها.
تعالَ الآن إلى حطام هذه الدولة التي انهارت لنشهد ما بقي من آثارها، ونبحث عمَّا خلد ذكر المدينة وقرنه بالجمال والفن والحب! تعالَ ننتقل إلى هذا «الجندول» الجميل، فإنَّ ملاحه لا ينقطع عن الإشارة والترحيب بمقدمنا في عبارات مُتَّصِلَة متلاحقة لا نفهم منها غير «سنيوري سنيوري!»
(١٦-١) مدينة على الجزر
إنَّك لتتساءل في عجب: كيف بُنيَت هذه المدينة؟ وكيف تحوَّلَت طرقاتها إلى قنوات مائية لا تنتقل فيها غير هذه القوارب؟
لا! إنَّ هذه القنوات لم تُحفر، ولم تعمل فيها يد الإنسان وحدها، إنَّ البندقية نفسها أو إن المباني التي تتكون منها البندقية هي التي أُقيمت فوق عشرات من الجزر الصغيرة المُتناثرة على مقربة من الشاطئ، وهكذا أصبحت المسالك المائية التي تفصلها هي الطُّرق الوحيدة للاتصال بينها، فألف النَّاس استعمال القوارب على اختلاف أشكالها وأحجامها، وأقاموا بين كل جزيرة وأخرى قنطرة أو أكثر لكي يستعملها السَّائرون على أقدامهم.
ولضيق مساحة الجزر التي أُقيمت عليها البندقية لم يترك الناس في أي جزيرة من هذه الجزر غير مساحات صغيرة جدًّا من الأرض دُون بناء، حتى ليبدو لك اليوم وأنت تتجول بها أنَّ هذه المباني كلها قد أُقيمت على الماء لا على الأرض، وأن أساسها يمتد في البحر، ولا يمكن — لأول وهلة — أن تعتقد غير هذا!
(١٦-٢) في الجندول
تعالَ الآن ندخل أكبر الطرقات المائية وهو المعروف بالجراند كنال، إنه أوسع من «البولفار» في باريس! وحركة المرور به كثيرة، ولكنها لا تتكون من السيارات والعربات والدراجات شأن الطرقات الأخرى، بل إنَّه مُمتلئ باللانشات والقوارب والمراكب والجندولات، انظر إلى هذا القارب الصغير، وهو المخصص لنقل الخضروات من مكان إلى آخر! انظر إلى الولد الصغير وهو يضع نصيب كل منزل تحت نافذة المطبخ! وانظر إلى هؤلاء الباعة وهم يُنادون على بضاعتهم من قواربهم، ويتطلَّعُون إلى نوافذ المنازل المُطلَّة على الشارع المائي.
إنَّ أبواب المنازل تكاد تكون فوق الماء مباشرة لولا هذا الشريط الضيق من الأرض الذي لا يتسع لأكثر من رجل واحد يسير على قدميه، ولذلك أُقيم كل شيء في «فينيسيا» في الداخل، فالمشارب المعرَّضة للهواء الطلق غير مألوفة هنا، ويقنع الناس بالخروج إلى شرفات منازلهم لاستنشاق الهواء أو استئجار «الجندول» والتجوُّل به في المسالك المائية، هل تسمع هذه الموسيقى التي تنبعث من هذا الجندول القريب؟!
انظر إلى العاشقين أو العروسين وقد جلسا في الحجرة المتوسطة في الجندول، وجلس الموسيقي أمامهما يعزف ويغني وأخذ الملاحان يقودان الجندول، هذه هي النُّزهة الوحيدة الممكنة في هذه المدينة العائمة؛ حيث لا توجد حدائق ولا متنزهات، وإذا أراد صغار الأولاد أن يلعبوا لم يجدوا أمامهم إلا الماء يستحمون فيه، ومن هنا برعوا في السباحة منذ الصغر.
إن الماء في هذه المدينة هو كل شيء بالنسبة لحياة السكان، فهذه امرأة تغسل ملابسها في ماء القنال أمام باب منزلها، وهذه أخرى تغسل الخضر، وهذه أسرة تشرف على استحمام أولادها! ولنترك الآن هذه القنوات الصغيرة التي يغتسل فيها الناس، ولنعد إلى القنال الكبير، ولنقف قليلًا عند هذه القنطرة الكبيرة المعروفة باسم «ريالتو» فإنها من أشهر القناطر في العالم كله؛ لأن عمرها يزيد على ثلاثة آلاف سنة، وكانت في الماضي مركزًا من أهم مراكز المعاملات المالية في البندقية.
تعالَ نصعد إليها قليلًا؛ إذ يبدو أنَّ كل من سئم الماء، وأراد أن يسير على قدميه يقصد إلى هذه القنطرة، فهي سوق فينيسيا، وقد امتلأت بالمحال التجارية، والمرور عليها لا يكاد ينقطع ليلًا ونهارًا.
(١٦-٣) في ميدان سان مارك
تعالَ الآن نزور ميدان سان مارك؛ حيث تُوجد الكاتدرائية الكبيرة التي أُقيمت باسم هذا القديس والمشهورة بتماثيل الجياد الأربعة المصنوعة من البرونز.
إنَّ لهذه الجياد قصة عجيبة، فقد زينت في يوم من الأيام موكبًا من مواكب النصر التي أقيمت للإمبراطور نيرون في روما، ولمَّا صارت القسطنطينية عاصمة للإمبراطورية الرومانية نقل إليها الرومان هذه الجياد الأربعة.
ولما انتصرت البندقية على القسطنطينية، فازت بهذه الجياد، ولكن نابوليون أُعجب بها أيضًا عندما استولى على إيطاليا، فنقلها إلى باريس، ولما فقد إمبراطوريته أُعيدت الجياد إلى البندقية.
وهكذا زارت هذه الجياد البرونزية الجميلة أعظم بلاد العالم!
وإذا زرت ميدان سان مارك، فلا بد أن تشهد إطعام الحمام الذي يبدأ عادة في الساعة الثانية بعد ظهر كل يوم، ففي تلك الساعة يبذر الحب للحمام في الميدان، فيقبل الحمام من كل أنحاء البلدة — كأنه على علم بالموعد — ليتناول الحب من الأرض أو من يد من يريد أن يطعمه بيده.
إنَّ إطعام الحمام تقليد قديم من تقاليد فينيسيا توارثته على مدى الأجيال والناس يَتفاءلُون به، وهم يقولون إنَّ التقليد يرجع إلى رواية خلاصتها أنَّ «الدولة» تعرَّضت في يوم ما لخطر الغزو الأجنبي، فلم تنقذها منه غير حمامة من الحمام الزَّاجل حملت رسالة استنجاد، فأقبلت الإمدادات على المدينة وأنقذتها من الخطر، وفي رواية أخرى أنَّ الحمامة حملت رسالة ساعدت على إحراز نصر كبير للمدينة.
هل تريد أنت أيضًا أن تطعم الحمام؟! إذًا فاشتَرِ هذا الكيس الصغير من الحب، ولكن احترس جيدًا، فسوف يحطُّ الحمام على رأسك وكتفك، ويدك ليتناول منك الحب، إنه حمام أليف اعتاد أن يلقى التكريم من سكان فينيسيا وزائريها، وكل من يسبب له أذى يلقى عقابًا صارمًا.
(١٦-٤) جسر التنهدات
والآن وقد فرغنا من التطلع إلى الكاتدرائية الجميلة، ومن إطعام الحمام، تعالَ نصعد إلى قصر الحاكم (الدوج) حيث كان يجتمع مجلس فينيسيا منذ عدة قرون.
وإذا زُرت القصر وَجَبَ أن تَمُرَّ من الطابق الثاني على «جسر التنهدات» ذلك الجسر المشهور الذي كان يصل في الماضي بين قصر الدوج القائم على جزيرة، وبين السِّجن وهو قائم على جزيرة أخرى، ولذلك كان كل محكوم عليه يمرُّ من فوق هذا الجسر يعرف مصيره المحتوم، فيتنهد ويتأوَّه، ومن هُنا أطلق عليه هذا الاسم.
هل تذكر الآن قصيدة بيرون المشهورة:
والآن، هيا نَعُدْ بالجندول بعد أن أفعمنا من ذكريات الماضي! تعالَ نشهدِ الحاضر ونَعِشْ فيه لحظة في «الليدو»!
(١٧) نابولي
إنَّ الإيطاليين يفخرون بنابولي، ومثلهم المشهور يقول: «زُر نابولى ثم مت!» أي أنك لن ترى مدينة أخرى أجمل منها، فتعالَ نتحقق من صدق هذا القول!
