اليابان
نبذة تاريخية: يبدأ تاريخ اليابان منذ عهد الإمبراطور «كيماي تِنو» سنة ٥٤٠ ميلادية، وسبقه نحو ألف عام سادتها الأوهام والأقاصيص عن بعض الأبطال؛ إذ لم يدون عنها شيء باليقين. وفي القرن السادس دخلت البوذية البلاد، وبدأت مدنية اليابان الحقة؛ فلقد أحضر القسس من كوريا كتبهم المقدسة، ونقلوا معهم فن الطباعة، وتماثيل بوذا، وطائفة من صانعي التماثيل، وبناة المعابد، والمصورين والمثَّالين والمُدرسين، ونشروا التقويم والحساب الصيني. ولقد ساد الدين الجديد عقول البلاط حتى عدوه دين الدولة سنة ٦٢١، وعدَّ الأمير «شوتوكو» مؤسسه، على أن دين البلاد — الشنتوي — قاوم الدين الجديد في البدء، لكن سرعان ما تهادن الاثنان لما أن اعترف البوذي بالآلهة الشنتوية! نهض عندئذ الفن الياباني ونشطت العمارة، فظهرت آثارها في معبد «هوريوجي»؛ أقدم بناء أقيم من الخشب في العالم، والأثر الوحيد الباقي اليوم الذي أقيم على نمط الهندسة الكورية والصينية منذ ١٣٠٠ سنة.
وفي صدر القرن السابع، سادت الحضارة الصينية الناس جميعًا، حتى في نظام الحكومة الذي تغير من الحكم الإقطاعي إلى الملكية سنة ٦٠٣، فقسمت فروع الإدارة على النمط الصيني، ونشأت طبقة من الأشراف، على أن هذا النظام كان له خصوم، فساعدت المشادة بين الفريقين على قيام هيئة عسكرية امتازت على جماعة الزراع، واتخذت «نارا» عاصمة البلاد كلها سنة ٧١٠، وهنا ازدهر الفن؛ يؤيد ذلك التمثال الأكبر «ديابوتسو» لبوذا، ولا يزال أكبر تماثيل اليابان من النحاس، ثم الناقوس الأكبر، وكذلك أقدم كتاب خط باليابانية.
وعلى أثر ازدياد الحماسة للدين الحديث، كثرت المنشآت الدينية، واتسعت أملاكها وثروتها، تحرسها فئة مسلحة لم تلبث أن تدخلت في شئون الدولة، فلم تر الحكومة بدًّا من نقل العاصمة إلى كيوتو سنة ٧٩٤، التي ظلت مهدًا للحضارة أربعة قرون حتى كانت سنة ١١٩٢، حين أقام «يوريتومو» حكومة عسكرية في كاماكورا، فأصبح نفوذ الحاضرة الإمبراطورية «كيوتو» صوريًّا بجانبها، واختار وزراءه من زعماء عائلات خاصة طالما أدى التنافر بينها إلى قتال داخلي، وآلت سلطة البلاد إليهم، وأصبح الميكادو لا حول له ولا قوة.
أخضع «يوريتومو» البلاد جميعها، وازدهر في كاماكورا نوع من الحضارة ساذج يلائم الروح العسكرية إذ ذاك. ومن العائلات التي سادت متعاقبة فوچيوارا، طايرا (هايكي)، وميناموتو (چنچي)، ومن الأسرات الهامة عائلة «هوجو»، التي سادت مائة سنة حتى غلبتها أسرة «تيتا» حين أحرقت العاصمة كاماكورا وأعيد الإمبراطور «جودايجو» من منفاه، فزادت حركة العصيان حتى قامت حكومة «شواجن آشيكاجا» في كيوتو. وهنا امتاز العصر بالتهذيب الذوقي والرقي الفني، وانتشرت حفلات الشاي والتمثيل والرقص على نمط «نو» القديم، ونشطت التجارة مع الصين، وتزاور القسس ورجال الفن بين البلدين. وفي ١٥٤١، وصلت أول باخرة برتغالية وتبعها الإسبان، ثم أسست أول بعثة للجزويت سنة ١٥٤٩.
سادت الفوضى البلاد مائة عام حتى جاء «هيديوشي»، فهدَّأها وحاول فتح كوريا والصين سنة ١٥٩٢، لكن أهل كوريا بمعاونة الصين وقفوا في سبيله، وتبع هذا نزاع داخلي أدى إلى انتصار «أيياسو»؛ من أسرة «طوكوجاوا»، سنة ١٦١٥، وظلت حكومة شواجن تلك الأسرة ٢٥٠ سنة، استمتعت البلاد خلالها بالسلم والانتعاش، خصوصًا وأنهم أباحوا حرية الاتجار والعقائد، فشجر النزاع بين الهولنديين والبرتغال سنة ١٦٣٧، فتدخلت الحكومة اليابانية وقاومتهم بالشدة، وحرمت على الأجانب الدخول إلى بلادها حتى كانت سنة ١٨٥٣، حين أقبل الكومودور ببري من أمريكا يطالب اليابان بفتح ثغورها للتجارة الأجنبية، فأسرع الشواجن إلى الميكادو — وكان قبل مهملًا — فطلبوا منه السماح بذلك، فرفضت الحاشية وقرروا طرد الأجانب جميعًا بقوة الدايميو، فرجع الأجانب يطالبون بالتعويض عما فقدوا من بواخرَ ورعايا. ولما ظهر الشجون (كايكي) إذ ذاك بالعجز عن معالجة الموقف، تنازل عن حقوقه للميكادو الذي استعاد سلطته لأول مرة بعد أن سُلبها ألف عام.
اليابان
أصبحنا والجزائر الصخرية تنتثر من أيماننا وشمائلنا في غير حصر، وشعر اليابانيون أنهم في دارهم؛ لِمَا كان يبدو على وجوههم من بِشرٍ وكبرياء وتفاخر؛ إذ كنا نرى البواخر اليابانية تمخر عباب الماء بين الجزائر المترامية في كثرة هائلة، وكانت تبدو على ذرى تلك الجزائر الحصون العاتية، وساريات البرق اللاسلكي، وكلما أوغلنا في تلك المياه اليابانية بدت منعة المكان ذاك، الذي لن يدركه العدو كائنةً ما كانت قوته. ولا شك أن لموقع جزائر اليابان فضلًا كبيرًا في دفع غائلة الأجنبي عنها. ويحظر القوم إظهار آلة التصوير في تلك البحار. وكنت أراهم طوال المدة يتطلعون بشيء من الإكبار لوطنهم والإخلاص له؛ ذاك الإخلاص الذي أضحى مضرب الأمثال. وكم كنت أغبطهم على موقفهم هذا! وأتألم لنصيبنا من تلك العزة. بدت إلى يميننا جزيرة كيوسيو — ومعناها أرض القارات التسع — ثم تبعتها جزيرة سيكوكو (أرض القارات الأربع). وكانت تبدو مداخن المصانع العديدة شامخة في السماء. ولبثنا النهار كله والجزائر تترامى والبواخر اليابانية تمر تباعًا. أما مشاهد الطبيعة هنا فساحرة؛ جزائر تترامى في أشكال هندسية متباينة، تميزها المخاريط البركانية، وتكسوها الخضرة المدرجة، والسماء تنتثر بالسحب الخفيفة التي تنعكس عليها أضواء الغروب في بريق يستهوي القلوب، ويسمون ذاك القسم البحر الداخلي، وهو يمتد بين الجزيرتين السالفتين جنوبًا، وجزيرة هندو (القارة الرئيسية في لغتهم) شمالًا، وامتداده ٢٧٠ ميلًا، ويتسع ما بين ثلاثة أميال وثلاثين، ومجموع جزائره تناهز ثلاثة آلاف، ولعله أجمل بحار اليابان طرًّا.
أقبلنا على كوبي؛ أكبر ثغور اليابان التجارية: فبدت أرصفة الميناء ممدودة إلى الآفاق وهي تغص بالبواخر العظيمة والمدينة تقوم في حجر جبل مشرف تكسوه الغابات، وتزين منحدراته مباني المدينة في رونق جذاب، وما كدت أطأ أرضها حتى بدت الحياة اليابانية في مظهرها الفذ، فكل شيء عجيب جميل؛ الناس يسيرون في سيل دافق، كلٌّ إلى عمله بنشاطه المشهور، وأنت لن ترى منهم عاطلًا أو خاملًا، ولا تسمع لكثرتهم جلبة ولا ضوضاء، اللهم إلا قعقعة أحذيتهم الخشبية (قباقيبهم)؛ نساءً ورجالًا؛ تلك التي تسترعي الأنظار، وقد تثير السخرية بادئ الأمر، على أنها خير دافع عنهم أثر رطوبة جوهم إلى الاقتصاد في أكلافها. والعجيب أنك تراهم يسيرون بها في سرعة عجيبة وإن اعوجت مشيتهم، حتى ليخيل إليك أن في أرجلهم غمزًا. والجميع يلبسون الأردية الفضفاضة التي يسمونها «كيمونو»، وكأنها «القفطان» بأكمامه الهادلة المتسعة، وحزامه العريض، والرداء يكاد يلمس القدمين لطوله، ويغلب أن يكون من قماش خشن بسيط اللون للرجال؛ لأنهم يمتدحون الخشونة والتقشف. أما النساء ففي حرائر مهفهفة، وألوان فنية ساحرة، وتحاول كل سيدة ألا تلبس من لون سبقتها إليه غيرها؛ لذلك اضطر النساجون أن يحيكوا هذه الأقمشة قطعًا مختلفة تكفي كلٌّ لرداء واحد. ولعل أعجب ما في السيدة حزامها وشعرها. أما الحزام «أوبي» فبالغ الطول والعرض، عرضه فوق ثلث المتر، وطوله أربعة أمتار إلا قليلًا، يلف حول الجسم مرتين، ثم يربط الباقي فوق الظهر في شكل منتفخ كأنه الفراش بديع اللون، على أني خلته بادئ الأمر وسادة تحملها السيدة؛ كي تتكئ عليها إذا ما جلست! وما كان أشد خجلي عندما سألت أحدهم: لماذا تحمل السيدات تلك الوسائد الثقيلة؟! فخبرني أنه رباط الزينة والتجمل! وقد علمت أن متوسط ثمنه لا يقل عن عشرة جنيهات.
والنساء سافرات وليس بينهن كواعب قط، ورءوسهن عارية يكسوها تاج طبيعي من شعر أسود براق ثقيل يعنون بتنسيقه العناية كلها، وهو الذي يعد مقياس الجاه والجمال، وتراه يكور ويطوى فوق شباك من السلك في أشكال هندسية عجيبة جذابة تختلف باختلاف الطبقات والأعمار، والأغنياء يستقدمن الماشطات في كل أسبوع لتعده. ولا يقل أجرهن عن جنيه. وتظل شباكه الأسبوع كله أو تزيد.
أما الوجوه فمصفرة اللون، منحرفة العيون، ويغلب أن يستخدمن الأدهنة البيضاء لا الحمراء، وجمال الوجوه نادر وإن كانت الرشاقة والجاذبية بالغة حدًّا كبيرًا؛ يزيدها حسنًا ذاك الهندام العجيب في ألوانه الرقطاء الزاهية، وتلك المشية التي تخب بها السيدة وكأنها البجع الساحر.
قمنا بجولة في جهة ريفية تسمى «أراشياما» في قاطرة كهربائية سلكت طرائقَ متلويةً تحوطها الغدران والتلال، تجللها الغابات في مناظرَ ساحرةٍ شأن سائر الريف هناك. وأخيرًا حللنا القرية التي تقوم على جدول ماء يتلوى يمنةً ويسرةً وسط الرُّبى الشاهقة، تتخللها البيوت من خشب في شكل نظيف أنيق، وبعض أجزائها تُتَّخذ حوانيت ومقاهي صغيرة. وكنا نرى السلع تعرض وعليها أثمانها، فيمر الواحد ويتناول ما يريد ويلقي بدريهماته في صندوق مغلق في غير حاجة إلى رقيب، فانظر مبلغ الأمانة وثقة القوم في طهارة أخلاقهم! أخذنا زورقًا وذهبنا في الغدير بعيدًا وسط الخضرة الوفيرة والجنادل والمنحدرات تحوطها الزهور. وهكذا طبيعة اليابان في كل ناحية منها، فليس بعجيب أن يقدرها أهلها ويعشقوها؛ بل ويعبدوها! فتراهم يخرجون متجولين في هدوء شامل، وخيال سارح، وهم ينقلون عنها أسماءهم؛ إذ تراهم يحملون اسم جبل شامخ، أو ذروة سامقة، أو حقل ممتد، أو مرج جذاب؛ كذلك فهم يقدسون المكان الجميل، فتقوم عند مدخله أقواس من خشب هي شعار التقديس لديهم، ولا يخلو مكان جميل من معبد؛ لأنهم عبدوا طبيعة بلادهم الطاهرة. ويخال بعضهم أن تقديسهم لوطنهم أثر من آثار جمال بلادهم التي استمالتهم فعبدوها وقدَّسوها. إلى ذلك الزهور التي نبغوا في تنميقها وترتيبها حتى الأطفال منهم، فلهم في تنسيقها نظم تختلف باختلاف البيئات والمناسبات، فكل تصنيف منها يدل على معنًى خاص يفهمونه لمجرد النظر إلى باقة من الزهر، وهي في مقدمة ما يتعلمه النشء في المدارس، وبخاصة الفتيات. ولا يكاد يمضي شهر، لا بل أسبوع، لا ترى به طائفة جديدة من زهور، وهم لذلك يحبذون الحساب بالتقويم الزهري، فتراهم يؤرخون الخطاب مثلًا بزهرة كذا بدل كتابة التاريخ؛ لأن لكل أسبوع طائفة خاصة من زهور يعرفها الجميع.
آوينا بعد تلك النزهة الساحرة إلى نزل ياباني، وما كادت تقف بنا السيارة أمامه حتى أسرع أصحابه؛ رجالًا ونساءً، ملاكًا وأتباعًا، يتقدمهم رئيسهم لاستقبالنا، شأنهم مع كل ضيف، وصاحوا جميعًا صيحة ترحيب أعقبتها سلسلة انحناءات عاجلة متكررة تكاد تلمس فيها جباههم الأرض؛ احترامًا وتأدبًا! والعادة أن يرد الضيف التحية بأحسنَ منها؛ وإلا عد ذلك من سوء الأدب، فأخذنا ننحني مرات كنت خلالها موضع سخرية أمام نفسي؛ لأني لم أكن أعرف كيف تكون وما حدودها! بعد ذلك تقدمنا نحو المدخل، فراعنا صفيف «القباقيب» والأحذية على جانبيه، وكلها لنزلاء الدار؛ إذ يجب خلع الأحذية جميعًا أمام البيوت والفنادق، فخلعنا أحذيتنا وناولتنا الفتاة «خفًّا» من الخوص وكلها صغيرة الحجم؛ لأن أقدامهم أصغر بكثير من أقدامنا، أخذنا نسير به في دهاليز الدار، وكلها تقام من خشب يطلى بأدهنة براقة غاية في النظافة، ويهتز تحت أقدامنا، وكان النزل من طابقين. ولما أن وصلنا غرفتنا خلعنا الخف أمامها، ودخلنا غرفة صغيرة تفرش أرضها بقطع من الحصير السميك الطري يحوط كل واحدة إفريز أسود، ولا تكاد ترى داخلها من الأثاث إلا منضدة واطئة في الخرط الياباني حولها الحشيات «الشلت» الوثيرة يجلس القوم عليها ركعًا طوال الوقت، وخلف الضيف مقصورة هي لديهن موضع التجلة والتقديس «توكونوما» بها «ڤاز» ثمين يملأ بالزهر المناسب للمقام، ويغلب أن تطل الباقة نحو الضيف؛ علامة الترحيب به، وهم يقرءون في كل باقة معنى جديدًا لمجرد النظر. وعند المدخل حاجز «باراڤان» قصير أنيق، وتتدلى من الجدران ألواح مصورة «كاكيمونو» برسوم يابانية ثمينة. أما النوافذ فمعدومة؛ لأن جانب الحائط ينفتح كله بالانزلاق وراء الذي يليه، بحيث يمكن أن تصبح الحجرة شرفة «بلكونة»، أو تزال فواصل الحجرات كلها، فتظهر اللوكاندة كلها بهوًا واحدًا. كذلك الحالة في مساكنهم جميعًا في الريف والحضر.
