كوريا
وتُسمَّى «شوزن»، ومعناها أرض الصباح الهادئ: قام بنا القطار صوب سيول؛ عاصمة كوريا؛ تلك التي وصلناها بعد عشر ساعات كاملات. وكان الطريق كله جبليًّا معقدًا تفوق ذراه تلك التي في اليابان، لكنها أميل إلى الجدب؛ إذ تكاد تكون عارية عن الشجر. وكنا نرى مسائح ممتدة مهملة. ويعزو اليابانيون ذلك إلى حكَّام البلاد الأوائل. وتربة البلاد فقيرة على وجه العموم، ويتخلل تلك الرُّبى وديان تتلوى في انحناءات عجيبة وتفيض بالماء. وفي كوريا ستة أنهار عظيمة طامية تفوق تلك التي في اليابان نفسها طولًا وعرضًا، وغالبها يجف موسم الجفاف عندما يقرب الشتاء. وفي بطون تلك الوهاد تقوم القرى في أخصاص تتجمع في تزاحم كثيف، ويُبنى هيكلها من الخشب تكسوه طبقة من الطين، والسقوف كأنها الأهرام أو النواقيس من قش الأرز. وهي فقيرة قذرة، والطرق بها رديئة لا تخلو من الأوحال. والبلاد عديمة السهول؛ فهي في جملتها وهاد على جوانب الوديان تزرع من الأرز والفول والتوت، والفقراء هناك يأكلون الذرة. أما الأرز فللأغنياء، وأهل كوريا أطول قامةً ووجوهًا من اليابانيين، وهؤلاء أخلاط؛ لأن سكان اليابان الأصليين كانوا من الأقزام، ثم جاء الأينو وطاردوهم. ولا تزال منهم بقية في جزائر كوريل تناهز الألف، وفي سخالين كذلك، وفي هوكايدو تناهز خمسمائة. وغالب الظن أنهم قوقازيون يعزز ذلك لونهم الأبيض وشعرهم الغزير، وهم زحفوا من الشمال. أما من الجنوب فوفد على اليابان شعوب الملايو؛ الذين يظهر أثرهم في نظام المساكن التي لا تزال تحافظ على هندسة الملايو، وكذلك في ميلهم للاستحمام بالماء البارد، وفي مهارتهم في السباحة. وإلى هؤلاء يُعزى ضعف أسنان اليابانيين؛ لأنهم كانوا — ولا يزالون — يأكلون فاكهة خضراء ضارة اسمها «بيزم»، وكانوا يخضبون الأسنان باللون الأسود؛ تلك العادة التي كان يتبعها اليابانيون إلى وقت قريب — أما الأينو فمن عاداتهم إلى اليوم تخضيب الفم لا الأسنان — ومن الغرب جاء المغول عن طريق كوريا — ومن هؤلاء تعلَّم اليابانيون الاغتسال بالماء الحار — ومن كل أولئك نشأ الياباني الحالي. ويُعزز الصلة بأهل الملايو عادة اختلاط الرجال بالنساء؛ تلك التي تحرم في بلاد الصين. كذلك أثرها في اللغة؛ فاليابانية والكورية خليط من الملايو وغيرها. أما لغة الصين فلم تتأثر بها قط. وقد عثر الباحثون على كثير من مقابر شبه سويسرية في كوريا دون اليابان؛ مما يعزز علاقة الكوريين بأوروبا. ولقد ظلت كوريا بين ناري الصين واليابان وتعرضت لغزواتهما المتتابعة.