انظر إلى صفاء السماء، وإلى زرقة الماء في هذا الخليج الجميل المُتَّسع، ثمَّ انظر إلى المنازل المُتناثرة في طبقات بعضها فوق بعض، حتى ليُخيَّل إليك أنك في مدينة لا تضمُّ غير القصور.
هل ترى هذا الدُّخان الذي يتصاعد باستمرار إلى السماء في جنوب المدينة؟ إنَّه دخان بركان فيزوف العظيم، لقد أصبح فيزوف بمرور الزمن بُركانًا خامدًا لا يخرج الحمم من باطنه، كما كان يفعل قبلًا، فيدفن مُدُنًا بأسرها تحت وابل من التُّراب والطين، ولكنه ينفث الدخان باستمرار من فوهته، فينشر في سماء المدينة طبقة داكنة قاتمة كأنها غلالة من الحزن على وجه هذه المدينة الباسمة!
تعالَ الآن نُغادر الباخرة لننزل إلى المدينة، ونَمُرَّ بطرقاتها ومعالمها لنرى إذا كانت تستحق أن نموت بعد زيارتها!
إنَّنا لا نسير في هذه الطرقات، ولكنَّنا نتسلق، ثمَّ ننزل كأننا في رحلة على الجبال، وبعض الشوارع يضيق إلى حد يمنع ضوء الشمس من الوصول إليها، ومع ذلك يسير الترام في هذه الطرقات المعوجة المنحدرة بمهارة عجيبة فوق أرض رُصفت بالأحجار السوداء التي أخرجها بركان فيزوف من باطن الأرض في يوم من الأيام.
(١٧-١) أوجه الشبه
ما أشبه مظاهر الحياة هُنَا بمظاهر الحياة في مصر! انظر إلى هذه المرأة وقد جلست على الرصيف تسرح شعرها، وانظر إلى صانع الأحذية وقد جلس إلى مائدته الصغيرة يشتغل في تركيب «نصف نعل» لحذاء قديم! وانظر إلى هؤلاء الباعة يحملون بضائعهم على ظهور الحمير، ويسيرون إلى جانبها، وهم ينادون عليها بأعلى أصواتهم، بل وانظر إلى باعة «الكوارع» وهم يحملونها على ألواح خشبية، ألا تراها شبيهة بالألواح الخشبية التي يحملها باعة «يا جابر!» في مصر؟! وانظر إلى بائع اللبن وهو ينتقل بعنزتيه من باب إلى باب ويدر لكل زبون من لبن العنزتين قدر ما يشاء ويقدمه إليه حارًّا طازجًا.
تعالَ نشهد هؤلاء الذين يطعمون في الطريق، لنرى ماذا يتناولون؟
انظر إلى هذا الرجل الذي يحمل قطعة كبيرة من الخبز، ما هذا السائل الأحمر الذي يغمس فيه الخبز قبل أن يضعه في فمه؟!
تعالَ نسأل الدليل، إنَّه يبتسم وهو يخبرنا أنَّ الرجل يغمس الخبز في نبيذ نابولي الأحمر المشهور!
وهذا البائع المتجول، ماذا يبيع في هذه الآنية الأسطوانية الشكل؟
إنه يبيع «المكرونة» الإيطالية المشهورة، ويتجوَّل بهذه الآنية التي تحفظها ساخنة، كما يتجوَّل بائع الفول المدمس في مصر وهو يحمل قِدْرَه.
تعالَ نشهده وهو يبيع لهذا الرجل الذي يستوقفه، وانظر إلى الرجل وهو يلتهم المكرونة التهامًا بعد أن يلف خيوطها في «الشُّوكة» بطريقة فنية، إنَّه يملأ فمه بكمية كبيرة منها، انظر إلى ذلك الخيط الذي تدلَّى من فمه، وانظر إليه كيف يسحبه بسرعة بفمه دون أن يقطعه! إنه يُحدث صوتًا أشبع بالصفير في أثناء عملية «الشَّفط» وهذا لا يُعاب في تناول المكرونة، بل إنَّ ما يُعاب هو أن يُحاول آكلها تقطيعها بالسكين مهما طالت خيوطها.
وانظر إلى هذا البائع الآخر الذي يبيع «السجق» الساخن، وانظر إليهم كيف يلتهمونه ساخنًا دون الاستعانة بالخبز.
(١٧-٢) مصنع مكرونه
هيا بنا الآن لزيارة مصنع من مصانع المكرونه الإيطالية المشهورة، انظر إلى هؤلاء الأولاد وقد غطى وجوههم غبار الدقيق الأبيض الذي يحملونه من المخازن لتُصنع منه المكرونه، وانظر إلى هؤلاء الرجال الأقوياء وهم يعجنون الدقيق ويمزجونه بطريقتهم الخاصة، إنَّهم يقولون إنَّ في هذا «العجين» وحده ينحصر سر الصناعة التي اشتهرت بها إيطاليا في العالم كله، صناعة المكرونه، وقد توارث الصُّناع في نابُلي هذا السر فلم يخرج من بلدهم.
إنَّهم الآن يملئون الأسطوانات بالعجين، فما تلبث خيوط المكرونة أن تبرز من الجانب الآخر للأسطوانة من تلك الثقوب الصغيرة، وتعلق الخيوط بعد ذلك على رفوف خاصَّة تُوضع في الشمس حتى تتجمَّد بعد أن يتبخَّر ما بها من ماء وتتحوَّل إلى مكرونه يمكن أن تباع في الأسواق.
إنَّ ثُقُوب الأسطوانات التي تبرز منها خيوط المكرونة اللينة مُختلفة الأحجام والأشكال، فمنها الثقوب الواسعة، ومنها الثقوب الضيقة، وتبعًا لاختلاف هذه الثقوب تختلف أسماء المكرونه، والأنواع الرفيعة التي تخرج من أصغر الثقوب هي: الإسباجيتي والفرميسيلي!
(١٧-٣) البركان
والآن وَقَد تجوَّلت في نابولي، فإنَّه لا بُدَّ لك من زيارة بركان فيزوف، وهو لا يبعد عنها كثيرًا، أترى هذه المنازل ذات الجدران القاتمة؟ إنها بُنيت من أحجار «اللافا» أو الحمم البركانية التي لَفَظَها باطن الأرض، ها نحن أولاء ندخل في منطقة خالية من كل نبات، وهذه هي أقصى نقطة يمكن للسيارة أن تصل إليها، فلنصعد على أقدامنا حتى نصل إلى منطقة «اللافا» السَّائلة، وهي الصخور السوداء الشبيهة بالزفت الحار.
انظر إلى هؤلاء الأولاد وهم يلتقطون هذه القطع من الصخور التي تلتهب حرارة، ويُحولونها في أيديهم إلى أطباق صغيرة، وكرات ذات أشكال منظمة يبيعونها للسَّائحين بعد أن يضعوا عليها تاريخ اليوم، أترى هذا الدُّخان المُتصاعد من هذه المنطقة القريبة من الفوهة؟ إنَّه يُنبئك عن مقدار الحرارة الشديدة الكامنة في باطن الأرض فهو دخان الصخور السائلة الحارة التي تنساب على جانبي الفوهة.
إنَّ الدُّخان المُتصاعد من الفوهة مُختلطًا بالأتربة ليحيل الجو المحيط بنا إلى ليل، أو نهار أقرب إلى الليل، فإنَّه يُخفي ضوء الشمس في النهار، وإذا تساقط المطر فإن ماءه يسيل مشبعًا بالأوحال نتيجة لاختلاطه بالأتربة التي تملأ الجو في هذه المنطقة.
(١٧-٤) ضحايا البركان
والآن دعنا من البركان، وهيا بنا نرى ضحايا البركان!
إنَّ مدينتي «بومبي» و«هيركيولنيم» من مدن الرومان القديمة هما أكبر ضحايا بركان فيزوف، وإنهما لتقومان عند حافته دليلًا على جبروته وقوته.
إنَّهم يقولون: إنَّ «بومبي» وحدها كانت تضم ٢٥ ألف نسمة، وكانت مدينة أرستقراطية يقطنها الأغنياء، وفيها قامت أجمل معابدهم، ومسارحهم ودور لهوهم، وفي ذات يوم: بينما الفقراء يعملون في حرفهم، والأغنياء في لهوهم وحفلاتهم، والأطفال في مدارسهم، والتُّجارُ في محالهم يبيعون بضائعهم، ثار فيزوف ثورته الهائلة، دون سابق إنذار! ثار البركان فألقى بسيلٍ من الغازات والحمم والأتربة والصخور المُنصهرة على المدينتين، وقد اختفى ضوء الشمس، وعندما تساقطت الأمطار السوداء التي أذاب ماؤها التراب الذي ملأ الجو، ظنَّ النَّاس أن العالم قد انتهى.