أخذنا مجلسنا «القرفصاء» من المائدة، فتقدمت منا فتاة بكوبين صغيرين من شراب أخضرَ — يعتقدون أنه قاتل للعطش — لم يرقني طعمُه، وعلمت أنه مسحوق الشاي يُغلى في الماء، ثم دنت منا فتاة ثانية وبيدها سلة صغيرة من خيزران (بامبو)، وبها قطيلة (فوطة) مبللة بماء مغلي يتصاعد منه البخار، فتناولناها ومسحنا بها وجوهنا وأيدينا، فشعرنا بانتعاش كبير في ذلك الجو الحار، وتلك تقدم في كل مكان حتى في المحال التجارية. وبعد هنيهة أقبلت فتاة أخرى تحمل الشاي الياباني المخفف الذي لم يكد يصفر ماؤه، والذي يتناوله الجميع بدون تحلية قط (بدون سكر) في قعاب صغيرة مكورة من الخشب الياباني الثمين (اللاكيه)، وما كاد يستوي بنا المجلس حتى أقبلت الفتاة تهمس في أذني، فلم أفهم اليابانية، فخبَّرني صاحبي أنها تريدني أن أخلع بدلتي لأرتدي «الكيمونو»، فقمت وهي تلازمني وتتقدم بنفسها لتخلع عني ملابسي وترخي الكيمونو على جسدي. وكان يملكني الحياء لولا ما رأيته من جرأة صديقي الذي علمتُ منه أن لا حرج في ذلك؛ فتلك عادة القوم هناك. ولما أن عدت إلى المائدة أقبلت فتاة الحمام تقول إنها أعدته لي، فقلت لصاحبي: لا حاجة لي به. ولكن علمت أن ذلك ينافي طباعهم؛ إذ هم يرونه فرضًا على الجميع أن يستحموا مرة أو اثنتين في اليوم. قادتني هي وجمع من صويحباتها إلى الحمام. هنالك دخلت غرفة صغيرة صفَّتْ بها الحشيات والتكآت للاستراحة قليلًا بعد الحمام، ومن داخلها حوض الحمام من خشب نظيف يملؤه ماء ساخن جدًّا في درجة حرارة تتراوح بين ٤٠ و٥٠م، وإلى جانبه مقاعد صغيرة من خشب وأكواز ومناطيل خشبية. وقفت الفتاة وانتظرتُ في حيرة حتى تخرج لأوصدَ الباب، فما كادت تجتاز الباب إلى الخارج حتى أسرعت بغلْقه، لكني لم أجد به ما يحبسه عن الفتح فخلعت ثيابي، وإذا بالفتاة تدخل وتنظر إليَّ كأنها تريد أن تخدمني في شيء! فجلست خجلًا إلى جوار الحوض. ولما أن أدركتْ ما كنتُ فيه من ربكة خرجتْ، فأسرعت بدعك جسمي بالصابون، وما كان أشد دهشتي حين دخلت مع زميلات لها وكأنها شكتني إليهن! فما كان مني إلا أن رميت بنفسي في الحوض رغم مائه المحرق! هنا علتْ صيحة الضجر منهن وأسرعن إلى الخارج، ولم أدر ما الخبر، فعجلت بالخروج وإذا بالهرج قد زاد وعلا! وعلمت بعدُ أنني ارتكبت خطًا فاحشًا؛ لأنه لا يجوز النزول في الحوض؛ مخافة تدنيسه! فكانت مني اعتذارات لا أظن أنها كفَّرت لديهم عن سيئتي هذه؛ لأني حرمت الاستحمام كل نزلاء اللوكاندة سحابة اليوم حتى يطهر ويجدَّد ماؤه! وعجبت إذ علمت بعدُ أن رؤية الأجساد عارية من الجنسين أمر طبيعي لا غبار عليه عندهم! فالفتيات يناولن الرجال ما يطلبون، ويغسلن لهم ظهورهم وهم عرايا! وكثيرًا ما يغتسل اليابانيون؛ نساءً ورجالًا، أمام بيوتهم في جانب من الطريق لا ينظر إليهم أحد، خصوصًا بين الطبقات الفقيرة. وقد كانت الحمامات العمومية خليطًا من الجنسين معًا. ولما أن كثر نقد الأجانب لهم أمروا بوضع حبل يفصل بين ناحية النساء والرجال! أمر نراه نحن شائنًا وهم يرونه عاديًّا لا يقع بسبب فساد قط! ولا يأمن الغريب وهو في الحمام أن يطل عليه الجميع من شقوق الجدار الخشبية، خصوصًا وأنهم يعجبون لأجسادنا الطويلة، وسحننا الغريبة عنهم. ويستنكر الأجانب رؤية أجساد اليابانيين أو اليابانيات عارية، على أن اليابانيين يرون ذلك أمرًا طبيعيًّا؛ فهو مهدئ للميول الجنسية التي تبدو واضحة في غالب الأوروبيين. حدث مرة أن نادى أحد القناصل خادمه الياباني فجاءه يرتدي قميصًا ونصف جسمه الأسف عار! وكان في مجلس القنصل بعض السيدات، فنفر من هذا وطرد الخادم لوقته.
عدت إلى المائدة فأحاطت بنا الفتيات يحاولن مسامرتنا، وتلك عادتهم في كل مكان حتى في البيوت؛ إذ يجلس حول الضيف فتيات الدار يسامرنه؛ إمعانًا في التأدب والتظرُّف، وفي عرفهن لا يجوز أن يترك الضيف وحده لحظة واحدة حتى يحين وقت النوم. ولما كانت ساعة الطعام، أقبلتْ الفتيات يحملن القزامير (الصواني) الصغيرة من الخشب اللامع، عليها الأواني المكورة الصغيرة من خشب براق، وفي مقدمة الجميع «برميل» نظيف من خشب يملؤه الأرز المسلوق.
ملأت الفتاة لي آنية الأرز وسلمتنيها وفيها عصوان دقيقتان أتناول بهما الطعام، وكان أول صنوف اللحم قطعًا من سمك نيِّئ عليه قطع الثلج، لك أن تغمس القطعة قبل تناولها في سائل أحمر قاني حريف كالخل. وما كنت أخاله نيِّئًا، فما كدت أعض على قطعة السمك حتى عافتها النفس، وجزعت جزعًا شديدًا، وآثرت أن أزدردها صحيحةً لأنجو من رائحتها وفساد طعمها، ثم تبعها صنف من حساء السمك البارد، ثم الساخن، ثم شواؤه؛ فنوع يحكي «الجنبري» إلى جانب شيء كالبطاطا الحلوة، وبعض الأعشاب، أخصُّها أعشاب البحر التي يحبون رائحتها المنتنة، والخضر (المخللة). كل هذا نتناوله في مجاورة الأرز الذي كلما فرغ إناؤه عجلت الفتاة بملئه من جديد. ولما انتهى اللحم قدم صنف من الفالوذج — مادته من الأرز — لا تكاد تحس حلاوته، ثم أعقب ذلك بعض الفاكهة؛ وكانت من خوخ، ونوع آخر لم أره من قبلُ وكأنه قرون البازلاء البالغة. وخلال كل ذلك كانت الفتاة تملأ لنا كأس النبيذ الياباني (الساكي) الذي يتخذه القوم مع الأرز في طعمه المنفر، وتعيد الكرة مثنى وثلاث ورباع، وبين آونة وأخرى يجب علينا بعد احتسائه أن نغسله بالماء ونملأه، ثم نُقدِّمه للفتاة فتشربه، ثم تعود فتغسله هي وتقدِّمه لنا ثانيةً. وتلك من آداب المائدة لديهن لا يصح إغفالها. وفي نهاية الطعام، نُبقي في آنية الأرز قليلًا ونصب عليه الشاي ونرتشفه بصوت مرتفع منفر علامة على ختام الطعام، فترفع «الصواني» ويقدَّم الشاي المرُّ نشرب منه ما نشاء. موقف ساحر حقًّا لولا ما كان يحوطني من ارتباك شديد في أداء التحيات المتكررة على الوجه الأكمل، وفي استخدام العصي بدل الملاعق والشوك؛ فهي تتطلب مرانًا طويلًا. وكان في الغرفة المجانبة لنا قوم لعب «الساكي» بعقولهم — والياباني سريع التأثر بالخمر على خفته — فأخذوا يصيحون ويغنون وهم جلوس وأمامهم «الصواني» الصغيرة، والفتيات يعزفن على الآلات الموسيقية اليابانية (الشامسين) شبيه «الطنبور» الكبير برقبته الطويلة و«قصعته» المربعة، وله ثلاثة أوتار منفردة رنينها يحكي رنين المزهر (العود) القوي. والعزف يكون بقطعة من خشب كالمروحة، وهذه لا يكاد يخلو منها بيت أو منزل. والقطعة الثانية تحكي «القانون» من ثلاثة عشر وترًا منفردًا، ويسمى «كوتو»، والأنغام متشابهة بسيطة في غير تعقيد، على أنها تعوزها الجاذبية. أما أغانيهم فمنفرة للغاية، حتى الفتيات اللاتي يهززن في أصواتهن بتقطيع منكر وكأنها أصوات الماعز وهي تُمَأمِئ.
اعتزمت الارتحال فودعنا الجميع بأدبهم الجمِّ، ثم قدم لنا رب النزل هدية صغيرة منديلًا منقوشًا يلف في غطاء من ورق أبيض صقيل، يربط بشريط نصفه أبيض والنصف أحمر، وفي عقدته قطعة من سمك مجفف تيَمُّنًا. ومثل تلك الهدايا يتبادلها الجميع كلما تزاوروا في مناسبات كثيرة، ويغالي بعضهم حتى يبيح الاستدانة كي يؤدي هذا المظهر من الكرم؛ ولذلك كثرت المحال التجارية الخاصة ببيع تلك الهدايا.
عدنا إلى كوبي وتفقدنا بعض معابدها، وجلها متشابه تعوزه الفخامة. ومن أجلها معبد القمر في قمة ماياسان (ومعناه الجبل المحترم)، ويتوجون بتلك الكلمة (سان) كل الجهات الطبيعية الجميلة. وهذا المعبد في ذروة الجبل المشرف على المدينة تسلقناه بترام هوائي كان يديره سويسريون إلى أمد قريب، واليوم يديره اليابانيون بعد أن استغنوا عن معونة الأجانب، شأنهم في جميع المنشآت الكبيرة الأخرى؛ لذلك ترى الأجانب حانقين عليهم! من هذا العلو الشاهق بدت المدينة ممدودة على شاطئ البحر في رواء بالغ، وكنا نرى مبانيها على بعد تتصل بضواحي أوزاكا؛ أكبر البلاد الصناعية. وفي نهاية الترام كثير من المقاهي والمطاعم زهيدة الأسعار، رغم نظافتها التامة، وفخامتها الرائعة، حتى إني تساءلت عن سبب ذلك، فعلمت أن الجهة يعدها الجميع متنزهًا شعبيًّا يُشجِّع الفقراء على حب الرياضة والاستمتاع بالطبيعة. وللناس أن يستأجروا خيامًا زهيدة الأجر للمبيت فوق منحدرات الجبال حيثما شاءوا. من هنا بدأنا بصعود الدرج الموصلة للمعبد — وعددها ثلاثمائة — وسط الأدغال والنبت الوفير. كابدنا كبير المشقة في ارتقائها، فكان لنا في سحر المناظر هنالك خير عوض عما صرفناه من عناء وجهد، ويحج إلى هذا المعبد نحو ثلث مليون في السنة؛ إجلالًا لتمثال صغير لأم بوذا. وعندما أظلم الجو، بدت المدينة من دوننا تحكي بسيطًا من الجمر المتلألئ أو قبة السماء، وقد انقلبت نجومها فبدت من تحتنا، وكانت ثريات الخط الكهربائي تبدو كالعقد الرائع البديع.
وفي المساء، زرت بعض دور الملاهي، ولعل أحبها لديهم الخيالة (السينما) التي لا يكاد يخلو منها شارع، وللقوم بها ولوع شديد. وأعجب ما يسترعي النظر بها رجل يقف بجانب اللوحة، ويشرح باليابانية في صوته المنفر كل ما يعرض من المناظر. وكان سبب ذلك عرض أفلام أجنبية، لكنهم يتبعون نفس الطريقة رغم أن غالب الأفلام اليوم تصنع في اليابان، وتكتب إيضاحاتها باليابانية. وقد يرفع الستار عن مسرح يظهر فيه فتياتهن وهن يرقصن ويغنين، وقد يمثلن روايات بلباقة لا تنقص عن الأوروبيات، رغم أنه لم يسمح للنساء باعتلاء المسارح هناك إلا قريبًا.
ومن أكبر دور الملاهي التي زرتها ملهى «تكاراسوكا» في قرية بين كوبي وأوزاكا يتسع لألف وخمسمائة، وهو فاخر إلى حدٍّ كبير، على أن أجوره زهيدة للغاية؛ رغبةً منهم في الترويح عن عناء الفقراء. وكأنه مدينة صغيرة تمون أهلها بكل شيء من مطاعمَ وملاعبَ وحدائقَ وحماماتٍ وما إليها. والتمثيل فيه على النظام الحديث في الغالب، والممثلات كلهن فتيات، وقد يلبسن أثواب الرجال، وقد يمثلن على أنغام الموسيقى. وأجمل ما هناك الأزياء الخلابة، وسرعة تغييرها، رغم الكثرة الهائلة في عدد الممثلات، كما أن مشاهد المسرح رائعة، وأضواءه خاطفة؛ مما يشهد لهم بالتقدم العجيب.
ومما أدهشني في هذا المجتمع الهائل ميل الناس إلى الهدوء، وبخاصة الأطفال؛ فقد كنت أرى السيدات يحملن أطفالهن وقد رُبطوا إلى ظهورهن، فلا يكاد يُرى منهم سوى رأس ناتئ — وتلك عادتهم في حمل الأطفال — ولم أكد أسمع همسًا طوال الوقت. والمعروف عن الياباني أنه هادئ الأعصاب، بارد الطبع. ويظهر أن تلك فطرته منذ طفولته؛ لذلك لا تكاد تسمع لسيل الناس الدافق في الطرق من جلبة، اللهم إلا قعقعة «القباقيب». هذا إلى صفير السيارات ودوي الراديو المنبعث من غالب المحال التجارية.
أذكر أنني تركت آلة التصوير هنا بين فصول الرواية، ولما عدتُ لم أجدها، فأبلغت الأمر لرجل البوليس، وهنا رأيت عجبًا؛ إذ عرَتِ الرجل هزة قومية، وساده هو وإخوانه اضطراب وخجل، وأخذ يدافع عن اليابان ويعتذر للحادث بأن عامة الناس هناك من طبقة العمال؛ فقد يسفُّ بعضهم إلى حد السرقة، على أنه أكد لي أنه لا يمكن أن يضيع شيء في بلاد اليابان، وأنه سيرسل إليَّ الفوتوغرافية قريبًا أينما كنتَ، بعد أن أخذ عنواني وهو مضطرب متألم؛ لأن في ذلك جرحًا للعزة اليابانية التي يقدسها الجميع!
عدنا إلى كوبي وتجولنا في إحدى أسواقها «موتوماتشي»، الذي لا يكاد المرء يشق طريقه وسط جماهير الغادين فيه والرائحين، وأجمل ما يرى في المساء حين تضاء مصابيح الأسواق في بوابات من حديد ترص عليها الثريات الكبيرة في تلألؤ شديد، إلى ذلك أضواء المحال التجارية بمفروشاتها اليابانية الجذابة؛ وهذه تظل إلى ساعة متأخرة من الليل، وفي فروعه أزقة تحكي خان الخليلي عندنا يلذ للمرء التجول فيها طويلًا؛ لغرابة المناظر، وجمال الألوان، وشدة بريق المكان ونظافته. وهناك دار وطنية للسينما يجلس المتفرجون فيها على الحصر والحشيات (الشلت) على نظام البيوت اليابانية.
