الملايو
جنة الدنيا وبستانها اليانع
إلى سنغافورة والملايو: في خمسة أيام بعد مغادرة كولمبو، أقبلنا على سنغافورة وسط الجزائر
المنثورة إزاء ساحل سومطرة إلى اليمين، وشاطئ الملايو إلى اليسار، والبلاد صخرية على
الجانبين، وبخاصة سومطرة التي بدت في شكل مخيف برُباها المعقدة التي تتعاقب كأنها عقد
من
جبال لا نهائية. وكنا نقدم ساعاتنا كل يوم حتى بلغ مجموع ما قدمناه من كولمبو ساعة ونصف،
وكأننا بذلك كنا نتعجل الأيام ونسابقها؛ إذ كنا نقارب مشارق الشمس فيبكر ميقات الظهر
كل يوم
عن سالفه.
سنغافورة (ومعناها مدينة الأسد): بدت ممدودة الأرصفة على جوانب الربى التي يتلوى خلالها
البحر في عدة أجوان مكَّنتها أن تُؤوي من السفن شيئًا كثيرًا، كل طائفة في مقصورة منعزلة
عن
الأخرى. وعلى جوانب الربى تقوم المساكن بسقوفها الحمراء المتحدرة، وتشرف عليها الحاميات
العسكرية العاتية. حللت المدينة فاسترعى نظري بها حسن القيام على طرقها الفسيحة النظيفة،
تجانبها المجاري لتصريف مطرها الوابل المستمر. والترام هناك يسير على الأرض في غير قضبان؛
يكسو عجله المطاط المصمت، وله سنجتان متجاورتان بسلكين، وهو يسير بمهارة عجيبة، ويتلوى
من
جانب إلى الآخر والسنجة لا تزال متصلة بالأسلاك. وغالب البيوت في هندسة بسيطة لا تزيد
على
طابقين، وتشرف على الطرق ببوائك ضيقة بدل الإطارين؛ اتقاء المطر، وعليها تقوم المحال
التجارية بإعلاناتها التي تكتب بالصينية والإنجليزية في شرائحَ مستطيلةٍ. وغالب السكان
من
الصينيين، يليهم الهنود، ثم الملايو. ومن الغريب أن الذين يفهمون الإنجليزية قليلون.
ويشق
الجزيرة نهر سنغافورة الصغير، تجانبه شعاب البحر الضيقة وكأنها القنوات تعبرها القناطر
الحديدية، والمتنزهات الجميلة والميادين الجذابة لا تدخل تحت حصر. والمدينة خفيفة الروح
إلى
حد يجعلها من المدائن النادرة. وفي المساء دخلت ملهًى تُعرض به بعض ألعابهم؛ أذكر منها
مقصورة الغناء الصيني؛ كأن يجلس الفتيات حول مائدة عليها الأنوار، وحولها المصابيح المعلقة
من الورق الصيني الملون. وكان يقف خلفهن قارع الطبل، وضارب الناقوس، وعازف «الرباب».
أما
الغناء فتوجُّع في غير توافق. وكانت تخفي شدة الطبول المزعجة تلك الأصوات المنفرة، ثم
مقصورة للرقص الصيني، وغالبه بحركات الأرجل والأيدي، وثالثة للتمثيل على النمط الهزلي
المصري. ولم يكن تزاحُم القوم على تلك الملاهي كبيرًا رغم رخص أجورها، وكانت تسترعي نظري
الثروة الهائلة في النبت من حولي أينما حللت، مما أيد القول بأن الملايو جنة الدنيا
وبستانها اليانع. وأخص أنواع النبات هناك «المطاط» بأشجاره الفضية النحيلة الباسقة، التي
تعد اليوم أعظم موارد الثروة هناك، على الرغم من أن أثمانه قد تدهورت تدهورًا مخيفًا،
حتى
بدأ القوم يفكرون في استبداله بغيره. وقد كانت النباتات متعددة وغلات البلاد منوعة، لكن
علو
سعر المطاط حدا بهم إلى استئصال كل ما عداه، حتى كاد شجره اليوم يسد الآفاق، مع أنه دخيل
أتى به القوم من أمريكا عقب أن كشفها كولومب، الذي رأى صبية الأمريكان يلعبون بالمطاط
الكرة، فتساءل: ماذا عسى أن تكون تلك المادة التي تبدو صماء ثقيلة، فإذا ما لمست الأرض
أضحت
جوفاء خفيفة؟! فأجابه القوم قائلين: «كاوتشو.» وأروه شجره وعصيره الذي إذا سخن جمد، وكوَّن
تلك الكور والأقراص السوداء، وكذلك رآه بتزارو فيما بعدُ في بيرو، وقد ضايقه المطر فرأى
الأهالي يلبسون أحذيتهم وأغطية رءوسهم من «الكاوتشو»، فنقلوه إلى الشرق ولم تعرف فائدته
في
مسح الكتابة إلا بعد قرنين ونصف. وفي القرن التاسع عشر، استخدم في الأنابيب، ثم صنع منه
«ماكنتوش» رداءه الواقي من المطر، بأن ألصق قطعتين من القماش بمطاط رخوٍ لين. وأخيرًا
عرفوا
كيف يخلطونه بالكبريت ليحتمل تقلب الأجواء. ولما زادت شهرة المطاط زرعه الإنجليز في حديقة
«كيو» في لندن داخل بيوت زجاجية، ومنها نقل إلى المستعمرات الشرقية، ومن بينها سيلان
والملايو. وهنا أحرق القوم أشجارهم جميعًا؛ ليخلو الجو لشجر المطاط، وكنا نرى العمال
في
المزارع يجوبون أرجاءها بمشارطهم التي يشقون بها خدوشًا تسيل منها العصارة إلى كيزان
معلقة،
ثم يجمع العامل الواحد في كل يوم محصول ٣٠٠ أو ٤٠٠ شجرة، وينقله إلى المصنع وسط المزرعة؛
ليغلي ويصير أقراصًا هي المطاط الخام. وقد كان يباع الرطل قديمًا بستين قرشًا، فنزل اليوم
إلى قرشين ونصف؛ لذلك حلَّ بالبلاد كساد لم يسبق له مثيل، وأفلس في المطاط كثير من كبار
التجار هناك، على أن البعض يرى بصيص أمل في أن هذا الرخص سيزيد الطلب على المطاط، فيعود
إلى
حالته المربحة رغم ثمنه الضئيل.