وبعد ذلك بدأت أنهار من المصهورات الشَّديدة الحرارة تنسابُ من فوهة البركان على المدينتين، وتكتسح كل شيء في طريقها، وتغمر كل ما يعترضها، فتقضي عليه في الحال بسبب شدة حرارتها، وهكذا اختفى كل شيء في لحظات.
اختفت قطعان الماشية التي كانت ترعى في الحقول الخضراء، واختفت مزارع الكروم والحدائق الغَنَّاء والمنازل المرتفعة ودُفِنَ الناس تحت الأنقاض.
حدث ذلك في عام ٧٩ بعد الميلاد أي منذ ١٨٧٠ عامًا تقريبًا، ولكن لم تكتشف المدينتان إلا منذ ١٧٠ عامًا، فقد نسيهما الناس بأسرع ممَّا ردمهما البركان العظيم، ولولا أنَّ فلاحًا إيطاليًّا من الذين عاشوا في إحدى المدن الحديثة التي نشأت على أنقاضهما كان يضرب الأرض بفأسه ذات يوم، فصادفت حجرًا صلبًا استخرجه الفلاح فوجده تمثالًا، لولا ذلك لما تنبهت الحكومة الإيطالية إلى البحث عن «بومبي» و«هيركيولنيم»، ولما وُفقت إلى اكتشاف أنقاضهما حتى اليوم.
(١٧-٥) في المتحف
تعالَ نتجوَّل في المدينتين لنشهد ماذا فعل بهما فيزوف الثائر الجبار؟! تعالَ نتفقد الطرقات الخاوية ونشهد المنازل المهدمة، تعالَ ندخل إلى متحف المدينة الذي يضم جُثث بعض السكان الذين فاجأتهم الحمم البركانية الحامية، فالتفَّتْ بأجسامهم والتصقت بها وقتلتهم في لحظة واحدة، انظر إلى أجسامهم التي تبدو كأنها وُضعت في قوالب من الأسمنت المُسلَّح قُدَّت خصيصًا لها، وانظر إلى ما ارتسم على وجوههم من ألمٍ عظيمٍ يَدُلُّ على ما عانوه في لحظة موتهم بتأثير الحرارة!
انظر إلى الفلاح يحمل فأسه، والتلميذ يحمل قلمه، والعامل يحمل آلته، وقد لاقوا جميعًا أشنع ميتة يمكن لإنسان أن يتصورها!
تعالَ الآن نتبع الدليل إلى هذا المنفذ الضَّيِّق من منافذ المدينة، إنَّه يطلب من السيدات ألا يدخلن معنا!
إنَّ السَّيِّدة الوحيدة التي تُرافقنا في هذه الزيارة لتتراجع محرجة، والأسف بادٍ على وجهها، ويبدو أنَّه ليس معها رجل يشجعها على الدخول، تحت مسئوليته الخاصة!
إن هذا المنفذ الضيق يُؤدِّي بنا إلى حي اللهو والعبث في المدينة، وهنا تعرض الصور البشعة التي خلدتها حمم بركان فيزوف ناطقة بما كان يتمتع به الرومان من لذات منكرة في تلك الأعوام.
إنَّها عرض سيئ للمنكر، وصور للرذيلة لا يُمكن أن تخطر ببال إنسان، ولكنها تدعو إلى الاعتقاد بأن الناس هناك ما كانوا يفكرون في غير متعهم ولذاتهم.
وهكذا شاءت الأقدار أن يُفاجئهم البركان بثورته وتلتف بهم الحمم المنصهرة، فتجمع بين الرجال والنساء في لحظات نشوتهم، وتقضي عليهم لتُخلِّد آثامهم النكراء، فلنغادر هذه الأماكن، فليست هذه المناظر مما يستريح له الإنسان.
إنَّ السيدة التي لم تدخل معنا تنظر إلى وجوهنا لكي تعرف ماذا رأينا، وماذا فاتها أن ترى؟ إنها لا تجسر على السؤال، ولكنها تسألنا بنظراتها!
•••
والآن! هل تظن أنَّ من واجبنا أن نموت بعدما رأينا نابولي؟!
أعتقد أنك لا تظن، وأنا أيضًا لا أظن!
(١٨) اليونان
هي أقرب الدول الأوروبية إلى مصر، وكانت قبل الحرب العالمية الثانية مصيفًا من المصايف التي يتردَّد عليها عدد كبير من المصريين.
وأنت في بلاد اليونان تُسائل نفسك إذا كانت هذه البلاد غربية أم شرقية؟
إنك في هذه الجهات لا تكاد تعتبر نفسك غريبًا، وينتهي بك السُّؤال إلى أن تشعر أنك في بلاد لا هي بالغربية ولا هي بالشرقية، فقد أخذت بجزء من الحضارة الشرقية وبجزء آخر من الحضارة الغربية.
واليونان — رغم ذلك — بلاد ساحرة الجمال صافية السماء تَغنَّى بجمالها الشُّعراء من قديم الزمان، ولا يكاد يحل بها أحد الشعراء أو الكُتَّاب حتى يُسحره جمالها، شأنها في ذلك شأن إيطاليا، فأنت في اليونان، بين آثار المدنية الأولى وفي مهد الحضارة ومولد الفكر، تشعر بأنك تُعاصر أولئك الفلاسفة والشعراء والكُتَّاب والمَثَّالين الذين لا تزال آثارهم خالدة سواء في تصويرهم لمعاني الجمال المُختلفة، أو لما يتوارد على العقل الإنساني من أفكار متنوعة وآراء عجيبة.
(١٨-١) بلاد بيرون
ومن أعظم الشُّعراء الذين تَغَنَّوا بجمال اليونان «بيرون» البريطاني … تجد اسمه منقوشًا على أحجار كثيرة من الآثار والمعابد اليونانية القديمة، وخاصَّة في ضاحية «سيتيون» على مقربة من أثينا.
ويعتزُّ اليونانيون بهذا التوقيع كما يعتزُّون بحب بيرون لبلادهم، وبما نظمه من قصيد وهو يتغنَّى بجمالها، وبما فعله من أجلها، وخاصَّة حين تطوَّع جنديًّا ليُحارب ضد تركيا، فسقط صريعًا في موقعة ميسولنجي المعروفة، وقد أقام اليونانيون نصبًا تذكاريًّا جميلًا لبيرون في أثينا اعترافًا بفضله على بلادهم.
ولم يكن بيرون هو الشَّاعر الوحيد الذي عشق اليونان، فقد قلَّده الشَّاعر البريطاني الشاب روبيرت بروك الذي تطوَّع هو الآخر في الجيش اليوناني أثناء الحرب العُظمى وقتل مع المحاربين اليونانيين.
(١٨-٢) آثار قديمة
وبلاد اليونان غنية بآثارها القديمة وبقلاعها الأثرية المشهورة في التاريخ وفي الأساطير «الميثولوجيا»، وفي مقدمة هذه الآثار، التي اتخذت عنوانًا عن اليونان، الأكروبول: ذلك الأثر الخالد الذي يُبهِرُ أنظار زائريه لعظمة ما شيد عليه من آثار لا نظير لها.
ويرجع تاريخ الأكروبول إلى أكثر من ألفي سنة، وقد شيَّده اليونان تخليدًا لذكرى انتصارهم على الفرس، ومنذ ذلك الوقت ظلَّ موئلًا لعباقرة الفكر الإنساني أمثال سوفوكل وهيرودوت وفيدياس، وفيه تجرَّع سقراط السم حين اتُّهِمَ بأنَّه يُسمِّم أفكار الشعب بتعاليمه الجديدة التي كانت تُناقض التقاليد الموروثة.
وقد شيد الأكروبول في عصر بركليس، العصر الذهبي لأثينا، وشيدت بجانبه القصور والمعابد وأهمها «البارتينون» الذي شيَّده بركليس تكريمًا لأثينا إلهة المدينة.
ولا تقتصر الآثار القديمة في اليونان على أثينا، فهناك «دلفي» و«طيبه» و«اليفسيس» و«ميكونوس» و«إسبارطه» و«أوليمبيا» التي اشتهرت بمولد الألعاب الأوليمبية، ومنها اكتسبت هذه الألعاب اسمها المشهور، و«كورنثوس».