أما طوكيو العاصمة، فقد دمر الزلزال نصفها، وأهلك من أهلها ٥٨ ألفًا، وكبدت خسائر بنحو خمسمائة مليون جنيه. وقد أنفقت الحكومة على تعميرها وإنشائها من جديد فوق السبعين مليونًا.
عدت إلى يوكوهاما، ومنها إلى طوكيو؛ حاضرة البلاد، فوصلتها في ثلثي ساعة، ووسائل النقل إليها متعددة، وفي إتقان ودقة ونظافة، ترى المقاعد وقد أُعدَّت بالفرش الوثيرة، بعضها يسير بالبخار، والبعض بالكهرباء؛ وهذه تكاد تعم البلاد كلها في كثرة هائلة، وأجور زهيدة جدًّا. هذا إلى الترام والأتوبيس والسيارات. والحق أن وسائل النقل في اليابان كلها مما يدعو للإعجاب والإكبار؛ فهي ترعى صوالح الجمهور، وتوفر له الراحة التامة، والأمن المكفول؛ فترى في المحاطِّ كافة وسائل الإرشاد والهدى من خرائطَ ومصابيحَ. إلى ذلك عناية حارس القطار وأدبه الجم، فعندما نقارب كل محطة يستأذن ويدخل العربة، ثم ينحني ويرفع قبعته احترامًا، ويخاطبنا في بشاشة قائلًا: سادتي، نحن مقبلون على مكان كذا. وقبل مبارحته العربة يدير لنا وجهه وينحني ثانيةً ثم يخرج. إلى ذلك كنت ألاحظ أدب سائقي السيارات، فلا يمر أحدهم على زميله دون أن يحييه بانحناءاته الوديعة، وهو يتقبل منك ما تعطيه أجرًا مهما قلَّ، ولا يناقشك قط؛ بل يصيح قائلًا: «آريجانوسان.» أعني شكرًا سيدي المحترم. ويشيعك بانحناء وابتسام، وإن سألت أحد المارة شيئًا بالَغ في خدمتك وإكرامك، فإن لم يفهمك استرشد بغيره في الحال. أدبٌ جم وتسامحٌ جميل امتازت به اليابان على سائر الشعوب.
هداني تجوالي في المساء إلى شارع «جنزا» بأضوائه الخاطفة، وتنسيقه الياباني الخلاب هو متنزه الشباب، ومحط سروره، حوى ٣٤٨ من الأنزال والملاهي ومشارب الشاي وما إليها، إلى ذلك بعض المحال التجارية تعرض بها المستحدثات التي تروق الشباب. ولن أنسى قعقعة «القباقيب» ولا سحابات الفراش الآدمي في ألوانه الجميلة. ومن المقاهي ما هو ياباني ترى الأحذية والقباقيب وقد صفَّت أمام الباب؛ إذ يجب خلعها قبل الدخول. ولعل أكبر مميزات هذا الشارع الباعة الرحل الذين يفترشون الإطارين بسلعهم طوال الطريق، وهي نفائس الصناعات اليابانية الصغيرة التي تدل على مهارتهم الكاملة، خصوصًا إذا علمت أن غالبها يصنع في البيوت — كلُعَب الأطفال وأشغال الورق والغاب وما إليها — وإذا ما انتصف الليل عكف كلٌّ يطوي معروضاته قطعة قطعة بثبات وصبر غريب، ثم يحملها إلى بيته ليعيد الكرة في الغد. نشاط وصبر إلى نظافة وتقشف امتاز بها الياباني فكان مزاحمًا قويًّا لزميله الأمريكي والأوروبي.
قصدت قصر الإمبراطور، وهنا تجلَّت العظمة بأجلى معانيها، هو شبه قلعة مشرفة كأنها الجبل يحوطها خندق تعبره القناطر تؤدي إلى القصر، وهندسته مزيج من اليابانية والصينية في طابق واحد، وسقوف منحدرة خشبية تتقوس أركانها إلى السماء. ولا يباح لأحد دخول القصر ولا تصويره؛ تقديسًا له وللإمبراطور ابن السماء. حدث أني كنت أحاول أخذ صورة، فلم أشعر إلا وفارس قد أقبل مسرعًا وأخذ الفوتوغرافية، وأفسد الفلم بيده وهو يعتذر بأن ذلك غير مباح، وتركني بعد أن بشَّ في وجهي وانحنى تأدبًا. أما الميدان الذي يتقدم القصر فعظيم لا يعرف مداه، وتقوم عليه حول القصر كثير من دور الحكومة في قصور سامقة، أخصُّها دار البرلمان في هندستها الغريبة، ووزارة الحربية والبحرية بأعمدة اللاسلكي تسامت السماء، وتهول الناظر بضخامتها، وتتناثر هنا وهناك تماثيل عِلْيَتِهم ممَّن أبلَوا للوطن البلاء الحسن.
وتقديس القوم للإمبراطور يثير الدهشة؛ فكل شيء هناك يتلاشَى إلى جانبه؛ فهو مطلق التصرف في البلاد، وسلطة البرلمان ضئيلة أمامه، خصوصًا فيما يختص بالمالية والشئون الحربية، ومجلس الوزراء مسئول أمامه فقط، وهو الذي يعين رئيسه. ولا يشترط اختيار الوزراء من رجال الحزب السائد في البرلمان، ووزيرا الحربية والبحرية يقابلان الإمبراطور رأسًا، ولا يسقطان بسقوط الوزارة.
وقلما يخرج الإمبراطور ليراه الناس، وإن حصل ذلك أغلقت جميع النوافذ على جانبي الطريق؛ حتى لا ينظر إليه أحد من عَلٍ! ويصطف الناس وعيونهم إلى الأرض، ولا يجرؤ أحدهم النظر إليه مهما علت مرتبته! ويقف البوليس وظهره إلى الإمبراطور، ويجب على مصلحة الصحة أن تطهر الطريق كلها قبل مروره. وقلما يحضر الإمبراطور بنفسه الولائم والحفلات الرسمية التي تقام في القصر ويحضرها كبار الأجانب وسفراؤهم، ويغلب أن ينيب عنه أحد الأمراء. وقد يطلع عليهم وهم وقوف في صف ويرفع لهم يده، حتى قيل: إن غالب السفراء لا يطيقون ذلك رغم أنها من تقاليد البلاد.
فليس بعجيب إذن أن يخلق هذا حكومة مركزية مدعمة الأركان في أمد وجيز، فإلى سنة ١٨٦٨ كانت اليابان مقسمة إلى إقطاعات تحت إمرة «الديميو»، الذين كان يرأسهم «الشواجن»؛ أي الحكام العسكريون، وهم حكام اليابان الحقيقيون. وكانت أسرة «توكوجاوا» هي السائدة خلال ٢٥٠ سنة، وكانت من قبل من أسرات «الديميو». أما الإمبراطور فكان في كيوتو كأنه سجين لا دخل له بالسياسة. وفي منتصف القرن التاسع عشر، بدأت حكومة الشواجن تضمحل بسبب سوء الحكم وبَدْءِ تدخل الأجانب الذين هددوا استقلال البلاد مذ أرغموهم على فتح ثغورهم للأجانب سنة ١٨٥٤، فبدا جليًّا «للساموراي»؛ مديري المقاطعات من قِبَل زعماء الإقطاع، أن تغيير الحكومة واجب إذا أرادوا المحافظة على استقلال اليابان، فأغروا الزعماء من الدايميو الذين كانوا حانقين على «الشواجن»، فثاروا جميعًا بزعامة أسرتي «تشوشو، ساتسوما»، الذين ناشدوا رجال الحرب أن يخلعوا نِير الشواجن ويعيدوا للإمبراطور سلطته، فنجحوا وبدأ العصر الجديد سنة ١٨٦٨، حين تسلم الإمبراطور «ميجي» الأمر بعدما حُرِمَتْهُ الأسرة تسعمائة سنة. وفي ١٨٧١ زال حكم الإقطاع تمامًا، وسلم الدايميو بلادهم، ثم تنازلوا عن جميع امتيازاتهم المالية الموروثة بمحض اختيارهم، رغم عدم وجود موارد أخرى لهم. وهنا تبدو متانة الخلق الياباني في التضحية والإخلاص؛ إذ تركوا صوالحهم الذاتية وتعاونوا على معاضدة النظم الجديدة لصالح اليابان. أما الشعب فلم يقم بشيء إيجابي قط.
على أن جماعة الجنزو؛ ممثلي عهد الإقطاع اليوم، بدءوا يشعرون بمناوئ قوي اليوم؛ هو نفوذ رجال الأعمال التجارية والمالية والصناعية، خصوصًا في طوكيو؛ المركز المالي، وفي أوزاكا؛ المركز الصناعي، وكثير من أولئك من سلائل الساموراي وأسرة «متسوي»؛ أغنى الجميع، وهي تشتغل تحت إرشاد الحكومة. وقد بدأ نفوذها يؤثِّر في الحكومة، ويسود رجال الهيئة العسكرية؛ لذلك بدأت تنتعش سلطة المجلس الأدنى الذي يستمد المال من تلك الهيئات الصناعية لمناهضة رجال الحرب، وقد نجحوا في إسناد الوزارة إلى «كاتو»؛ من نصرائهم، سنة ١٩٢٤؛ لذلك كان يطلق عليها «حكومة متسوبيشي». هذا وقد أدى نمو الصناعة إلى الدعاية الاشتراكية لصالح العمال، وبدأ يظهر أثر هذا في التحفز للإضراب وفي النزاع الذي بدأ بين المزارعين والملاك، على أن الحكومة تقاوم كل ذلك مقاومة فعالة، خصوصًا وأن غالب الصناعة ووسائل النقل تحت إشرافها المباشر.
وتمتاز طوكيو بمتنزهاتها الكثيرة. زرت فيها متنزه «هيبيا» عظيم الاتساع، وفير الزهور، وبخاصة «الأزاليا»، ويجد القوم فيه مكانًا صالحًا للنزهة واللعب؛ ولذلك ترى أدوات اللعب كالصوالج والأراجيح وما إليها منثورة في أرجائه الفسيحة، كذلك متنزه «شيبا»، ويشتهر بمدافن أسرة طوكوجاوا من الشواجن، وبعضها فاخر النقش في الخرط الياباني الغريت، وأغشية الذهب والفضة في إسراف لا يفوقه سوى مدافن نكو.
ولعل أكبر المتنزهات وأجملها «وينو»، تزينه أشجار الكريز بزهرها الجميل، وفي داخله كثير من الملاعب، إلى ذلك حديقة الحيوان المتواضعة، ودار الكتب، والمتحف الفني، والمتحف الإمبراطوري؛ وهذا أهمها وإن بدا صغيرًا قليل المعروضات بالنسبة لمتاحف أوروبا، ومجاميعه في الطابق الأعلى رسوم خيالية مطرزة على ستائر ثقيلة، ثم منتجات اللاكيه المرصع بالصدف وجدائل الذهب في إتقان كبير. وفي الطابق الأسفل تعرض الأدوات النحاسية والخشبية، ثم الزجاج والخزف والأحجار الملونة، ثم تماثيل كبيرة لبوذا وحراسه وعفاريته، بعضها من ذهب وفضة، والبعض من خشب. إلى ذلك بعض الأسلحة القديمة والنقود، على أن الفن يعوز غالبها، وفقر المعروضات لا يكشف للقوم عن ماضٍ مجيد قط؛ فهم لم يرثوا عن آبائهم من عظمتهم الحالية شيئًا؛ مما يزيدهم إكبارًا وفخرًا.
قصدت إلى متنزه «أساكوسا»، وفي مدخله معبد شعبي لآلهة الرحمة، نصل إليه وسط طريق صفت على جانبه الحوانيت بمعروضاتها اليابانية الجذابة، ومصابيحها الورقية الملونة، وشرفاتها الخشبية، وأنت تذهل هناك لسيل الناس الجارف صباحًا ومساءً، وكلهم في أرديتهم القومية الجذابة، والمعبد فاخر. وأعجب ما رأيته هنالك لفائف ضخمة من شعر آدمي جُدل في حبال بالغة الطول والسمك، تبرع به فتيات ذلك العصر؛ كي يعاونوا على سرعة إقامة المعبد بعمده الضخمة التي لم تقوَ الحبال العادية على رفعها، وفي ذلك مثل لميلهم الشديد للتضحية، خصوصًا وأن الشعر أكبر ما تعتز به الفتاة اليابانية وتتجمل بمرآه. وهذا المعبد هو المكان الوحيد من ذاك الحي من طوكيو الذي لم يحترق على أثر نكبة الزلزال الكبرى سنة ١٩٢٣، فعزا القوم ذلك إلى قدسيته! وعجيب أن ترى خلف المعبد مباشرةً أكبر مناطق طوكيو للمجون والملاهي الشعبية؛ تلك التي يعدها الجميع خير مكان للتسلية؛ لذلك لا تهدأ حركة المتنزه ولا تخبو أضواؤه الخاطفة طوال الليل.
في المساء، طلبت إلى صاحب النزل أن يدلني على دار للتمثيل الياباني القديم، وهو أحب أنواع التمثيل لديهم، فأرشدوني إلى «تياترو شمباشي»؛ من أفخم دور التمثيل في طوكيو، وما إن وصلت الباب وهممت بشراء التذكرة حتى تقدمت إليَّ فتاة تجيد الإنجليزية تقول: أأنت يا سيدي المستر ثابت النازل في لوكاندة شوو؟ فدهشت وقلت: نعم! فقادتني إلى داخل المكان بعد أن رفضتْ بتاتًا أن أدفع ثمن التذكرة، وأحلتني مجلسًا فاخرًا وقالت بأن التياترو ملك لشقيق صاحب النزل، وقد أعطانا إشارة تلفونية أن نكرم وفادتك، فغمَرتْني تلك الأخلاق الجميلة، وظلت الفتاة تشرح لي بالإنجليزية كل مشاهد التمثيل طوال الوقت حتى برحت المكان!
أما التمثيل فغاية في الإتقان، ومناظر المسرح رائعة. وكلما أُريد تغيير مشهد دار المسرح كله على كبره حول نفسه فبدا منظر جديد. والرواية كانت قصة لفتاة زوَّجها أبواها من صبي لا تحبه وهي طفلة، كعادة اليابانيين قديمًا — ولا يزال للعادة أثر إلى اليوم — وكانت تحب فتًى آخر جنديًّا لم يسعها إلا أن تسير إليه مخالفةً أبويها، فتلاقي الفتى مع غريمه، وكان معه أعوان كثيرون، بارزهم جميعًا وغالبهم فصرعهم عن آخرهم. وأجمل ما راقني منظر «خمارة» ضمَّت القوم وهم يرقصون ويهللون، وقد أخذ «الساكي» بلبهم جميعًا بشكل يدل على أن الإدمان كان ديدنهم — ولا يزالون يكثرون من تناول الخمر — وختمت الرواية بفصل المبارزة التي يفاخر بها القوم ويجلُّونها إلى اليوم. وكان المتفرجون يُصفِّقون بحدِّة؛ تشجيعًا لهم، وبقدر التكلُّف في نعومة اللفظ، والتدلل من جانب النساء، كانت غلظة الرجال في حديثهم وانتحالهم وجوهًا مقطبة، وهم يتكلمون في نغمة الآمر المستبد، ولأقل سبب كانوا يستلُّون سيوفهم. وهذا النوع من التمثيل يسمونه «نو»، وتقام له أكبر دور التمثيل في جميع البلدان، ويتسابق القوم لاقتناء تذاكره في تهافت عجيب.
زرت بعض معابد المدينة وأفخرها معبد ميجي؛ خالق النهضة اليابانية. مداخله ممتدة تتخللها البوابات الخشبية الشامخة — وهي تتقدم مداخل المعابد كلها — وفي قراره مقصورة الهيكل؛ يسجد الناس أمامها ويلقون بقطع النقود تقربًا وزلفى، ثم زُرتُ معبد «سنجا كوجي»، ويشتهر بمدافن جنود «الرونين»؛ أي فاقدي الرئيس، ولهم قصة عجيبة؛ إذ كانوا أتباعًا لرئيسٍ لحقته إهانة من غيره فهَمَّ بطعنه، لكن حيل بينه وبين رغبته، وقُضي عليه بالانتحار كعادتهم، فهام أتباعه هؤلاء — وكانوا ٤٧ — لا يهنأ لهم عيش حتى يأخذوا بثأر سيدهم. ولما حققوا أمنيتهم أسرعوا إلى قبر سيدهم، وأعلنوا أنهم أدَّوا الأمانة، ثم انتحروا جميعًا بجواره؛ خشية أن يحكم عليهم بالموت بشكل غير مشرف؛ لذلك أقام اليابانيون لهم معبدًا؛ لأنهم يقدسون الشجاعة والوفاء ولو في مظهرها الوحشي!
