الهند
ويتلخص تاريخ الهند في عصور ثلاثة: عصر الهندوس بين ٢٠٠٠ق.م و١٠٠٠م، العصر الإسلامي بين سنة ١٠٠٠ و١٧٥٧ ميلادية، عصر سيادة الأوروبيين؛ ويبدأ من سنة ١٧٥٧.
-
العصر الهندوسي: ولا نعرف مبدأه بالضبط، وغاية ما نعرف أن كثيرًا من الشعوب الآريَّة
لبثوا يهاجرون من بلاد الفرس وأواسط آسيا، واحتلوا شمال الهند، وأخضعوا السكان الأصليين.
ولقد اهتدينا مما ورد في بعض الأساطير Vedic hymns أن هؤلاء
كانوا مشتغلين بالزراعة، وأن الرباط العائلي كان ميثاقهم الاجتماعي منذ البداءة، ولم
يكن
لهم معابد ولا أنصاب. وغاية ما هنالك أن رؤساء الدين منهم كانوا يوقدون النار المقدسة
كلٌّ
في حظيرته، ويقدِّمون القرابين من أغذية وغيرها لنور آلهتهم؛ اعترافًا بنعمائهم. وكانوا
في
صلاتهم يتوسلون أن تنصر الآلهة النبلاء الآريِّين على ذوي البشرة السوداء. ومن ذلك نستنتج
أن فوارق الألوان والطبقات نشأت في الهند منذ القدم.
ولم يتقدم الآريون في فتحهم إلا في الشمال حتى جبال Vindhya، وقلما تخطوا هذه إلى الدكن؛ حيث كان يقيم جماعة «الدرافيديين» الأشداء الذين كانوا على جانب من الحضارة. أما في حوض الكنج فقد ترعرعت دول كبيرة قامت على أنقاض القبائل المتفرقة. ولما أن فتح الإسكندر الهند سنة ٣٢٦ق.م، وجد أمامه عددًا كبيرًا من الدول والقبائل المستقلة. وكان للملك الذي قهره أدوات حربية وفيلة وخيل ورَجْل.بعد ذلك قامت دولة قوية في حوض الكنج تحت حكم شندراجوبتاChandragupta، وسع ملكها ما بين الشاطئين، ولبثت سيادتها ١٥٠ سنة. ومن بين عواهلها الإمبراطور الزاهد أسوكا Asoka، الذي قرأنا مراسيمه التي نقشت على الصخور إلى جانب تعاليم جوتاما بوذا، الذي بدأت تعاليمه الخلقية منذ ٢٥٠ سنة. وبفضل هذا الإمبراطور، ساد مذهب بوذا في الهند وانتشر منها إلى الصين. وبعد انحلال الإمبراطورية المورية Mauriyan، أغار السنديون على البنجاب، ولبثت ولاياتهم هناك حتى أعقبتهم أسرة تركية عرفوا بملوك الكوشان Kushan، وهؤلاء فتحوا البلاد إلى بنارس شرقًا.وفي القرنين الرابع والخامس الميلادي، ساد قبائل الآريين تحت ملوك جوبتا Gupta. وهذا يعد العصر الذهبي للهندوس؛ إذ بعده بدأ يتشتت شملهم بدخول الهون Huns سنة ٤٨٠، وهؤلاء زالت دولتهم تمامًا بعد ٣٠٠ سنة، حين ساد الاضطراب فقام بعض قبائل الراجبوت Rajput وأقاموا لهم دولًا متفرقة حول غالب المدن الهندية الكبرى، على أن التنافس والتنابذ بينهم لم يمكنهم من تكوين جبهة متحدة أمام الفتح الإسلامي الذي بدأ سنة ١٠٠٠ ميلادية.
- العصر الإسلامي: لما أن اعتنق سكان وسط آسيا الإسلام، قاموا بدعايتهم الدينية يقتحمون بلاد العالم بما أوتوا من شدة وبأس، ولبثت جموع الترك والأفغان والمغول تُغير على الهند من ممر خيبر، وتقاتل لبسط نفوذها هناك حوالي خمسمائة سنة. وأخيرًا أقام بابر Baber التركي دولة المغول سنة ١٥٢٦، فحكم هؤلاء الملوك الهند حكمًا مطلقًا لمدة ١٨٠ سنة، كانوا خلالها مثال البأس الشديد، وبلغوا من الترف ما أدهش العالم؛ تشهد بذلك مبانيهم الفخمة، وحاشيتهم الفاخرة. وكان عصرهم الذهبي في عهد شاه جهان (١٦٢٧–١٦٥٨). وقد استخدموا الهندوس والراجبوت في الأعمال المدنية — خصوصًا الزراعة — والعسكرية، وبدأت دولتهم تنحل لما أن عجز «أورانجزيب» عن ردِّ قبائل الماهراتا من شعوب الدكن الشرسة. وكاد يعود النفوذ للهندوس حتى باغت الهند جيش فارسي من ممر خيبر وأباد قوى الهندوس.١
- العصر الإنجليزي: بينا كان هذا الاضطراب الداخلي سائدًا، تقدم الفتح الأوروبي من البحر فأسس تجار البرتغال وهولندا وفرنسا وإنجلترا لهم محطاتٍ تجاريةً، ثم تأسست شركة الهند الشرقية سنة ١٦٠٠؛ لتزيد الموارد التجارية. وقد مكنت سيادة الأساطيل البريطانية الإنجليز أن يغلبوا منافسيهم. وكان الاضطراب الذي حل بالإمبراطورية المغولية في داخل الهند مبررًا لتدخل الإنجليز تحت ستار متاجرهم، فهزم نواب بنغالة سنة ١٧٥٦، ونواب أودة سنة ١٧٦٤، وبدأت الشركة تباشر السيادة السياسية إلى جانب التجارية؛ كي تحافظ على تلك المقاطعة الشاسعة «بنغالة». ولكثرة مشاغلها السياسية وحروبها تدخل البرلمان الإنجليزي في شئونها، فحفظ لنفسه حق الإدارة والتشريع، وكان للشركة تعيين الحاكم العام. وفي سنة ١٨١٧، خضعت طوائف المهراتا، وفي ١٨٤٥ أمم السيخ، وأعقب ذلك عصيان سنة ١٨٥٦، الذي ضمت على أثره الهند للتاج البريطاني.
إلى عدن وأرض سرنديب
استقللنا الزورق الصغير ونزلنا الشاطئ. وعلى امتداده تقوم الأنزال والمباني الرئيسية، وفي طرفها الجنوبي المعسكرات والمعاقل التي اختير من أجلها المكان، فكان مفتاح البحر الأحمر. وقد أقلَّتنا سيارة عشرة كيلو مترات إلى الحي الوطني المترب القذر، بعد أن اخترقنا ممرًا بين الرُّبى كأنه النفق، يعلوه سور قديم يمتد بعيدًا. وكان طريقنا يعلو ويهبط بين رُبًى ووهادٍ صحراوية مجدبة. والحي والوطني هو عدن الحقيقية في وهدة أصلها فوهة لبركان خامد. بيوتها واطئة، ومن طابق واحد، وتطلى باللون الأبيض. وفوق المرتفعات رأينا مستودع المياه الذي يمد المدينة كلها، وهو بمرشحاته وأحواضه يشغل مساحة كبيرة، ويطلق عليه القوم «حوض سليمان»؛ ظنًّا منهم أنه قديم يرجع إلى ذاك العهد، وبعضهم يرى أنه بني سنة ألف قبل الميلاد. ولقد أصلح سنة ١٨٥٦، ولما كان المطر هناك نادرًا والماء عظيم القيمة، حافظ القوم على كل قطرة تسقط منه، فيسيل المطر في وديان وأخاديد جافة تؤدي إلى الحوض، وأنت ترى سلسلة من أحواض؛ الواحد فوق الآخر؛ بحيث إذا امتلأ أعلاها فاض الماء إلى الثاني، ثم الثالث وهكذا. ويسع في مجموعه ثمانية ملايين جالون، والحوض الأعلى يتصل بمجموعة من آبار في قرية تبعد عن عدن بسبعة أميال. وقد لا يفي كل ذلك بحاجة المدينة من الماء؛ فيُرشح ماء البحر لسد العجز. وغالب ماء الشرب من تقطير ماء البحر؛ لأنه أنقى وأبعد عن التلويث. وعلى شاطئ البحر مكان الملَّاحات يُرفع ماء البحر بمضخات فيتبخر ويترشح الملح فيستغلونه ويُصدِّرون كثيرًا منه. وكنا نرى على بعد بقايا لسكة حديدية كانت تصل عدن باليمن، لكنها هدمت؛ لأن إمام اليمن أبى عليهم بقاءها. وفي تقوس من البحر ناتئ جهة يسمونها «الشيخ عثمان» غنية بالمزارع، ومن خلفها تبدو جبال اليمن فاترة. وسكان عدن ٣٥ ألفًا غالبهم من العرب بقاماتهم النحيلة، ووجوههم الشاحبة، ثم الصوماليون بسحنهم الجميلة في سواد برَّاق، وأنوف شمَّاء، وشفاه رقيقة، ثم يليهم الهنود. ولغة البلد السائدة العربية بتحريف بسيط. ويتكلم غالبهم الإنجليزية. وعدن حماية بريطانية عليها حاكم يتصل بحكومة الهند، ونقودها هي نفس النقود الهندية التي لا تزال تتخذ الفضة قاعدة لها. احتلها الإنجليز سنة ١٨٣٧. ولاحتلالها قصة عجيبة؛ ذلك أن سفينة إنجليزية تحطمت على صخور عدن، فأساء أهلها معاملة من نجوا منها، فأعقب ذلك أن طلبت الحكومة البريطانية شيئًا من الترضية والتعويض من السلطان، فأُجيبت مطالبها، لكن السلطان قد مات وخلفه ابنُه الذي لم يبرَّ بوعد أبيه، فلجأ الإنجليز إلى القوة وفتحوها عنوةً، ووضعوا فيها حامية صغيرة. وزادت أهميتها بعد فتح سكة حديد السويس سنة ١٨٥٨. ولما فتحت قناة السويس سنة ١٨٦٩ أصبحت محطة عسكرية هامة مُذ عدَّت مفتاح البحر الأحمر، خصوصًا بعدما سارعت إنجلترا إلى احتلال جزيرة «برم» وسط بوغاز باب المندب. وكانت فرنسا تتطلع إليها من قبلُ. وأعقب ذلك احتلال الصومال البريطاني قبالتها؛ لأنه المورد الرئيسي الذي منه تستمد عدن وبرم الصخريتان المجدبتان حاجتهما من الغذاء.
