الصين
أعقب ذلك عصر إرهاب ومظالم تحت أسرة هسيا لمدة ٤٣٩ سنة، تبعتها أسرة شانج التي أعادت النظام بعض الشيء وحكمت ٦٤٤ سنة، ثم جاءت أسرة شو التي حكمت ٨٦٧ سنة، فقام وووانج وقسم البلاد على أقربائه وقواده، ومنحهم ألقاب شرف عديدة. وهنا ازدهرت الفنون والآداب، وأصبحت البلاد زراعية، وانمحت آثار البدو كليةً. وهذا يعد عصر الأدب الصيني الذي اتخذه كنفوشيوس نموذجًا لمُثله العليا.
كثرت غارات البرابرة فاستقلت الإقطاعات عن الحكومة الإمبراطورية، وسادت الفوضى، وعم الفساد، فقام كنفوشيوس يبشر بفضائله سنة ٥٥١ق.م، وكذلك لاوتسي ومنشيوس.
وفي ٢٥٥ق.م قامت أسرة شو، فألغى الإمبراطور النظام الإقطاعي، وقسم البلاد إلى ٣٦ مديرية يديرها حكَّام يُعينهم هو. وهنا أقيم السور الأعظم ليردَّ البرابرة. وقد أحرقت كتب الأدب وقتل مئات من أتباع كنفوشيوس لمعارضتهم لتلك السياسة، فأهاج ذلك غضب الشعب، وخلعوا تلك الأسرة، وأقاموا «ليوبانج»؛ مؤسس أسرة هان، فازدهر الأدب وامتدَّ سلطان البلاد، خصوصًا تحت الإمبراطور ووتي. وقد فُتحت المواصلات مع الهند لأول مرة، فدخلت البوذية سنة ٦٧ ميلادية، واستعيدت تعاليم كنفوشيوس ونُقشت على الصخور، وبدأ استخدام المداد والورق، وأقيمت المكتبات، ونبغ كثير من العلماء. وفي أُخريات تلك الأسرة ثار عليها ثلاثة قوَّاد حكموا البلاد وطوحوا بها إلى الفوضى، وسمي عهدهم «عصر الممالك الثلاث»، حتى جاءت أسرة تشن بين ٢٦٥–٤٢٠، وفي عهدها هدد الهون والروم البلاد، وأُوفد رسول من القسطنطينية إلى عاصمة الصين، وقيل: إن تسمية البلاد «الصين» ترجع إلى اسم تلك الأسرة، وهي أول من اتصلوا بالعرب والفرس والهند، وقال بعضهم: إن الاسم محرف عن «تسان»؛ أي الحرير أو أرض الحرير. وأعقب تلك عدة أسرات صغيرة ظلت ٢٠٠ سنة، وآخرتها «أسرة سوى»؛ وهي التي حفرت القنوات العدة لتصل بين الأنهار المختلفة. وفي هذا الزمن نقل رهبان أوروبا صناعة الحرير لأول مرة إلى جنوب أوروبا، ثم جاءت أسرة تانج ٦٢٠–٩٠٧، وثاني ملوكها نشر العدالة والعلوم، وأصلح قانون العقوبات، وردَّ جنودُه البواسل هجمات البرابرة والأتراك. وفي مدتهم امتدت الصين من بحر قزوين إلى المحيط الهادئ، ووفد السفراء من الروم والفرس واليابان وكوريا، فانتعشت التجارة بينهم. وقد شجعت الطباعة بالحروف نشر الأدب، وبلغت الحضارة شأوها.
وتبع ذلك خمس أسرات ضعاف، جاءت بعدها أسرة سونج (٩٦٠–١١٢٧)، فكافح أول حكامها «تاي سو» عشرين عامًا ليوحد البلاد، وسُمي عهده «عهد أوغسطس الصين»، ولكن سرعان ما هاجمهم طوائف من التتار «تسي ثان»، وبعدهم «نوتشين»، ثم خضع الجميع لجنكيز خان الذي اجتاح المديريات الشمالية برجاله البواسل من المغول، فمهَّد السبيل لحفيده كوبلاخان؛ الذي أسس أسرة يوان سنة ١٢٦٠. وظل هؤلاء الأجانب حكام الصين لمدة ١٠٧ سنة، فوظفوا كثيرًا من الأجانب — من بينهم ماركو بولو؛ الذي أعطى أوروبا أول فكرة عن الصين — وأخضعوا الصين كلها وكوريا وجزءًا من الهند الصينية، وحاولوا فتح اليابان لولا عاصفة أودت بأساطيلهم، على أن الصينيين تخلصوا من هؤلاء الأجانب وأقاموا أسرة:
- حرب الأفيون (١٨٤٠–١٨٤٢): حين قاومت الصين دخول الأفيون إلى بلادها، فأتلفوا ٢٠ ألف صندوق في كانتون، فتحرجت الحالة بينها وبين التجار، ووقعت لذلك الحرب بين الصين وإنجلترا، فهُزمت الصين وأُجبرت أن تدفع ستة ملايين من الريالات ثمنًا للأفيون، و١٥ مليونًا على سبيل الغرامة، مع ترك جزيرة هنج كنج لإنجلترا. وفي معاهدة نانكنج هذه أُرغمت الصين على فتح ثغورها للتجار الأجانب؛ خصوصًا كانتون وشنغهاي وفوشو.