حكم على الأمير تاكي زنزا بورو بالانتحار ترضية للأجانب؛ لأنه هو الذي أمر بضرب النار عليهم سنة ١٨٦٨، فدعا الميكادو الأجانب إلى أحد المعابد واصطف الجند، وجيء بالمنتحر ومعه اثنان من أعز أصدقائه ليساعداه على قتل نفسه إن خانته قواه، وتسلم الخنجر المدبب ماضي الحدين، وجلس القرفصاء كعادة اليابانيين، ثم رفع الخنجر فوق رأسه شجاعةً واحترامًا، وأخذ يعترف بجريرته في جرأة وإقدام، وطلب معذرة الحاضرين وسألهم أن يُسبغوا عليه شرف مشاهدتهم إياه وهو يبقر بطنه، ثم انحنى مرات احترامًا، ورفع قميصه ومال إلى الأمام قليلًا مخافة أن يقع على ظهره ساعة انتحاره وهو عارٌ لا يُمحى، ثم أخذ يرمق الخنجر بنظرات العجب والتيه، وطعن به جانب بطنه الأيسر، وطفق يشقُّه محركًا يده إلى الجانب الأيمن، وهنا اجتذبه إلى أعلى إمعانًا في الشجاعة والجلد. وهو خلال ذلك كله لم يمتقع وجهه. بعد ذلك انحنى إلى الأمام ساجدًا، وفي لمح البصر هوى سيف صديقه على رأسه ففصلها عن جسمه، ثم مسح الحسام بورقة وأعاده إلى غمده بعد أن انحنى وانسحب!
منظر مزعج، لكنه يدل على مبلغ ضبط النفس، ورباطة الجأش، وهدوء الأعصاب في المنتحر وأصحابه! وعجيب أنهم يعدون ذلك أكبر فخر، خصوصًا إذا قام أقرب المقربين بالإجهاز على حياة صديقه. وهذا يقدِّسه جميع اليابانيين، لدرجة أن بعضهم عرض على البرلمان سنة ١٨٦٩ إلغاء الانتحار، فرفض اقتراحه بأغلبية ٢٠٠ ضد ٩؛ بحجة الإخلاص للمبدأ والشعور القومي وحفز الفضيلة! وعجيب أن «أونو سيجورو»؛ وهو الذي اقترح هذا الإلغاء، مات بالطريقة نفسها بعد ذلك بزمن يسير! هذا ورغم تحريم القانون ذلك اليوم، نرى الانتحار منتشرًا هناك حتى لمناسبات تافهة!
تفقدت بعض المحال التجارية الكبرى، وأخصها «متسوكوشي»؛ شبيه لافاييت بباريس وشكوريل بمصر، إلا أنه أفخم بناءً، وأعظم امتدادًا، حوى كل شيء حتى الطيور والفاكهة والمطاعم والمقاهي، إلى جانب مستلزمات النساء والرجال جميعًا. وفوق سطحه بعدَ الطابق السابع حديقة يابانية أشبه بالحدائق المُعلَّقة؛ ينمو شجرها، ويتفتح زهرها، وتتوسطها النافورات والصخور. وترى المقاعد صفَّتْ للمتريضين، وأراجيح الأطفال وملاعبهم منتشرة خلالها، وأمثال تلك الحدائق تعلو غالب المباني، وتسمى بالحدائق السماوية. وفي أقصى أركان الحديقة هيكل يقام لإله النجاح يزوره الجميع؛ لكيلا تنسيهم المادة واجبهم المعنوي. وللمحل عدد كبير من السيارات الضخمة الفاخرة تنقل رواد المكان إلى محطة سكة الحديد ومنها بدون مقابل.
قمتُ بجولة على ضفاف نهر «سوميدا» في طوكيو، فهالني منظر المصابيح الملونة من الورق تصفُّ على جانبي النهر، وعلمت أن يومي هذا صادف حفلة يُسمُّونها: عيد المصابيح، حين تُحرق سيقان جافة من الكتان في مدفن العائلة، وقبل خُمودها يُشعل فيها مصباح المدفن، ومنه يُضاء مصباح آخر يُنقل إلى البيت ويُضاء منه الهيكل. ويزعمون أن هذه النار توقظ أرواح الأجداد فتسير على هديها إلى البيت! لذلك يقدِّمون القرابين من المأكولات أمام الهيكل في كل بيت، ويركعون للآلهة! وفي نهاية الليل تعود الأرواح إلى مقرها بعد أن تبارك الذرية وتكفل لها السعادة طوال العام! وفي غالب البلاد تضاء مصابيح لا حصر لها في شكل طيور الماء، وتعوم في اليم إلى المصب وسط تهليل القوم في الضفاف والزوارق في مشهد غريب.
ومن أجمل حفلاتهم: حفلات الأطفال؛ فحفلة الفتيات «هيناماتسوري» تقيمها كل عائلة عقبت فتيات، ويكون ذلك يوم ٣١ مارس؛ وهو موسم أزهار شجر الخوخ، ويشترك فيها جميع أوانس الأسرة، ولا يشترك فيها الذكور قط، فتقوم دميتان كبيرتان تمثلان نبيلًا وزوجته، ومن حولهما دمى كثيرة تمثل الخدم والأتباع، ويلبس الجميع ثيابًا فاخرة، وتعرض بجانب الدُّمى سائر أدوات المنزل في حجم صغير دقيق، وبعض تلك يتطلب نفقاتٍ باهظةً؛ لذلك قامت مصانع لإعداد ذلك. وفتيات الجيران يدعون لتناول الطعام في تلك الآنية الصغيرة، وإلى جانبه شراب مخفف من «الساكي». وبعد ذلك يلعبن ويعزفن ويغنين. وقبل بزوغ الفجر، تُلف كل تلك المعروضات لكي يعد ذلك فألًا بزواج الفتاة المبكر، ويقولون: إن تلك العادة خرافة قديمة نُقلت عن تفاؤلهم بالبنات؛ لأنهن بشير إنتاج الأرض الوفير؛ لذلك كانوا يكلفون البنات بعمل الدُّمى لتدفن في الحقول، ثم تطورت إلى الاعتقاد بأن الدُّمى تمائم تقي الفتيات الشر. وكان من عاداتهم القديمة أن تحلق الفتاة يوم الزفاف حاجبيها، وتخضب أسنانها باللون الأسود؛ علامة الوفاء؛ لذلك تراهم يمثلون ذلك في الدمى المعروضة في هذا العيد.
أما الفتيان: فيقيمون لهم حفلة «تانجونوسكو» كل معروضاتها من دروع وحراب وأعلام وأردية عسكرية، يقدم أمامها الساكي والحلوى، ويأكل الأطفال كعك الأرز تكسوه أوراق الشجر. وفي هذا العيد يستحم جميع الأطفال في ماء ساخن جدًّا تعطره أوراق شجر خضراء، ويقيمون أعمدة تطير فوقها مقاصيص الورق وكأنها الطير أو السمك يسبح في الهواء.
عدت إلى طوكيو ورغبت في زيارة بعض دور العلم بمعاونة صديق ياباني هو «المستر يوكوياما»، أقام في مصر سنتين في رياسة المعرض الياباني، وهو كما بدا لي من أحاديثه من المحبين لمصر والمصريين، ولا يذكر بلادنا إلا بالخير؛ مما حببني فيه، وقد عاونني في ارتياد كثير من نواحي العاصمة وضواحيها. ولقد كان واسطة التعارف بيني وبين أحد أساتذة الجامعة من الأمريكان. ولم يسعدني الحظ بزيارة المدارس؛ لأنها كانت في شهور العطلة، غير أني لم أحرم فائدة ما قصَّه عليَّ من أنباء التعليم في تلك البلاد الناهضة التي نقلت غالب نظمها في التعليم عن أمريكا. ولقد نشط التعليم منذ سنة ١٨٦٩ حين أقسم الإمبراطور أنه سيعمل على نشر التعليم حتى لا تبقى عائلة جاهلة، ولا يبقى عضو أمي من أية عائلة كائنة ما كانت. ولقد نجحوا في ذلك حتى لم يبقَ من الأميين اليوم ما يبلغ الواحد في المائة. وللطلبة هناك — شأنهم في بلاد الشرق طرًّا — احترام شديد، وتأثيرهم في الرأي العام كبير، وكثيرًا ما يتدخلون في شئون الدولة نفسها، ولهم ملابس خاصة شبيهة بالملابس العسكرية؛ وتلك نقلت عن ألمانيا. وجميع المدارس تحت إدارة حكومية، ونظام التعليم هناك ديمقراطي لا يفرق بين أبناء الطبقات المختلفة. ويدرس التلاميذ في المدارس الابتدائية لغتهم وتاريخهم وشطرًا كبيرًا من علم الأخلاق. والكتب موحدة وترمي إلى حثهم على التضحية والولاء للدولة. والتعليم الابتدائي إجباري للذكور والإناث، ومدته ست سنين، ويليه التعليم المتوسط لمدة خمس سنين، ويحكي المدارس الثانوية عندنا، وهو مجاني هنا أيضًا، على أنه غير إجباري، وعند الالتحاق بتلك المدارس يجب على الطالب أداء امتحان مسابقة؛ لأن تلك المدارس لا تسع سوى ١٠٪ ممن أتموا التعليم الابتدائي. وهنا يبدأ تعليم اللغة الإنجليزية، ويلي التعليمَ المتوسط التعليمُ العالي لمدة أربع سنين. ومن أراد دخول الجامعة اقتصر في فرع آخر من المدارس العليا على ثلاث سنين، وفي الجامعة يظل ثلاث سنين أو أربعًا. وبذلك لا ينتهي الطالب من دراسته إلا في سن السادسة والعشرين على الأقل. ولعل سبب طول مدة الدراسة هكذا راجع إلى أنه يتلقى نوعين من الثقافة: اليابانية، والغربية، وكذلك قد تكون صعوبة اللغة اليابانية من الأسباب؛ فإنها تؤخر الطالب نحو ثلاث سنين. ومن مزايا نظام التعليم في اليابان أنه يقوم على امتحانات المسابقة؛ فالكفاءة هي الشفيع الوحيد في دخول المدارس، وليست الجاه والمال — كما هي الحال في إنجلترا مثلًا — والطالب يجهد نفسه في التحضير لتلك الاختبارات من جهة، ولدروسه المدرسية من جهة أخرى؛ مما أثَّر في حالته الصحية. والتدريس هناك يقوم على المحاضرات في المدارس العليا كلها، وعدد الفِرق كبير جدًّا، ودروس الأسبوع ٣٥؛ مما لم يترك للطالب وقتًا كافيًا للاطلاع، فاعتمد على المدرس وما يُلقنه إياه، وفقد جانبًا كبيرًا من قوة الابتكار، رغم ما أوتي الياباني من توقد في القريحة وفرط في الذكاء يفوق أقرانه في سائر الشعوب.
ويلفت النظر ما للرأي العام بين الطلبة من الأثر على المدرس، فإن لم يرق الطلبة نقدوه علنًا، وطالبوا بتغييره، ويغلب أن يجاب طلبهم، ولا يعد المدرس ناجحًا إلا إذا استمال طلبته إليه؛ ولهذا أثره السيئ في تغافلهم عن التعمُّق في الدرس، وهم يحاولون أن يظهروا بمظهر العلماء، وفي هذا ما فيه من الغرور الأجوف، الذي زاده احترام أهل تلك البلاد للرقي العقلي والثقافة، أكثر مما يلاحظ ذلك في بلاد الغرب، التي لا تعطي للمتعلم ذاك الاحترام الكبير؛ لذلك يحاول المتعلمون طلاء أساليبهم في إغراب كبير، وقد يدخلون بعض الكلمات الأجنبية زيادةً في التنميق، وحبًّا في الظهور. حدث مرة أن قام وزير يخطب في دعاية دينية، فلما انتهى من كلمته في لغتها المتكلفة، التفت أحد الحاضرين إلى جاره وقال: أنا لا أفهم الإنجليزية! كذلك حدث لما زار أينشتين اليابان وحاضرهم في موضوع النسبية أن كان يستمع له أستاذ ألماني، وتلميذ له ياباني تلقى عليه الألمانية لمدة نصف عام، فلما انتهت المحاضرة قال الطالب لأستاذه: أنا أفهم كل شيء بالألمانية، ولم تكن بنا حاجة إلى هذا المترجم، فقال له أستاذه: إذن فأنت أقدر مني في الألمانية؛ لأنني لم أفهم من الموضوع إلا القليل!
ومنذ عهد ميجي كان غرض التعليم هناك نقل المدنية المادية عن الغرب؛ لحفظ كيان الدولة، ولم تعترف اليابان بأن حضارتها ونظامها الاجتماعي دون حضارة الغرب مقامًا، فكان هَم الزعماء الوطنيين الجمع بين الاثنتين؛ رغم ما بينهما من تنافر؛ ففي أوروبا يرمي التعليم إلى ترقية عقل الفرد وخُلقه، بصرف النظر عن قومه وعائلته، لكن الياباني خاضع للأسرة وللدولة بحكم نظامه الاجتماعي؛ لذلك كان الغرض من تعليمه خدمة السياسة القومية؛ ومن ثم نجح التعليم هناك في تخريج طائفة قديرة من رجال الإدارة والجند، ورجال الصناعة والتجارة والأعمال المالية، وبفضل هؤلاء بلغت البلاد هذا المستوى من الرقي. أما النابهون المبرزون العباقرة فيندر وجودهم هناك.
على أن التغير بدأ يسود طوائف الطلبة منذ الحرب الكبرى؛ فقد تدفقت عناصر الحضارة الغربية تلك التي قوَّت روح النقد لتصرفات القدماء، وأصبح موقف الشبان هناك شبيهًا بموقف شباب إيطاليا عهد النهضة حين ثملوا بخمر ما داهمهم من حضارة الغرب، خصوصًا في الفن والموسيقى والنظام الاجتماعي والسياسي، فبعد أن كان يلقن الطاعة للآباء، والولاء للدولة، والخضوع لتعليم الدين الشنتوي، أخذ يدرس في الجامعات الحرية الشخصية والحكومات النيابية، مما يثيره على النظم القديمة، فتراه اليوم حائرًا أي السبيلين يسلك؛ مما أضعف إيمانه، فلم يرمِ لغرض واحد ذلك الذي كان خير كفيل بتقدُّم اليابان الأخير. وقد أحس بافتقاره لوسائل التسلية التي يتمتع بها نظيره الغربي، وكذلك أحس بضيق فسحة الفراغ التي تساعد الاطلاع والبحث.
ولا يزال ينقد الأجانب نظام المدارس؛ لكبر الفصول وحداثة عهد المدرسين، ذاك الذي لا يوجد التعارف الشخصي بين المدرس وطلبته، ويزيل التأدب الظاهر، ويحل الحب المتبادل والإخلاص محله. ولا يزال المدرس الذي يمتزج بالطلبة عرضة للإهانة هناك. وقد أخذ الآباء يتهمون النشء بنقص في الوطنية، يبدو جليًّا في نفورهم من التجنيد. وأوضح ما يظهر ذلك في كراهية الطلبة للضابط الذي يُخصص لتعليم الطلبة النظم العسكرية في جميع الكليات، على أن الفرنسيين عمومًا، والإنجليز خصوصًا، يرون أن نظام التعليم الياباني على ما به من عيوب أفضل من نُظمهم؛ لأنه يسوي بين الطبقات جميعها، فلا يفضل طالب لجاهه أو ثروته، بل لكفاءته؛ مما ساعد الحب المتبادل بين أفراد جميع الطبقات، فكان لذلك أثره القومي الجليل.