إنَّ كل مدينة من هذه المدن لها تاريخها المجيد، وتضُمُّ آثارها القديمة المختلفة، وكلها تستحق الزيارة من السائح الذي يحب زيارة الآثار القديمة.
أمَّا أثينا: عاصمة اليونان، فهي ذات شهرة عالمية منذ فجر التاريخ، وهي تمتد حول «الأكروبول» في مبانٍ عصرية حديثة، شوارعها متسعة مُنسَّقة تنسيقًا بديعًا، وضواحيها جميلة يصل إليها المسافر، إذا أراد أن يذهب إلى شاطي البحر، في دقائق.
(١٨-٣) الشعب اليوناني
ويعيش في اليونان شعب نشيط يُحبُّ العمل ويُحبُّ ركوب البحار حتى لقد سافر إلى أقصى الأقطار، واستوطن أبعد البلاد سعيًا وراء الرزق، ولعلَّ ما نشهده في مصر، من وجود يونانيين في أصغر القرى وأبعد الصحاري، من أمثلة هذا النشاط العظيم.
وقد كان الشعب اليوناني بطبيعته مرحًا طروبًا إلا أنَّ الظروف الأخيرة التي اجتازتها تلك البلاد، والحرب الداخلية التي قسمتها إلى معسكرين أحدهما ينصر الشيوعية والآخر يؤيد الدول الغربية، هذه الظروف قد كست الشعب بطابع الحُزن والأسى، كما نشرت الفقر، ورفعت أسعار الحاجيات وسببت تضخمًا في النقد.
وقد بدأت الأحوال في التحرج على أثر الحرب العُظمى، وَمَا كَادَت الأحوال تستقرُّ بعد هذه الحرب حتى فوجئت اليونان بالحرب العالمية الثانية، واعتداء إيطاليا عليها ثم اعتداء ألمانيا، وما كادت هذه الحرب تنتهي حتى فوجئت اليونان بأصابع الشيوعية تلعب من وراء الحدود، وتحرِّكُ الثوار ضد الحكومة الوطنية، وقد انقضت سنوات قبل أن يكون في وُسع هذه الحكومة القضاء على قوة الشيوعيين.
(١٨-٤) للسلوى والعزاء
ومع ذلك فأنت إذا زُرت اليونان اليوم وحللت بأثينا رأيت اليونانيين يملئون المشارب، ويتناولون شرابهم القومي المحبوب «الرتسينا» وهم يضحكون ويبتسمون ويتناقشون في شتَّى الموضوعات، وخاصَّة السِّياسة، بأصوات مرتفعة، وهذه في الحقيقة ميزة من ميزات شعوب البحر الأبيض المتوسط، فكلها تحب الكلام، وتحب النقاش، وتحب رفع الأصوات، وقد لا تجد لها مثيلًا في عاصمة أوروبية أخرى!
(١٨-٥) أين تذهب في بلاد اليونان؟
ولا تعتز اليونان بآثارها القديمة فقط، بل فيها من المزايا الطبيعية ما يجتذب إليها كل محب للسفر والسياحة، وذلك لاعتدال مناخها ووجود عدد من المصايف البحرية الجميلة، وعدد آخر من المصايف الجبلية، وينابيع المياه المعدنية.
ومن أشهر المصايف البحرية «كيفسيا» و«فاليرون» وشواطئ «غليفاده» وشواطئ «البلوبونيز» و«كورفو» وجزيرة «اسبتسيا» وجزيرة «تينوس» وجزيرة «ميكونوس».
ومن المصايف الجبلية «بورتاياء» و«سراندابنجو» و«ميجاسبيليون» وغيرها.
(١٩) شرق أوروبا
ليس من السَّهل أن تزور دول شرق أوروبا أو تلك الدول التي نَصِفُها بأنَّها وراء الستار الحديدي، أو تدور في فلك روسيا وتعمل بوحيها.
- (١)
كثيرًا ما تعجز المفوضية المصرية عن مساعدتك، لو وقعت أثناء زيارتك في مأزق أو كنت في موقف حرج، بعكس الدول الأخرى.
- (٢)
إن الفندق الذي تنزل فيه أثناء زيارتك لإحدى هذه الدول يَضُمُّ عددًا من الجواسيس والمخبرين، وسيكون أكبر همٍّ لهم، مع من يساعدهم من الخدم والكتبة، مراقبة كل من تتصل بهم أو تدعوهم لزيارتك من أهل البلد، ولذلك سيُحجم كثيرون عن التعرف بك أو مد يد الصداقة إليك وستشعر بوحدة ووحشة.
- (٣)
إذا نجحت في مُصادقة أحد أهالي البلد، فلا شك أنه سيتعرض لتحقيق دقيق بعد أن تُسافر، وإذا وثق بك أحدهم فقد يطلب منك أن تساعده على الفرار من بلده، وقد يتضح في النهاية أنَّ هذا الشخص من مُثيري القلاقل والاضطرابات.
- (٤)
إنَّ الغلاء والحالة الغذائية في هذه الدول لا يشجعان على زيارتها.
ولكن هذا لا يمنع من القول أن هذه البلاد تضمُّ بقاعًا جميلة، تُعتبر من أجمل بقاع أوروبا، وخاصَّة في جبال الكربات برومانيا، وفي حوض الدَّانوب وفي بلاد المجر (هنغاريا) وفي النمسا.
وخير رحلة ننصح محب السياحة أن يقوم بها هي الرحلة النهرية في حوض الدانوب؛ إذ يمكنه في أثنائها أن يزور معظم هذه البلاد زيارة عابرة، ويرى حوض النهر العظيم الذي خلَّده الموسيقي ستراوس بحيث يصل في نهاية الرحلة إلى قلب أوروبا.
وتُقلع بك الباخرة من الإسكندرية متجهة إلى «بيريه» ثغر أثينا، وبعد ٢٠ ساعة كاملة في البحر، تسير بك بين جزيرتين هما «سكاربتيا» إليى اليمين وكريت إلى اليسار. وفي صبيحة اليوم الثالث تصل إلى ميناء بيريه أو بيروس.
(١٩-١) في أثينا
ولا تقف الباخرة عند ثغر بيريه إلا ساعات معدودات، ويحسن أن تنتهز الفرصة للنزول والانتقال بوساطة ترام أشبه بمترو مصر الجديدة من بيريه إلى أثينا لكي تزور معالمها وآثارها.
وتصل إلى أثينا في أقل من ١٥ دقيقة، فتجد نفسك في بلد المدنية القديمة، وأول ما يظهر منها «الأكروبول» وهو بناء أثري كبير يُشبه معبد الكرنك في «طيبة»، ولو أنَّ آثاره قليلة إذا قيست بما يضم الكرنك، وقد كان الأكروبول مقر ملوك أثينا الأوائل، ثم تحوَّل بعد ذلك إلى معابد متعددة للآلهة.
والآثار الباقية ليست في حالة جيدة إذ تهدم معظمها، ومنها «البارتنون» وهو معبد آلهة أثينا وبه نحو ١٠٠ عامود من الرخام الأبيض.
وفي متحف أثينا مجموعة لا بأس بها من الآثار.
وبعد جولة سريعة في طرقات أثينا تعود إلى بيريه لكي تستقل الباخرة التي ما تلبث أن تسير بك بين جزر متعددة في طريقها إلى تركيا.
وفي الصباح التالي تجد الباخرة تسير بك بين ربوتين مرتفعتين هما: مدخل بوغاز الدردنيل المشهور وهو يمتاز بالحصون التي شيدت على جانبيه.
وتقطع الباخرة بوغاز الدردنيل في أكثر من خمس ساعات تجد نفسك بعدها في بحر مرمرة، وما يلبث السَّاحل الأسيوي أن يغيب عن نظرك، ثم يلحق به الشاطئ الآخر، وتمرُّ في الطريق بمدينة غاليبولي التي نالت شهرتها منذ الحرب العظمى.
وفي مساء اليوم تظهر لك مدينة استانبول العظيمة، وأوَّل ما يظهر منها مآذن مساجدها الكبيرة المتعددة، وقبابها الكثيرة المميزة، وتبدو المساكن كذلك بسقوفها على مدرجات المرتفعات.
ومنظر إستانبول جميل يأخذ بمجامع القلوب، ولا يمكن أن يُنسى؛ إذ تبدو عاصمة السلاطين وكأنها عروس البسفور حقًّا، وكلما اقتربت منها ازداد منظرها جمالًا.