سلطنة جوهور: من ضواحي سنغافورة ركبنا إليها سيارة عبرت جزيرة سنغافورة كلها سائرة إلى
الشمال صوب الملايو، ولا تسل عن ثروة الطريق في الأدغال والغابات، بعضها غفلٌ لم تمسسه
يد
الإنسان. وهنا كدنا نذهل لتعدد الفصائل من الشجر والعشب والسرخس. إلى ذلك الحيوانات
الوفيرة، وبخاصة القردة، التي كانت تطل علينا من جميع جوانب الغابات، ويقول القوم بأن
تلك
الأماكن غنية جدًّا بالأفاعي والخفاش واليراعة وبعض الوحوش. أما طريقنا فكان يتلوى كالأفعى
وسط الغابات القاتمة. وحيث كانت تتعهد الأرض يد الإنسان، كنا نرى أشجار المطاط في صفوف
متوازية تكاد تملأ ثلاثة أرباع الأراضي. وقد مررنا ببعض المزارع وفيها بدأ ذووها يستأصلون
الشجر؛ ليفسحوا المجال لغيره؛ كالخضر والفاكهة، وبخاصة الأناناس، الذي كان يبدو نباته
وكأنه
الصبار الكبير، تتوسط كل شجيرة ثمرة واحدة في طول «كوز الشمام»، وفي لون برتقالي، وملمس
خشن
محبب، وكلما قطعت الثمرة أعقبتها غيرها، ويستمر الإثمار طول العام.
لبثنا نسير بالسيارة وسط تلك الجنة النادرة زهاء ساعتين، وبعدها عبرنا البوغاز إلى
الملايو، فدخلنا سلطنة جوهور؛ وهي إحدى ولايات الملايو التي يحكمها سلطان مسلم تحت إشراف
الإنجليز، وعندما قاربنا قصر السلطان دخلنا في مجموعة من متنزهات أُبدع تنسيقها، يتوسطها
قصر من طابقين، تمد في الدور الأسفل غرف الولائم، وعليها السمط الفاخرة، وغرف المعروضات
من
الهدايا بين فضة وذهب وأسلحة. وفي الطابق الأعلى، غرف الجلوس والنوم، وكلها على النمط
الغربي. والسلطان زوج لإحدى الأوروبيات، قلَّما يقيم هناك؛ فهو يمضي تسعة شهور خارج بلاده،
ويعيش عيشة بذخ وإسراف شديد، والناس من دونه يكاد يقتلهم الفقر. وهكذا سائر الأمراء أمثاله
في تلك الولايات؛ ينعمون على حساب الرعايا البائسين؛ فسبحان مقسم الأرزاق! وبجانب القصر
مسجد في هندسة شبه مغولية تقوم حوله أبراج بدل المآذن، وبهوه فاخر النقش والأثاث. ينزل
الإنسان درجًا من رخام إلى المغسل «الميضة» الفسيحة للوضوء. وفي عودتنا إلى سنغافورة،
زرنا
حديقة النبات ذائعة الصيت، وبخاصة في مجموعة أشجار الفاكهة الممتازة.