ومن المتنزهات ذائعة الصيت في كيوتو: «ماروياما».
قضيت في جناته طويلًا، ثم عرجت على زيارة معبده الكبير. وأعجب ما هنالك نار يقوم الجميع على إشعالها أبدًا، ومنها يأخذ الناس قبسًا في خيوط يبتاعونها من القسس، ويذهبون مسرعين إلى بيوتهم لإشعال نار مستهل السنة؛ كي تظل بركة النور المقدس تحل في البيت، وتستطيع أرواح الأجداد زيارته. وبعد أن جبت كثيرًا من المعابد عرجت على القصر الإمبراطوري بأسواره الممتدة يحوطها الخندق. وهنا يتوج الإمبراطور إلى اليوم في حفل كبير، وبعده دخلت المتحف، ولعله أكبر متاحف اليابان؛ لكثرة معروضاته من مخلفات اليابان القديمة، على أنها — في نظري — لا تُشعر بماضٍ مجيد! وقد تناولت العشاء في فندق يقوم في بناء فاخر من خمسة طوابق شاهقة، ويطل على النهر، وكل طابق مقهى أعد على نظام يُغاير الذي يليه في التنسيق، وفي نوع الطعام والشراب، وفي الألوان والأضواء، فتخيرت أعلاها؛ لأن منظر المدينة من دونه بأضوائها الخاطفة ساحر لا أنسى روعته.
وإذا مات أحدهم أقبل أصحاب الفقيد يُقدِّمون بعض الهدايا من كعك ونقود وطعام وزهور، وفي اليوم التالي يحضر القسيس، ويضع الجثة في حوض تحفه الزهور العبقة، ثم تلف في قماش أبيض، ثم يحمله قوم في أردية بيضاء يتقدمهم بعض المرتلين، ومن ورائهم المشيعون، وإذا ما وصلوا المعبد وضعت الجثة على المحراب، وقرأ القوم بعض الآيات، وأخذ يمر المشيعون أمامها فرادى وهم يركعون ويلقون ببعض البخور في كور متقد، ثم توضع الجثة في التنور حتى تصير رمادًا تحت مراقبة المشيعين، وهم خلال ذلك يأكلون ويشربون ويتحادثون عن فضائل الفقيد، وكلما تم الاحتراق عاجلًا، كان ذلك مدعاة للتهنئة، منظر رائع لا محالة، لكنَّا إذا علمنا أن عقيدة الياباني في الموت، أنه النهاية الطبيعية للحياة لا يعقبها ثواب ولا عقاب زال العجب، وكثير منهم يحمل ما تخلف من رماد في زجاجة تدفن في مدافن الأسرة، ويقام عليها شاخص باسمه، وقد تدفن الجثة بغير حرق، وإذا كانت المتوفاة آنسة قصَّ شعرها وحُفظ في البيت تذكارًا لذويها.
ويلفت نظر السائح هناك أن كثيرًا من القاطرات، خصوصًا الريفية، ذات مقاعد جانبية، يجلس عليها القوم القرفصاء يواجه بعضهم بعضًا؛ لأنهم يكرهون الجلسة وأرجلهم مدلاة إلى الأرض مثلنا، ويقال: إن السبب قصر قاماتهم التي تجعل أرجلهم معلقة؛ مما يؤلمهم كثيرًا.
دخلنا أوزاكا في أقل من ساعة، فبدت غاصَّة بالحركة، مكتظة بالسكان؛ لأنها أغنى المناطق الصناعية، وبخاصة في النسيج، حتى أطلقوا عليها اسم منشستر اليابان، وهي أكثف المدن سكانًا؛ لذلك لا تروق السائح كثيرًا، وأجمل مسالكها شارع «دوتومبري» التجاري قليل الاتساع، عظيم الامتداد، أضواؤه في الليل تبهر النظر بأشكالها اليابانية المكورة عديدة الألوان، تتخللها الإعلانات والأسماء باللغة اليابانية في حجم كبير، وسيل الجماهير يثير الدهشة، فهو لا يكاد يسمح بالمرور إلا والأكتاف متلاصقة. وأجمل ما بدا منظر ذاك السيل الآدمي من قنطرة نهر أوزاكا التي تشرف على الشارع من وسطه. وترى زوارق الرياضة في النهر وقد علقت بها مصابيح النور المُلوَّن إلى مد البصر، ويتقاطع مع ذلك الشارع آخر للملاهي والمراقص في أضوائه الخاطفة، وزخرفه وأثاثه الياباني العجيب. آويت ليلتي إلى نزل ياباني صميم، وما إن حللت بهو النزل حتى رأيت حواجز الخشب والورق تزلق من حولي. وفي لحظة حُصرت في غرفة ضيقة، وأحاطني القوم بأدبهم الجم، وكرمهم المعروف، وبعد أن قدموا إليَّ شاي الاستقبال، والقطيلة (الفوطة) المعقمة، عرضوا عليَّ الحمام فرفضته — ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين — ثم أقبل رب النزل يسألني: أتريد جيشات؟ وتلك طبقة من السميرات المحترفات لها مدارس خاصة في سائر بلاد اليابان، فيها تتعلم الفتيات وسائل السمر وإيناس الأضياف، بما في ذلك الغناء والعزف على الشامسين والكوتو، ولا يخلو منهن مجلس قط. ويحتقر اليابانيون جميع الأوروبيين الذين يصادقون الفتيات ويغازلونهن على قارعة الطريق. وحقًّا لم ألاحظ شيئًا من هذا في الطريق قط، رغم اختلاط الجنسين، عكس ما كنت ألاحظه في جميع بلاد أوروبا؛ إذ ليس للشبان هناك من عمل يقتلون به فراغهم سوى المغازلة للفتيات على قارعة الطريق. أما اليابانيون ففي ظنهم أن الرجال أكبر مقامًا من النساء؛ لذلك لا يصح التريض معهن على قدم المساواة، وهم لا يرون رأي الأوروبيين في أن الجنس اللطيف حياة المجالس وروحها؛ لذلك كثيرًا ما كنت أرى جماعات النساء يقصدن إلى الرياضة في غير صحبة الرجال. أما الرجال فيغلب في رحلاتهم أن يستحضروا الجيشات السميرات. وكثيرًا ما ترى حلقة من الرجال يجلسون القرفصاء إلى جانب غدير أو شجرة مزهرة يشربون الساكي، وفي وسطهم السميرة ترقص لهم وتغني، وترى بعض المارة ينضم إليهم، ويندر أن يخاصرها في الرقص رجل؛ لأنهم يستنكرون رقص النساء مع الرجال على النظام الأوروبي. وفي الحفلات والولائم لا بد من وجود الجيشات. وأجورهن غالية بين جنيه وثلاثة جنيهات في اليوم. وكلما أُقيم معرض أو انعقد مجلس في إحدى المدن الكبرى كثر الطلب عليهن جدًّا، ومن بينهن الممتازات بأسمائهن مثل «كوهاروسان، رين جوسان». وكلما علا صيتهن دلَّ ذلك على زيادة في إكرام الضيف. ويقدم الأشراف لأمثال هؤلاء هدايا قيمة؛ من ذلك ماسة قيمتها ٨٥٠ جنيه قدَّمها نبيل للجيشا «ساكا كوسان»، فامتدحت الجرائد كلها تلك السميرة، وأطرت المدرسة التي أنجبت مثل هذه الجيشا التي أصبحت من الشخصيات الممتازة في طوكيو. وفي الولائم الرسمية، يجلس الجيشات أمام الجمع ركعًا، ويملأن أكواب الساكي كلما فرغت، وبين آونة وأخرى يلعبن دورًا موسيقيًّا. وبعد نهاية الطعام يقمن بألعاب بسيطة مع الرجال. أما في الحفلات الخاصة العائلية فيرفع التكليف، ويمتزج الجميع امتزاجًا تامًّا. ويجب على الضيف أن يملأ كأسه بيده بين حين وآخر ويقدمه للجيشا، وتظل شاخصة أمامه حتى يفعل ذلك. وكثيرًا ما يغفل الضيفان ذلك، فيظل الفتيات مكانهن في مضايقة شديدة، ويُرمى الضيف عندئذ بقلة الذوق. وعلى الضيف أن يأتي على زجاجة الساكي بأكملها كي تملأ ثانيةً، وإلا عُدَّ ذلك شؤمًا على المكان. وليس لأحد أن يطيل النظر للسميرة التي تجانب زملاءه؛ إذ يجب أن يلاطف السميرة الخاصة به، ويغلب أن تكون أشهر الجميع؛ لأن أدبهم يقضي بأن يُخص الضيف بأكبر المزايا، على أنه لا يشترط أن تكون أشهر السميرات أجملهن وجهًا؛ بل أذكاهن وأقدرهن على التسلية، ولا يكاد يخلو مطعم أو مقهى من الجيشات. وأكثر ما يعنون به من التزين الملابس «الكيمونو»، وتنظيم الشعر، وطلاء الوجه بالمحسنات البيضاء. أما الحلي من أقراط وعقود وسوار وخواتيم فلا تجد من ذوقهن قبولًا. ورشاقة الفتيات بالغة رغم ما يعوزهن من جمال؛ إذ لا تزيد نسبة الجميلات على خُمس فتيات اليابان جميعًا في سن النضارة، وهي ما بين الثالثة عشرة، التاسعة عشرة، وبعدها يبدو الهرم عليهن عاجلًا؛ كالمصريات والإيطاليات وسائر فتيات البلاد التي يقصر فيها أمد الشفق؛ إذ لوحظ أن جمال السيدات يظل طويلًا كلما طال زمن الشفق.
وأمر النساء في اليابان يثير الدهشة والنقد من عدة وجوه، فإنهم يبيحون للفتيات ما دُمن غير متزوجات كامل الحرية في التريض والمصادقة. وقد ناقشت بعضهم فكان منطقه أن العزوبة أمر غير طبيعي، فإن لم يكن للفتاة زوج فخليل، وهم لا يعتدون بالبكارة والعرض اعتدادنا به في الفتيات، على أنها إذا تزوجت أصبحت مثال الوفاء لزوجها. والعجب أنها لا يصح لها أن تظهر الغيرة على زوجها من غيرها! وكثيرًا ما تخاطب زوجها عند أوبته من رحلته قائلة: أرجو أن تكون قد استمتعت ليلتك الفائتة! فيقص عليها نبأ ما كان يحوطه من فتيات وجيشات وصويحبات سرين عنه كثيرًا!
وأعجب من ذلك وأنكى أنهم يحترمون العاهرة احترامهم للزوجة، فالأب هو الذي يتخير لها الزوج، كما أنه هو الذي يدفع بنته إلى الدعارة إن أعوزه المال؛ لأن في عوزه هذا هدمًا للعائلة، ويجب تلافيه؛ وإلا انهار ركن قومي يؤثر على كيان الدولة والوطن! وهم يطلقون على العاهرة اسم «أوجوروسان»؛ أي العاهرة العظيمة. حدث مرة أن اقترض نجار خمسين جنيهًا من دار جيشات مقابل ارتهان بنته الجميلة في سن الحادية عشرة لمدة خمس سنين، بعدها يدفع الدين ويتسلم الفتاة، فأصبحت تلك الفتاة من كبريات الجيشات فأكبرها الجميع. وإذا احتاج الرجل المال وكانت بنته كبيرة فوق السابعة عشرة دفع بها إلى بيت الدعارة! فإن هربت ساعده البوليس على إرجاعها إلى بيت الدعارة حتى يتمَّ سداد دينه؛ لأنها ملزمة بذلك قانونًا مذ قبلت الدين عن والدها! تصرُّف نراه همجيًّا وحشيًّا، لكنهم يبررونه بأن واجب الأبناء طاعة الآباء، والعمل على إنقاذهم من الشدائد؛ لأن في ذلك معنى الإخلاص للأسرة وللدولة التي يُضحى في سبيلها كل شيء! ويتهافت الشبان على الزواج من أمثال أولئكن؛ إكبارًا لهن، وتفاخرًا بهن! منطق لا تسيغه عقولنا البتة.
أضف إلى ذلك أن من أخص وسائل إكرام الضيف أن يقدم المضيف السميرات لضيفه، وهل هذا في زعمهم إلا واجب طبيعي؟! وقد كانت العادة فيما مضى أن يبالغ المضيف في إكرام ضيفه، فيقدم له زوجته. ولا خطر هناك من اختلاط النسل؛ فكلهم أبناء الإمبراطور ابن السماء! ولم يقلعوا عن تلك العادة القبيحة إلا تفاديًا لمرارة النقد الأجنبي، وأنهم لا يطيقون أن ينقد بلادَهم أحدٌ قط!
تناولت العشاء ورغبت في النوم، وسرعان ما تقدَّم الفتيات إلى وسط الغرفة يفرشن لي حشية (مرتبة) قصيرة تتناسب مع قاماتهم القصيرة، وإلى ناحية الرأس وسادة من خشب عليها غشاء رقيق من قماش يحشوه القش، وشُدت «ناموسية» خضراء في حجم الغرفة كلها إلى الأركان، ووضع إلى جانب الفراش الشاي الذي يحسن شربه قبل النوم؛ ليطهر الفم، ويساعد الهضم، ثم قدمن المبخرة وأشعلت بها فتائل خضراء حلزونية تظل متقدة طوال الليل؛ طردًا للبعوض، على أني لم أطق رائحته المنفرة، فمددت جسمي وكانت قدمي تتدليان خلف «الفراش» إلى نصف الساقين، ورأسي لا تكاد تستقر على وسادة الخشب القاسية التي لا يلذ لهم النوم إلا عليها، فترى الرقبة مشحوذة عليها، والرأس يتدلى من طرفها الخارجي غالبًا! ويظهر أن الباعث عليها شدة محافظة السيدات على تنسيق شعر الرأس؛ مخافة أن تعبث به الوسائد الأخرى، ويقولون: إن نساء اليابان امتزن بجمال الرقاب الممشوقة غير المجعدة؛ وتلك نتيجة النوم على هذه الوسائد. ويغلب أن يوضع بجوار الفراش مصباح من ورق ملون، على أني لم أنم إلا غررًا. وكنت أدهش لهم إذ ينامون نومًا عميقًا رغم قعقعة أخشاب الغرفة ومصابيحها، وطنين البعوض والفراش، ويكاد يخيل للمرء أن الدار ستنهار أمام شدة الرياح؛ فهي ترتجف أبدًا وكأنها الخيام المؤقتة. إلى ذلك أني كنت أسمع كل همس يقع في الحجرات الأخرى.
وفي صبيحة اليوم التالي، قصدت القصر الإمبراطوري القديم وكأنه القلاع العاتية بصخوره التي أذكرتني بجلاميد الكرنك في ضخامتها، على أن مقاصيره كلها تتوج بالخشب في الخرط الياباني في شيء من الضخامة في غير علو، ومن حوله خندق كأنه النهر العظيم تخترقه قناطر عدة. ومن أشهر ما يزار في أوزاكا ملهى الدُّمى (تياترو العرايس)، وهو الوحيد من نوعه في العالم، ويسمى (بونراكو). وقد كان القسس في الزمن القديم يستخدمون الدمى واسطة بينهم وبين الآلهة، ويبلغون الناس رسائل الآلهة على لسانها؛ كي تشعرهم بأنها ليست آدمية مثلهم! ثم انتقلتُ فيما بعدُ إلى الملاهي، هناك ترى جمعًا من الدمى الكبيرة في ثلث الحجم الآدمي، تظهر على المسرح يحركها أناس بمهارة تشعر بأنها أقزام بني آدم، فتمثل الدمى رواية كاملة، وتنظم حركاتها على أنغام الموسيقى، والعازفون يتكلمون ويغنون بدل الدُّمى التي تؤدي الحركات فحسب. والعجيب أن عيون الدمى وشفاهها وأصابعها تتحرك في دقة مدهشة، وكل دمية يحركها ثلاثة رجال من خلفها يلبسون أردية سوداء، وتكسى وجوههم بنقاب خفيف. وهو من أحب الملاهي الشعبية لديهم. وقد قمت بجولة في الحي الصناعي من المدينة، فراعني ما رأيت من دوي المصانع وعظيم امتدادها؛ فهي التي لعبت الدور الهام في تطور البلاد الصناعي؛ ذاك الذي أعده خير مثل نحتذيه إن أخلصنا في نهضتنا الاقتصادية الحاضرة.