لبثت الباخرة طوال النهار تحمل وسقها من الجلود الخام، وأقلعت عند الأصيل، وكلما أوغلت بنا في المحيط الهندي أرغى ماؤه، وعلا موجه كالجبال؛ مما جعلنا نؤمن بعظمة المحيط الذي بدأت تجتاحه الرياح الموسمية دافقة صوب الهند في عنف كبير. ولبثنا في شدته هذه ثمانية أيام حتى أقبلنا على جزيرة سيلان. وكنا من يوم ركوبنا نلاحظ سرعة في اختفاء ضوء الشفق؛ إذ كان الظلام الحالك يرخي سدوله عقب غروب الشمس مباشرةً، شأن سائر البلاد القريبة من خط الاستواء.
ويزيد منظرهم قبحًا أفواههم المفتحة وكأنهم البلهاء، يمضغون عشبًا أخضر يباع في كل مكان، وبمجرد ملامسته للعاب يبدو وكأنه الدم يلوث أفواههم، ولا ينفكون يمضغونه أينما كانوا.
طال تجوالي في تلك الأحياء وأنا أركب الركشا؛ وهي المطية الرئيسية هناك؛ أشبه بعربة صغيرة من عجلتين يجرها رجل بائس. كنتُ أشعر بالألم الشديد من أجله وهو يجري في ذاك الحر القائظ وكأنه الدابة المجهدة. زرت هناك معبدين؛ أحدهما لبوذا؛ أكبر آلهة الجزيرة؛ إذ يدين به غالب السكان، وفيه تصفُّ تماثيل بوذا في أحجام كبيرة، وتزين الجدران صور نعرف منها قصة بوذا منذ كان شخصًا عاديًّا فأضحى أميرًا، ثم صعد إلى السماء فأصبح إلهًا! وعند دخولنا تقدم إلينا بعض القُسس بزهور الفل والياسمين، ملأنا منها سلة صغيرة دفعنا ثمنها وحملناها إلى قدمي الإله؛ حيث أخذنا ننثرها كما يفعل القسيس الذي كان يرش بين آونة وأخرى جانبًا من ماء الورد يعطر به المكان!
أما المعبد الثاني فهندوسي، نظرنا إليه من الخارج؛ إذ لا يُباح للأنجاس من الغرباء عن الدين أمثالنا أن يطئوا داخله، رغم ما كان يلوثه من أقذار، ويحوطه في الخارج من زرافات المتسولين والفقراء والعُراة في أشكالهم القذرة المنفرة.
وخير ما نراه في الأحياء النظيفة من المدينة صخرة لاڤينيا التي تشرف على البحر بتقوسات جذابة، يحفها نخيل النرجيل، ويتوجها نزل فاخر تناولت فيه الشاي ذائع الصيت. وبعد ذلك، قصدت إلى حديقة النبات التي نسقت أيما تنسيق؛ تزينها الفصائل الوفيرة لنبات المناطق الحارة.
وأخص ما استرعى نظرنا من النبت الوفير: الشاي؛ الذي كان يسود مدرجات الجبال من حولنا، وتصفُّ شجيراته في ترتيب جميل كأنها الأقبية الصغيرة في ورقها القاتم النحيل، وهي تحكي شجيرات القطن الصغيرة، والفتيات يقطفن أطرافه الغضة، ثم يقمن بتشذيب الشجر لموسم القطاف الثاني، ثم للثالث. وعجيب أننا لم نلمس في ورقه رائحة للشاي قط؛ ذلك لأنه يتطلب عملية شاقة في إعداده كي يخلو من الرطوبة، ثم يطوى باليد ورقة ورقة، ويبخر في درجة حرارة معينة، وعندئذ تظهر رائحته. وكنا نرى مصانعه مبعثرة وسط مزارعه. وقد دخلتُ أحدها وعلمت منه أن مجموع المساحة المنزرعة في الجزيرة كلها تناهز اليوم نصف مليون فدان إنجليزي (إيكر). ولقد انتشر أخريات القرن الماضي بعد أن حل محل البن الذي أصابته آفة قضت عليه عند ذاك.
وأشهر نبات الوهاد: الأرز؛ ذاك الذي سويت له جوانب الوهاد في مساطبَ أفقيةٍ يعلو بعضها البعض، ويكاد يغرقه الماء. أما غابات النرجيل فحدِّثْ عنها؛ تملأ الآفاق بشجرها نحيل القامة في ميل إلى المنحدرات دائمًا، وإزاء السواحل يميل نحو الماء، حتى إذا ما سقط حمَلته الأمواج بعيدًا، فإن ألقت به على شاطئ نما، ونشَر بذلك جنسه. وتحمل الأشجار وسقًا ثقيلًا بعضه أصفر اللون، صغير الحجم، والبعض ضخم عظيم الحجم. ونرى القوم هناك يستغلونه استغلالًا عجيبًا؛ فهم يبيعونه أخضر لكي يرتووا بمائه الحلو. وكان يعرضه القوم في المحاطِّ مقابل مليم واحد لكل واحدة، وإذا ما نضج سلخوا عنه قشرته الظاهرة القاسية بطريقة تتطلب جهدًا كبيرًا. ومن اللب يتخذ الزبد لدهان الجسد؛ اتقاء الحر، وطلبًا للبرء من الأمراض، وما بقي يضغط في أقراص تسمى «الكوبرا» أو البسباسة. ولعظيم فائدته كثر السكان حيث يعمُّ شجره؛ فهو مورد لهم رئيسي، وقدرت مساحة غاباته في سيلان ٨٢٠٠٠٠ فدان إنجليزي.
وكانت تسترعي أنظارنا كثرة أنواع الفاكهة التي نجهل أغلبها، من بينها: المانحوستين، الدوريان، البيوا، كثير غيرها. أما الموز فغذاء رئيسي للعامة يعرض في كل مكان حتى في حانوت الحلاقين وعند بائعي الأقمشة، ويعلق أمام الحوانيت في «عراجين» في أحجام مختلفة قد يبلغ الواحد الأمتار طولًا. وهو على أنواع عدة. وكنا نلاحظ القوم يسدون به رمقهم أينما حللنا. أما ثمنه فرخيص جدًّا؛ إذ كنا نبتاع العرجون بنحو قرشين.
وقد بدا لنا في الناحية الجنوبية من الطريق جبل آدم بذروته الشاهقة، وعليها طابع شبيه بالقدم طوله زهاء متر ونصف، وعرضه نحو ثلثي متر؛ يظنه البوذيون طابع قدم بوذا، والهندوس سيڤا، والمسلمون آدم حين طرد من الجنة، ويحج إليه الكثير، ويتسلقون المنحدرات الوعرة ممسكين بسلاسلَ عتيقةٍ، وإذا ما وصلوا هنالك دخلوا المعبد، وقدموا قرابينهم، ونثروا زهورهم، ثم يركع الأطفال ليباركهم آباؤهم وجِباهُهُم تُلامسُ طابع تلك القدم المقدسة!
وقبيل الوصول إلى كاندي، دخلنا حديقة النبات. وتعد من خير حدائق الدنيا؛ حَوَتْ كلَّ فصائل نبات سيلان، وفيها بدأت زراعة الكينا والكاكاو والمطاط، وبها من حقول التجارب والمشاتل شيء كثير، أخص بالذكر منها مجموعة التوابل، من بينها: جوز الطيب، والفلفل، والقرفة، والوانلا، والزنجبيل. وأخيرًا دخلنا المدينة التي كانت يومًا ما مقر ملوك السنهاليين، وهي تقع في وهدة ارتفاعها ١٦٠٠ قدم، تحوطها الرُّبى التي تكسوها الأدغال والغابات، وتتوسطها بحيرة ممطوطة نسقت شواطئها أيما تنسيق، وفي قلبها جزيرة صغيرة يزينها نخيل النرجيل الأنيق، ويشرف عليها نزل جلسنا فيه وتناولنا الشاي العبق اللذيذ.
ولعل أشهر ما في المدينة معبد «سن بوذا المقدسة»، وهو ممدود الأجنحة، متشعب المقاصير، ويعتقد القوم أن بوذا دُفن فبلي جسمه ولم تبق إلا سن واحدة! أقيم حولها المعبد في القرن الرابع عشر، وأحرقه البرتغال سنة ١٥٦٠، فأبدلها ملك كاندي بقطعة من عاج طولها ثلاث بوصات توضع في صندوق من ذهب، وعليها يقوم تمثال كبير من ذهب خالص لبوذا، دخلناه فراعنا منظر الحجاج وهم ركع وسجود تدر الدموع من مآقيهم، وتلمس أيديهم أقدام الإله وقد كدِّست حولها وريقات الياسمين في رائحة جميلة! وبعد أن ابتاع كلٌّ منا سلَّة الياسمين، تسلَّمها القسيس فنثرها عند تمثال الإله. ومما زاد المكان رهبةً الطبول المزعجة التي كان يقرعها القوم في ردهة المكان. ودخلنا مكتبة المعبد التي حوتْ جميع تعاليم بوذا؛ يُكتب غالبها على شرائح بيضاء من لفائف نباتية ناعمة الملمس كأنها ورق البردي؛ يُلف غالبها بالحرير تحوطه أسلاك الذهب وقضبان الفضة، ويقال: إن المعبد أجل معابد بوذا وأكبرها على الإطلاق. وفي أغسطس، تقام حفلة بيراهيرا حين تحمل السن المقدسة على هودج من حرير مُرصَّع تغطيه قبة من ذهب فوق ظهر فيل يبالغون في تزيينه، يتبعه قطار من ٦٢ فيلًا أخرى، وتفرش له الأقمشة لكيلا يُدنِّس وحلُ الطريق طهارةَ ما يحمله. والديانة البوذية هي السائدة هناك.
ولقد هالني وأنا في السفينة تَعَدُّدُ السِّحن والألوان والأزياء، وقد عددتُ من الأزياء نحو الثلاثين؛ فالبعض يلف نصفه الأسفل بملاءة ملونة، والبعض يشحذها من تحت الفخذين، والبعض يرتدي سراويلَ، وآخرون عرايا يسترون العورات فحسب، وهكذا.
وقد راقني منظر غني خلته سيدة بادئ ذي بدء؛ لأنه كان يتدثر بملاءة بيضاء فضفاضة، ويتزين بالخواتم الثقيلة في جميع الأصابع، وفي يديه السوار العريض، وفي آذانه قرط لامع، وفي رقبته عقد خاطف. وكان يتهادى في مشيته وكأنه الحسناء، ويحاول الجميع التزيُّن ما استطاعوا رجالًا ونساءً. وتزيد زينة النساء بلبس الخواتم في أصابع القدم كلها، وبوضع قطعة من فضة في جانب الشفة، وأخرى في جانب الأنف. ولقد رأيت إحدى السيدات الغنيات تسير عارية القدم ومن حولها الخدم حتى ركبت عربتها الخاصة. ولقد تعبت جدًّا في البحث عن مساح للأحذية، فلم أجد رغم كثرة أبناء السبيل والعاطلين. والنساء سافرات، وليس في وجوههن مسحة من جمال، وتتنوع أزياؤهن، لكن غالبهن يتركن الجزء الأعلى من الجسم عاريًا. أما الأقدام فعارية على الدوام.