ظل القطار ينهب الأرض بين تلك الجبال المعقدة التي كان يشقها بأنفاق لا حصر لها، وكان جو يومنا جميلًا خفَّف من حرِّه وابل المطر؛ ذلك الذي يتأخَّر موسمه قليلًا عنه في اليابان. وغالب الجبال هناك حديثة العهد تمتد امتدادًا طوليًّا؛ مما يؤيد خضوع البلاد للضغط الشديد الذي تسببه أغوار البحار، التي لا تزال تزيدها قوة الخفض عمقًا من حولها إلى اليوم. وأخيرًا دخلنا:
القصر الشمالي: شيِّد خلال القرن الخامس عشر، ثم احترق خلال الحرب اليابانية سنة ١٥٦٣، لكن أُعيد سنة ١٨٥٠ بأمر الأمير «تايوون كون» الذي أثقل كاهل الناس بالعمل ودفع الضرائب لإنجازه. ويحيط به سور من حجر وخشب في الخرط الصيني الجميل، وفي وسطه تنتثر المقاصير الأنيقة وأجملها ثلاث: مقصورة العرش، ومقصورة الاجتماعات، ومقصورة الحفلات. وهذه تتوسط بحيرة تصلها بالبر قناطر جذابة؛ ولذلك سميت أحيانًا بمنزل الصيف. وفي حديقة القصر سُفك دم آخر ملكة لكوريا سنة ١٨٩٥ وأحرقت جثتها، وبجوارها المتحف التاريخي، ويحوي مجموعة صغيرة من آثار كورية القديمة من حليٍّ وأوانٍ وأسلحة وتماثيلَ. وأهم معابد المدينة:
معبد شوزن: فوق ربوة مشرفة اعتليناها بسُلَّم شاهق تحفه المصابيح الحجرية.
والمعبد أقيم على النظام الشنتوي، ويبدو منظر المدينة من دونه رائعًا؛ لأن «سيول» كلها في وهدة تحيطها الربى، ويطوق زُهاء نصفها نهر هان الصغير يطل عليه متنزه «نانزان» الجميل. ومن المباني التي يفاخر بها اليابانيون دار الحاكم؛ أقيمت من رخام كوريا المُجزَّع بديع النقش، وكذلك دار البريد، ودار البلدية.
وأول من اتخذ المدينة حاضرةً له مؤسس أسرة «يي»، فأحاطها بسور اشتغل فيه ١٩٠ ألف عامل لمدة شهرين في الربيع، ومثلُ هذا العدد من النساء في الخريف، حتى بلغ امتداده خمسة عشر كيلو مترًا، وعرضه ستة أمتار، وارتفاعه كذلك. وما فتئت المدينة تتضخم حتى ناهز ساكنوها اليوم ثلث المليون، وهم أخلاط من الكوريين واليابانيين والصينيين. وأظرف ما يسترعي نظر السائح أردية الرجال والنساء؛ فالأحذية من قماش أبيض يلتوي طرفها المدبب إلى السماء، وجواربهم بيض يعلوها «بنطلون» وصدار للرجال. وقد يرتدون فوق ذلك كله عباءة من قماش جامد منتفخ بما أشبع من «النشا»، ورداء النساء كذلك، ويزيد حزام ضيق في وسط الجسم. وقبعات الرجال مضحكة منفرة؛ فهي أشبه بقمع أسود مقصوص من أعلاه، وله حافة قصيرة كإفريز القبعة، وتحته قلنسوة تلبس مُحكَمة في الرأس فتبدو القبعة نفسها، ولا تكاد تستقر فوق الناصية لولا شريط يربطها بما تحت اللحية. والرجال المسنون يطلقون لحاهم وشواربهم في شعرها الخفيف الذي يطول فيتدلى إلى جوانب الفم، وتُرسل اللحية مدببة الطرف؛ مما يزيد أشكالهم سخرية. وقد كانت هذه أردية اليابان من قبل أن يظهر الكيمونو بشكلها الجذاب.
وها نحن نرى ما جرَّته المطامع من حروب لا تزال مُسْتَعِرةً إلى اليوم. ومجموع سكان البلاد ٢٥ مليونًا، تسعون في المائة منهم من الصينيين. والنقود الصينية هي المتداولة في أنحاء البلاد عدا المنطقة اليابانية على طول الخط الحديدي، وفي مكدن العاصمة؛ حيث تستعمل النقود اليابانية والكورية.