- حرب اليابان (١٨٩٤-١٨٩٥): قامت بسبب المنافسة على امتلاك كوريا، وكان النصر حليف اليابان، لكن الحلفاء وقفوا في سبيل مطامعها.
- عصيان الملاكمين boxer (١٩٠٠): قام الصينيون بطرد الأجانب الذين هددوا الوحدة الصينية مذ امتلك الألمان كياوشاو، والروس بورث أرثر ودايرن، وبريطانيا واي هاي واي و٥٠٠ ميل في كولون تجاه هنج كنج، وفرنسا كوانج شاو وان تجاه جزيرة هينان، فهاجموا الأجانب وحاصروهم لكنهم هُزموا.
وفي حرب اليابان مع الروسيا (١٩٠٤-١٩٠٥) احتلت اليابان سكة حديد منشوريا وضمَّت كوريا نهائيًّا.
وكم كانت تضايقني كثرة البصق والتجشي والتمخُّط في كل مكان، وبين كافة الطبقات، في شكل تشمئز منه النفوس! كذلك الخشونة التي كانت تبدو في طباع الناس. وشتان بين آداب اليابانيين السامِيَة وجفاء هؤلاء.
ظل أهل الصين خاضعين لهؤلاء الدخلاء من سلائل المانشو من التتار خضوعًا مخزيًا يدل على انعدام روح المقاومة بينهم، تلك التي نشطت قليلًا أوائل القرن الحالي، وبدت في شكل ثورة سنة ١٩١١، حين هاجمهم الصينيون وأبادوهم، وذبحوا أبناءهم، وتخلَّصوا من نِيرهم؛ إذ كانوا يعيشون عالة عليهم.
والمدينة التتارية تقام في شكل «حدوة الفرس»؛ تقديرًا لخيلهم، وتفاؤلًا بها؛ إذ كانت مطيتهم التي أغاروا بها على البلاد لمَّا أن وفدوا من صحاري القرغيز ومنغوليا. ويتوسط المدينة عادةً بيت القائد؛ تؤدي الشوارع الرئيسية إليه، وتنتشر حوله المعسكرات.
وفي بكين تتوسط المدينة التتارية مدينة أخرى يسمونها المدينة الإمبراطورية، لها سورها الخاص، وكانت مقر الأسرة والحاشية وكبار رجال الدولة. ومن داخل هذه أيضًا: المدينة المُحرَّمة؛ مركز الدنيا في زعمهم! يتوسطها عرش التنين ذائع الصيت؛ ذاك الذي جلس عليه ملوك المغول والصين والمانشو على التعاقُب، وحولها سُور من الخزف الأصفر البراق.
وكنفوشيوس فيلسوف عاش في الصين بين ٥٥٠ و٤٧٨ق.م، كثُرت في عهده الجرائم، وانحطت أخلاق الناس، فقام يبشر بالفضيلة، على أنه لم يدَّعِ أنه مكلَّف بتبشير رسالة إلهية، فجمع تقاليد أجداده وصاغها في قالب أدبي فلسفي. وكان يُعنى بصفة خاصة بالروابط الاجتماعية، ويحتم تقديسها، وكان يقول بأن المجتمع نظام إلهي يقوم على خمس: علاقة الحاكم بالرعية، والزوج بزوجته، والوالد بابنه، والأخ الأكبر بأخيه الأصغر، والصديق بصديقه. وكان يفرض في تعاليمه وجوب الطاعة في غير مناقشة؛ وبخاصة في العلاقات الأربع الأولى، كما يحتم على الحاكم العدل والرحمة والإخلاص. ولم يُشر في تعاليمه إلى إله خاص. وكان ينصح تابعيه أن يترفعوا عن التفكير في عالم الأرواح، وألا يتوقعوا شيئًا في الدار الآخرة. ولقد كان لتعاليمه كثير من الفضل على الصين من ناحية الأخلاق، لكنه قتل فيهم الطموح والنظر إلى المستقبل، وهو أسُّ النهوض، فخلف فيهم مدنية راكدة ظلت أجيالًا، ولم تخطُ إلى الأمام قط. ولا زال أساس التعليم هناك يقوم على وصاياه وكتبه الأدبية الفلسفية، وكان — ولا يزال — يستظهره الجميع حتى الأطفال المبتدئون، على أن عهد الجمهورية الحديث بدأ يُدخل شيئًا من التغيير على هذا النظام العتيق.