الهند
ومن الأبنية الجديرة بالذكر: قصر الحاكم الإنجليزي، ودار القضاء، والبريد، والبلدية، وكلها بالآجر الأحمر. ولقد كدت أختنق في هذه المدينة من شدة الحر، وكثرة الرطوبة؛ فقد بلغت الحرارة ١١٥ف. وأذكر أنني دخلت أكبر متنزهاتها فلم أستطع التجول خطوة واحدة، بل ركبت الركشا التي طافت بي كل أرجاء المتنزه. وفي جانب منه حديقة للحيوان حقيرة جدًّا لا يسترعي النظر بها إلا مجموعة الأفاعي. وفي المدينة متحف صغير به بعض المخلفات الهندوسية القديمة، أعجبُها في نظري «عامود الضحايا البشرية». وكان السحرة يحكمون بتضحية فرد يوثق إلى هذا العامود الذي يدور حول نفسه، فيهجم عليه الجمع ويقطعون من جسمه أشلاء يدفنونها في حقولهم التي أصابها المحل. وقد حرم القانون ذلك اليوم، واستبدل بالضحايا البشرية بعض الحيوان، على أنهم كثيرًا ما يُضحُّون بالإنسان خلسةً.
ولقد استرعى نظري كثرة العلامات التي يخطها القوم على جباههم؛ تمييزًا لشيعهم ومذاهبهم الدينية المختلفة. والعادة أن ترسم هذه بنوع من الرماد المقدس يحمله الناس معهم، فترى التخطيط أفقيًّا أو رأسيًّا، ومزدوجًا أو مضاعفًا، وقد تتخلله نقط حمراء؛ مما يزيد في أشكالهم قبحًا.
والمغالي في تدينه يلطخ وجهه وصدره وذراعيه، فتصوَّرْ مبلغ فظاعته إذا ما أقبل عليك وحدق فيك بعيونه الغائرة، وجسمه الناحل الهزيل، ولونه الأسود البراق، على أنني لم أعجب مذ علمت أن مقاطعة مدراس معقل الدين البرهمي؛ فسكانها ٤١ مليونًا يدين غالبهم بتلك العقيدة، وعدد القسس من البراهما في هذه المقاطعة وحدها مليون ونصف، يعيشون عالة على غيرهم يتقاضون ضرائب من الناس جميعًا في مناسبات شتى من بينها: ميلاد الطفل؛ مخافة ألا يطول عمره، عندما تكون سنه ١٦ يومًا، حين يغتسل بالماء المقدس، عند تسميته، عند حلق شعره، في تمام الشهر الثالث، عند بدء تناوله للطعام في الشهر السادس، عندما يبدأ المشي، عند تمام السنة، في نهاية السابعة حين يبدأ تعليمه. وهنا يكتب له البراهما بالذهب على عصوين يمسك بهما في يديه، ثم يأخذهما فيما بعد لنفسه. عند عقد الزواج. وهنا تدفع له مبالغ طائلة. وعند بلوغ سن الرشد، عند حدوث خسوف أو كسوف، عند الموت حين يحضر ليبارك الجثة، عند حرق الجثة. بعد ذلك يولم ابن المتوفى للبرهما وليمة كل شهر لمدة عام، وتقدم الهدايا والملابس إلى جانب الطعام. بعد ذلك، يكرر هذا مرة كل سنة حتى يموت الابن. كل تلك حقوق للبرهما واجبة الأداء وإلا خسر الجنة. هكذا كانت قصة هندي متعلم، وكان يرويها وهو فخور بدينه!
نظام الزواج: ومما أثار اهتمامي الزوجات الصغيرات اللاتي كن يحملن أطفالًا نحالًا لا يزيد وزن الواحد على أربعة أرطال أو خمسة، وكنت إخالهن يحملن إخوتهن لا أبناءهن، لكني دهشت لما علمت أن زواج البنت يبدأ من سن الثامنة، فإن تأخرت إلى الثانية عشرة عُدَّ بقاؤها عارًا لا يُمحى، ودلَّ على وجود عيب فيها؛ ولذلك لم يكن عجيبًا ما يبدو من جسمها الضئيل وبنيتها الضعيفة؛ لصغر سنها من جهة، ولأنها من سلالة ضعيفة مثلها. أما الزوج فقد يكون طفلًا مثلها، وقد يكون كهلًا أنهكت السنون قواه. وفي الحالين هو غير صالح إلا لإنتاج نسل بائس ضعيف. وهَمُّ الزوجين أن يخلفوا من الأبناء ما استطاعوا، وبخاصةٍ الذكور؛ لذلك فإن الأم لا تجد لها حديثًا أمام أطفالها إلا ما يتعلق بالزواج، فتنشط بذلك الميول الجنسية بين الأطفال، وتفسد أخلاقهم عاجلًا. وهذا يخلف أثره السيئ في قوى النشء العقلية والجسمية. والزواج المبكر عند الهندوس واجب؛ لأن فيه عصمة من الأمراض، وتعجيلًا بالخلف من الذكور؛ ذاك الذي يعده الآباء شرف العائلة. وقد نسي القوم الأثر السيئ لذلك في إضعاف الذرية، وإنهاك القوى الحيوية؛ ولذلك ليس بعجيب أن ترى الهندي فاقدًا لتلك القوى عند بلوغه الثلاثين، كما أثبت الإحصاء الطبي ذلك؛ ولهذا لجأ الكل إلى تناول سموم المخدرات — خصوصًا الحشيش والأفيون — والمقويات التي يعلن عنها في جميع جرائدهم بشكل فاضح مخجل، حتى إن الحكومة كثيرًا ما تصادر بعض الجرائد؛ لجرأتها على هذا النوع من الإعلان. وكثيرًا ما كنت أرى من المدمنين على تناول الأفيون والحشيش يركنون إلى الجدران في كل مكان بشكل قذر خامل وكأنهن الذباب.
الوضع: وبمجرد شعور الحامل بألم الوضع تُنبذ في غرفة ضيقة مظلمة، ولا يقترب أحد منها قط؛ لأنها أصبحت نجسة! وفي الحال تأتي المولِّدة (داية) — وهي من الطبقات النجسة البائسة — فترتدي أقذر أسمالها، وتسد المنافذ، وتحرق الحطب؛ لأن الدخان والحرارة يساعدان على سرعة الوضع، وإذا دخل الحجرة غريب أحرقت بخورًا منتن الرائحة؛ لمنع أثر العين الخبيثة! وتباشر عمليتها بأيديها القذرة، وتحاول إخراج المولود بالقوة، فتشبع بطن الأم لكمًا بالأيدي والرأس! وقد تطرحها أرضًا وتمشي على بطنها! وتضع في الرحم كرات من مواد حريفة، وقطعًا من شعر الماعز، وأذناب العقارب، وجلود الأفاعي وما إليها! وإذا تم الوضع لا تجرؤ المولِّدة أن تقطع الحبل السري؛ لأنه من عمل امرأة أخرى أحط درجة من المولِّدة! فتنتظرها حتى تجيء. أما الطعام فيمنع بتاتًا عن الأم بين أربعة أيام وسبعة. ويظهر أن السبب الأصلي ألا تصاب أواني المنزل برجس!
وكثيرًا ما تتعسر الولادة بسبب ضيق عظام الرحم نتيجة الزواج المبكر، فتموت الأم، فإذا رجحت المولدة موتها عجلت بتكحيل عيونها بمسحوق الفلفل لكي تُعمي الروح فلا تستطيع الخروج والمكث في الدار. وقد تمد ذراعيها وتدق مسمارًا يثبتهما في الأرض؛ لكيلا تستطيع الروح التجول في المنزل ومضايقة الأحياء!
أما نظم الري بقنواتها ومساقيها، فلا تكاد توجد رغم ما نعرفه من الخصب الشديد في التربة الهندية. أخذت المسايل المائية والجداول العديدة تزداد كثرةً كلما تقدمنا شمالًا، إلى ذلك تعدد القرى التي لم نر منها في الجنوب إلا القليل. ثم دخلنا مقاطعة بنغالة — أهم المقاطعات وأزحمها سكانًا؛ إذ بلغ أهلوها ٤٧ مليونًا — وهنا زادت الأدغال والأحراش في كل مكان، وتوافر النبت، وكثرت الغدران والنقائع كثرة تلفت النظر، على أنا لم نعجب مذ علمنا أننا نتقدم إلى دلتا الكنج العظيمة.
أما القرى الكثيرة التي يزيد عددها في الهند البريطانية على نصف مليون، فكانت تبدو بيوتها مقامة من طابق واحد بني بالطين الذي يستمده القوم من حفرة يملؤها المطر، فتصبح مستمدهم من الماء ومستحمهم ومسقاهم هم وماشيتهم، وتحيطها البيوت القليلة. والبيت يبدو في شكل مستدير حقير يعلوه سقف مخروطي تكسوه الأخصاص من مختلف النبت، خصوصًا سعف نخيل «بالميرا». وتهوية البيوت فاسدة يقطنها عدد كبير، ويزيد الجو وخمًا ووباءً ما يتربى على البرك من الباعوض الذي يحمل مختلف الأمراض. وقد كنت أوجس خيفةً طوال تجوالي في مدراس وبنغالة كلما ذكرت أن هذا الجزء — وبخاصة بنغالة السفلى — أكبر مربى للأوبئة الخطيرة؛ كالملاريا والكوليرا والطاعون؛ تلك التي يموت بسببها عدد مخيف بين سنة وأخرى. أذكر أن من ماتوا هناك بالطاعون منذ سنة ١٨٩٦ أحد عشر مليونًا. ويساعد على انتشاره هناك تحريم الدين البراهمي قتل الفيران؛ التي تحمل البراغيث المعدية. ويموت بالملاريا سنويًّا مليون. كذلك مرض الدودة الخطافية — كالأنكلستوما هنا — المتفشي بسبب سيرهم حفاة الأقدام، حسبما تقضي التعاليم البرهمية! وقد دلَّ الإحصاء أن ٨٠٪ من سكان مديرية مدراس، و٦٠٪ من بنغالة مصابون به؛ أعني نحو ٤٥ مليونًا من الناس. والديدان تحل الأمعاء، وتمتص الغذاء والدم، فيضعف إنتاج الشخص كثيرًا؛ حتى قدرت الخسائر المالية بسبب عجز هؤلاء عن العمل بنحو ٤٠٠ مليون جنيه.