(١٩-٢) في إستانبول
وإذا رست الباخرة عند مدخل القرن الذهبي، ونزلت إلى إستانبول فمن الضروري أن تزور بعض الجوامع الشهيرة كالجامع الأزرق، أو جامع السلطان أحمد، وله ست مآذن دقيقة، وهو من أجمل جوامع المدينة، ثُمَّ أياصوفيا الذي حُوِّل إلى متحف في المُدَّة الأخيرة، وكان كنيسة في مبدأ الأمر، ثم تحول إلى جامع، وإن كان الصليب لا يزال ظاهرًا على كثير من جدرانه.
وقد عنيت الحكومة التركية في المدة الأخيرة بإظهار النقوش القديمة الأصلية التي كانت تغطي جدران أياصوفيا، وقد كانت مُندثرة تحت طبقات من الطلاء، ولكنك إذا دخلت أياصوفيا وجدت الآيات القرآنية لا تزال باقية على حالها وقد صيغت بالذهب الخالص.
ومن المساجد التي يجب زيارتها جامع جديد كبير هو جامع السلطان سليمان القانوني، والسوق القومي ويطلقون عليه اسم «البازار» وهو كثير الشبه بخان الخليلي عندنا، إذ تجد الأزقة فيه ضيقة متعددة والحوانيت صغيرة مُتلاصقة، ومنه يمكن أن يأخذ الزائر صورة صحيحة عن تركيا القديمة.
وعند الظهر تقلع الباخرة، فتتهادى في القرن الذهبي، وتستعد لدخول بوغاز البوسفور بين المناظر الطبيعية الجميلة حيث ترى المرتفعات والمدرجات تكسوها الأشجار الخضراء وأشجار الفاكهة والزيتون، وقد ظهرت بينها بعض «الفيلات» والمآذن العالية، ويستلفت النظر بنوع خاص قصر «ضولمه بغجه» المشهور الذي كان مقر السلاطين فيما مضى، ويضيق البوسفور أحيانًا ويتسع أحيانًا أخرى، وفي الأماكن التي يضيق فيها أقيمت بعض القلاع الحصينة.
وبعد ساعتين تقريبًا تخرج الباخرة من البسفور الجميل لتدخل البحر الأسود، وهو مُضطرب المياه تجتازه العواصف، وتُظلِّله السحب القاتمة ومنها اكتسب اسمه.
والطريق من قسطنزه إلى بُوخارست العاصمة الرومانية يسير في سهول مُنبسطة عظيمة الاتساع يزرع معظمها القمح والذرة، وترى النساء هناك يعملن إلى جانب الرجال في الحقول.
(١٩-٣) في بوخارست
وبوخارست مدينة عصرية جميلة، ويُسمِّيها الرومانيون «بوكوريشتي» وهم يفخرون بها ويقولون: إنها باريس الصغرى.
ومن أجمل الحدائق التي تراها في مدينة بوخارست حدائق ششمجيو الغنَّاء الناضرة.
وسنايا من أجمل المصايف الجبلية في شرق أوروبا كله.
ومن بوخارست يمكنك في ساعات قليلة، أن تصل إلى جورجيو، وهي قرية صغيرة واقعة في جنوب بوخارست على نهر الدانوب، ومنها يبدأ السفر بالسفن الكبيرة في نهر دانوب.
(١٩-٤) في الدانوب
وتقلع الباخرة من جورجيو في المساء، وفي صباح اليوم التالي يجد المُسافر نفسه بين شاطئ رومانيا الذي يمتد عن يمينه، وشاطئ بلغاريا الذي يمتد عن يساره.
والمناظر الطبيعية على الشَّاطئين من أجمل ما ترى العين، وهي تبعث الأعصاب على الرَّاحة وتهيب بالإنسان أن يتأمل فيما أبدعته يد القدرة الإلهية، فإنَّ الأشجار اليانعة الخضراء تملأ الشاطئين على أراض مُنحدرة مُقسَّمة في زراعتها وخاصة على الشاطئ البلغاري؛ حيث ترى بعض المراعي ترتع فيها الماشية والأغنام، كما ترى في عرض النهر بعض البواخر وقوارب الصيد الكثيرة، وكثيرًا ما تقف هذه البواخر والسفن التجارية عند الموانئ النهرية لتفرغ البضائع أو لتحملها، وتتصل هذه الموانئ النهرية مُباشرة بالطرق الحديدية، مما يدل على أن القوم عرفوا كيف يستفيدون من النهر في نقل متاجرهم.
وتقف بك الباخرة عند قرية بلغاريَّة هي قرية «لوم».
وفي صباح اليوم التالي، تجد نفسك بجانب شواطئ يوغوسلافيا، وفي هذا الجزء ترى «الباب الحديدي» المشهور، وهو عبارة عن أجزاء دقيقة من النهر تنحني وتضيق بسرعة حتى يُخيَّل لك أحيانًا أنَّ الباخرة قد ضلَّت طريقها، وأنها وصلت إلى جزء مغلق مسدود في النهر، وأنها لا تلبث أن تصطدم بتلك الجبال الشاهقة التي تقوم في وجهها، وقد كست الأشجار سفوحها، ولكنها سرعان ما تنحني هي الأخرى مع النهر قبل أن تدرك الجبال أو تلمسها، ولتسهيل الملاحة هناك، أو بالأحرى لجعلها ممكنة، أنشأ القوم جسرًا من الصخر القوي عند مُنعطف النهر وأخلوا الجزء الواقع بين هذا الجسر وبين شاطئ يوغوسلافيا من الصخور والجنادل التي كانت تعترض المجرى حتى صارت الملاحة فيه سهلة — وصار هذا الجسر دليلًا يهدي السفن إلى المنطقة التي يجب أن تسلكها في هذا الجزء من النهر — إذ إنه إلى يسار الجسر ظلَّت الجنادل والموانع قائمة كما كانت.
والملاحة في هذا الجزء من النهر شديدة الخطر؛ إذ إنَّ المُنحنيات فيه كثيرة والدوَّامَات قوية والجنادل متعددة، ولولا علامات خاصَّة أُقيمت على أخشاب طافية على الماء لتعذَّر على السُّفن اجتياز ذلك الجزء.
ولا تخرج السفينة من هذا الجزء إلا بعد سير ثماني ساعات كاملة ينفرج شاطئا النهر بعدها؛ إذ تغادر منطقة الباب الحديدي بمناظره الساحرة الفاتنة التي لا تُنسى، كما تغادر شواطئ رومانيا الجميلة.
وفي المساء تصل إلى بلغراد عاصمة يوغوسلافيا.
وتمتد بلغراد أو بيوجراد — كما يسميها أهلها — مسافة طويلة على النهر، ولا تُغادر الباخرة شواطئ يوغوسلافيا إلا في اليوم التالي، فتبدأ بعد ذلك سهول المجر في الظهور مُنبسطة زاهرة، وأوَّل ما تصل إليه من المجر قرية صغيرة اسمها موهاتشي حدثت عندها إحدى وقائع الحرب العظمى.
(١٩-٥) في بودابست
وتصل الباخرة في فجر اليوم التالي — وهو اليوم الخامس للملاحة في النهر — إلى بودابست؛ عروس الدانوب، وأجمل المدن التي تقوم على شاطئيه بلا نزاع.
وإذا دُعيت بودابست ملكة الدانوب، فهي تستحق هذا اللقب بحق، فالدانوب يقسمها إلى قسمين: الأول بودا، والثاني بست.
وبودا: هي المدينة القديمة التي تضمُّ القصر الملكي الكبير، وكنيسة التتويج ودور الوزارات والمتحف الحربي، وتتخلَّلها الحدائق الزَّاهرة والعيون الطبيعية، وقد كانت فيما مضى — وهي تحت الحكم التركي — تحوي ٤٠ مسجدًا اندثرت اليوم، وتحوَّل مُعظمها إلى كنائس ومتاحف، بل يُقال: إنَّ مسرح بودا كان في الأصل مسجدًا.
وقد نتساءل عن بودا وعن بست وكيف نعتبرهما مدينة واحدة هي عاصمة المجر؟ والواقع أنهما مدينة واحدة؛ إذ تصل بينهما عدَّة قناطر جميلة تسير عليها وسائل النَّقل المختلفة، فتحمل الناس بسرعة من بودا إلى بست وبالعكس، وأفخم هذه القناطر كلها هي قنطرة اليصابات.
وفي بودابست جزيرة جميلة تقع في شمال المدينة بين ضفتي النهر واسمها جزيرة سانتا مرجريتا، وهي تتصل بالمدينة بوساطة قنطرة.