قصدت أحد المعابد البوذية، واسمه معبد «اللَّاما»؛ وهو أحد المذاهب البوذية الذي يستمد الوحي من المعبد الرئيسي في هضبة التبت. وكانت قد حلت البلاد منذ أسرة «يوان». وكان القسس يلبسون الأردية الحمراء، لكن حوَّلها براطرة «المنج» إلى الأردية الصفراء؛ ومن هنا سميت أحيانًا بالديانة الصفراء. أما كلمة لاما فمعناها «سامٍ» في لغة التبت. وأول ما ظهرت الديانة البوذية في القرن الأول الميلادي مُحاوِلةً أن تتمَّ النقص الذي أهمله كنفوشيوس، وبخاصة جانب القيام بالشعائر، وجانب الرجاء في ثواب الآخرة. ولقد اعتنقها كثير من عامة الشعب. وترى معابدها في طول البلاد وعرضها، لكنها مهملة، والقسس فيها جهلة يحتقرهم الأغلبية، وبخاصة الطبقات الممتازة، وما هي في نظرهم إلا الشعوذة بعينها. دخلت المعبد — ويخالونه مقر روح بوذا — فبدت مداخله رائعة ممتدة، وتتوسط فناءه تماثيلُ لحيوانات بشعة غريبة، وفي الوسط تمثال لبوذا نُحت في جذع شجرة واحدة، وعلوه ستون قدمًا. ورأينا كثيرًا من المباخر من الحجر والبرنز، وعجلة التعبد النحاسية التي تدور بانتظام، وتعطي أصواتًا في فترات متساوية يمكن للمتعبدين أن يقرءوا أورادهم وراءها. وصادف أن كنا هناك الساعة السادسة مساءً؛ وهي ساعة الصلاة، فرأينا جموعًا غفيرة من الأطفال والشبان والكهول يخرجون من سرادبيهم وعليهم العباءات الصفراء، وفوق رءوسهم قبعات كأنها عرف الديك، أو منقار الببغاء، ثم أقبل رئيسهم وهم جلوس تحت أقدام بوذا، وأخذ يطوف بهم وبالتمثال ويصيح صيحاتٍ مزعجةً وهم يرددونها وراءه في مشهد رهيب. وأذكر هنا وأنا خارج أن أقبل قسيس يعرض عليَّ قطعة من حرير منقوشة ادَّعى أنها أثرية قديمة، وكان يخفيها بين طيات ثيابه مدعيًا أنه سرقها، ويرجوني الإسراع في البت في شرائها خشية أن يراه أحد، وهو زعيم ديني! فقلت: يا لله! إلى متى يعيش الإنسان في تلك الظلمات؟! طائفة من الدجالين يحتمون تحت ستار الدين، فيعيشون عالة على بسطاء العقول وهم السواد الأعظم من أهل البلاد. وأخص ما يسترعي نظر علماء الاجتماع في غالب عقائد الصين أنها تحتم الطاعة العمياء لرجال الأدب وللمتقدمين في السن، وبخاصة الآباء، حتى عدت أرواحهم مقدسة بعد مماتهم، فكان من سيئات ذلك أن هم كل فرد بالزواج المبكر؛ كي يلد أكبر عدد ممكن من الأبناء الذين يحيون ذكراه، ويوفرون لروحه السعادة بما يقدمونه من قرابين، ومَن لم يستطع القيام بذلك لفقره وجب على المحسنين أن يعينوه بمالهم حتى يستطيع أداء واجبه، ومن لم يعقب اضطر أن يتبنى من ذرية الغير؛ لذلك كثرت ذراريهم إلى درجة جعلت تنازع العيش بينهم ممضًّا؛ ذاك التنازع الذي أدى إلى سياسة الابتزاز الممقوتة التي عُرف بها أهل الصين جميعًا، فكل فرد يحاول ابتزاز المال ممن هو دونه، وكان مجال الرشوة لديهم في كل الأعمال فرضًا لازمًا، حتى ضاعت في سبيلها قوميتهم، وفترت حماستهم الوطنية. هذا إلى اعتقادهم في العفاريت التي أثَّرت حتى في أبنيتهم، فلا يصح أن يعلو البيت جاره، ولا أن تقام القناطر إلا ملتوية محدبة، وأن تلتوي السقوف في أطرافها إلى السماء؛ كل ذلك دفعًا للجن! ولعل لذلك الخوف أثره في إهمال التعدين؛ خشية إزعاج الجن في بطن