فالهند في نظر العالم أكبر خطر لنشر تلك الأمراض، ويرى الأطباء أن أهلها قد اكتسبوا شبه مناعة لطول مكثهم في ذاك الجو الوبيء، لكنهم جميعًا حملة الأمراض للغير. وهنا الطامة الكبرى. أما من يموت من الهنود في كل عام فسبعة ملايين؛ أي بقدر نصف سكان القطر المصري، وعدد الموتى من الهندوس أكثر منهم في المذاهب الأخرى؛ مما يثبت قلة مقاومتهم للمرض. وهذا لا شك ناشئ من افتقارهم للتغذية؛ لأنهم نباتيون ويحرمون أكل اللحوم. ومما زاد خطر الأمراض وفتكها هناك تشككهم في الدواء الأوروبي؛ مخافة احتوائه على مستخرجات اللحوم المحرمة. وهم يعتقدون أن المرض أثر من آثار الجن التي يجب طردها بالبخور وتقديم القرابين.
روى لي شاب هندي متعلم قصة إخراج العفريت من جسم الطفل المريض، فقال: إن القوم يلجئون إلى قرد يعلق موثوقًا إلى فرع شجرة، وينزلون عليه ضربًا وتعذيبًا، فيجن القرد ويصيح صيحات مزعجة، وعندئذ يحمل الطفل قريبًا منه كي تذعر عفاريت المرض التي في جوفه وتولي الأدبار!
إلى ذلك خطر روث البقر الذي تضمد به الجراح في كثير من الجهات!
حللتُ المدينة فراعني سيلُ الناس الدافق في كل الأرجاء. ولقد كان القوم يفترشون أرض محطة السكة الحديدية على اتساعها العظيم الذي يقرب من اتساع ميدان محطة مصر، فلم أشق طريقي بينهم إلا بجهد كبير. والقذارة تبدو في كل مكان، والروائح المنتنة تتصاعد بدرجة منفرة. وقد عبرت قنطرة «هوارة» على الهوجلي؛ وهي في عرض قناطر النيل عندنا، على أنها أقيمت من الخشب ترفعه عوامات تطفو فوق الماء بدل القوائم الحجرية عندنا؛ لذلك كانت كل جوانب القنطرة في حركة مستمرة حسب مدِّ الماء وجزره. ولقد وقفت هنا برهةً فكاد يكتسحني سيل المارة الذي لم أَدْرِ مصدرَه، فقصدت من فوري جانب المدينة الممتاز المسمى «الميدان»، وهو متسع عظيم ذرعُه ميلان في ميلين، تطل عليه المباني الفاخرة، وتتوسطه المتنزهات المتسعة المترامية، تقوم في أرجائها تماثيل سامقة لعظماء الإنجليز، وأجدر المباني بالذكر دار الحاكم العام، التي تبدو في جلال وعظمة، يقابلها من الجانب الآخر أثر فكتوريا؛ أقيم من الرخام الأبيض في عظمة تُبهر النَّظر من عمد وأبهاء وبوائك ودهاليز، وتعلو فناءه الرئيسي قبة كبرى. وهنا ترى تماثيل عظماء الإنجليز الذين اشتركوا في فتح الهند، وفي طليعتهم «كليف»، وأمامه المدافع التي غنمها من الفرنسيين وغيرهم في واقعة «بلاسي»، وترى بعض الصور الزيتية الكبرى لملوك إنجلترا. إلى ذلك ترى بعض ملابس الملكة فكتوريا ومكاتبها ومخلفاتها الذهبية، وكذلك جميع الوثائق الرسمية التي تبودلت بين الحكومة الإنجليزية وأمراء الهند منذ فتح البلاد إلى اليوم. وفي خارج البناء حديقة نسقت أيما تنسيق، يُزيِّنها تمثال فكتوريا. ولقد أقيم هذا الأثر تذكارًا لتولي فكتوريا أول إمبراطورة للهند، واشترك في إقامته كبراء الإنجليز والهنود، وبلغت أكلافه خمسة ملايين من الجنيهات. وقد وضع حجره الأساسي جورج الخامس سنة ١٩٠٦، وتم سنة ١٩٢١. وفي جانب من الميدان القلعة، وتسمى فورت وليم على اسم وليم الثالث. وتقوم دار البريد الفاخرة اليوم في مكانها القديم، بعد أن نقلها «كليف» إلى مقرها الحالي؛ وهو أكثر منعة وقوة. وإلى جانب دار البريد يقوم نصب أبيض دقيق في مكان الجحر الأسود، وقد كتب عليه اللورد كرزون أسماء بعض من ماتوا فيه؛ إحياءً لذِكْرهم. وقد كان هذا الجحر سجنًا من سجون سراج الدولة نواب بنغالة، زج فيه ١٤٦ جنديًّا يوم ٢ يونيه سنة ١٧٥٦، فاختنقوا في ليلة واحدة، ولم يبقَ منهم في الصباح سوى ٢٣؛ وذلك لضيقه — ١٤ × ٢٢ قدمًا — وقلة نوافذه، فأهاج ذلك غضب الشعب الإنجليزي وهبَّ ينتقم لهؤلاء. وكان هذا الحادث خير حافز للإنجليز أن يبسطوا نفوذهم هناك.
ومن الأبنية الفاخرة دار الجامعة التي يبلغ عدد طلابها ٢٦ ألفًا. وهذا العدد يفوق جميع طلاب جامعات إنجلترا مجتمعة، وقد اتخذت جامعة لندن نموذجًا لها، على أنها كانت مُعطَّلة عند ذاك. وقد قابلت أستاذين من أساتذتها الإنجليز، وتحادثنا بشأنها طويلًا، وعلمتُ منهما أن موسم الدراسة لا يُعين بدؤه إلا عند بدء نزول الأمطار؛ تلك التي يخفف نزولها من هجير الحر. ولقد تأخر افتتاحها هذا العام لتخلُّف المطر نحو أسبوعين عن ميعاده المعتاد.
قمت بجولة في الأحياء الوطنية المترامية، فكنت أشق طريقي في جو وخمٍ، ووسط منفر قذر، تترامى الأكاديس الآدمية بجانب الجدران وهم عرايا، وفي بؤس مبيد، يبصقون في كل مكان، ويبولون على جوانب الطرق حيث أقيمت المجاري لتصرف ماء المطر عنهم. وأخيرًا أدَّى بي التجوال إلى معبد قالي؛ وهي زوج سيڤا؛ إله التدمير وسفك الدماء. وفي أقاصيصهم أنها قطعت إربًا بأمر الآلهة، فسقط إصبع لها في هذا المكان. وفي قرار المعبد الذي لا يدخله إلا أتقياء الهندوس تقوم الإلهة في تمثال يُزين جيده عقد من جماجم بشرية، وبيدها رأس آدمية دامية، وفي الأخرى سيف، وهي تطأ أجسادًا آدمية، ولها لسان أحمر بارز، ونطاق من أيد وألسن بشرية. بدا لنا ذلك ونحن نطل من خارج المعبد. وقد علمنا أن لتلك الإلهة معابد عدة في أرجاء الهند، لها أوقافها الغنية، ويحج إليها جماهير الهندوس يسجدون ووجوههم إلى الأرض تحت أقدامها، والقسس يرتلون أقاصيص عن «قالي». وكانت تقدم الذبائح لها من أجساد بشرية، لكنها أُبدلت اليوم بالجديان. أذكر موقفي أمام المعبد وقد أمسك القسيس بالجدي وطرحه أرضًا، وسرعان ما تقدم رفيقه ففصل رأس الحيوان بسيفه بضربة واحدة سال على أثرها الدم تحت أقدام الإلهة، وصاح القسس منادين «قالي قالي قالي» مرات عدة. وهنا أسرع بعض النسوة إلى الأرض يلعقن الدم كي يمنَّ الله عليهن بمولود، والبعض أخذ يبلل منه خرقًا يضمها إلى صدره العاري. وعلمنا أن عدد الذبائح تتراوح بين ١٥٠ و٢٠٠ في اليوم.
وفي مقاصير المعابد وأزقتها يصطف جماهير من الأولياء في أشكال قذرة منفرة، وجسوم ممتلئة عارية، ولحى ورءوس كثة يَعاف المرء النظر إليها، وكلهم من المتسولين. وفي ناحية أخرى من المعبد محرق الجثث؛ وهو بسيط من الأرض تتوسطه وهدة مستطيلة في شكل الجسم، ويبطن أسفلها بالخشب. وكنا نرى إلى جانبه جثة سيدة لا بأس بملامحها، وقد خضبت قدماها ويداها وجبهتها بالحناء، ودثرت رداء أحمر، وعلمنا أن هذا دليل على سعد طالعها؛ إذ ماتت قبل زوجها ولم تصبح أرملة بائسة، وكان يحوطها جمع من أقربائها، وبعض النائحات المأجورات، وجمهرة من المتسولين، وسرعان ما حملت الجثة ووضعت على الحطب، وكدِّس فوقها حطام الخشب. وهنا تقدم أقرب الناس إليها، وكان ابنها، وأمسك بشعلة وطاف حولها سبع مرات، ثم ألقى الشعلة على كومة الحطب، فالتهمت كل شيء ما خلا جزءًا من عظمة القص، وتلك التقطها بعض القسس ووضعها في كرة من طين إلى جانب قطعة من ذهب يقدمها أهل الفقيدة، وألقاها القسس في النهر أسفل المكان.
وهنا كنا نرى جماهير الناس يغتسلون في مائه؛ ليطهروا من ذنوبهم، وكان بعضهم يغترف من الطين ويفحصه؛ عله يعثر على بعض القطع الذهبية التي تلقى في النهر مع بقايا الموتى، ومن الناس من يغسل الجديان قبل تقديمها للآلهة، ومنهم من يملأ أواني من ماء النهر المقدس؛ ليُصبَّه على قدمي «قالي» داخل المعبد، فيسيل إلى عين يتلقف الماء منها جمهور الزائرين ويحتسونه تبركًا على ما به من أوضار، وهم يؤثرونه على ماء النهر؛ لأن أقدام الآلهة قد زادته طهرًا. ومما زاد المنظر قذارة أن غالب عباد سيڤا وقالي من الطبقات الفقيرة. أما الأغنياء فإلههم «ڤشنو»، وله معابده الخاصة!
وعندما دخلنا دار جيلنج ألفيناها كالوهدة وسط الجبال، وتكاد تغطيها أشجار الصنوبر. أما جبالها المحيطة بها فقد ذكرتني بجمال سويسرا، لكنها فاقتها في الضخامة والعلو الشامخ، فحولها عشرون ذروةً علوُّ الواحدة يزيد على عشرين ألف قدم، وأبهاها طلعةً وأجلها روعةً «كنتشنجنجا»؛ ثانية ذرى العالم علوًّا؛ ٢٨١٥٦ قدمًا. وتكسو الكل عمائم الثلج الوضَّاء، وتحفُّ بجوانبها كومات من دخان أبيض هو سحاب السماء؛ يجلو تارةً ويثقل أخرى.