النهوض الصناعي: خالفت اليابان في نهوضها الصناعي سائر بلاد الدنيا من قبل؛ ففي إنجلترا مثلًا كانت التجارة والصناعة خاضعة لقوانينَ حكوميةٍ إلى القرن الثامن عشر، حين نهضت الصناعة على أساس المجهود الفردي، والمنافسة الحرة؛ وتلك تغلبت على ملاك الأراضي ونزعت منهم نفوذهم الحكومي، وأصبح تدخل الحكومة في الصناعة أمرًا غير مرغوب فيه، وعلى ذلك لم تقم الصناعة في إنجلترا على التعاون العام، ولا على الإشراف الحكومي؛ بل على مجهود الفرد ومزاحمته لغيره. أما في اليابان فقد قامت الصناعة على كواهل الدولة؛ ذلك لعدم وجود طبقة من أغنياء التجار الذين أمدوا الصناعة الإنجليزية بالمال. إلى ذلك احتقار طبقة التجار في اليابان عندئذ، وقلة خبرتهم؛ بسبب عدم احتكاكهم بالأجانب كثيرًا. فبينا نجد النهوض الصناعي في الغرب هو الذي أثر في النظم السياسية إذا بالأمر على النقيض من ذلك في اليابان؛ حيث كان الانقلاب الصناعي نتيجة مباشرة لتغيير نظام الحكم؛ فالدولة هي التي فتحت المصانع ولا تزال تديرها، وهي التي أوفدت الطلبة ليتعلموا الصناعة والتجارة في الخارج، واستقدمت الخبراء من الأجانب، وأنشأت المدارس الحكومية، وفتحت الغرف التجارية، ولا تزال تمنحها الإعانات المالية، كذلك أقامت المتاحف الصناعية في كل البلدان، وهي التي تزود التجار بالمعلومات عن الأسواق الخارجية، وحتى المصانع التي انتقلت إلى أيدي الأفراد لا تخلو من الرقابة الحكومية. والحكومة تمون المصانع كلها بالقروض والإعانات المالية، وتراها تشرف على الهيئات التعاونية التي تفوق الألف، والتي تتعاون على تنظيم الإنتاج والتصدير وظروف البيع، ولهذه حق قانوني في فحص صادرات البلاد؛ محافظةً على سمعتها الصناعية في الخارج، ومما ساعد الصناعة في اليابان أنها نجت من مقاومة فئة الممولين الأقدمين الذين تعرضوا في سائر الدول للخسائر الفادحة، فناوءوا الصناعة زمنًا. أما في اليابان فلم توجد تلك الفئة؛ ذلك لضعف مالية الأفراد هناك. إلى ذلك أن النهوض الصناعي في اليابان جاء في عصر ظهر فيه فضل الإنتاج الكبير، الذي لا يقوى عليه الفرد، بل الجماعات والمتعاونات. وشعر الكثير بضرورة معاونة الحكومات وتدخلها في تحديد المزاحمة، ولا يزال للنظام القديم أنصار يقاومون تدخل الحكومات حتى في إنجلترا نفسها. أما في اليابان فالإشراف الحكومي منطبق على نظمها الاجتماعية التي تقضي على الأفراد بالطاعة للأسرة والولاء للدولة؛ فهم جميعًا يؤيدون التعاون بفطرتهم، ولا يثقون بالمجهود الفردي — رغم ما لهذا من أثر سيئ في القعود بقوة الابتكار — فإذا كانت إنجلترا قد ضربت المثل الأعلى للصناعة إبان القرن التاسع عشر، فإن اليابان هي المثل الأعلى في هذه الأيام.
ولتطور الصناعة في اليابان ثلاثة عصور؛ الأول: من بدء عصر ميجي ١٨٦٨ إلى انتصار اليابان على الصين في حرب ١٨٩٤. وهذا العصر امتاز بنشاط الدولة العظيم في بناء ما تتطلبه دعامات الصناعة؛ لذلك مد أول خط حديدي سنة ١٨٧٠. وفي ١٨٩٤، بلغت السكة الحديدية ٢١١٧ ميلًا، وفي سنة ١٨٧٢، تأسس أول مصرف (بنك) على النظم الحديثة، وأعقب ذلك نشر التعليم على أحدث النظم، وبدأت السفن التجارية تُبنى تحت إشراف الحكومة ومعاونتها، وأقيم كثير من المصانع سنة ١٨٧٠ للحرير والقطن والصوف والورق والزجاج والآلات، ثم أعقب ذلك بناء مراسي السفن، ومناجم الفحم والنحاس، على أن هذا العصر لم يُغيِّر شيئًا قط من ميول الشعب الزراعية، وتبدو الحالة الاقتصادية جلية في تجارة البلاد الخارجية إذ ذاك؛ إذ كانت جل وارداتهم من المصنوعات، خصوصًا المعدنية والمنسوجات — وهذا شبيه بنا الآن — وجل الصادرات كانت من الخامات، وبخاصة الحرير؛ ذاك الذي كان إنتاجه ضعيفًا عهد الإقطاع لما أن كان الحرير قاصرًا على ملابس الطبقة الحربية والأرستقراطية، وحرم على غيرهم؛ لذلك كانت زراعة القطن أكثر انتشارًا، وكان ينسجه الكل في بيوتهم، لكن عقب انقضاء عهد الإقطاع وردت المنسوجات القطنية من الخارج رخيصة، ثم أُسِّست مصانع القطن في البلاد، فزاد الطلب على الخام من القطن الأمريكي والهندي والصيني؛ ذاك الذي كانت تزرعه تلك البلاد بنفقات أقل من زراعته في اليابان، وسرعان ما زاد الطلب الأجنبي على الحرير الياباني، فأحال الفلاح الياباني أرضه القطنية إلى أرض للتوت؛ لتغذية دود القز. وساعدت رقي إنتاج الحرير ملاءمة الأرض له، ومهارة اليابانيين في القيام بشئونه المتعبة. واليوم نرى الحرير الخام أكبر صادرات البلاد، كما أن القطن الخام من أكبر الواردات. ويلي الحرير في الصادرات الشاي والنحاس ومنتجات المصانع الصغيرة.
وعلى أثر حرب الصين، زادت خبرة البلاد الصناعية، واستطاعت محو القيود الأجنبية على الواردات. وتلك القيود كانت ترغم اليابان ألا تزيد الضرائب على الواردات على ٥٪. وتلك الخطوة شبيهة بما اتخذناه في مصر في العام الفائت. وقد ساعد هذا النهوض الصناعي هبوط سعر الفضة التي كانت أساس التعامل هناك إلى سنة ١٨٩٧؛ مما رخص أثمان المنتجات اليابانية فزاد الطلب عليها، وتشجعت صناعاتها (هبوط الجنيه في مصر اليوم شبيه بذلك).
وعقب حرب الروس سنة ١٩٠٥، ضمَّت اليابان لها كوريا وجزءًا من منشوريا، هذا إلى فرموزا، ولوشو التي أخذتها من الصين من قبلُ. وتلك البلاد تطلبت القيام بمشروعات اقتصادية كبرى؛ كالسكك الحديد والمصارف والمتاجر؛ مما شجع الصناعة اليابانية التي أمدت تلك المنشآت. إلى ذلك تنشيط استغلال الكافور وقصب السكر في فرموزا، والبنجر في كوريا ومنشوريا؛ ذلك يصح اعتباره الطور الثاني للصناعة، وفيه بدأت تسلم الحكومة المصانع التي ثبتت أقدامها للشركات تعمل تحت إشرافها، وظلت الصناعة الرئيسية إلى آخر القرن الماضي: السفن والنسيج. أما المعادن فظلت متأخرة؛ لذلك وجهت الحكومة همها إليها هذا القرن، لكنها لا تزال متأخرة لنقص حاجاتها في البلاد؛ فالحديد نادر ويستورد من الخارج، وبخاصة من الصين، والفحم رديء النوع بعيد عن مناطق التعدين.
فتطور اليابان الصناعي لم يظهر فعلًا إلا في الفترة بين حرب الصين والحرب الكبرى؛ أي في عشرين عامًا، ولم تبدأ النظم الغربية في البريد والسكك الحديدية والسفن والمصارف والقضاء والإدارة إلا سنة ١٨٩٤، وانتشر التعليم الفني وظهرت الآلات، خصوصًا في صنع القطن؛ فقد زاد عدد مغازله من ٤١٥ ألفًا سنة ١٨٩٣ إلى ٢٤١٤٠٠٠ سنة ١٩١٣، ثم ظهر رأس المال الأجنبي في استغلال المنحدرات المائية في الكهرباء، فبينا لم تكن اليابان شيئًا مذكورًا في العالم الاقتصادي إلى سنة ١٨٩٤، إذا بها تصبح عملاق الشرق الاقتصادي منذ سنة ١٩١٩.
أما العصر الثالث لهذا النهوض فمنذ الحرب الكبرى؛ ففي خلالها تضخمت صناعاتها بفضل غياب المزاحمة؛ خصوصًا صناعات الأصواف والكيماويات والحرائر والخزف، كذلك قد أفاد الطلب على الآلات الحربية والذخائر مصانع الحديد وتقوَّى أسطولها التجاري؛ إذ شغلت الحرب سفائن الدول الأخرى، فضوعفت السفن اليابانية خلال الحرب، وزاحمت الأقطان اليابانية المنسوجات الإنجليزية التي تراخت إبان الحرب، وصنعت اليابان الأقطان الراقية التي كانت احتكارًا للنكشير. وبين سنتي ١٩١٣، ١٩٢٤، ضوعفت المغازل تمامًا، وقد زاد الإنتاج الكبير الطلب على الفحم والكهرباء، فزاد إنتاج هذين كثيرًا.
على أن الكساد العالمي الذي بدأ سنة ١٩٢٠ كان صدمة خطيرة على المصانع التي لم تُدعم، وبخاصة الحديد والسفن والصوف، التي لا تزال تشكو مر الشكوى، وكان لزلزال سنة ١٩٢٣ أثر سيئ على نهوض الصناعة؛ إذ أتلف كثيرًا من الأرواح والأموال، فاستلزم ديونًا أجنبية باهظة.
ففي خلال الثلاثين عامًا الخالية، حصل انقلاب تام يبدو في أن غالب الواردات اليوم أضحت من الخامات، خصوصًا القطن والمواد الغذائية. أما الصادرات التي كانت من قبل من الخامات، فقد أصبحت من المصنوعات — إذا استثنينا الحرير الخام — كذلك التغير الذي طرأ على أسواق اليابان؛ ففي المقدمة اليوم شرق آسيا وأمريكا الشمالية؛ فأمريكا سوق الحرير الخام والخزف والشاي، ومورد القطن الخام والآلات والمعادن. وتصدر اليابان إلى شرق آسيا القطن والمصنوعات الصغيرة، مقابل القطن الخام من الهند، والأرز والخشب والحديد الخام من سائر بلاد شرق آسيا.
وخلاصة القول: ففي ٦٠ عامًا انتقلت اليابان من بلاد تعيش في القرون الوسطى إلى قوة اقتصادية خطيرة، وكان تطورها منظمًا للغاية في كل نواحيه؛ ففي السنين الخمسة والعشرين الأولى أقيمت الدعامات المادية للتقدم الاقتصادي تحت سيطرة الحكومة، وفي السنوات العشرين التالية ظهر النمو الصناعي، وعاونه النصر في الحروب، وسعة المستعمرات. وهنا بدأت تستقل الصناعة عن الدولة إلا في نوع من الحماية والعون المالي، وظهر تغلُّب الآلات على العمل اليدوي. وأخيرًا جاءت الحرب الكبرى التي أتمَّت هذا التقدُّم الذي أدهش العالم.
ويلاحظ أن ستين في المائة من عمال المصانع الكبيرة من السيدات، وهذا يفسر رخص المنتجات اليابانية من جهة، وعدم نجاح الصناعات التي تتطلب مهارة الرجال كصناعة الآلات. أما النسيج الذي لا يحتاج إلى مهارة العامل بقدر احتياجه إلى حسن الإدارة، وإلى جودة الآلات، فقد نجح تمامًا. ويُعزى افتقار اليابان في مهرة العمال إلى حداثة عهدها في الصناعة، وقلة خبرتها بها.
ولقد دعا إلى استخدام النساء أن المصانع منذ البداءة أقيمت في القرى؛ لرخص أثمان الأراضي بها، فلم تجد من العمال كفايتها؛ وتلك صعوبة تعترض الصناعة حتى في مدنها الكبيرة؛ لذلك لجأ أصحابها إلى العائلات الريفية يُغْرونها على إرسال فتياتها يتعلمن في المصانع، ويشتغلن مقابل أجر معين يستقطع منه جانبٌ نظير المسكن والغذاء الذي يقدِّمه لهن صاحب المصنع.
وغالب مصانع الإنتاج الكبير في يد هيئات اقتصادية كبرى تتصل بالحكومة، حتى عدها البعض نصف حكومية. وإلى تلك الشركات كانت الحكومة تُسلم كل مشروع اقتصادي أقامته بعد نجاحه. وبفضل ذلك تشرف الحكومة على الصناعة تمامًا. ولتلك الشركات أثر كبير في سياسة البلاد. ولعل من أجمل مزايا هذا النظام زوال المزاحمة الذي سببه الإشراف المركزي الشامل، والتضامن الإنتاجي المتين. فهل لحكومتنا أن تتولى النهوض الصناعي مُترسِّمة خُطى اليابان التي تلائم حالتنا؟!
فذاك النجاح العجيب للصناعة اليابانية يرجع الفضل فيه إلى الضرائب الباهظة التي فرضوها على الواردات، وإلى بُعد المزاحمة الأوروبية، وإلى النظام الاجتماعي الذي يؤيد بفطرته التعاون ويقاوم الفردية، وإلى بدء الصناعات الكبرى بوساطة الحكومة التي لا تقوى مالية الأفراد الضئيلة على مزاحمتها. وذاك التعاون لا شك عامل عظيم على تخفيف وطأة الأزمات وتقلُّب الأسعار؛ لأن الجماعة هناك تنقذ العاطل منها على عكس أوروبا. فلمجرد طرد العمال من المصانع في أوروبا ينقصون من مشترواتهم، وهذا يزيد الأزمة سوءًا. كذلك فإن طبقة المأجورين هم الذين ينكبون على المشتروات عند انخفاض بسيط في الأسعار، فيزيد هذا في الارتباك المالي؛ لذلك أنشئت هيئات التأمين ضد البطالة في أوروبا. أما في اليابان فلا داعي لها؛ لأن العاطل يلجأ إلى عائلته، وقد يستأنف الزراعة وهي لا تزال أهم الأعمال في البلاد. ويساعده على ذلك استخدام الدراجات مطيةً يذهب بها العامل يوميًّا إلى قريته، فيعيش وسط أهله دون أن ينفق على مسكنه ومأكله شيئًا يذكر. وهذا هو السبب في نقص العمال العاطلين في اليابان عنه في جميع الدول — لم يبلغ مائة ألف.
وقد ساعد على عدم تقلب الأسعار — إبان الحرب العظمى صعودًا وبعدها هبوطًا — في اليابان منتجاتها الخاصة التي لا تؤثر فيها المزاحمة الأجنبية. إلى ذلك العادة التي قضى بها العرف عندهم؛ وهي أن كل عامل يستغنى عنه يمهر بين ثلاثة أشهر وستة على سبيل المكافأة. وهذا قلل خطر البطالة، لا بل وساعد أصحاب العمل ألا يلجئوا إلى الطرد إلا عند الضرورة القصوى، على أن هذا النظام الذي يساعد على تجنُّب الأزمات يعاكس الكفاية؛ لأن الأزمات هي التي تستأصل غير الأكْفاء من حلبة الإنتاج.