الأرض، ويرمي الأجانب أهل الصين بأنهم أسرى موتاهم؛ فالولد يجب عليه أن يعرض التابوت الذي سيدفن فيه والده بعد موته في أفخر ردهة من البيت، ولا يفتأ يزيد فيه نقشًا وترصيعًا، وكثيرًا ما يستدين الولد كي يفي بهذا الواجب المقدس! فإذا مات الأب اشترى له ماء الغسل من الخارج، وارتدى المشيعون القماش الأبيض، واستشير العرافون في تخير ميعاد يلائم الدفن، ولذلك فكثيرًا ما تبقى الجثة في البيت طويلًا! وإن حل بالعائلة سوء عزوه إلى سوء اختيار مكان الدفن وميعاده، وعندئذ يحمل التابوت عشرات من الناس يتقدمهم حشد يحمل كل لوحة نقشت عليها ألقاب المتوفى ومزاياه. ويجب أن يكون مظهر الجنازة فاخرًا مهما كلفهم ذلك، وإلا كان عارًا لا يمحى! ومن أعجب ما لاحظته بين المشيعين: طائفة تحمل طبولًا تقرع بشدة، وآخرون يحملون تماثيل بشعة لنساء ورجال تقرب من النعش؛ لدفع الجن عنه. أما النعش ففي لون أحمر براق تزينه أهداب القصب وترصيع الذهب الثقيل؛ مما أذكرني بعادة أجدادنا الفراعنة.
على أن الصين أبعد الدول عن التدين، والصيني معروف بعدم العصبية الدينية، وهو ضعيف الإيمان والثقة بالآلهة! لذلك يغيرها كل يوم؛ لأنه يراها غير عادلة تنزل العقاب جزافًا، ولا تستجيب دعاءه! وبلغ من احتقاره إياها أنه إذا تخلف المطر أوقف البخور لها! وقد يضربها بالسياط أو يلقيها في النهر! وكلما حلت نكبة ببلدة ما اتهم آلهتها بالعجز؛ فغيرت! وإن انتصروا في الحرب مجدوا إله الحرب! وأقدس آلهتهم إله الأدب! وقد يخدع الصيني الآلهة، فيقدم لها الورق المفضض والمذهب بدل النقود! وكثيرًا ما كنت أراه منظومًا في حبال تعلق داخل المعابد. حدث مرة أنهم حملوا الآلهة وطافوا الطرق في وقت انتشر فيه الوباء؛ فلما لم يُفد ذلك أغرقوها! وافترضوا أن بدء عامهم كان شؤمًا فيجب تغييره، فأقاموا حفلة بدء السنة من جديد! ويسود أذهانهم التفاؤل والتشاؤم حتى إنهم يحتاطون في الحديث خشية أن تبدو كلمة منفرة تتخذ نذيرًا للشؤم! على أن لدينهم الذي يقدس فلسفة الأجداد فضلًا عليهم مذ ساعد على حفظ كيان الصين، رغم ما أحاطها طوال العصور من عوامل الهدم والانحلال.
معبد السماء: وهو أفخر ما رأيته في بلاد الصين جميعًا، عظيم الرحاب، شاهق البنيان، دقيق الهندسة، تحوطه أسوار ثلاثة من خزف أزرق طول أكبرها ثلاثة أميال ونصف. بني سنة ١٤٢٠ على قسمين: معبد السماء، ويقوم على مساطبَ مدرجة دائرية الشكل ومن الرخام الوضاء، يحوط كل درجة سياج بأسنان باسقة، وفي وسط أعلاها يقوم المعبد من الخشب في شكل برج صيني «باجودا» بديع الخرط والنقش، تكسوه قبة من خزفٍ أزرقَ تقوم على أعمدة شامخة كأنها أعمدة الكرنك، لكنها من خشب مُطعَّم ﺑ «اللاكيه»، في إتقان عجيب. جيء بها من أشجار «أوريجون» الأمريكية كي تحتمل عبء البناء السامق فوقها. وفي وسطها موضع العرش تحوطه شواخص حجرية لذكرى تسعة من البراطرة. والقسم الثاني يسمى مذبح السماء، وهو كذلك في ثلاث مساطب مستديرة من رخام أبيض قطر أسفلها ٢١٠ قدمًا، والمسطبة العليا مكشوفة للسماء، وكانت تمثل قبة السماء. وهنا كان يركع الإمبراطور ويعترف بأخطاء شعبه، ويرجو آلهة السماء لهم الغفران. وفي وسطها كانت تقدم الذبائح.