أما قمة إڤرست، فلا تبدو من دار جيلنج، بل من محطة تبعد عنها بنحو سبعة أميال، وتسمى «تل النمر»، يصعد المرء إليها محمولًا على الركشا يجرها رجلان، أو على كرسي يحمله أربعة، أو على مُهر صغير. ومنها تبدو روعة إڤرست؛ أعلى ذرى الدنيا؛ ٢٩١٤١ قدمًا؛ تلك التي يطمع في ارتقائها الكثير من رواد الجبال، لكن عبثًا يحاولون؛ ففيها من الوحشة ووعورة المسالك ما لا يمكن اختراقه. ولقد ظلت القمة طوال الوقت تغطيها حجب كثيفة من السحاب الذي لم تكد تستبين خلاله.
أما سكان دار جيلنج، فأخلاط من الهنود وأهل الجبال، نخص منهم النباليين والبوتانيين والجركا، الذين يختلفون اختلافًا بينًا عن الهنود في لونهم الأصفر الشاحب، وسحنهم المغولية، وقاماتهم الصغيرة، وغالبهم بوذيون من أشياع قسس «اللاما» في التِّبت، ولهم هناك معابد عدة يصلي القوم فيها وسط رقصة اللاما وصبيتهم وهم في أرديتهم الصفراء الفضفاضة، وقبعاتهم التي تحكي منقار الببغاء. وفي بعض المعابد يلبسون أزياء العفاريت برءوس عجيبة، ووجوه مزعجة، وهم في شذاجة الهندوس وقذارتهم لولا ما أحاطهم من هواء جبلي عليل وبيئة صحية بليلة.
بنارس (كعبة الهندوس): لعل بنارس هي خير المدن التي تتمثل فيها الهند بأجلى مظاهرها؛ إذ لم يكد يدخلها من المستحدثات شيء قط؛ فهي مقر الزهاد والحكماء والخيرين والمتدينين من الناس الذين تبدو لنا عقائدهم كأنها خرافات، ولا يسع من يرى أولئك إلا أن يعطف عليهم، ويتألم للسعادة الموهومة التي هم فيها. وهي تفاخر بأنها أقدم المدن المقدسة في العالم؛ لأنها كانت مقدسة قبل أن تُخلق روما بقرن، وهي أقدم من مكة المكرمة بألفي عام، وكانت من المدن الهامة في سنة ٥٥٨ق.م. ولقد اختارها بوذا بعد ذلك بقليل مقرًّا لتعاليمه، ولقد أغار عليها جيش المسلمين سنة ١١٩٤، وأباد كثيرًا من معابدها وأقام المساجد في مكانها، وظل يدمر في مبانيها القديمة حتى إنك لا تكاد ترى اليوم بناء أقدم من عهد الإمبراطور «أكبر»؛ أي في النصف الثاني من القرن السادس عشر. وفي أقاصيصهم أن المدينة أقيمت من الذهب الخالص الذي استحال صخرًا بسبب روح الفساد الذي ساد العالم بعدُ. ويخيل للمرء وهو يسير في سراديبها أنها مدينة محوطة بالأسرار الغامضة، ولا يتمالك أن يأسف لبؤسها، وينفر من قذارتها.
مدينة يتمنى كل هندي حتى أحط المجرمين أن يموت بين جدرانها؛ كي ينتقل إلى الجنة عاجلًا؛ لذلك يؤمُّها من الحجيج نحو مليون كل عام، بينهم جماهير المرضى والكهول الذين يتوقعون الموت؛ يسجد الجميع إرضاءً للإله سيڤا والإيمان العميق يبدو على وجوههم! وبمجرد وصولهم وافدين من أقاصي بلاد الهند يبدءون بزيارة المعابد التي يقال: إن عددها يفوق الألف، ويطوفون بأسوار المدينة كلها — ويبلغ امتدادها ٣٦ ميلًا — في ستة أيام متوالية، وهم يسيرون في طريق تظله الأشجار، وتزينه المعابد وتماثيل الآلهة، ويطلقون عليه اسم «بانش كازي».
وأجمل ما رأيت المدينة من زورق وسط النهر هنالك؛ بدت بقايا القصور القديمة والمعابد البالية الأثرية، يرتطم بها موج النهر الهادئ في مائه القذر تشوبه الأوضار. وإن أنس لا أنسى منظر المعابد المطلة على النهر وكأنها الأهرام الذهبية صفت في كثافة بعضها فوق بعض، ودرجات النهر التي أقيمت من الجرانيت العاتي تتدلى من دونها، وتقام المقاصير التي يؤمها الأتقياء حتى تكاد تلمس الماء مهما بعد غوره، ويستظل القوم بظلالات من الخوص كبيرة تميل إلى النهر؛ كي تقي القوم وهج شمس الشرق المحرقة، فيخيل للمرء أنها من كثرتها وعظيم امتدادها على جانب النهر وكأنها الدروع في ميدان للجهاد حافل بالأجناد. وإذا ما مالت الشمس إلى الغرب بدأت تلك الجموع الغفيرة تتلاشى، ومن بينها بائعو الفاكهة وأكاليل الزهور والهدايا التي يقدمها القوم قربانًا للنهر المقدس؛ لذلك تراها طافية مع طائفة منتنة من الأعشاب والأوضار تشوب ماء النهر الكدر المنفر. وكلما خفَّ الجمع وفدت أسراب من الطيور المختلفة، عرفت منها الغربان والحمام، تخيم فوق أهرام المعابد، وكلما أقبل الغروب زادت عفونات النهر لحدٍّ لا يحتمل، حتى ليخيل للمرء أنه وسط مدافن منتنة. ويؤيد هذا الشعور قرب الدرجات المعدة لحرق الجثث، وكنس فضلاتها وإلقائها إلى اليم. ويزيد الموقف وحشة صيحات الطيور المنفرة وكأنها كانت تنعى من مات وأُحرق سحابة اليوم، وإذا ما بزغ الفجر تغير المنظر وبدأت المدينة تقذف بسكانها في مجموعهم إلى المكان من آدميين وعجماوات، فترى الناس مقبلين على النهر وقد أرخوا على أجسادهم السوداء البراقة مقاطع من قماش مهفهف مختلف ألوانه، وقد زينت بالمعادن والجواهر والأحجار رقابهم وآذانهم وأنوفهم وأيديهم وأصابعهم، وبكامل زينتهم ينغمس النساء في مائه المقدس. أما الرجال فيخلعون أرديتهم. والجميع يقدم أكاليل الزهور التي تطفو فوق سطح الماء بكثرة تكاد تخفيه. وأسراب الحمام ومختلف الطيور تؤم المكان، فيحط بعضها فوق الماء، والبعض فوق كواهل الناس، وكأنها أيقنت أن عباد براهما لا يمسون الحيوان بأذى، كذلك ترى قطعان البقر مقبلة إلى النهر لتغتسل. وهنا يفسح الجميع لها الطريق في احترام عجيب! وبعضهم يسرع فيقدم للبقر عقودًا من الغاب والزهر! ثم تبصر بعض الأغنام والكلاب والقردة مقبلة على الماء، فيختلط الإنسان بالحيوان، ولا يكاد يفرق المرء بين هذا وذاك!
ولكل جزء من تلك المدرجات اسم خاص، فمن ضمنها مدرج الخيول العشرة؛ حيث يؤمه الناس عند حدوث خسوف أو كسوف، وفي طرفه الجنوبي معبد سيتالا؛ إلهة مرض الجدري، وهناك تماثيل لڤشنو على شكل إنسان في جسم الأسد، ومدرج الموتى حيث تحرق الجثث. وهنا أذكر موقفي المزعج تحوطني خمس جثث بعضها لسيدات ألبسن أقمشة ملونة، والبعض للرجال في أردية بيضاء. وبعد أن دهنت الجثث بالمَسْلَى غمرت في النهر لتطهر، ثم وضعت الجثث فوق أرماث من الخشب وأقدامها متجهة نحو النهر، وبعد تغطيتها بقطع الخشب، تقدم أقرب الناس من كل جثة بشعلة نار، وطاف حولها سبع مرات، ثم أخذ يشعل النار في كل أركان كومة الخشب، فتصاعد الدخان، وعبقت الجو رائحة اللحم الآدمي تأكله النيران. وكان يحاول كل جهده ألا تطفأ النار قبل تمام احتراق الجثة، وإلا كانت تلك وصمة مخزية للفقيد وعائلته! وبعد تمام الاحتراق، ينفض الواحد ما بقي من الرماد إلى النهر؛ كي تتم سعادة الفقيد!
على أنَّا كثيرًا ما كنا نرى الكلاب تحوم حول الضفاف، فتلتقط قطعًا من اللحم الذي لم يتم حرقه، وكنا نرى جثث الأطفال طافية بين جماهير المستحمين؛ لأن الدين يحرم إحراق جثث الأطفال، ويأمر بإلقائها في النهر المقدس كاملة!
منظر مفزع وقفت في جنباته ساعة وأنا لا يكاد يستقر بي المكان خوفًا وجزعًا، وكنت أَشْتَمُّ شيئًا من الرائحة العطرة التي علمت أنها لبعض الأغنياء الذين يحرقون موتاهم بخشب ثمين كالصندل والعود وما شاكلها.
ولعل أقدس المدرجات «مدرج القرط»، وبه بئر ألقت فيها الإلهة «ديڤي» بقرط، وإليها يتقدم القوم بقرابينَ من الزهر واللبن وخشب الصندل والحلوى، كلها تُرمى فيها، وبجانبها تجد قطعة مشرفة من رخام عليها طابع قدمي ڤشنو. وهنا يحرق الوجهاء موتاهم؛ وذلك شرف لا يناله الفقراء.
ومن المدرجات الهامة مدرج الأنهار الخمسة؛ لأنهم يعتقدون أن في أسفل هذا المكان تتلاقى خمسة أنهار، ويشرف على هذا المكان مسجد أورانجزيب بمآذنه الدقيقة العالية التي تخيل إلي أنها تميل إلى النهر في غير استقامة.
برحت النهر لأتجول داخل المدينة، فبدت قديمة بأطلالها وأزقتها القذرة المتربة. ومن المعابد التي زرتها بها:
المعبد الذهبي: وتزينه قبة يجانبها برج كأنه «الباجودا»، ويكسى الاثنان من الخارج بالذهب الخالص؛ وهو معبد سيڤا؛ إله الكون. وكان القسس في داخله يحرقون البخور، ويقدمون الزهور، ويرتلون في صيحات منفرة. وفي جانب من المعبد «بئر العلم» وسط دائرة تحوطها الأعمدة الجميلة، وتتوجها قبة، ويقول القوم: إن شعار سيڤا احتمى في أعماقها يوم أن دمَّر الأعداء المعبد، فكل من تطلع إليه نال قصارى أمانيه. ولقد نظرت إلى أعماقها بتلهف زائد، فلم أر إلا سطح ماء قد غطاه رم العشب وورق الزهور. ويجلس بجانبها مشعوذ يبيع الماء للناس الذين كانوا يتهافتون عليه؛ كل يملأ يده، ويقطر ثلاث قطرات في فمه من طرف إصبعه، ويغسل رأسه بما بقي. وفي ذلك مفتاح الذكاء والفطنة، وتطهير للذنوب كائنة ما كانت. وإلى جانب البئر تمثال ثور يعبدونه قدمه «راجا نبال»، ويحوطون رقبته بعقود الفل والياسمين، ويرشون عليه ماء النهر المقدس.