خطر السكان: ولقد أثبت الإحصاء الأخير أن عدد السكان ضوعف تمامًا في خمسين عامًا مذ بلغ مجموع سكان الإمبراطورية ٩٠ مليونًا، وأن الزيادة تبلغ مليونًا في كل عام في الجزائر الرئيسية وحدها؛ ففي القرن التاسع عشر تضخَّم عدد السكان بالقدر الذي تسمح به البلاد، وزاد هذا التضخم عدم الهجرة وقلة الحروب، على أن مستوى المعيشة ظل في حدود التقشف الشديد حسب أوامر الأسرة؛ لذلك ظلت البلاد تموِّن نفسها رغم ازدياد السكان، على أن سكان المدن والطبقات الفقيرة بدأت تتغير حالهم اليوم وتزيد نفقاتهم. ومن العجيب أن أرض اليابان لا يصلح للزرع فيها سوى السُّدس. وهذا هو الذي يموِّن نصف السكان تمامًا. ولقد ازدادت حركة نزوح أهل الريف إلى المدن جريًا وراء الصناعة وزيادة الأجور؛ تلك التي رفعت كلف المعيشة في اليابان كلها. ويظهر أن طول عزلة اليابان عن العالم ونظامها العائلي المحكم أفهم الياباني ضرورة اتِّكاله في الغذاء على إنتاج أرضه، فظل كذلك إلى اليوم؛ لذلك لجأ إلى طريقة الزراعة الاستغلالية القصوى، حتى ضاعف إنتاج الأرض من الأرز، وهو عماد الغذاء، لكن رغم ذلك أخذت تتحسن معيشة الفرد، ويزيد استهلاكه؛ فأضحت مشكلة التموين اليوم حرجة؛ ولذلك بلغ الوارد من الأرز الأجنبي عشر المستهلك في اليابان، وأضحت أثمان الأرز — وهو عماد غذاء الفقير — عرضة للتقلب الشديد.
لهذا كله أضحت زيادة السكان هناك خطيرة، يزيدها خطرًا أن نظامهم الاجتماعي يحرم تحديد النسل؛ فهو يساعد الزواج المبكر، كما أن الأبوين لا يشعران بمسئولية الأولاد؛ لأن رعايتهم فرض على الأسرة بأكملها. إلى ذلك أن الدين الشنتوي يحض على النسل، وينفر من الزواج العقيم، كذلك المرأة اليابانية تعد نفسها خادمة أولادها، ولم ترق إلى مستوى المرأة الغربية التي قل نسلها بسبب ثقافتها وشعورها بمسئولية تربية الأولاد، واشتغالها مع الرجل جنبًا لجنب. والنساء هناك لا يعرفن الطرق الحديثة التي يتبعها الغربيات في منع النسل؛ ذاك الذي أضحت قلته خطرًا في إنجلترا وأمريكا. وفوق الجميع فإن الحكومة اليابانية لا تسمح بنشر أية دعاية تحضُّ على تعطيل النسل؛ وذلك دفاعًا عن الناحية العسكرية، فكأن كثرة النسل في اليابان يكفلها الدين، والعادة، والحكومة، والنظام الاجتماعي. ونصيب اليابان من الهجرة قليل يناهز نصف مليون في الخارج فقط؛ لأن دول أمريكا قيدت الهجرة إليها، وكذلك أستراليا. أما أسيا حيث المجال متسع للهجرة، فإن فيها من وفرة السكان ورخص الأجور ما يسد الباب على مزاحمة الياباني.
لذلك كان لزامًا أن تبتلع المصانع في اليابان كل زيادة في السكان، فيجب زيادة تنشيط الصناعة والاعتماد في الغذاء والخامات على الواردات.
ومشكلة السكان عندنا شبيهة بها في اليابان، وخير السبل لابتلاع الزيادة في السكان إنهاض الصناعة.
ويتساءل الكثير عما إذا كانت المدنية الغربية ستكتسح تقاليد اليابان ونظمها. ونحن نلاحظ أن روح الإقطاع لا تزال تسود النظم السياسية، وأن النظام الاجتماعي والاقتصادي سيظل شرقيًّا بتحوير بسيط، فدعامات المدنية لا تزال هناك شرقية بحتة؛ لأن اليابان لا تثق بفلسفة الغرب وأخلاقه واجتماعياته ودينه وسياسته. ولا يزال الناس يحافظون على مساكنهم وملابسهم ومعابدهم وألعابهم. ومن أحبها لديهم المصارعة التي ورثوها عن آبائهم، والتي يتمرن عليها الجميع حتى السيدات، وتعقد لها الحفلات الرسمية. أما طرق المواصلات ونظم المدارس والمصانع والمصارف وما إليها فأضحت غربية بحتة؛ لذلك نلمس هناك التصادم بين المدنيتين في أشياء كثيرة.
وهذا التناقض الذي يجمع به الياباني حسن الذوق وتقدير الجمال إلى جانب القدرة الإنتاجية المادية هو الذي يحار فيه الغربيون، فكأن اليابان تريد أن تحترم حاضرها وماضيها معًا، وترغب في أن يحترمها الغرب كدولة عظمى دون أن تتنازل عن شخصيتها الماضية.
ولقد كانت اليابان حكيمة في نقل عناصر تقدمها؛ فهي لم تعتمد على دولة معينة، بل استمدت المعونة من عدة دول، كلٌّ فيما امتازت به؛ فالجيش نقلته عن فرنسا إلى سنة ١٨٧١، ثم عن ألمانيا لمَّا ظهر لها فضل الجيش الألماني على الفرنسي، والأسطول عن بريطانيا، والنظام المالي عن أمريكا أولًا، ثم عن فرنسا وألمانيا آخرًا، والسكك الحديدية عن إنجلترا، والنظم السياسية عن ألمانيا. ولعل ألمانيا هي أولى الدول التي نقلت اليابان عنها؛ لأنها أقرب الدول شبهًا باليابان، وبخاصة في النظام الاجتماعي والسياسي. نخص من ذلك القدرة على التنظيم والتعاون؛ فلقد كان للحكومة في المملكتين سلطان كبير، وكلاهما له تقاليد عسكرية خاصة، ونساء الفريقين بينهن شبه قريب. ولقد نُقلت الفنون عن فرنسا. ويظهر أن الجنس السكسوني يجتاح اليابان اليوم في التعليم والتجارة واللغة الإنجليزية، المنتشرة في أسواق الشرق وفي شرائط السينما، التي يرد غالبها من أمريكا، وفي كثرة المبشرين من الأمريكان، على أن الدعاية للدين المسيحي ليست ناجحة؛ لأن الياباني يرى في الغربي شخصًا غير متدين لا يتورع أن يرتكب الخطايا جهارًا؛ فهو في نظره مستهتر بدينه، وهم يرون في دينهم خيرًا؛ فهم لا شك أكثر من المسيحيين عطفًا على الغير، وتضحية للصالح العام، وتسامحًا في الخلق، وتقديرًا للجمال الطبيعي الإلهي. أما الأوروبي فصادق نظريًّا مارق عمليًّا. ويرى البعض أن اليابان هي الدولة الوحيدة التي تجمع بين الطهارة والجمال، فهناك ترى حب الجمال إلى مستوى ذوقي ممتاز، وهناك يقوم الولاء للعشيرة إلى جانب تقدير المسئولية الاجتماعية؛ فهي الدولة الآسيوية الوحيدة التي صدَّت عدوان الغرب عنها، وأعدت نفسها بوسائل الدفاع الحديثة بدون أن تُضحِّي تقاليدها الاجتماعية أو السياسية، وهي الوحيدة التي أجادت فهم الحضارتين: الشرقية، والغربية، وألفت بين الشرق والغرب. فيا حبذا لو نسجت مصر على منوالها! فهي أقرب إلينا من نواحٍ عدةٍ؛ فلنُوفد إليها طائفة من طلبتنا وتُجَّارنا لدرس الوسائل الاقتصادية والخُلقية التي كانت خير عون لهم على ذلك التقدُّم العجيب. ويظهر أن تيار المدنية والرقي والسلطان متجه اليوم نحو المحيط الهادئ، وأن سيكون نهبًا مقسمًا بين اليابان وأمريكا إن هما تعاونتا ووثقتا عُرَى الصداقة بينهما.
الخلق القومي والنظام الاجتماعي: كنت أعجب كثيرًا كلما ناقشت أجنبيًّا لاقيته في اليابان أو في طريقي إليها؛ إذ كان يكيل التهم لليابانيين ويرميهم بالنزعة الحربية والغدر، وحب المادة، والتجرد عن الضمير، وبعضهم كان يرى في نزعتها الحربية أكبر الخطر على العالم. والغريب أن بعضهم كان يعد إخلاص الياباني الشديد وتفانيه في عمله بنشاط فائق خطرًا على العالم! على أنه تبين لي أن تلك التهم عارية عن الصحة؛ فالأجانب يسيئون فهم نظام اليابان الاجتماعي؛ ذاك الذي نفهمه نحن — المصريين — على حقيقة؛ لقربه من نظامنا؛ فمثلًا إذا ما أردت أن توجِّه نقدًا لأحدهم يجب — طبقًا لآدابهم — ألَّا تصارحهم به في شكل جارح؛ لأنهم يعدون ذلك حطًّا من شأنهم؛ فالواجب أن يوجَّه النقد تلميحًا، وفي تعبير رقيق. أما صراحة الغربيين، فتعد هناك جفاء وغلظة، وإذا ما أردت أن ترفض لأحدهم طلبه، أو تبلغه خبرًا سيئًا، وجب أن تصوغ ذلك في عبارات رقيقة ملفوفة التعابير؛ حتى في الأعمال التجارية. ومن هنا كثر سوء التفاهم بينهم وبين الأجانب؛ فكلاهما يتهم أخاه بالنقص الخلقي. إلى ذلك يضاف أن أغلب الأجانب الذي كتبوا عن اليابان لم يَخبروا إلا سكان السواحل، وهؤلاء قد أفسدهم اقترابهم بسفلة الأجانب؛ فهم لا يمثلون عامة اليابانيين؛ يؤيد هذا أن اليابانيين كانوا يعدون طبقة التجار منحطة؛ فهم لديهم دون طبقة العمال والزراع؛ لفساد خلقهم بسبب احتكاكهم بأولئك النزلاء من الأجانب الذين كانوا ساقطي الأخلاق. ومن أسباب سخط الأجانب عليهم سرعة تقليدهم لمنتجات الغير ولشاراتهم التجارية، ولإدخال الغش أحيانًا على بعض السلع، على أن ذلك يكثر في بدء التطور الصناعي لكل أمة. وقد كانت أوروبا كلها كذلك عقب الانقلاب الصناعي هذا. وقد بدأت الحكومة اليابانية منذ الحرب الكبرى تراقب السلع الصادرة لدفع تلك التهم؛ فشكَّلت لجانًا لفحص الصادرات. ولا يصح اتهام عامة اليابانيين بالخيانة والغش؛ فكثيرًا ما كنت أرى حانوتًا فرديًّا تركه صاحبه مفتوحًا تعرض به السلع وعليها بطاقات الثمن، فيجيء المشتري وينتقي ما يشاء، ويضع الثمن في صندوق مغلق بدون محاسب ولا رقيب. ومن أخلاق اليابانيين أنهم يفضِّلون سرعة التراضي والاتفاق بين المتخاصمين، ويثورون ضدَّ من يتمسك بمطلبه للنهاية؛ حتى ولو كان عادلًا، وذلك أثر من آثار استنكارهم للمجابهة القارصة والمصارحة الجافة، عكس الأوروبي الذي يصر على حقه كاملًا للنهاية وبكل جرأة؛ فالياباني شبَّ قادرًا على إخفاء مشاعره وميوله تحت وجه باسم هادئ؛ لأن الظهور بالوجه المقطب — كائنًا ما كان الباعث — عنوان فساد التربية لديهم. وهذا هو الذي جعل قدرتهم على ضبط النفس في حالة الغضب وعندما تلحقهم إهانة مضرب الأمثال؛ ومن هنا جاء احتقارهم للأجانب الذي يعرفون بسرعة التهيُّج والغضب؛ وبخاصة بعدما أثر عليهم جو آسيا المُجهد الذي جعلهم عصبيين لحدٍّ كبير. أما أدب اليابانيين فلم يختلف فيه أحد، فلا يمكن أن يلفظ أحدهم بالشتائم، ولا يلجأ في حديثه إلى الحلف والقسم؛ بل يعلم منذ نشأته لغة التأدُّب الشديد؛ فلا يقول مثلًا «أنت»؛ بل «المحترم»، وبدل أن يقول لك «ادخل البيت» يقول «تنازلْ وشرِّف منزلنا الذي هو دون مقامك»، وإذا قال «اجلس» آثر عليها «تنازل لتستريح وتستمتع.» على أن الأجانب يدَّعون بأن أدبهم هذا ظاهري ليس غير؛ وكأنه أدب القردة، ويستدلون على ذلك بسلوكهم الذي يظهر في المقاهي وقُطُر سكة الحديد، وفي معاملتهم للسيدات، وفي تدخُّلهم بالاستعلام عن كل شيء لدرجة هي الفضول بعينه، لكنهم لو أنصفوا لعلموا أن تلك عاداتهم التي لم يفهمها الغربي؛ فكيف لنا أن نعيب على الياباني مثلًا أن يرتشف الشراب من الكأس بصوت ينفر الغربي من سماعه، أو أنه لا يقف للسيدة، بل للطفل والرجل المُسنِّ — وهو أقرب إلى المعقول؟ وقد كنتُ ألاحظ في الترام أن غالب الواقفين من النساء، ولا يصح أن يقف الرجل للمرأة، بل بالعكس؛ رأيت رجلًا دخل العربة فسلَّم على صاحب له كان يجلس بجواري، وإلى يساره سيدة يغلب — على ظني — أنها زوجته، فوقفت هي وتنحَّتْ له عن مكانها، فجلس بعد أن شكرها، وظلت هي واقفة!
ويصعب جدًّا على الغريب أن يعرف الياباني حقَّ المعرفة؛ لأنه حذر جدًّا في معاملة الأجانب؛ فهم يستقبلونه بأدب ورقة وعطف، لكنهم لن يتقبلوك قط كصديق. ولعل ذلك أثر من آثار عزلتهم في جزائرهم النائية عن العالم كله؛ وتلك صفة تلاحظ في أهل الجزائر عمومًا، وإلى حد واضح. إلى ذلك أثر عصر الإقطاع فيهم؛ ذاك الذي كانت تأبى فروسية أهله أن يظهروا ما تكنُّه أفئدتهم من مشاعرَ، فالياباني يكلم الأجنبي وهو يذكر أنه يمثل اليابان فيزيد حذره، وساعد على ذلك اعتزازه الشديد بقوميته؛ لا بل وقبيلته وأسرته التي يجب عليه احترامها اجتماعيًّا ودينيًّا. ولقد خلف هذا أثره في ضعف الاستقلال الذاتي وقوة الابتكار. ويزيد في ذلك ما يحوط الطفل منذ نعومته من الرعاية التي تجعله مدللًا حساسًا لأقل المصارحات — بعض ما نعانيه نحن في مصر — وكذلك افتقار الياباني في تفهم الفكاهة والمزاح؛ فهو يأخذ ذلك مأخذ الجد في كل المناسبات؛ لذلك شب رقيق الإحساس لدرجة تجعل النقد البريء في نظره إهانة؛ فهم لا يحبون أن يقبلوا النُّصح من الأجنبي؛ مخافة أن يعد ذلك اعترافًا بالعجز من جانبهم! واليابان تعوزها تلك الروح الرياضية التي امتاز بها الإنجليز والأمريكان على غيرهم، وهؤلاء أقدر الشعوب على الجمع بين الخصومة الحادة في القول إلى جانب الصداقة في القلب. أما اليابان فتعدُّ الهزيمة حتى في الألعاب الرياضية انكسارًا مخزيًا شائنًا؛ فكثيرًا ما حدث في المباريات الدولية للكرة أن انفجر لاعبوهم يبكون بحرارة؛ لأنهم دحروا في اللعب، ويحاول نظار المدارس هناك ألا يشركوا أولادهم في اللعب حتى يكفلوا فوزهم فيه. وهذا ما كنا نلمسه في مصر إلى أمد قريب.