وهذا المعبد رائع الجمال، فاخر البنيان، لدرجة تجعل أثره في ذاكرتي خالدًا، وهو وحده خير مبرر لزيارتي للصين، وتحوطه غابة كثيفة من أشجار الأرز يبلغ عمر بعضها ألف سنة.
معبد الزراعة: (على مقربةٍ من معبد السماء) أقيم تذكارًا للملك الخيالي «شن ننج» الذي حكم الصين منذ ٣٠٠٠ سنة، ويخالونه أول مخترع للمحراث. وحوله حقول شاسعة كان يجيء الإمبراطور بنفسه ويبدأ الحرث في أوائل الربيع من كل عام، وكلما أكمل محراثه ثلاثة خطوط تبعه ولاة الأقاليم وألقوا فيها البذور، على أن يد الزمان قد نالت منه كثيرًا، فلم تُبْقِ منه اليوم إلا أطلالًا بالية.
وبين معبد السماء ومعبد الزراعة ردهة مترامية كانت — ولا تزال — تستخدم لتنفيذ حكم الإعدام في بكين. ويُعرف الصينيون بالقسوة الشديدة في تنفيذ أحكامهم؛ فالإعدام عادةً يكون بقطع الرأس بالسيف. وكان اللص إلى أمدٍ قريب يدفن حيًّا، أو يحكم عليه أن يموت بالمخنق الخشبي؛ وهو آلة بها موضع للرقبة يوضع في رقبة المجرم، ومن تحته ألواح سميكة من خشبٍ أو حجر، يرفع منها واحد كل يوم فيعلق الجسد من الرقبة ويشحذها، فتستطيل بقدر سمك اللوح الذي رفع، وهكذا حتى يموت. وكثيرًا ما كانت تؤخذ العائلة كلها بجريرة فردٍ منها إلى سنة ١٩١١. وكان يحكم على بعض المجرمين بثلاثة آلاف جلدة. ومن العجيب أن كل تلك القسوة لم تنتج أثرًا في تخفيف الجرائم. ومن أقسى العقوبات بعد الإعدام: النفي؛ ذلك الذي يخشاه الجميع خوف الموت خارج بلادهم.
ومما كان يروقني كثيرًا مشهد الأحياء الوطنية من المدينة الصينية في أزقة مختنقة، وطرق متربة غير مرصوفة يجوبها خلقٌ كثير صفر الوجوه، شاحبو الألوان، منتفخو العيون، مشطورو الرءوس. وتطل على تلك الطرق حوانيتهم، وعليها إعلاناتها في شرائحَ من خشب أو ورق أو قماش تتدلى مستطيلة حتى تكاد تسد الطريق. ولهم أضواؤهم الخاطفة في الليل. ويزينون واجهات الحوانيت بشبه أقواس كبيرة مذهبة في الخرط الصيني الجذاب، والخط الذي يبدو وكأنه بقع ضخمة ذوات أهداب براقة، وأنت ترى أقواس الطريق تقوم مشرفة من خشبٍ صقيل في جميع طرقهم حتى الرئيسية. أما وسائل النقل فغالبها عربات ذوات عجلةٍ واحدة في الوسط، وقد تكون ذوات عجلتين يجرها في جهدٍ كبير نفرٌ من الناس متكاتفين والعَرق يتصبب من جسومهم العارية بشكلٍ يؤلم الفؤاد، ويسمونهم «كولي»، ومعناها القوة التعسة. ولكيلا يعطلوا المرور وسط الطريق — خصوصًا الركشا التي يجرها الإنسان أيضًا — جُعلت لهم منطقة على إطار الطريق غزيرة الأتربة يسيرون فيها، وعجلاتهم تغوص بعيدًا. هذا إلى الحمالين الذين تراهم يعلقون حِمْلين على طرفي عصًا من الخيزران العريض فوق أكتافهم. وكنت أعجب لكواهلهم كيف تطيق تلك الأثقال التي تحزُّ في جلودهم حتى تدمَى! مناظر لا يخلو منها مكانٌ في الصين كلها، وكأنَّ مزاحمة الإنسان لوسائل النقل الآلية التي كنا نراها في الممالك الأخرى قد كادتْ أن تخفيها، ومظاهر الفاقة الشديدة بادية في كل شيء، فلا يخلو طريق قط من جماهير المتسولين. وعجبت لما أن علمت أن التسول هناك مهنة يمارسونها تحت نظام مرتبط كأنه النقابات! وعلى رأس كل جماعة رجلٌ شرس قوي الشكيمة يئُول إليه كل ما يجمعه أولئك البائسون. والناس هناك يتصدقون على المتسولين مُرغمين؛ خشية أن يُلحِق بهم رئيسُهم ضررًا في المال أو البنين، أو يسلط عليهم رجاله لمضايقتهم بالتجمهر أمام بيوتهم! فكثيرًا ما يدبرون الخطط لسرقة متاع الغير، أو لإشعال النار فيه، وطالما فقأ الآباء عيون أبنائهم فتأخذ المارَّة الرأفة بهم ويتصدقون عليهم!
