من اليأس إلى الأمل
استلقى «محب» و«تختخ» مُجهدَين فوق صخور السلسلة … وأخذت الريح تشتد شيئًا فشيئًا فيشعران بالبرد وهما متعبان … وفي الوقت نفسه كانت ملابس الغوص المطاطية تجعل سيرهما شاقًّا إذا رغبا في المشي … وهما ينظران إلى أنوار الإسكندرية البعيدة، ويحلمان بالدفء والطعام.
مضى نحو نصف ساعة … وفجأة قال «محب» ﻟ «تختخ»: انظر يا «توفيق»!
تختخ: ماذا؟
محب: انظر إلى السفينة … إنها تتحرك مغادرة الميناء!
ونظر «تختخ» إلى السفينة … كانت قد أضاءت أنوارها، ثم انطلقت تستدير وهي تغادر الميناء … وأحس «تختخ» بالأسى يفيض بقلبه … لقد هربت العصابة كما هرب «بورتللي» … ولم يخرجا من هذه المغامرة الطويلة المعقدة بشيء … وحتى لو استطاعا السير إلى أقرب قسم للشرطة أو حرس السواحل … فماذا سيقولان عن العصابة؟! لا شيء مطلقًا في أيديهما يمكن أن يكون دليلًا مقنعًا …
ونظر المغامران أحدهما إلى الآخر … كانا يشعران بنفس الإحساس … إن كل شيء قد انتهى … وأنهما أفسدا عمل المغامرين الخمسة بضعة أيام … أفسداه بعطسة واحدة خرجت من «محب».
وبالطبع كان «محب» يشعر بالأسى أكثر … فهو صاحب العطسة التي أنهت المغامرة كلها … وبعد لحظات قال «تختخ»: هيا بنا.
محب: إلى أين؟
تختخ: إلى المنزل طبعًا … كل ما يمكننا عمله الآن هو الاتصال بالمفتش «سامي» ونقول له على كل ما حدث … إنه الوحيد الذي يصدقنا دون أدلة، وعليه هو أن يتصرف كما يشاء.
وقاما يسيران متثاقلين … ولكنهما لم يسيرا أكثر من بضع دقائق حتى سمعا صوتًا صارمًا يقول: قف … مَن أنت!
كان واضحًا أنه صوت جندي من جنود الحراسة … فهذه هي جملتهم التقليدية …
رد «تختخ»: إنني أدعى «توفيق خليل».
الصوت: تقدم رافعًا يديك!
وتقدم الاثنان وقد رفعا أيديهما إلى أعلى … وفجأة سلط عليهما نور كشاف قوي … وسمعا صوت خطوات ثقيلة تُقبِل عليهما … وسمعا صوت بندقية تستعد للإطلاق …
قال «الصوت»: ماذا تفعلان هنا؟
تختخ: كنا … كنا في قارب في مهمة!
الصوت: في هذا الظلام … هل معكما تصريح؟
تختخ: لا … لم نكن نعرف بضرورة وجود تصريح.
الرجل: تقدما.
تقدم «تختخ» و«محب» من مصدر الصوت واستطاعا أن يشاهدا جنديين من جنود الحراسة … أحدهما يطلق نور الكشاف، والثاني ممسك ببندقية وقال «تختخ»: اذهب بنا إلى أقرب نقطة للشرطة.
الجندي: سنذهب بكما إلى نقطة حرس السواحل … تقدما!
وسار «محب» و«تختخ» يتعثران … وقد أخذ ذهن «تختخ» يعمل سريعًا كيف يمكن التخلص من هذا المأزق … بل كيف يُمكن الاستفادة منه؟!
وفجأة ظهر خلف الصخور كشك من أكشاك الحراسة مضاء بأنوار قوية … وقادهما الجنديان إلى ضابط شاب كان يجلس على مكتب يكتب شيئًا في دفتر أمامه … وقال الجندي: عثرنا على هذين الشخصين على السلسلة … يا أفندم.
ورفع الضابط إليهما وجهه … كان يبدو شديد الوسامة والذكاء فقال له «تختخ»: نحن طالبان من القاهرة … جئنا مع بعض أصدقائنا للمشاركة مع رجال الشرطة في مطاردة عصابة لسرقة الآثار الغارقة.