وجزيرة سانتا مارجريتا من أجمل المتنزهات في العالم؛ إذ هي عبارة عن مجموعة من الحدائق الملأى بالأزهار الجميلة ذات الألوان المختلفة، وقد نسقت كلها في نظام بديع، وبها بعض المشارب والحمامات، ولكن ذلك لم يفقدها هدوءها وجوَّها الخيالي الممتع، وإلى هذه الجزيرة يُهْرَع سكان بودابست وأولادهم طول اليوم.
وبودابست من أشهر بلاد الحمامات في أوروبا، ويمكن أن تزور بها القصر الملكي وهو يُشرف على النهر وفيه نحو ٨٦٠ غرفة تتجلَّى في كل واحدة منها عظمة الفن، كما يجب أن تزور بها كنيسة التتويج، وقد دُعيت كذلك؛ لأن الإمبراطور فرانسوا جوزيف تُوِّجَ فيها، وكذلك حصن صيادي السمك، ومما يَلفت النَّظر في طرقات المدينة كثرة الميادين والمتنزهات والقناطر المُقامة فوق الدانوب لتصل بين المدينتين، وفي كل ميدان من الميادين تتعدَّد التماثيل الجميلة، وقد ترى في بعض الميادين تمثالًا في كل رُكن من الأركان، كما أُقيم بعض هذه التماثيل فوق المرتفعات والمدرجات.
وتمتلئ بودابست أثناء الاحتفال بعيد القديس اسطفان برجال ونساء من الفلاحين والفلاحات ممن يَفِدُون إليها من الأقاليم للاشتراك في العيد، وقد ارتدوا الملابس الوطنية المزركشة ذات الألوان الجميلة.
وفي متحف بُودابست مجموعة قيِّمة من الصور، كما أنَّ متحفها الزراعي من أشهر متاحف العالم؛ إذ فيه نحو ٢٥ قسمًا رئيسيًّا منها قسم الغلات والتربة وطرق الري والحرث والدواجن، وعلى نمط متحف بودابست أعد متحف فؤاد الزراعي.
ومنظر بودابست في الليل من أجمل المناظر، فأنت إذا أقبلت عليها من النهر، وجدت الأنوار تتلألأ على مدرجاتها المرتفعة كأنها الزِّينات المُضاءة في حفلة العُرس، كما ترى القناطر تتألق بالأنوار، وهذا المنظر— منظر بودابست بالليل من نهر الدانوب — من المناظر الخالدة التي لا يمكن أن تُمحى من ذهن زائر شرق أوروبا.
(١٩-٦) في فيِنا
المسافة بين بودابست و«فيِنَّا» بالقطار لا تزيد على أربع ساعات ونصف، يمرُّ المُسافر في خلالها بالمروج الخضراء والسهول المنبسطة، ويرى الوديان والمراعي الملأى بالماشية والأغنام.
و«فيِنَّا» بلد من أجمل بلدان أوروبا، وإذا سُمِّيَت بوخارست باريس الصغرى، وقيل عن بودابست إنها ملكة الدانوب، فإنَّ «فيِنَّا» تحمل لقبًا لا يقلُّ شأنًا عن هذين اللقبين وهو: بلد الفن والموسيقى.
ولقد مرَّ وقتٌ على «فيِنَّا» كانت في أثنائه أولى البلدان الأوروبية وأجملها، فقد كانت حاضرة إمبراطورية عظيمة هي إمبراطورية النمسا والمجر، ولكن النمسا بعد الحرب العُظمى أصبحت في حالة يُرثى لها تُعاني شر أنواع الفقر والبطالة، وعدد سكانها اليوم لا يزيد عن مليون ينزل أكثر من نصفهم في «فيِنَّا» وحدها، ولكن «فيِنَّا» على الرغم من ذلك لم تفقد من روحها السابقة غير القليل، ولولا العُمَّال المُتعطلون المتسكعون في طرقاتها، ولولا الذين يمدُّون أيديهم بالسؤال لقُلنَا إنَّ «فيِنَّا» الحالية هي «فيِنَّا» القديمة.
شارع «الرنج» أو الرنج ستراس كما يُسمونه من أفسح الطرق أو المتنزهات في العالم كله، ويشبه الشانزليزيه في باريس، وهو يُحيط بالمدينة القديمة، ويضمُّ عددًا من الحدائق الجميلة والتماثيل البديعة لزعماء الموسيقيين الذين عشقوا «فيِنَّا»، ويُشرف على هذا الطريق دار البرلمان النمسوي.
ويُمكن أن تزور في «فيِنَّا» القصر الإمبراطوري العظيم، وهو يقع في قلب المدينة كما أنه مليء بأنواع الذخائر الفنية الثمينة من صور وأثاث وطنافس، وقد كان هذا القصر حتى سنوات قليلة مقر الإمبراطور فرانسوا جوزيف الذي تُوفي أثناء الحرب العُظمى وفيه نحو ألف غرفة، بينها الغرف التي كان ينزل بها نابليون بونابرت مع زوجه ماري لويز حين يزور حَمَاهُ فرانسوا الأوَّل.
ويجب أن تزور كذلك قصر شونبرون المشهور، وهو بخلاف القصر الإمبراطوري، يقع في خارج المدينة، ويبعد عنها نحو ساعة بالسيارة، ويُعتبر من أجمل القصور الملكية في العالم، ولا عجب فقد كان مقر مارياتريزا، وحدائق هذا القصر لا تزال مُحتفظة بجمالها وزهورها ونافوراتها وبحيراتها مما يذكِّر الزائر بقصور فرساي الجميلة، ونقوش الحجرات كلها مكسوَّة بالذهب الخالص حتى تكاد تخطف بالأبصار، وبه فوق هذا غُرفة اسمها «غُرفة المليون» وقد سُمِّيت كذلك؛ لأن نفقات تزيين جدرانها بالذهب — وهي حجرة واحدة — بلغت المليون ريال والمطابخ وحدها في قصر شونبرون كانت تشغل ١٤٠ غرفة.
ويجب أن تذهب في النمسا إلى منطقة سمرنج، وهي تبعد عن «فيِنَّا» بساعتين ونصف في السيارة، وعندها يبدأ النفق الذي يُؤدِّي إلى إيطاليا، والذِّي يخترق جبال الألب الشرقية، وتمتاز بارتفاعها الذي لا يقل عن ١٠٠٠ متر، وطريق السيَّارات في الجبل مُعبَّد يصعد بالسائح تدريجًا دُون أن يشعر حتى ينتهي الأمر بأن يجد نفسه على القِمَّة، وقد أُقيمت هناك الفنادق والملاعب وأحواض السباحة الجميلة، ويحتاج الكاتب إلى قلم الشاعر وخياله ووحيه لو شاء أن يصف المنظر الذي يراه من سمرنج فالبصر لا يقع إلا على غابات مُتَّصِلَة، والنباتات والأزهار تنمو في وسط الصخور، وجداول المياه تنساب إلى الأودية في خريرٍ ناعمٍ وكأنَّها تُسبِّحُ بحمد الله الذي خلق فأبدع!
(٢٠) إسبانيا
إنَّ شخصيتي «دُون كيشوت» من ناحية، و«كارمن» من ناحية أخرى لتميِّزان ما يراه السائح في إسبانيا من تناقض؛ حيث يرى في إحداهما سذاجة أهل سهل الأندلس في الجنوب، ويرى في الأخرى كبرياء أهل الهضبة في الوسط والشمال.
وفي الأسرة الأسبانية نفسها يُصادف الزَّائر شخصيات مُختلفة أبرزها شخصية «الباسك» الذين يتحدثون لُغة قلَّما يفهمها غيرهم.
وإسبانيا بعد هذا هضبة جافَّة حارَّة جرداء تخترقها عِدَّة جبال عالية تحصر بينها وديان كثير من الأنهار، وتُحيط بها البحار من مُعظم جهاتها، وبها — مثل شخصياتها — الكثير من المتناقضات، ففيها الشَّمس المحرقة والظلال الوارفة، وفيها القسوة والعاطفة، وثقافتها مزيج من أفريقيا وأوروبا.
(٢٠-١) آثار خالدة
تعيش بها في جوٍّ من الآثار الخالدة، وقد مضى على المباني القائمة في بعض بلادها، كغرناطة وطليطلة، نحو أربعة قرون دُون أن يُنتزع منها حجر واحد أو يُزاد عليها حجر واحد، والأسبان هُناكَ ينظرون إلى هذه الآثار نظرة عادية تكاد تكون أقرب إلى الإهمال، أمَّا الزَّائر الغريب فينتابه شعور عجيب بأنه يعيش في الماضي، بل يكاد يحس أنه ينزل في القلاع والأديرة القديمة التي حولتها الحكومة الأسبانية إلى فنادق.