ولقد أحدث انتشار الفقر والعوز في طول البلاد وعرضها أسوأ الأثر في أخلاق الناس فأفسدها، وأنت تلمس انحلالها في كل مقام، فلا أذكر أني ركبت «ركشا» مرةً دون أن يباغتني سائقها قائلًا: أتريد بعض الغانيات من فتيات المانشو ذائعات الصيت جمالًا؟! إلى ذلك جماهير السيدات اللاتي كن يمسكن بتلابيبنا طوال الطريق إلى درجة المضايقة الشديدة، ومنهن من لم يبلغن الحُلم! وكأن الأجانب هناك بأخلاقهم الفاسدة قد جرَّءوهم على ذلك الابتذال. وطالما كنت أعجب للصغار من الفتيات يسرعن إلي طلبًا للمعونة المالية وهن في هندامٍ نظيف لا يُشعر بالفقر أبدًا. كذلك كنت ألاحظ أنهم يميلون إلى الغش في كل شيء حتى في صرف النقود؛ إذ كانوا يدسون لي بينها ما هو زائف بكثرةٍ عجيبة! وقد تعدى هذا إلى حكامهم وضباطهم وجنودهم، فعرفوا بالارتشاء إلى حدٍّ باعوا معه ذممهم وذمم وطنهم! وهذا ميدان شجعه الأجانب بمالهم ليُثبِّتوا أقدامهم في تلك البلاد.
ومن المناظر التي كنت أتألم لها طوال الطريقِ السيداتُ اللواتي كنَّ يَسِرنَ في تثاقلٍ وئيد، والواحدة تكاد تترنح ولا يتزن جسمها فوق قدميها اللتين لا تزيدان على سبابة اليد طولًا، وقد انحبس نموهما ونمو عظامهما، فكان يخيل إلي أنهن يسرن فوق عِصِيٍّ خشبية دقيقة جامدة، وكأنَّ ذلك قد أثر على الساق نفسها فدقت من أسفلها ونحفت إلى حدٍّ مخيف. ويا ويلها إن حاولت الجري! فإنها تتعثر بشكلٍ بشع، والألم يبدو على وجهها، ويكاد يكون نصف نساء البلاد من هذا النوع. والأقدام الصغيرة كانت آية الجمال لديهم! وكان يحتم الزوج أن يرى قبل الزواج حذاء خطيبته؛ فإن ظهر بعد الزواج أن قدم العروس كانت أكبر من الحذاء الذي أخذه رهينة جاز له الطلاق! لذلك كانت الأمهات يبالغن في تشويه أقدام بناتهن وهن صغار، فكانت تغسل الأقدام بالماء الساخن، ثم تلف حولها أشرطة من الكتان لفائف متعددة محكمة، وفي كل ليلة تعيد الأم هذه العملية لمدة ثمانية عشر شهرًا، والبنت تتأوه في ألمٍ شديد، والأم تسترضيها بالهدايا، وتُمنِّيها بزوجٍ قريب! ولقد حرمت حكومة الجمهورية ذلك اليوم، وفرضت عليه عقوبات قاسية، على أن ضعف سلطان الحكومة اليوم وعدم استقرارها شجع كثيرًا من الأمهات أن يثابرن على تلك العادة القبيحة. ولا يزال الشبان يؤثرون في السيدات الأقدام الصغيرة، كما ثبت لي من محادثة كثيرٍ منهم!
زرت في ناحيةٍ من بكين قصر الشتاء: بحدائقه الفيحاء، وبحيراته الممتدة المتلوية تكاد تغص بنبات الماء، وبخاصة البشنين في زهره الكبير هادئ الحمرة أو ناصع البياض، وعليها من القناطر المحدبة البيضاء شيء كثير بناه ملوك المنج والمانشو في هندسةٍ صينية فاخرة. ولعل أعجب ما به برجه السامق في شكلٍ فريد في نوعه يطلق عليه القوم «برج داجوبا الأبيض»، به خمسة طوابق تمثل العناصر الخمسة في زعمهم. وإلى جوار القصر ربوة تسمى تل الفحم تعلو ٢١٠ قدمًا في شكل مخروطي يحفه الشجر، وفوق الذروة مقصورة في شبه «باجودا» صينية؛ تُتخذ اليوم مقهًى جلست فيه قليلًا، فبدت بكين كلها وكأنها غابة كثيفة مغلقة لا يكاد يستبين المرء خلالها أسوارًا ولا أبنية، اللهم إلا سقوف المدينة المحرمة في لونها الأصفر البراق، وكلما نزلت مررت بمقاصير أخرى. وتروي أقاصيصهم أن التل أقيم من الفحم الخالص إبان حكم أسرة «يوان»؛ اتقاء خطر الحصار. ويظن البعض أنه من الثرى الذي أخرج من بحيرات قصور كوبلاخان القريبة منه.