أبحرت الباخرة وظلت تسير خلال مجاميع الجزائر تكسوها الغابات والربى زهاء ثلاث ساعات،
مما
يقنع المرء بعظمة هذا الموقع من الوجهة العسكرية؛ فهو حقًّا مفتاح الشرق الأقصى؛ ولذلك
ليس
بعجيب أن وجدنا العمل سائرًا على ساق وقدم في إنجاز القاعدة البحرية الكبرى، رغم أكلافها
الباهظة التي لا تقل عن أحد عشر مليون جنيه. وأول من احتل جزيرة سنغافورة «السير ستامفورد
رافل» سنة ١٨١٩، وكانت تكسى بالغابات المهملة، وبها قرية حقيرة، فابتاعها الإنجليز من
سلطان
جوهور بخمسة آلاف جنيه، و١٥٠٠ جنيه كمرتب سنوي يُدفع مدة حياة ذاك السلطان. واليوم تضخم
سكانها فأضحوا ٤٢٠ ألفًا، منهم ٣١٥ صينيون، و٥٤ ملايو، و٣٢ هنود. ولكثرة التزاحم هناك،
بدأت
الحكومة تفكِّر في تحديد المهاجرة إليها. واعترافًا بفضل «السير رافل»، ترى تمثاله يزين
أكبر ميادين المدينة، واسمه ذائع في كثير من منشآتها.
أما سائر الملايو فتتألف من ولايات بعضها مؤتلف، والبعض تحت سلاطين مستقلين، وجميعهم
تحت
إرشاد الإنجليز. وأول مكان احتله الإنجليز من شبه الجزيرة مدينة ملقة، التي انتزعوها
من
هولندا، ثم بنانج؛ وهي جزيرة على الساحل الغربي. وكانت تدير كل ذلك شركة الهند الشرقية،
ثم
انتقلت للتاج البريطاني. ويغلب أن تكون الجهات التي تقام بها الحصون الإنجليزية إلى الجانب
الغربي من الملايو؛ لتشرف على البوغاز.
رسونا على بنانج: في عودتي لمصر، ويفصلها عن الملايو بوغاز ضيق يؤوي عددًا كبيرًا
من
السفن. والجزيرة صخرية يحيط بشاطئها طريق مبسوط محيطه ٢٦ ميلًا، وتُقام غالب المساكن
على
جانب ذلك الطريق، على أن بعضها كان يقوم على منحدراتها، التي يعلو بعضها إلى ثلاثة آلاف
قدم. أما الطبقة الممتازة، فتقطن الذروة التي تصلها بقطار كهربائي هوائي. ومن هنالك ينكشف
منظر البحر وشتى جزائره في رواء ساحر. ومبانيها شبيهة بتلك التي في سنغافورة، وكذلك
ساكنوها، ولعل أجملهم سحنةً: الملايو؛ فهم أقرب إلى الملامح العربية في سُمرة خفيفة،
وهم
أخف روحًا، وأكثر جاذبية من الصينيين والهنود. وتعوز الجميع النظافة. وغالبهم يبدو بجسمه
العاري البراق المنفر، وقد التصقوا بجدران دورهم في خمول زائد. ولعل للجو الرطب الحار
المجهد أثرًا في هذا. أما ضواحي المدينة فتكسوها الغابات الكثيفة، وكان أظهر شجرها النرجيل
والمطاط وبعض أشجار الفاكهة الغريبة؛ كالمانجوستين والراموندان والدوريان. ولغالبها أهداب
في ألوان مختلفة، كذلك فاكهة الخبز والأناناس وكثير غيرها. وكانت تقوم مساكن القوم وسط
تلك
الغابات شأنها في جميع بلاد الملايو على عمد من جذوع الشجر؛ لاجتناب السيول والحشرات،
وليستظلوا بالشجر الكثيف من وهج الشمس الاستوائية. وهناك حديقة للنبات شبيهة بتلك التي
في
سنغافورة. ولعل أغرب ما زرته هناك معبد الأفاعي؛ دخلناه فراعنا كثرة الأفاعي الطليقة
التي
لا تصيب أحدًا بأذى، رغم أنها كانت تسير حولنا، وتزحف فوق أكتافنا بأحجامها المختلفة،
ونقوشها البديعة، وكان كثير منها يتدلى من الأركان والمصابيح والشرفات، وعددها مائتان.
تستهلك في اليوم مائة بيضة، وهي تخرج لتمرح في الغابات المجاورة للمعبد ليلًا، وتظل طوال
نهارها داخل المعبد. وغريب أنها لا تؤذي رغم وجود أسنانها، وكنا نرى كثيرًا من جلودها
الشفافة التي انسلخت عنها معلقة في كامل طولها ونقشها. وهناك في قفص كبير أفعى بالغة
الحجم
والطول تنفر نفرات مخيفة كلما أحطنا بها. ورواد المعبد يقدسون تلك الأفاعي، ويقدمون لها
المساعدات المالية؛ إبقاءً عليها، وإجلالًا لها!
ونفقات المعيشة في تلك البلاد عالية إلى حد لا يطاق، رغم أن المرء يزهد في المقام
في جوها
المحرق القتَّال.
غادرنا الملايو وسنغافورة صوب بلاد اليابان، وبعد خمسة أيام وصلنا هنج كنج. وفي ثلاثة
أيام رسونا على شنغهاي، ثم تبعتها كوبي؛ أول ثغور اليابان، في ثلاثة أيام أخرى.