ولا بد لك في إسبانيا من زيارة إقليم الأندلس، وعلى الأخصِّ مدينة قرطبة التي كانت في يوم من الأيام مقر الخلافة والحضارة الإسلامية، وكانت بها المساجد الكثيرة ودور العلم، إنَّكَ ستعيش بها في جوٍّ من ذكريات العظمة والمجد الغابر، وفي وسعك أيضًا أن تزور أشبيلية حيثُ تجد «الكازار» وهو «القصر» الذي بناه العرب، لا يزال في مكانه بنقوشه ورسومه وهندسته البديعة، وغرناطه أيضًا تحدثك بآثارها عن الماضي، فإذا أردت أن تعود إلى الحاضر فهيا إلى …
(٢٠-٢) مدريد الضَّاحكة
ومدريد: عاصمة إسبانيا، تصلح مركزًا لجولة في إسبانيا، وهي مدينة عصرية كبيرة، تَضُمُّ عددًا من الفنادق والأندية الليلية المشهورة، وفي النهار يمكن أن ترى بها: القصر الملكي، والحي القديم وفيه السوق المعروف باسم الراسترو، ومنتزه رتيرو الجميل، ومتحف برادو الذي يَضُمُّ مجموعة لأساطين الفن من هولنديين وفلاميين وإيطاليين، ومجموعة لا نظير لها من جويا وإلجريكو وفلاسكويز، وكل أصحاب هذه الأسماء من الفنانين الخالدين.
وسوق مدريد «إلراسترو» يستحقُّ الزيارة وهو أشبه بسوق «الكانتو» في مصر، لولا أنَّ التجار هناك يعرضون بضائعهم على عربات، وبعضهم يعرضها في الحوانيت، ويتميز السوق بالصياح والأصوات العالية، أصوات الباعة وهم يُنادون على بضائعهم ويمتدحونها اجتذابًا للزبائن، أو وهم يُساومون هؤلاء الزبائن ويتناقشون معهم في الأسعار، وفي الصيف تجد بائع البطيخ، وقد وقف مع مُساعديه، وسكينه في يده، يُنادي بأعلى صوته على بطيخه، وهو لا يبيع بطيخة إلا بعد أن يشُقَّها ليثبت للمُشتري جودة الصنف، وأنَّه لم يكن كاذبًا في ندائه!
ومن سوق إلراسترو يمكن أن تشتري أحسن البضائع بأثمان لا تقل كثيرًا عن أثمان المحال الكبيرة.
أما بالليل فلمدريد سحرها؛ حيث تمتلئ المشارب بالناس الذين يزحمون طريق العابرة، ولا يبدأ تناول العشاء هناك إلا في العاشرة مساءً، بل إنَّ المطاعم المشهورة لا تبدأ الخدمة فيها إلا في الحادية عشرة، وفي الصيف كثيرًا ما تنتقل المطاعم والأندية الليلية إلى أماكن أخرى أُعدَّت خصيصًا لها في الهواء الطلق، وذلك بسبب الحرارة الشديدة، ويستمر الطعام والشراب والرقص والعبث تحت الأشجار إلى الساعات الأولى من الفجر.
وتنام مدريد بعد ظهر كل يوم من أيام الصيف نحو ساعتين أو ثلاث ساعات، كما نفعل نحن في مصر، فتغلق الحوانيت والمشارب وتكاد الطرقات تخلو من المارَّة، وهُم لا يفعلون ذلك كسلًا أو رفاهية، ولكنها ضرورة من ضرورات الجو!
(٢٠-٣) مُصارعة الثيران
إنَّ مئات الآلاف من الناس يُسافرون إلى إسبانيا لرؤية مُصارعة الثيران، ولهذه الرياضة — إذا صحَّ أنها رياضة — ملايين من الأنصار والمُعجبين في إسبانيا، وإذا شئت أن تستمتع بحفلة المُصارعة، فيجب أن تترك عواطفك ومشاعرك الإنسانية في الفندق وتذهب إلى الملعب مجردًا منها تمامًا.
وتلمع أسماء مُصارعي الثيران المشهورين في إسبانيا أكثر ممَّا تلمع أسماء الوزراء والسياسيين، فأنت هُناك لا تسمع غير أسماء: «لويس ميجويل» و«دومنجوين» و«باكيتومينوز» و«مانولا جونزاليز» و«باريتا» و«روفيرا»، تتردد على ألسنة الأسبانيين وعلى صفحات الجرائد، ورجل الشارع يعرف الكثير عن كل اسم من هذه الأسماء، ولكنه لا يكاد يعرف من هو وزير داخلية إسبانيا!
وأصحاب هذه الأسماء يكسب الواحد منهم ملايين البيسيتاس في كل عام، وتنحصر بطولته في براعته في الهرب من قرون الثيران، فإذا ما أخفق مرَّة في الهرب من القرون، فقد في الحال حياته، أو — على الأقل — شهرته وبطولته!
وأحسن شهور الموسم لمشاهدة مصارعة الثيران في مدريد هما مايو وسبتمبر، ويمكنك أن تشهد هذه الرياضة في جميع مُدُن إسبانيا المشهورة الأخرى مثل: أشبيلية، وغرناطة، وسان سبستيان. وتُقام حفلاتها طوال أشهر الصيف تقريبًا.
وتبدأ المعركة بين المصارع والثور بمحاورة الثور ومداورته بقصد إضعاف قوة مُقاومته، ويتم ذلك بواسطة وشاح أحمر اللون يحمله المصارع في يده اليسرى، ويكون همه في هذه العملية أن يتنقل بسرعة من مكان إلى آخر والثور يتبعه أو بالأحرى يتبع الوشاح الأحمر.
وتنتهي المعركة بأن يغرس المصارع سيفه في عنق الثور، فتنزف دماؤه، ويخرُّ صريعًا، ويطرب الجمهور لمرأى الدم، فيُهلِّل، ويُصفِّق تحية للبطل الفائز، وإذا لم يمُت الثور بالسيف الذي دُسَّ في عُنقه ذبح بواسطة السكين رأفة به!
والنساء الإسبانيات أشدُّ ميلًا من الرِّجال لمشاهدة مُصارعة الثيران، وهنَّ يتحمسن أكثر من الرجال عندما يشهدن الدم المُراق من الثور، هذا الدم الذي يشعر بعض الرجال بدوار إذا رأوه، ولا يدهش القارئ بعد ذلك إذا عرف أن بعض الإسبانيات قد برزن كمصارعات للثيران!
(٢٠-٤) الجمال والرقص
والمرأة الأسبانية من أجمل نساء أوروبا، وهي تتميَّز بالعينين السوداوين، والشعر الأسود، واللون الخمري الجميل، والوجه البيضي السَّاحر.
وتمتاز الأسبانية كذلك بالقوام الفارع والقدِّ الممشوق والقوة الجسمية، والدم الحار، ولا عجب فقد نزل العرب في شبه الجزيرة وامتزجوا بسكانها الأصليين.
وأروع الحفلات الأسبانية هي الحفلات ذات الصبغة الدينية، وذلك من آثار قوة العقيدة الدينية لدى الشعب الأسباني، وتُقام أكبر هذه الحفلات قبل أعياد الميلاد والفصح.
وأشهر هذه الحفلات هي التي تُقام في أشبيلية وتستمر من ٢٧ أبريل إلى ٢٠ مايو، وأشبيلية من أهم مراكز مُصارعة الثيران، ورقص «الصَّاجات» في إسبانيا، ويقع في هذا الإقليم، على شاطئ نهر الوادي الكبير، مصنع السجاير الذي كانت تعمل فيه كارمن — على ما ورد في الأوبرا المشهورة — ويجدر بك أن تشاهد تمثيل هذه الأوبرا في جوها الأصلي هناك.
ولعلَّ الرقص الأسباني — وهو يمتاز بالقوة والحركات العنيفة — خير ما يبرز شخصية الأسبانية، ويجب أن تشهد هذا الرقص، فسوف يروق لك؛ لأنه يُشبه كثيرًا رقصنا الشرقي، وسوف تطرب لسماع أصوات «الصَّاجات» في يد الرَّاقصة البارعة، فاستعمال هذه «الصاجات» أعظم ما يميز الرقص الأسباني.