قال «الضابط»: في أيِّ مكان من الإسكندرية تنزلان؟
وقال له «محب» على العنوان ورقم التليفون، فكتبهما أمامه … ثم أخذ يستجوبهما استجوابًا دقيقًا عن كل ما فعلاه … وسمعاه … حتى استمع منهما إلى القصة كاملة … ثم اتصل برقم تليفون منزل «عاطف» في الإسكندرية وتحدث مع والدة «عاطف» لحظات، ثم وضع السماعة وفكر قليلًا، واتصل مرة أخرى بشخص سمعاه يُحدِّثه فعرفا أنه رئيسه … وروى الضابط الشاب القصة كاملة واستمع قليلًا ثم قال: تمام يا أفندم.
ووضع السماعة ثم قال: سيقوم زورق مسلح بمطاردة السفينة فورًا … أرجو أن تكون معلوماتكما دقيقة.
تختخ: أؤكد لك أننا قلنا الحقيقة كاملة.
الضابط: وسأقوم معكما للبحث عن هذا المدعو «بورتللي» … هيا بنا!
وخرجا معه … وسارا قليلًا ثم وجدا موقفًا للسيارات به بعض سيارات شرطة السواحل المجهزة باللاسلكي … وقفز الضابط إلى السيارة … وركبا معًا … وقال: سنذهب إلى المنزل أولًا لتُغيرا ملابسكما …
ثم أعطى العنوان للسائق وانطلقت العربة … وأحس «تختخ» و«محب» أنهما لا يكادان يُصدِّقان ما يحدث … لقد أنقذهما وأنقذ المغامرة كلها … القبض عليهما في الوقت المناسب.
ومرَّا بالشوارع المزدحمة … وسرعان ما وقفت السيارة أمام منزل «عاطف» وصعد معهما أحد الجنود بسلاحه … وعندما فتح لهما «عاطف» الباب انطلقت عشرات الأسئلة من المغامرين الثلاثة … ومن والدة «عاطف» … حتى «زنجر» أخذ ينبح متسائلًا.
قال «تختخ»: بسرعة … لا وقت للأسئلة الآن … فسوف ننطلق لمطاردة «بورتللي»!
وفي دقائق قليلة اغتسلا وغيرا ملابسهما، ثم أخذا «زنجر» معهما ونزلا إلى السيارة التي انطلقت إلى شاطئ الميناء الشرقي … وسرعان ما عثروا على القارب الذي تركه «بورتللي» بعد أن وصل به إلى الشاطئ …
وكان بعض الصِّبية يلعبون على ضوء الشارع … فسألهما الضابط عن صاحب القارب وهل شاهدوه، فقال أحدهم: كنت هنا منذ أكثر من ساعة … وقد شاهدت الرجل وهو يُغادِر القارب ومعه كلب أصفر اللون.
تختخ: تمامًا إنه هو والكلب «الكوكر»!
الضابط: وإلى أين اتجه؟
الولد: كانت هناك سيارة تقف هنا … ركبها.
الضابط: هل تعرف لون السيارة أو نوعها أو رقمها.
الولد: لونها أحمر … ماركة «فيات».
الضابط: كبيرة أو صغيرة؟
الولد: كبيرة … ومن طراز حديث!
ودخل الضابط إلى السيارة، واستخدم جهاز اللاسلكي … وأخذ يتحدث ويستمع لحظات ثم قال: إن قوات المرور وحرس السواحل والمباحث كلها تبحث عن سيارة من هذا النوع … وسيتصلون بنا بمجرد العثور عليها.
وجلسوا جميعًا في السيارة صامتين … ومضى الوقت بطيئًا حتى أحسوا بالضيق … ولكن فجأة دق جهاز اللاسلكي … واستمع الضابط لحظات ثم قال ﻟ «محب» و«تختخ»: شوهدت سيارة من هذا النوع متجهة غربًا في طريق «السلوم».
ثم أعطى أوامره فانطلقت السيارة كالصاروخ متجهة إلى الغرب … ومضى الضابط الشاب يتحدث في جهاز اللاسلكي ويستمع … و«محب» و«تختخ» جالسان يدعوان الله أن تقع العصابة … ويقع «بورتللي»، حتى يتأكد الجميع من صحة روايتهما … وحتى لا تنتهي المغامرة إلى لا شيء.