قصدت بعد ذلك مرصد كوبلاخان؛ أقدم مراصد الدنيا: أقامه كوبلاخان سنة ١٢٧٩، ويحتوي على مجموعة من الأجهزة الفلكية القديمة في أشكالٍ عجيبة وحجومٍ هائلة، صيغت من شبه ونحاس في دقةٍ هندسيةٍ بالغة. ومن أجملها المزولة الشمسية والقمرية، وآلة السدس، والكرة السماوية، وتبدو النجوم بها في بقعٍ بارزة من المعدن الأصفر، وتُحمل تلك السماء على مجموعة من «التنين»؛ شعار الصين الرئيسي. وقد احتذاه فردريك الأكبر فشاد أول مرصدٍ في أوروبا على نمطه؛ وضع له أجهزته بعض رهبان الجزويت نقلًا عن مرصد الصين. وكانت طائفة من أجهزة هذا المرصد قد وقعت غنيمة في أيدي الألمان إبان حرب المصارعين، لكنهم أعادوها اليوم. والمرصد يقوم على ركنٍ من سور المدينة الهائل الذي اعتليته بين بوابتي «شن من»؛ مدخل المدينة الرئيسي، «وهاتامن». والسور من أعلاه كأنه الجسر العظيم الممهد تزين جوانبه النوافذ الجميلة. وكان ارتفاعه يعادل الطابق الثالث من البيوت الأفرنجية بجواره، واتساعه من أعلاه يعادل شارعًا فسيحًا، وتنمو فوقه الأشجار فيسير المرء وكأنه وسط الحدائق المعلقة. لبثت أتجول فوقه ساعتين والمناظر من حولي رائعة، والذكريات التاريخية لتلك البلاد العتيدة تمر بالخاطر فيُكبر تلك العظمة، ثم لا يلبث أن يأسف لزوالها، وبخاصة إذا رأى كثيرًا من أركان السور قد احتله أجناد الأمريكان والإنجليز واليابانيين والفرنسيين. ويطل هذا القسم من السور على الحي الأوروبي الذي تقوم فيه دور السفارات.
وخير متنزهات بكين المتنزه الأوسط؛ تؤمُّه الطبقات الممتازة؛ تشرف على جداوله ونقائعه مقاصير المقاهي المنسقة وتصل ما بينها مماشي ضيقة منسقة سقوفها بديعة الهندسة. وهو المتنزه الوحيد الجدير بالذكر في بكين التي تعوزها المتنزهات، وإلى جواره معبد الجرس؛ به أكبر أجراس الدنيا؛ محيطه ٣٤ قدمًا، وله قصة عجيبة: إن الإمبراطور يونج لو لما رغب في صنعه لم يعجبه رنينه، فاستشار العرافين، فأشاروا عليه بضرورة صهره ثانيةً وإحراق غادة عذراء تحته! فهدد الإمبراطور صانعه بالقتل إن هو لم ينجز هذا. وكانت له بنت ضحَّت نفسها لإنقاذ والدها! ولا يزال أهل بكين يسمعون خلال صليله أنات العذراء كلما دقَّ هذا الجرس!
وفي ناحيةٍ أخرى من المدينة، زرت برج الطبلة الذي شيد سنة ١٢٧٢، وهو تام الحفظ في رونقٍ جميل، وبنيانٍ شامخ، يبدو كأنه «الباجودا» الهائلة، وفي قمته ثلاثة طبول كانت تدق كل يومٍ الساعة التاسعة مساءً ١٠٨ دقات؛ إيذانًا بساعة الراحة، وهي على ارتفاع ١٠٣ قدمًا. ومنظر المدينة من أعلاها وقت الأصيل رائع ساحر.