والرقص الأسباني إلى جانب ذلك يعرض جمال الأجسام في حركات ملؤها الإغراء، وكثيرًا ما تضرب الراقصة الأرض بقدمها في غضب وحنق، كأنها تريد أن تعبِّر عمَّا يُخالج نفسها من ثورة ضد القيود والتقاليد التي تمنعها من العبث كما تعبث نساء أوروبا في الممالك الأخرى، أو كما يعبث الرجال في إسبانيا.
والواقع أنَّ الفضيلة في إسبانيا لا تزال بخير، وقد يرجع هذا إلى قوة العقيدة الدينية عند النساء بشكلٍ لا مثيل له في دول أوروبا الأخرى مما يدفعهن إلى التردد على الكنائس بانتظام وإلى الميل للحياة الطاهرة.
وليس الرقص الأسباني — وحده — هو الذي يذكرك ببلادك في إسبانيا، فإنَّ هناك منظرًا آخر من المناظر العجيبة يشبه كثيرًا المنظر الذي نراهُ في أحياء القاهرة الوطنية وخاصَّة في شهر رمضان، ذلك هو منظر الأباريق الملأى بالمياه التي تُوضع في الميادين والشوارع حتى يشرب منها من يشاء.
ولا تدهش إذا رأيت سيدة جميلة أو رجلًا أنيقًا يقف أثناء سيره في الطريق، ليتناول الإبريق ويشرب منه ثم يعيده إلى مكانه!
(٢٠-٥) أين تذهب في إسبانيا
إذا خرجت مسافة قصيرة من مدريد وجدت خمسة أماكن تستحق الزيارة من السائح، ومن أهمها الإسكوريال وأرانجويز، وتشتهران بقصورهما الملكية التي تضمُّ مجموعة من الأعمال الفنية الرائعة، وفي قصر إسكوريال الكبير يُوجد البانتينون الذي يَضُمُّ رُفات ملوك إسبانيا منذ فيليب الثاني، وهناك طليطلة، وتقع على بعد ٤٠ ميلًا جنوب مدريد، وهي تمتاز بعدد من المساجد الجميلة والكنائس كما يُوجد بها منزل إلجريكو، الفنان الخالد، وقد تحوَّل اليوم إلى متحف وهناك سيجوفيا وأفيلا.
ويجب أن تزور برشلونه، أكبر مُدُن إسبانيا؛ إذ إنها المركز الصناعي للدولة وهي — وإن كانت مدينة عصرية — إلا أنها ليست في أهمية غيرها من المُدُن الأسبانية من الوجهة السياحية، ومنها تبدأ المواصلات إلى جزر البليار وأجملها جزيرة مالوركا.
وبين سانتندر وباباو وسان سابستيان تُوجد الشواطئ البحرية التي يهرع إليها الأسبانيون والأجانب في شهر الصيف، وتعتبر سان سابستيان العاصمة الصيفية لإسبانيا.
•••
وأحسن ما يُشترى من إسبانيا المصنوعات الجلدية والمصنوعات الزجاجية والمخرمات (الدنتلا).
(٢١) البرتغال
إنَّ البرتغال لتعرض مناظرها الساحرة، وشواطئها الجميلة، ومئات من آثارها القديمة التي تدلُّ على عظمتها الماضية على السائح العصري.
وقد أدَّى موقف الحِيَاد الذي اتخذته في الحرب العالمية الثانية أن أصبحت من نقط الاتصال الهامة بين دول المحور والأمم المتحدة، وامتلأت لشبونه — عاصمتها — برجال المخابرات السرية من الجانبين، وقد كان هذا أثناء تلك الحرب سببًا في وضع قيود بوليسية ثقيلة على كل من يزور البلاد، أما اليوم، وقد انتهت الحرب، فقد ألغيت هذه القيود، واستعاد السائحون حريتهم وحرية تنقلاتهم في هذه البلاد.
وقد صارت لشبونه اليوم قاعدة طيران هامَّة تصل بين الخطوط الأوروبية المنتظمة وبين أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية وأفريقيا.
ومع أنَّ البرتغال ليست من الأمم الغنية إلا أنها تجتذب عددًا من السَّائحين من الخارج وتكاليف الحياة بها مُنخفضة نسبيًّا، والطعام متوفر، والمحال التجارية ملأى بالسلع.
والبرتغاليون يظهرون للأجانب مُنتهى الظُّرف ويُرحِّبون بهم؛ وذلك بسبب ما عُرِفَ عنهم من طيبة القلب، وعدم معرفة اللغة البرتغالية لا يحُول دون زيارة هذه البلاد؛ لأنَّ أهلها يتحدثون الفرنسية والإنجليزية.
وأهل البرتغال يميلون إلى المرح، ويتجلَّى ذلك في منازلهم نفسها، وفي الملابس البرَّاقة التي يرتدونها، سواء كانوا من الرجال أو النساء.
والبرتغاليون يُشبهون الأسبان إلى حد كبير لولا أنَّ لون بشرتهم أشدُّ سُمرة من لون بشرة الأسبان، كما أنهم أقل طولًا.
وتتميَّز البرتغال بكثرة الأديرة الكاثوليكية فيها، ولا تكاد تخلو إحدى مُدُنها من دير مشهور، كما أنَّك في كلِّ مكانٍ تقريبًا تُقابِل الرُّهبان والراهبات.
وفي لشبونه تجد عددًا كبيرًا من نافورات المياه، إنك لا تكاد تخطو خطوة حتى تصادفك نافورة مياه، ولا يقل عددها عن ٥٠ نافورة تتدفق منها المياه، ويجتمع حولها الأطفال والنساء والرجال يملئون الآنية.
(٢١-١) العاصمة
ولشبونه من أجمل العواصم الأوروبية، وهي كثيرة الشبه بروما؛ لأنها بنيت هي الأخرى على سبعة تلال، وهي تقع على الضفَّة اليسرى من نهر التاجه، ومن المناظر الطريفة بها منظر السيارات الأمريكية الحديثة، وهي تملأ الطرقات الكبيرة، وتحدث الأصوات المزعجة عندما تحاول أن تبعد عن طريقها الحمير التي تحمل مُختلف أنواع الحاجيات.
ومنظر عظيم الشَّبه بالمناظر التي تراها في القاهرة هو منظر النساء البرتغاليات، وقد سارت الواحدة منهن مُنتصبة القامة، عارية القدمين، تحمل سلة كبيرة على رأسها وهي تنتقل في حركة رشيقة من مكان إلى آخر، لتبيع ما تحمل في سلتها من سمك أو خضر أو فاكهة أو دجاج!
وقد تنفتح أمامك الدروب الضيقة في العاصمة البرتغالية حتى تنفرج عن متنزهات جميلة أو طرقات واسعة تكشف لك عن نشاط الملاحة في نهر التاجه، أو عن منظر قلعة سان جورج التي بُنيت فوق أعلى تلال لشبونه، والتي تبلغ من العمر ألف سنة.
وفي لشبونه متحف وطني للفنون الجميلة، وفي ضاحية قريبة منها توجد كنيسة ودير سان جيرونيمو التي بُنيت عندما أتمَّ فاسكو داجاما اكتشاف طريق جديد للهند حول رأس الرجاء الصالح بين عامي ١٤٩٧ و١٤٩٩.
ومن أجمل المشاهد في لشبونه منظر مُصارعة الثيران للغواة؛ إذ يطلق ثور على اثنَيْ عشر مُصارعًا من الغواة دفعة واحدة، ولا يُصاب أحدهم بضر، ولكن النظارة يضحكون كثيرًا!
(٢١-٢) أين تذهب في البرتغال
ومن لشبونه يمكنك أن تذهب إلى استوريل، وهو من أجمل الشواطئ وأفخمها، ويكاد يكون بلدًا مُستقلًا، ومن استوريل يمكنك أن تذهب لزيارة الشاطئ الممتد في شمال لشبونه، وتقع عليه قرية صغيرة مشهورة بصيد الأسماك وهي قرية كاسكيه، كما تقع عليه أيضًا: بوكادو اينفرنو (فم جهنم)، وجوينشو وسينترا.
ويمكنك أيضًا أن تزور كويلوز وهي مشهورة بحدائقها التي تشبه حدائق فرساي، وألكوباكا المشهورة بديرها ومصنوعات الخزف، وأوبيدوس ونازار المشهورة بصيد السمك، ومافرا وتومار.
ومناخ البرتغال كثير التغير، ويتمتع السائحون هناك بالأيام المشرقة المشمسة في المدة الواقعة بين شهري فبراير وأبريل.