مضت السيارة حتى خلفت وراءها الإسكندرية … ودخلت الطريق الصحراوي الغربي إلى «السلوم» … ومضى الوقت والسيارة منطلقة بأقصى قوتها … وفجأة استمع الضابط الشاب إلى اللاسلكي وابتسم ثم قال ﻟ «محب» و«تختخ»: لقد وقعت السفينة … استسلمَت للزَّورق المسلَّح … ويتم الآن استجواب ركابها … وقد عُثر في أماكن سرية من السفينة على بعض الآثار المسروقة.
ابتسم «محب» و«تختخ» ومدَّا يديهما يصافحان الضابط، وقال «تختخ»: إننا حتى الآن لا نعرف اسمك.
الضابط: اسمي «سميح»!
تختخ: إنك ضابط عظيم.
الضابط: لا شيء أكثر من أداء الواجب.
وفجأة نبح «زنجر» نباحًا قويًّا متصلًا … وأخذ يحاول القفز من السيارة، فقال «تختخ»: أرجو أن نتوقف.
الضابط: لماذا؟
تختخ: إن «زنجر» يشم شيئًا يهمنا.
وأمر الضابط بإيقاف السيارة وقفز «زنجر» دون انتظار … ووقف على الأرض لحظات رافعًا رأسه إلى فوق يتشمم … ثم أطلق نباحه … ومن داخل الصحراء المظلمة جاءه الرد … نباح آخر.
قال «تختخ»: إنه «الكوكر» الأصفر!
وألقى الضابط أوامره إلى الجنود … وسرعان ما كان الثلاثة يُشهرون أسلحتهم الأتوماتيكية … والضابط يخرج مسدسه … بينما تولى «تختخ» و«محب» حمل الكشافات القوية التي أضاءت المنطقة.
وساروا جميعًا و«زنجر» أمامهم … وفجأة انطلقت رصاصة … وتهشَّم أحد الكشافات … وصاح الضابط: انبطحوا أرضًا!
وانبطح الجميع … وأخذ جسد «زنجر» يرتجف وهو يحاول الانطلاق، ولكن «تختخ» كان يمنعه … وقال الضابط هامسًا: سنتقدَّم زاحفين … أطفئ الكشاف يا «توفيق» فقد حددت الاتجاه.
وأخذوا يتقدمون زاحفين على الرمال … وبعد مسافة قصيرة شاهدوا على ضوء النجوم كوخًا صغيرًا مظلمًا … واختار الضابط مرتفعًا من الرمال تحصنوا خلفه، ثم أمسك بالكشاف فأطلق ضوءه على الكوخ المظلم … وقال لأحد الجنود: دفعة من الرصاص فوق الكوخ.
ودوت الطلقات في الظلام مرسلة خيطًا متقطعًا من الضوء فوق الكوخ الساكن … ومضت لحظات … وقال الضابط لأحد الجنود: هات البوق من السيارة! … وأسرع الجندي وعاد ومعه البوق.
وأمسك الضابط ببوقه وقال: والآن اخرج يا «بورتللي» فأنت محاصَر.
قالها بلغة إنجليزية واضحة … ولكن أحدًا لم يرد، فعاد يقول: سأُعطيك مهلة دقيقة واحدة.
ومضت الدقيقة … وأشار الضابط للجندي فأطلق دفعة من الرصاص على الكوخ وسمع صوت نباح … ثم ظهر شبح «بورتللي» خارجًا من الباب رافعًا يديه …
صاح به «الضابط»: تقدَّم وألقِ سلاحك.
وتقدم مُتعثِّرًا وبجواره الكلب «الكوكر» … حتى إذا أصبح على بُعد نحو مترين منهم وقف الضابط وقال له: إنني أُلقي القبض عليك بتهمة سرقة آثار مصرية.
ولم يرد «بورتللي».
فقال «الضابط»: أين السيارة؟
في هذه المرة رد «بورتللي»: خلف التل هناك.
الضابط: سأذهب معك لإحضارها … ولا تُحاول عمل شيء …
ووقف الجميع … وسرعان ما كانت السيارة تعود يقودها «بورتللي» والضابط بجواره شاهرًا مسدسه … وقفز «زنجر» إلى «الكوكر» الأصفر … وأخذ الكلبان يتشمَّمان أحدهما الآخر … ثم ركب «تختخ» و«محب» والكلبان في المقعد الخلفي وانطلقت «الفيات» وخلفها سيارة الحرس.
كان الهواء منعشًا والسيارتان تقتربان من الإسكندرية … وأحس «تختخ» و«محب» و«زنجر» أنهم أدَّوا مهمَّة عظيمة وأنجزوا مغامرة لا مثيل لها.