ولعل أجل خلالهم التضحية للصالح العام؛ تلك التي يُعزى إليها سحر تقدمهم خلال ستين عامًا؛ فالياباني أسبق الناس للتضحية بنفسه في سبيل رفع شأن أمته، وفي تاريخ اليابان مثل عليا لذلك. نذكر منها حادث الفارس الذي قتل زوجته وبنيه قبل الذهاب إلى ميدان القتال؛ مخافة أن يتعلق بهم في غيبته فتفتر قوة الدفاع فيه! ثم حادث الجوالة السبعة والأربعين الذي انتقموا لسيدهم ثم انتحروا؛ لكيلا يعيشوا بعده وفاءً له! ثم حادث الجنرال «نوجي» الذي مات وزوجته شر موتة؛ ليسجل احتجاجه على إغفال بعض بني قومه تمسكهم بالقديم، وعلى جريهم وراء التجديد الأوروبي! ثم حادث الياباني الذي انتحر ببقر بطنه أمام السفارة الأمريكية هناك؛ ليرد الإهانة التي لحقت باليابان على أثر قانون تقييد الهجرة الذي أصدرته أمريكا سنة ١٩٢٤، وآخر ما حدث ما قرأناه في حربهم مع الصين الآن من أن بعض جنودهم لفَّ نفسه بالمواد المفرقعة ليجري بها إلى الأسلاك الشائكة، فتنفجر وتنسفه هو والأسلاك؛ كي ينفسح الطريق لتقدم الجيش.
أما حبهم للجمال فمثلى يبدو جليًّا في مدائنهم ودساكرهم؛ ففي حفلاتهم وأعيادهم يدهش المرء لقدرتهم على خلق الجمال بأبسط الوسائل؛ فمصابيحهم المنثورة، وأوراقهم الملونة، وأشجارهم المبعثرة مصدر جمال كبير، كذلك أوانيهم الخشبية وأثاثهم وأرديتهم وما هي عليه من نقوش جذابة، كذلك زخرفة منازلهم رغم بساطة بنائها؛ إذ ترى الأرض تُكسى بالحصر من القش يزينها في جوانبها إطار أسود، وفي المحراب تعلَّق صورة متقنة الفن، غالية الثمن. وترى الياباني يعنى بجمال المسكن ويهمل جانب الراحة فيه، على عكس الأوروبي. وكنت أعجب لهم كيف يطيقون المكث في بيوتهم شتاءً على وهنها، وصفير الريح في جوانبها، وقعقعة أخشابها طول الليل، وحتى بيوت الطبقات الوسطى فإنها تكلفهم كثيرًا بسبب العناية بتجميلها. وهو لا يبالي أكانت مريحة أم لا؛ لأنه شب متقشفًا، ودُرِّب على تعشق الجمال وتقديس الطبيعة التي يفهمونها حق الفهم، ويقرءون في الشجر والزهور والتلال معاني لا نفقهها نحن؛ وذلك بسبب طبيعة أرضهم؛ فهي حديثة العهد الجيولوجي، ليس بها من جبال ولا سهول تمتد إلى قصارى مسارح النظر، كلا ولا جبال مهشمة الذرى، بطيئة المنحدر؛ ففي البلاد الأخرى يقارب المرء الجبال والبحار تدريجًا، لكن جلال الجبال وروعة المناظر تباغت الإنسان أينما سار في اليابان؛ فمن كل سهل أو وهدة هناك تبدو النجاد رائعة من كل جانب؛ مما جعلهم يتعرفون من الذرى والغدران والجنادل والصخور الشيء الكثير. وهم يعدونها ملاجئ للآلهة؛ لذلك يحج الجماهير إليها في الصيف في أردية بيضاء. وفي مساء ٣١ يوليه، يروقك منظر آلاف الحجاج في «الكيمونو» البيضاء يغتسلون في البحيرات التي تحيط ﺑ «فوجي ياما» المقدس من أسفله، ثم يبدءون الصعود إذا انتصف الليل وبيدِ كلٍّ منهم مصباح مضيء، فتبدو جموع المصابيح وكأنها عقود النجوم تتلألأ صُعدًا على جوانب الجبل. وفي الذروة يفترش كلٌّ حصيره حتى الصباح لاستقبال الشمس المشرقة. وفي البلاد كثير من أندية الحج يكتتب فيها الكثير؛ تشجيعًا لزيارة تلك الأماكن المقدسة. وحفلات استعراض الزهور ومراقبة القمر من أمتع ما نراه في تلك البلاد.
وقد يخيل للغريب أن المرأة محتقرة هناك، والحقيقة أنها في دائرة اختصاصها؛ أعني تدبير المنزل وتربية النشء، ذات سلطة مطلقة واحترام كبير. أما فيما يختص بالمعاونة العلمية والفكرية فليس لها نصيب؛ لأن وظيفتها زوجة فحسب، عليها أن تطيع زوجها وتحترمه، فإذا سارا في طريق لا يصح لها أن تتقدمه، وليس لها أن تشاطره وإخوانه مجلسه، بل تقدم إليهم ما يطلبون ثم تنسحب.
وعلى الرغم مما خلفه خضوع الأفراد لأوامر العائلة من ضعف الاستقلال وقوة الابتكار، فإن هذا النظام العائلي يحتِّم أن يأخذ الكل بناصر من أصابه ضَير من أفرادها، حتى ولو تطلَّب ذلك جميع أموال العائلة؛ لأن عجزها عن إنقاذ أحد أفرادها خزي كبير؛ لذلك لم تكن اليابان بحاجة إلى ملاجئ أو شركات تأمين ضد البطالة. ولقد صرح المستر «سوزوكي»؛ رئيس اتحاد عمال اليابان، بأن نقابة العمال هناك قوية، رغم افتقارها للرصيد المالي الذي تنفق منه النقابات في ظروف الإضراب؛ ذلك لأن الأعضاء يستمدون المال من عائلاتهم إذا ما أضربوا، وخير ما يبدو هذا التعاون عند حلول نكبات عامة، كما حدث في فاجعة زلزال سنة ١٩٢٣، حين تهافت جميع العائلات على تقديم المساعدة لذراريهم الذين كانوا يقطنون طوكيو، فسهلوا بذلك وسائل الإنقاذ والتعمير؛ فالعائلة سند قوي للياباني يكفل له بعض رخائه. وهذا ما جعل الياباني أقدر الناس على تنظيم التعاون على أساسه القويم؛ وهو الشعور منذ الصغر بأنه جزء من المسئولية الاجتماعية. ويظهر ذلك النظام جليًّا في المدن والقرى، وبين الهيئات الصغيرة، وفي الأعمال التجارية، والوظائف العامة؛ فالموظف يشعر بأن العمل على إنجاح المشروع الذي يخدمه من أقدس واجباته الاجتماعية، وفي نجاحه فوز له وربح كبير من الناحيتين: المادية، والأدبية. وقد كنت ألمس ذلك بنفسي بين موظفي القنصلية المصرية في كوبي؛ إذ كان تفانيهم في العمل وانكبابهم على إنجازه فائقًا كل حد، وطالما كانوا يشغلون وقت فراغهم فيه، رغم عدم تكليفهم بذلك، ورغم مرتباتهم الضئيلة.
فالياباني خاضع لرؤسائه الذين تجب الطاعة لهم ولأنداده؛ لأنه فرد منهم، ولمن هم دونه مقامًا؛ مخافة الرأي العام، فكثيرًا ما يتنازل عن حقه مراعاةً لذلك؛ لأنه يُؤثر أن يحسن جيرانه الرأي فيه على أية فائدة مادية. حدث مرة أن دعا أحد وجهاء قرية صديقًا أجنبيًّا؛ ليقيم عنده أيامًا — وهم يكرمون الضيف ويقدرون الوجاهة والفخفخة قدرًا كبيرًا (يشبهوننا في ذلك) — فكان كلما خرج في نزهة خلوية معه يتحاشى أن يستأجر من العربات أو السيارات ما يدل الناس على إسرافه في غير مبرر، وكان يركب الترام إلى قرية أخرى لا يعرفه أهلها، وهناك يستأجر ما يشاء من السيارات إكرامًا لصاحبه؛ وذلك مخافة سخط أهل بلدته عليه. كذلك حدث أن أثير غضب القوم على غنيٍّ أقام حفلات باهظة بعيد ميلاده، فأمعنت الجرائد في نقده، وعدوا عمله هذا جرمًا اجتماعيًّا. ذلك مثل مما يوقف استبداد الغني بالفقير في اليابان، رغم أن البلاد لا تزال تعوزها النظم الديمقراطية.
وينقد البعض خضوع الفرد وما له من أثر في نقص الشجاعة الأدبية وقوة الابتكار، حتى إن سخط الرأي العام كثيرًا ما يوقف المصلحين أن يقوموا بالمنشآت القيمة التي لم تلمس سذاجة الجماهير مزاياها؛ ومن هنا افتقرت اليابان بالعظماء في الدين والفلسفة والآداب والعلوم. ولقد زاد هذا الرباطَ الاجتماعيَّ هناك الدينُ الشنتويُّ الذي يتلخص في عبادة الطبيعة وتقديس الأجداد؛ فعبادة الطبيعة زادت استمساكهم بأرضهم، وتقديس العائلة زاد الرباط القومي؛ فهم يقدِّمون قرابينهم لمعابد الآلهة؛ لتشترك أرواح الأجداد في استرضاء الآلهة؛ ففي عيد اسمه «أوبون» في أغسطس يعتقدون أن أرواح الأجداد تزور المعابد؛ لذلك يجتمع حولها أفراد العائلة، ويوقدون المصابيح والنيران؛ ليتعجلوا مجيئهم. ويشترك في العيد أفراد الديانات الأخرى؛ لأن الأمر مرتبط بالأجداد، وكذلك يذهب سماسرة السندات كل سنة إلى معبد هناك يزعمون أن الآلهة تدلهم فيه على أسعار الأوراق الجديدة. وفي إحدى المدارس الكبرى للبنات يصلي الفتيات لآلهة «الأبر» التي حطموها طوال عامهن، وقبل أن يُبنى البيت الجديد يُطهر القسيس الأرض ويباركها. كذلك تعلق الحوادث السياسية الكبرى أمام معبد «إلهة الشمس»؛ جدة الأسرة المالكة. وفي كل سنة يذهب رجال المطافئ إلى معبد «إيسي» الشهير؛ ليتوسلوا للآلهة ألا يصيبوا البلاد بالحريق، كذلك تراهم يحجون زرافاتٍ إلى ذرى الجبال لآلهة المياه والصخور وما إليها.
ولا تزال عادة تقديس الأبطال شائعة لديهم؛ فمثلًا إذا ضحَّى رجل نفسه كي يساعد ذويه في كارثة نزلت بهم؛ يعده أهل القرية إلهًا حتى في مدة حياته إذا نجا من الموت؛ فالجنرال «توجو»؛ بطل الحرب الروسية اليابانية، يعبدونه في إيسي، وكثير من الناس يحجون لزيارة روح الجنرال «توجي» وزوجته اللذين انتحرا سنة ١٩١٢؛ احتجاجًا على تقليد الغربيين بكثرة في اليابان! وحتى «تاكاموري»؛ زعيم ثورة سنة ١٨٧٦، التي قامت ضد الحكومة لأنها أدخلت النظم الحديثة الغربية؛ يجله القوم إجلالًا كبيرًا.
وللنظام الاجتماعي هناك أثر في ميلهم للألفة والاجتماع. ورغم أنهم حذرون في مخاطبتهم للأجانب، وعندما يرد موضوع اليابان في الحديث فإنك ترى الواحد مخالطًا لجميع أفراد عائلته يقفون جميعًا على أسراره كلها؛ لذلك كثيرًا ما يتضايق الأجانب عندما يفاجئهم بعض اليابانيين بالاستعلام عن أشياء شخصية أو عائلية لا تعنيهم قط. وهم يعدون ذلك من قلة الذوق، مع أن الياباني يعده اهتمامًا منه بشأن من يخاطب.
ولا يزال للطبقات عندهم أثر رغم التطور الذي أُحدث، إلا أنك تعجب إذ ترى عطف الممتازين على الطبقات الوضعية بالغًا حده. وكانت طبقاتهم أربعًا: رجال الحرب؛ ويشملون الدايميو أو اللوردات، والساموراي أو الفرسان، ثم طبقة الزراع، تليهم طبقة الصناع فطبقة التجار، ولا تزال ترى في البطاقات التي يملأ خاناتها نزيل النزل فقرة لكتابة الأسرة وطبقتها إلى اليوم. وكانت هناك طبقة دون هؤلاء جميعًا أشبه بطبقة المنبوذين في الهند تسمى «أيتا»، ولا يزالون يُحتقرون هناك إلى اليوم، ويُظن أنهم في الأصل سلائل الأينو، وهم سكان اليابان الأصليون، ولا تزال منهم بقية تمارس المهن الوضيعة، من بينها الاشتغال بالجلود والذبح والسلخ والإعدام. ولا يسمح لهم بالزواج إلا من طبقتهم. وكان لهم حاكم عنهم يتصرف في شئونهم. وسر دنسهم هذا الدين البوذي الذي يحرم القتل؛ لذلك عد من ينفذ الذبح أو الإعدام نجِسًا! وهم يكثرون في مقاطعات خاصة في الشمال اليوم، وقد تصل مشاحناتهم مع جيرانهم من الطبقات الأخرى حدًّا خطيرًا. ولا يزال المزارع عندهم في المرتبة الثانية كما كان قديمًا، وقد كان المزارع يدفع ضريبة الأرض أرزًا، وإذا وقع عليه حيف من الحاكم كان الزراع يوفدون جموعًا منهم لملاقاة حكام العواصم (الشواجن)، على أن الوصول إلى أولئك كان متعذرًا، فكان بعض الزراع يتجاسر ويضحي بنفسه في سبيل رفع الحيف. حدث مرة أن ألقى أحدهم بظُلامة في عربة «الشوجون» مخترقًا الحشد في الطريق، فأصدر الحاكم أمره بعقاب المتسبب في الظلم من الحكام أولًا، ثم أمر بصلب الرجل المتظلم هو وزوجته وأولاده؛ عقابًا له على تجاسره هذا، وردعًا لغيره. وكان في قانونهم أن صاحب الذنب الكبير لا تنجو منه عائلته! أما من اشتركوا معه في التدبير فيُنْفون من البلاد.
هذا مثل من نظامهم الاجتماعي الذي ظل في سواده سدًّا منيعًا في وجه عوامل التغير رغم التطور المادي، على أن الشباب اليوم مسرع في طريق التحول، وبخاصة منذ الحرب الكبرى. ولقد شاطرت المرأة الرجل في الأعمال الخارجة عن دائرة المنزل. ولعل أخطر شيء يتهدد هذا النظام الاجتماعي المتين كثرة العمال؛ فاشتغالهم في المصانع يساعد على انحلال الروابط العائلية، كما أن سهولة وسائل الانتقال ستزيل تعصب الفرد لبيئته، وتخفف من عصبيته لقريته التي ظل محافظًا على تقاليدها.
دخلنا شمونوزيكي ليلًا، ومنها ركبنا البحر في سابحة يابانية شبيهة أخواتها في بحار دنمركة، وظلت تمخر بنا عباب بحر اليابان طوال الليل. وكان هادئًا جميلًا، لكنه في الصباح فاجأنا بضباب كثيف أعقبه مطر وابل واضطراب غير مألوف أعاق سير السفينة، فتأخرت ساعة عن دخول مياه فوزان؛ ثغر كوريا، الذي بدا ثغرًا كثير الحركة، ممدود الأرصفة، غاصًّا بالسكان، يحكي ثغر بورسعيد عندنا.
- (١)
لأنها تستورد الآلات كلها من الخارج.
- (٢)
بدأت ولم يكن للعمال هناك بها خبرة قط، فاستعانوا بالخبراء الأجانب.
- (٣)
كان الوقود من الفحم في اليابان نادرًا، وكانت أجور العمال — ولا تزال — رخيصة جدًّا.
- (٤)
لم يكن لليابان شركات ملاحة تخدم تلك الصناعة، فبدأت نواة الأسطول التجاري مع بدء صناعة النسيج.
- (٥)
كانت الحكومة تُقدم لها الإعانات المالية والتسهيلات بسخاء!
- (٦)
فرضت رسومًا كبيرة على الواردات؛ لتحمي صناعة النسيج صارفة النظر عن المجاملات التي تفوت عليها مصلحتها.