ومن أمثال تلك المعابد كثيرٌ قادنا الدليل إليها في سراديبَ يكاد يكسو أرضها جماهير المتسولين في قذارتهم الكاملة. وقد راقني منها معبد درجا أو معبد القردة؛ لكثرة القردة الطليقة فيه، والتي تمرح وتأكل وتتنعم على حساب السذج من المتدينين! وعند المدخل ترى الطبول يدقها القسس ثلاث مرات في اليوم. وهنا تذبح الجديان قربانًا لزوج سيڤا، التي تلذ لمنظر الدماء. وترى هناك حوضًا علوه ٥٤ بوصة يعتقد القوم أنه ينكمش في كل يوم مرة حتى لا يزيد حجمه على حبة السمسم!
دلهي: قمت بجولة في المدينة، فبدا لي أنها من المدن القديمة التي غالبت الزمن، وقاست من هجمات المغيرين الشيء الكثير، حتى قيل إنها تقام على أنقاض إحدى عشرة مدينة ازدهرت من قبل ولا تزال لها بقية من أطلال. وغالب أحيائها شبيه بالأحياء الوطنية في القاهرة، وكانت كثرة المساجد بمآذنها العديدة تكسب المدينة مظهرًا إسلاميًّا بحتًا مذ حلت هذه محل القباب الناقوسية الذهبية. وهنا يصلي القوم لله بدل الخضوع لشعوذة البرهمي والخشوع للأنصاب، على أن غالب تلك الأنحاء تعوزه النظافة، وإن كانت في الجمال خيرًا من سابقاتها. أخذت أزور أماكنها التاريخية، وبدأت بزيارة القلعة. وقد بناها شاه جهان بعد أن قرر نقل عاصمته من أجرا، واختار مكانها هذا، وهو يبعد خمسة أميال عن «دلهي القديمة»؛ عاصمة جدِّه هومايون، وضع أول حجر سنة ١٦٣٨، وتمت في تسع سنين، فانتقل إليها في حفل عظيم، وأطلق عليها اسم «شاهجاهاناباد». وكانت آيات الأبهة تفوق كل ما تقدَّمها حتى أصبحت عند الغربيين مضرب الأمثال؛ فمن مساجد إلى مقاصير إلى إيوانات إلى قصور كلها من الرخام المرصع باليواقيت والجواهر تفرش بالحرائر والطنافس الثمينة.
- الديوان العام: ذرعه ٦٠ × ١٠٠ قدم، يقوم سقفه على بوائك وعمد تخطف البصر بنقوشها الرائعة، وهو يعد من آيات فن العمارة المغولية. وكان يجلس الإمبراطور على عرشه؛ ليستمع للمظالم التي يعرضها عليه وزراؤه نائبين عن الشعب.
- الديوان الخاص: ذرعه ٧٦ × ٩٠ قدمًا من الرخام الأبيض يرصع بالأحجار الكريمة في زخرفة
فارسية مغولية، وكان سقفه من فضة، لكنه استبدل بالخشب اليوم. وهنا يحار اللب حقًّا لما
يرى من مظاهر للعظمة شبيهة بما نقرأ في «ألف ليلة». وقد نقش على جانبيه بالذهب ما
معناه: إذا كان للأرض نصيب من الجنة، فهو لا شك في هذه الدار! وتتوسط البهو قناة من
رخام كان يطلق فيها الماء المعطر؛ ليرطب المكان ويعبقه. وكان يتوسطه عرش الطاووس الساحر
الذي نقله نادر شاه إلى فارس، وسمي كذلك لأنه محاط بطاووسين قد نشرا ذَنَبيهما المرصعين
بالياقوت والزمرد واللؤلؤ والماس. وكان ذرعه ٦ × ٤ قدمًا، يقوم على قاعدة من ذهب أصم
مرصع بالجواهر. وبين الطاووسين ببغاء نُحت في قطعة واحدة من زمرد، ويرتفع غطاؤه على عمد
من أحجار كريمة، وكلفهم ثمنه عند ذاك ستة ملايين من الجنيهات. وكان يجلس عليه الملك
يستمع للشكاوى بنفسه. ويظن أنه لا يزال من محفوظات بلاد فارس. والمكان أعد لمجلس الملك
مع أخصَّائه، وبه عدة غرف صغيرة آية في الإبداع والزخرف، وله شرفة إلى الشرق كان يستقبل
منها شمس الصباح، ويستمع لتهليل شعبه من دونها. ومنذ سنة ١٩١١ والإنجليز يعيدون تلك
الذكرى بإقامة حفل يطل منه الحاكم مرة كل عام.
- رانج محل: أي قصر الزجاج البراق، وكان خاصًّا بالسلطانة ولا تزال في سقفه بقية من الفضة المرصعة بزهور من ذهب يحوطها بريق خاطف، وفي الوسط نهر الكوثر، ونافورة تغص بالسمك الملون. وكان يطوق جِيد كل سمكة عقد من ذهب به ياقوتة ولؤلؤتان، وتحوطه حدائق تزينها مجاري الرخام في أبهة وجلال فاق كل وصف.
- مسجد اللؤلؤة: أقامه أرانجزيب داخل القلعة. وكان خاصًّا بشاه جهان الذي أسرف في
زخرفته وتنسيقه حتى أضحى أجمل مساجد الهند وأصغرها. وكان يُشَبَّه بالدرة أو اللؤلؤة؛
لصغره وجماله.
- المسجد الجامع: يتوسط ميدانًا من المدينة فسيحًا يشرف عليه من ربوة تناهز ستة أمتار،
ويرتقي المرء إليه بسلم عظيم الامتداد في جميع جوانبه، وأبوابه من نحاس ثقيل وسط بوائك
فاخرة تؤدي بنا إلى فناء رحب، يتوسطه حوض الوضوء، والليوان يقع تحت قباب ثلاث تجانبها
مئذنتان دقيقتان عُلُو كلٍّ منهما ١٣٠ قدمًا، وحول الجوانب الأخرى بوائك ذات سقف
منقوشة، وفي ركن منه غرفة صغيرة بها بعض آثار النبي
ﷺ توضع في علب من فضة وذهب
وزجاج، تملؤها الزهور من داخلها. وأهم تلك المخلفات التي تبركنا بلمسها: شعرة واحدة
حمراء من لحية الرسول، قطعة من رخام عليها طابع قدمه، حذاء من جلد الجمل في شكل الخف،
ومخطوطان للقرآن الكريم كُتبا بالكوفة؛ أحدهما بخط الإمام علي — كرم الله وجهه — والآخر
بخط ابنه الحسين — عليه السلام — والمسجد فاخر يشرف على المدينة، فتراه أينما كنت في
لونه الأحمر من الخارج، وإن كان يبطن كله بالرخام الأبيض، أقامه شاه جهان وخصَّ بنفسه
بابًا يواجه القلعة والمسكن الخاص فيها. وكان يُفتح يوم الجمعة لمروره ماشيًا، وعندئذ
تفرش الطريق كلها بالطنافس الثمينة، ويخال البعض أن هذا المسجد أكبر مساجد
الدنيا.
ومن المساجد الأخرى التي زرتها مسجد سنهري الذهبي، الذي جلس فيه نادر شاه؛ أكبر ملوك الفرس السفاحين، وهو يراقب جنده يذبحون الناس يوم دخل المدينة سنة (١٧٣٩).
- قطب منار: برج نصر بناه قطب الدين سنة ١٢٠٠ على بعد ١١ ميلًا من المدينة، وأكمله
حفيده «التماش»، ويتألف من خمسة طوابق في علو ٢٣٨ قدمًا، وقطره من أسفله ٤٧، ويختنق في
أعلاه إلى ٩. وقد أصلح أعلاه فيروز شاه سنة ١٣٦٨. أقيم ليخلد انتصار الإسلام على
الهندوس، ولبث يغالب الزمن طويلًا. ويعد من عجائب بلاد الهند؛ لقدمه وغرابة هندسته.
وإلى جانبه مسجد قطب الدين؛ أقدم مساجد الهند، بناه من أنقاض المعابد الهندية التي
دمرها المسلمون، وفي داخل مقصورته قطعة من حديد مرن ترجع إلى القرن الثالث الهجري، وظلت
معرضة لتقلبات الزمن طوال تلك المدة ولم تصدأ، ولا يعلم شيء عن أصلها سوى العبارة
الآتية التي كتبت عليها: هو صاحب الصيت «راچا دافا»؛ الذي حصل بساعده على ملك العالم
بغير شريك.
وفي ناحية أخرى مقبرة هومايون على نمط شبيه بتاج محل، وهو أقدم مثل للعمارة المغولية؛ بني سنة ١٥٥٦، ودفن فيها ثاني عظماء المغول، وبجانبه أقرباؤه وابن شاه جهان، الذي قتله أخوه أورانجزيب؛ طمعًا في الملك. وهنا سلَّم شاه باداهور؛ آخر المغوليين، سيفه للميچر هدسن سنة ١٨٥٧، وبجانبها مقبرة التماش ابن زوجة قطب الدين.
ذلك مثل مما يراه السائح في دلهي؛ تلك البلدة التي تقوم عظمتها على منشآت الإسلام التي لولاها لما استحقت الذكر؛ حيث لا نرى غيرها سوى بيوت حقيرة، ومعابد هندوسية صغيرة؛ ولذلك لم ترها إنجلترا صالحة لتكون مركزًا لإدارة البلاد، فأقامت بعيدًا عنها مدينة دلهي الجديدة على أحدث النظم التي تحكي إحدى المدن الأوروبية تمامًا.