ولا نعلم عن ماضي منشوريا البعيد شيئًا سوى بعض الغارات التي كانت تشنُّها القبائل تِباعًا هناك. وفي سنة ١٢٦٠ ضمَّ جنكيز خان البلاد للصين، وزاد نفوذ المغول وأسسوا دولة المانشو، وفي سنة ١٦١٦، قام أحد أبنائها «نولوهاشي» وفتح مكدن وحارب الصين، ثم جاء خَلَفَهُ ففتَح كوريا وسمَّى أسرته «تسنج»؛ أي أسرة الأصفياء. أعقب ذلك اضطراب في الصين لم يسعها إزاءه إلا أن تطلب معاونة المانشو الذين فتحوا بكين، وآلَ المُلك إليهم سنة ١٦٤٤، وظل في أيديهم ٢٩٦ سنة، على أن الدم الصيني ساد أهل منشوريا بحيث لا يكاد يفرِّق المرء اليوم بينهم وبين الصينيين في السِّحن والعادات والأخلاق. وفي القرن التاسع عشر، امتد النفوذ الروسي إلى المحيط الهادئ، وأقيمت سكة حديد سيبيريا إلى ڤلاديڤستك. وعلى أثر حرب الصين مع اليابان تدخلت الروسيا ومُنحت امتيازًا بمد سكة حديد شمال منشوريا وقطعة من كوانتونج، وبعد ذلك بعشر سنين هزمتها اليابان فتنازلت لها عما تملك، فأضحى ما لليابان اليوم هناك ١٣٠٠ ميلًا مربعًا. يضاف إلى ذلك منطقة السكة الحديدية إلى بورث أرثر ودايرن إلى أجل ٩٩ سنة. وللشركات اليابانية هناك من السكك الحديدية ٦٨٦ ميلًا، إلى ذلك كثير من الفنادق والمصانع والمنشآت الاقتصادية. وهي بحجة المحافظة على كل أولئك تبرر موقفها ضد الصين في النزاع الذي نقرأ عنه اليوم.
قمت إلى مكدن؛ عاصمة منشوريا، فوصلتها في ثلاثين ساعة، وخلفتُ ورائي سيول بأزيائها المختلفة من يابانية جذابة، وكورية مضحكة، وصينية منفرة، فأخذ القطار يخترق أنفاقًا لا حصر لها وسط جبال معقدة تشقها الوديان تكسوها الخضرة. وكان يظهر على أهل البلاد الجهل المطلق والفقر المبيد في قذارتهم، وكثرة السابلة والمتسولين. وكنا كلما قاربنا منشوريا انفسحت السهول، وظهر نبات الذرة والفول، وندر الشجر. ولم تكد تغيب الجبال عن الأنظار إلا قرب مكدن، حين أضحت المناظر شبيهة بمناظر مصرنا الغالية. والسكان هنا أندر منهم في كوريا، وفي كوريا منهم في اليابان؛ يؤيد ذلك قلة القرى والمساكن التي كنا نجوزها. وبمجرد أن اجتزنا الحدود عند «شنجيشو» أخَّرنا ساعاتنا واحدة كي نتمشى مع زمن الصين، وهنا أقبل رقباء الجمارك وفتشوا الحقائب في رفق، ثم عبرنا نهر «يالو»؛ وهو الحد بين القطرين، وبدت بيوت منشوريا بالحجارة والطين. أما الخشب فنادر؛ لندرة الشجر هناك. أما المروج لمرعى الخيول والماشية فمترامية، وكان بعض القوم يحرثون الأرضَ بمحاريثَ تجرُّها الأبقارُ على الطريقة المألوفة في مصرَ، وأخيرًا عبرنا نهر كونجا من أكبر أنهار منشوريا، ثم دخلنا:
والأحياء الوطنية قذرة تكسو طرقها طبقات من تراب تغوص فيه العجلات، ويثور فيطمر كل شيء، والناس في قذارة، والأطفال عراةٌ يعبثون بالأتربة والأوحال، والعاطلون في كل مكان، وسيماء الفاقة تبدو على وجوههم جميعًا، والمتسولون لا يحصون عدًّا.