- تاج محل: حق للهندسة المغولية أن تفاخر بتلك القطعة الفنية؛ فما إن وقع ناظري عليه
حتى ذهلت من عظمة ما رأيت، جلال في دقة صنع، ورواء في حسن تنسيق، وآيات للفن بينات في
كل ناحية من نواحيه؛ فهو وحده خير مبرر لزيارتي للهند؛ تلك البلاد التي كنت حتى الساعة
لا أذكرها بالخير الكثير. دخلت من الباب الرئيسي وهو وحده قصر فاخر بأقبيته وقبابه
ومناراته، فانكشفت حدائق التاج الفسيحة التي نسقت بالنافورات والمنحدرات والطرقات
الملونة والنقائع يزينها زهر البشنين وورقه، صفت من حولها مخاريط الشجر الباسق، وفي وسط
كل أولئك يقوم التاج كالعروس، ولكن أنَّى لقلمي الكليل أن يصور بدائعه ويحكي إعجازه؛
فقد تنقل الكلمات والصور إلى القارئ شيئًا عن المكان، ولكن أنَّى لها أن تشعره بالذهول
والإكبار الذي يحسُّه من يراه بعينه؟! صوِّر لنفسك قصرًا فاخرًا أقيم كله من الرخام
الوضاء، والمرمر البراق، تحوطه في الأركان مآذن دقيقة رشيقة، وتتوسطه قبة كبيرة رائعة
تحوطها القباب الصغيرة، والمنائر الرفيعة، والأرض والجدران قد رصعت كلها بالزهور
والزخارف الفارسية، لا بالرسم الزيتي، بل بالياقوت والزمرد والزبرجد وما إليها، وتزين
الجدران إلى جانب هذا آيات الذكر الحكيم كلها، لا بالمداد بل بمقصوص الرخام الأسود ألبس
الجدران البيضاء. والمدهش أن المهندس قد راعى المنظور في كتابتها، بحيث إنك تراها تبدو
في أعلى المكان وفي أسفله بحجم واحد رغم علوه الشاهق! وفي بعض الصفحات ترى الرخام قد
خرط في أشكال شتى بين بارز وغائر. أما النوافذ والفتحات فأشبه بشباك المخرمات في دقة
فائقة، وهندسة عجيبة، قدت في الرخام، وكان يغطي غالب الفتحات الزجاج الطبيعي «الميكا
البيضاء»، ولم يبق منها اليوم سوى لوح واحد. وفي قلب المكان ترى المقبرة من المرمر رصع
بمختلف الأحجار الكريمة، يحوطها سور من مقصوص الرخام. وهذه تضم رفات زوجة شاه جهان
«ممتاز محل». وكان يحوطها سور من فضة، ويكسو القبة غشاء ثقيل من ذهب خالص كانت زنته
٢٦٥٠ رطلًا، ويدخل الضوء من الباب فقط فيسقط على المقبرة رأسًا، فتشرق وسط الأركان
المظلمة. وقد ألصقت بجانبها مقبرة أخرى — فيما بعدُ — دُفن فيها زوجها. وكان قد بدأ
يُقيم لنفسه مقبرة على مثال التاج في الجانب الآخر من النهر.
وقد قيل إن السلطان استدعى عباقرة الفن من العرب وفارس والهند وأوروبا، فاستلزم البناء ١٧ سنة، وكان طوال هذه المدة يشتغل عشرون ألف عامل، حتى بلغت أكلافه أربعة ملايين من الجنيهات في ذاك الوقت الذي كانت الأموال فيه نادرة.
وللقبة الرئيسية أثر ساحر في ترديد صدى الصوت يفوق تلك التي في بيزا بإيطاليا. وقفتُ داخلها وكأني طربتُ لما أن تصورت المقرئ بصوته الرخيم يُردد الآيات البينات، أو يصيح بعبارات التأبين والندبة في أنغامها الشجية، التي تبدو وكأنها دوي أصوات الملائكة تردده تلك القبة من السماء. ولا أنسى زيارتي الثانية للتاج في المساء — وكانت ليلة مقمرة — فبدا وهجه في ضوء القمر الشاحب وسكون الليل الرهيب، فأثار في النفس من ذكريات، وأهاج من شجون.
تلك هي آية تقدير شاه جهان لزوجته الفاتنة التي أحبها حبًّا جمًّا، وأخلص لها، فشاركها الرأي في مهام الحكم. وكان خاتم الدولة بيدها، وكانت رحيمة بالناس تتدخل لمصلحتهم، وكانت تلازم زوجها في حملاته الحربية، حتى كانت الحملة التي غزا بها ثائري الدكن، فاختطفها الموت لما أن جاءها المخاض في طفلها الرابع عشر، فعاد محزونًا كسير القلب، حتى حرَّم على رعاياه كل مظاهر السرور طويلًا، وحبس نفسه عن الناس، وعطَّل أعمال الدولة، وقيل إنه سئم الحكم واعتزم التنازل لابنه.
- مقبرة اعتماد الدولة: أقامتها «نور محل»؛ زوج الإمبراطور «جهانجير»، مدفنًا لأبويها.
وكان أبوها من كبال رجال الدولة؛ وفد مع زوجته من فارس تحت اسم «مرزا غيات» طلبًا للجاه
والثراء في بلاد الهند، فنفدت ذخيرتهم في الطريق، وزادهم الحظ ارتباكًا بمولودة ترددوا
طويلًا في التخلُّص منها، حتى مرَّت بهم قافلة فأنقذتهم جميعًا، فلما جاءوا السلطان
نالوا لديه حظوةً، وأحب جهانجير — وكان إذا ذاك أميرًا — فتاتهما ذات الجمال الفتَّان،
لكن أباه الإمبراطور رفض ذلك وزوَّجها من أحد قواده، فلما مات وولي ابنُه الحكم كلَّف
الضابط أن يطلق زوجته فأبى، فدسَّ له وقتله، وحبس الزوجة في القصر حتى قبلت أن تتزوج
منه، فغير اسمها «نور محل»؛ أي نور القصر، وسماها «نور جهان»؛ أي نور الدنيا. والمقبرة
آية فنية أخرى تلي التاج في العظمة ودقة الصنع.
- مقبرة الأكبر: وهي من المباني الجديرة بالزيارة. أقيمت من الصخر الرملي الأحمر، تبطنه من داخله رقائق الرخام الأبيض في رواء كبير. وهي تضم رفات «أكبر»؛ مؤسس أجرا؛ ولذلك يطلق على المدينة أحيانًا «أكبرباد».
- القلعة: شبيهة بتلك التي في دلهي في شكلها ومحتوياتها، وتزيد قصر الياسمين، وسمي كذلك
لكثرة أزهار الياسمين التي رصع بها المكان. وقد أعدَّه جهانجير مقر زوجته «نور محل»؛
إذ
كان يشرف على نهر الجمنا، ويكشف التاج محل بحدائقه على الجانب الآخر من النهر. وقد
أقامت به سيدة التاج «ممتاز محل» زمنًا طويلًا.
بمباي أو الخليج الجميل — كما سماها البرتغاليون — وقيل إن الاسم مشتق من إلهة البلدة «ممباديڤي» في أكبر معابد المدينة. بدت مدينة عظيمة حقًّا ذات مبانٍ فاخرة، وقصور شامخة، وطرق معبدة فسيحة، فهي في نظري المدينة الهندية الوحيدة التي تحكي مدائن أوروبا وجاهةً ونظامًا، وهي العاصمة التجارية للهند؛ فالحركة فيها صاخبة أبدًا، وبها محطتان للسكة الحديدية من أفخر محاطِّ العالم؛ وهما: محطة فكتوريا، ومحطة الوسط. ولعل أجمل نواحيها صخرة ملبار؛ تشرف على الخليج في منظر رائع، وهي مسكن الطبقة الأرستقراطية. كلها ڤلات تحوطها الحدائق اليانعة والمتنزهات الأنيقة، أخُصُّ منها «الحديقة المعلقة» التي تشرف على البحر، وتنكشف من دونها أبراج السكون الخمسة؛ حيث ترى رصيفًا حفرت به فجوات يضع فيها شيعة «البارسي» موتاهم، وسرعان ما تنقض عليها العقبان من الأشجار المجاورة، فتأكل كل اللحم وتترك العظام. وهذه توارى في بئر بدون حرق؛ ذلك لأن هذا المذهب يعتقد في طهارة العناصر الثلاثة (الماء والتراب والنار)؛ لذلك لا يصح تدنيسها. ويحمل الجثث وهي عارية عباد ملتحون إلى ذرى تلك الأبراج، ومحيط أكبرها في ٢٧٦ قدمًا، وعلوها ٢٥. وعند حمل العظام يلبس القوم القفازات، ويقف أهل الموتى طويلًا في الحدائق هناك للتفكير في الموت وحولهم كثير من أشجار «السرو»، والقوم يعتقدون أنه يشير دائمًا إلى السماء ليذكرهم بالموت، وعامتهم يبيحون استخدام النار في الطبخ، لكن غُلاتهم يحرمون ذلك. وجماعة البارسي من عبدة النار، وهم أتباع الفيلسوف الفارسي «زردشت». عددهم يناهز المليون، ويعرفون باستعدادهم العظيم للتقدم، وهم في مقدمة تجار العالم خبرةً وأمانةً.
البقر المقدس: وقد استرعى نظري في الهند عامةً، وفي بمباي خاصةً، كثرة البقر الذي يترك طليقًا يجوب أمهات الطرق في غير حصر؛ ذلك لأن الهندوس يقدسونه، ويعدون قتل البقرة، لا بل ومجرد ضربها جرمًا لا يغتفر! فكم من مرة كان يفاجئني سائق السيارة أو الترام بالوقوف؛ لأن هناك بقرة تنام وسط الطريق، فلا يجرؤ أحد أن يضربها، وإن طال وقوفه نزل فمسح عليها برفق حتى تقوم! ودهشت مرة وأنا في محطة «راتلام»؛ لأني رأيت قطار السكة الحديدية أخذ يدوي صفيرًا وهو مقبل على المحطة ثم وقف فجأة، وبالبحث وجد الناس بقرة تمرح بجانب القُضْبان! وقد حدث مرة أن أميرًا هندوسيًّا صدم بقرة بسيارته فقتلها، فظل يكفِّر عن ذنبه هذا بالهدايا الباهظة للبراهما أمدًا طويلًا حتى غفر ذنبه! وكل فرد وهو على سرير الموت يمسك بذنب البقرة حتى تفيض روحه إن أراد الجنة!
بلغني أنه لما حضرت الوفاة مهراچا كاشمير الأخير، طلب أن تساق البقرة إليه في غرفته، فلما لم يفلحوا في ذلك حُمل الأمير إليها، فأمسك بذنبها حتى فاضت روحه! وقد قيل إن العصيان الهندي الكبير كان من السهل تلافيه لو أن بريطانيا منعت ذبح البقر. وكان — ولا يزال — بعض الجند يأبون حمل السلاح لظنهم أن دهن البقر يدخل في تركيبه، وثار الكثير لأنهم كُلفوا أن يفرغوا قُطرًا تملؤها لحوم البقر المحفوظة في علب جِيء بها من أستراليا.
ولقد منحت الحكومة طبقة المنبوذين اليوم كثيرًا من الامتيازات على رغم معارضة الطبقات الأخرى! لكنك تجد هذا محترمًا في المدن الكبرى. أما في الأرياف فيُسلبون عمليًّا جميع حقوقهم؛ ففي مقاطعة مدراس مثلًا يبيح القانون قبول أولادهم في المدارس، لكنهم لا يدخلون سوى ٦٠٩ مدرسة من بين ٨١٥٧ مدرسة. ويرى كثير من المتعلمين ورجال التشريع من الهنود وجوب مساواتهم بالغير، لكنهم يقولون: إن عملًا كهذا يثير السواد الأعظم من الهندوس؛ لأن نظام الطبقات في صلب الدين. وقد بدأ منبوذو بنغالة — وعددهم مليونان — يناضلون ليدخلوا أبناءهم المدارس. ويعتنق كثير منهم الإسلام والمسيحية تخلصًا من ظلم الطبقات المبيد.
والعجيب أنك لا ترى فرقًا في الشكل بين الطبقات النجسة وغير النجسة، وقد ترى من أفراد الأنجاس من يروقك منظره أكثر من أفراد الطبقات الممتازة، على أنهم لا يجرءون أن يدخلوا مكانًا به أحد هؤلاء. والمدهش أن غالب المنبوذين راضٍ عن هذا النظام؛ لأن الدين هو الذي يأمر به، وإن أخذ عدد الثائرين عليه منهم يزيد يومًا فيومًا، خصوصًا في مدراس. ويكتب كثير من المتنورين من الهنود في ضرورة بقاء نظام الطبقات احتفاظًا بأوامر الدين، وهم يرون أن الأنجاس يكفيهم أنهم لن يغمطوا حقهم في الآخرة!
وهنا زاملني في القطار رجل تعرفت به بمناسبة عجيبة؛ ذلك أنني لاحظت بجانبي على زجاج النافذة حشرة تطير ولها طنين أزعجني، فعمدت إلى قتلها فتعرض الرجل ومنعني، ثم تناولها بمنديله وألقى بها من النافذة. وبمحادثته علمت أنه يدين بمذهب «الجانية»؛ وهذا يحرم إتلاف الحياة كائنة ما كانت، من بينها الحشرات الضارة والنحل وما إليها، حتى إنهم يحتمون كنس الأرض قبل الجلوس، وعدم رش الأرض بماء كثير؛ خشية قتل بعض الأرواح الطاهرة! وتراهم يغطون أفواههم بقطعة من حرير؛ خشية أن تدخل فيها حشرة أو بعوضة فتموت! وهم لذلك يفضلون الاشتغال بالتجارة والصناعة ويكرهون الزراعة؛ لأن المحراث يتلف كثيرًا من الحيوان؛ وذلك جريمة كبرى.
وعدد أولئك في الهند يناهز أربعة ملايين، وهم يدَّعون أنهم كانوا بوذيين قبل أن يخلق بوذا نفسه، وهم يتفقون مع عامة الهندوس في الاعتقاد في تناسخ الأرواح؛ فهم يرون أن الروح تحل أجسادًا أخرى قد تكون آدمية، وقد تكون لطائفة من الحيوان بعضها من طبقة عالية، والبعض من طبقة خسيسة، فالرجل الفاسد قد تحل روحه بعد موته سمكة أو حشرة. ولما كانت جميع الحيوانات عرضة لانتحال روح آدمية؛ حرم الجميع قتلها حتى ولو كانت مؤذية؛ ففي سنة ١٨٩٦ حين فتك الطاعون بالهند فتكًا ذريعًا، عُين مجلس أمر تسار جوائز تصرف لمن يمسك بالفيران كي تحبس، بما فيها من براغيث ملوثة، حتى إذا ما انقضى خطر الطاعون أُطلقت ثانيةً. وفي كثير من البلدان تكثر الطيور الضارة كثرة هائلة فلا يتعرض لها القوم؛ فمثلًا لما كنتُ في كولمبو كانت صيحات الغربان المنفرة؛ تلك التي تسير في سحابات تكاد تكسو أعالي البيوت، تُقلق راحتي، وكنت كل يوم أستيقظ حول الساعة الرابعة صباحًا على أصواتها المزعجة. وكانت تقيم أوكارها في جوانب الحجرات وزواياها بكثرة عجيبة. وبعض الطيور يتلف المزارع، ومع ذلك لا يمسها أحد بسوء، وكأن طوائف الحيوان أحست ذاك الرفق فأضحت مستأنسة. أذكر مرة أني رأيت سربًا من الطاووس يمر بجانبي في محطة مغول سراي في اطمئنان غريب! وكم كنت أدخل من معابد أرى بها القردة تقفز على كواهل الناس وتداعبهم في غير خوف! وقد رأيت قردًا في سوق دلهي يسترق الفاكهة المعروضة ويأكلها والبائع يراه بعينه فلا يتعرض له. وقد بلغ احترامهم للحيوان حد التقديس؛ فهم يقدسون القرد والفيل والنسر والطاووس والببغاء، وحتى الأفعى التي يموت بسببها عدد كبير كل عام، فنرى لها معابد خاصة تمرح الأفاعي فيها، وتُنحت لها تماثيل يسجد القوم أمامها!
وصلت مدراس ومنها قمت صوب الجنوب، فزادت الأرض فقرًا وجدبًا، ومررنا بمحطة ترتشنو بولي ذات الصخرة التاريخية المشهورة. وهنا ركب إلى جانبي هندي بادن الجسم منفر المنظر وكأنه «الغول الآدمي»، فجلس بجانبي ونصفه الأعلى عار، ويطلى بشيء كالدهن لامع، تعلوه وجبهته خطوط من التراب الديني الذي كان يجدده بأصابعه بين ساعة وأخرى؛ ليدل الناس على طبقته الدينية الممتازة؛ خشية أن يدنسه من هو أدنى منه! وهو من الوجهاء؛ لما بدا من أتباعه وخدمه من ركاب الدرجة الرابعة الذين كانوا يفدون إليه في الدرجة الثانية كلما وقف القطار! وكان طوال الوقت يتمخط في الهواء مرة كل دقيقتين ويبصق السائل الدموي من أثر العشب الذي يمضغه القوم جميعًا! وكانت سيقانه وأقدامه عارية. ولما حان ميعاد الغداء، أخرج من جانبه قطعة من ورق شجر الموز ووضعها بجانبه، وفتح عامود الطعام واغترف بكامل يده الأرز مرات ووضعه على ورقة الموز، ثم صب عليه بعضًا من مسلى البقر وعجنه بيده، ثم أخذ يلعقه بسرعة واضطراب مخافة أن يقع نظري على الطعام وهو يلتهمه فيفسده! وقد أعاد الكرة من الطاسة الثانية ثم الثالثة، وكلها من الأرز المسلوق ليس غير! واختتم الوجبة بمسح يديه في جسمه في شكل قذر! على أني لا أغمطه حقَّه في التأنُّق؛ إذ كان يحلي يديه بالسوار العريض، وأصابعه بالخواتيم الثقيلة، وجسده بالعقود، وأذنيه بالأقراط. والشيب والشيخوخة قد نالت منه كثيرًا.
وصلنا نهاية الهند الجنوبية وانتقلنا إلى جانب البحر كي نستقل السابحة عبر خليج منار إلى جزيرة سيلان. وهنا جاء الطبيب وحجر على جميع الركاب الوافدين من مدراس؛ لأنها كانت مصابة بالكوليرا، وكاد يمنعني من الدخول إلى الجزيرة لولا أن أبرزت له تذكرة السفر على الباخرة «فوشيمي مارو» إلى اليابان من كولمبو في اليوم التالي مباشرة.
هكذا نشأت عقائدهم، وتعددت آلهتهم، وملأت آفاق الهند معابدهم وأنصابهم في غير حصر حتى حق عليهم قول هيرودوت في أجدادنا قدماء المصريين: «إنهم أكثر شعوب الأرض تعبدًا.» لذلك أضحت البلاد مربى خصيبًا للشعوذة والخرافات والمعجزات التي يعتقدها الجميع بإيمان وثيق؛ فالقديسون — في زعمهم — يستطيعون قطع الألسن، وإرجاعها إلى حالتها الأولى، وإلقاء حبل في الهواء يظل عالقًا، ثم يصعد عليه القديس ويعود وفي يده أشلاء ابن عاق لا يفتأ أن يعيده القديس إلى الحياة! وأمثال تلك الخرافات عديدة، بحيث يخيل للإنسان أن كل شيء مهما بدا معجزًا يمكن حدوثه في تلك البلاد المحوطة بالأسرار.
وعقلاؤهم يمضون وقتهم في التفكير العميق، ويُضنون أجسادهم في سبيل تغذية نفوسهم، فتقتصر أمانيهم على خرقة تستر العورة، وطعامهم لا يتجاوز سد الرمق، وغُلاتهم من مختلف المذاهب يسمون «الفقراء»، ويقدسهم مواطنوهم؛ لأنهم نبذوا الدنيا ورغبوا في الآخرة، فبعضهم يعذب نفسه وينام على القتاد، والبعض يخزم ظهره ويُعلَّق من جسده في الهواء طويلًا؛ استرضاءً للإله سيڤا، والبعض يدفن نفسه حيًّا، أو يرفع ذراعه إلى السماء حتى تتصلب عضلاته، أو يقف طوال حياته وهو يرعش جسمه ولا يتكئ على شيء يخفف من آلامه! وتميز كل أولئك جدائل من الشعر ترسل في غزارة منفرة.
ولا يفوتني أن أشير إلى مبلغ الجهل المطلق والفقر المدقع الذي كنت ألمسه في كل نواحي الهند، حتى كدت أشك فيما قرأته طويلًا عن تلك البلاد وما فيها من منابع للثروة وللعلم لا تنفد؛ فالأمية هناك عامة، والجهل منتشر. وقد ساعدت على ذلك عوامل من بينها: تعدُّد اللغات، وتعدد حروف كل واحدة — بين ٢٠٠ و٥٠٠ حرف — وتعدد الطبقات، وتعدد القرى وتفرقها بحيث يصعب أن تزود بالمدرسين. إلى ذلك عدم الرغبة في تعليم النساء — وهن نصف السكان تمامًا — وكذلك طبقة المنبوذين؛ مما أخرج من دائرة التعليم نحو ١٥٠ مليونًا بين منبوذين ونساء. إلى ذلك إعراض الأمراء عن تعليم الأفراد؛ خشية أن يثوروا عليهم، وعدم توافر المال للإنفاق على التعليم.
على أنَّا يجب أن نذكر أن مدنية الهند بدأت قبل المدنيات الأوروبية؛ وإن ظل سيرها بطيئًا، وتقدمها غير محسوس. ويرى بعض أبنائها أن مدنية الهند لها فضل على العالم من الناحية المعنوية التي تسعى وراء المثل الأعلى لا المادة، كما في الغرب. ويرى بعض الحكماء أن الهند منشأ الإنسان ومنبت فطنته؛ ففي تلال «سيواليك» الواطئة جنوب سملا وما يليها شمالًا بغرب إلى أفغانستان دفائن قيمة لفصائل بائدة من حيوان يرجع عهده إلى العصر الثالث الجيولوجي؛ وهي أكبر مجموعة كشفت لحفريات الحيوان الثديي دلت على أن شمال غرب الهند هي المنطقة التي نشأت فيها، ومنها تشعبت سلائلها إلى جميع الأصقاع؛ ولذلك أصبحت تلك الزاوية من الدنيا محط أنظار الباحثين من مختلف الأوساط العلمية، وهم يرجحون أنها مولد الإنسان الأول.