قصر الصيف: أقلتنا إليه سيارة، وهو يقع على بحيرة فسيحة في سفح التل الغربي، وكانت تتخذه أرملة الإمبراطور مصطافًا لها؛ هروبًا من حرِّ بكين اللافح. وقد غالى القوم في الإسراف في تنسيقه بين حدائقَ وقناطرَ ومقاصيرَ؛ بعضها فوق الربى، والبعض في الوهاد على حجور النقائع، التي تكاد تغص بنبات الماء والبشنين يتجلى بزهره الخلاب. هذا إلى المماشي التي تمتد أميالًا تحت سقوف من الخزف الصيني البديع. أما القناطر فغالبها من رخامٍ ناصع في شكلها الأحدب العجيب. وفي ناحية من القصر زورقٌ من رخام ذو طابقين، يقوم على عمد في الماء، فيخل إليك وأنت به أنك في سابحة تمخر عباب اليم وسط الزهور البديعة. والحديقة على تنسيقها الرائع تمتد أميالًا، ويتطلب تفقدها أيامًا. وخلف القصر ترى فوق الجبل مجموعة من معابد أفخرها معبد الخمسة آلاف بوذا في أشباحها الرهيبة. وقد أخذنا نتجول بالسيارة خلال آثار تلك التلال، ومن بينها نبعُ اليشب الذي كان يسقي المدينة التتارية وقصورها وحدائقها وحوله ثلاثة أبراج «باجودا»: واحدة من «اليشب»، والثانية من الخزف، والثالثة من الصخر، وكلها تتوج ذرى جبلية. وكانت الغابات حولها تغص بالوحوش، وبخاصة الأنمار؛ لذلك كان يتخذها البراطرة مصادًا لهم ومستراضًا. وفي جانب من التلال: معبد بوذا النائم؛ يرجع عهده إلى أسرة «شانج»، وطوله خمسون قدمًا في أرديته الرهيبة وأقدامه العارية. وهنا كنت أرى الحجاج يقدمون القرابين، وبخاصة الأحذية الكبيرة التي يزيد طولها على نصف متر، والتي تصفُّ تحت أقدام الإله؛ بعضها من حرير، والبعض من جلد أو خوص. وفي زاوية من المعبد تمثال ﻟ «ماركو بولو»؛ الرحالة الأوروبي. وعلى مسيرة ساعة من هذا معبد السماء الزرقاء يعلو في عدد لا يحصى من الدرجات، فيتوج ذروة الجبل في رخامه الوضاء. وأجمل ما به ردهة الألف بوذا.
وبعد ثماني ساعات، عُدنا إلى بكين وسط حقول زراعية كأنها حقول مصر، والقرى منثورة في كل مكان تعوزها النظافة. أما الطرق فرديئة ومتربة، والسير فيها متعب للغاية، خصوصًا وقد أمطرتنا السماء وابلًا كساها أوحالًا يتعذر معها السير. أما الجو فحار مجهد إلى حد كبير، بحيث لا يستطيع الإنسان الانتقال إلا راكبًا. وقد كنت أكتب مذكراتي هذه الساعة السابعة مساءً وأنا لا أكاد أطيق قميصًا رقيقًا يلامس الجسد. والأمطار هنا متقطعة، وأقل منها في كوريا وفي اليابان.
السور الأعظم (سد يأجوج ومأجوج): لقد تحقق حلم كنت أتمناه طوال السنين؛ هو أن تتاح لي الفرصة لزيارة سور الصين؛ أحد عجائب الدنيا، وكاد يغلب اليأس الرجاء منه لما أن رفضتْ جميع شركات السياحة هناك القيام بأية رحلة إليه؛ لأن طريقه أضحى غير مأمون، وكانوا ينصحون إليَّ ألا أذهب؛ خشية اللصوص الذين اختطفوا سيارة بمن فيها من الأمريكان، ولم يمضِ على الحادث أسبوعان. لبثت حائرًا ثم اعتزمت الذهاب مهما كلفني ذلك، وقد وُفِّقت إلى زميل ألماني في النزل هو مدرس بمدرسة «خربين» حدثته عن السور فرغب في زيارته. ركبنا قطار الضواحي الصغير زهاء ثلاث ساعات. وبعد أن اجتزنا محطة نانكاو الهامة، أخذ القطار يعلو في جبال معقدة تكسوها الخضرة، واخترق بعض الأنفاق حتى باغتنا السور وكأنه إفريز يطوق الجبال ويتبعها علوًّا وانخفاضًا إلى الآفاق. حللنا محطة السور الأعظم، وهناك أقلتنا الحمير وسارت بنا في وادٍ كأنه وادي الملوك؛ صخوره نارية، وحره قائظ، أدَّى بنا إلى السور فاعتليناه، فبدت روعته في تغضُّنه وامتداده إلى الآفاق وهو يتلوى كالأفعى. وقد لبثت أسير فوقه ساعتين والذكريات التاريخية المجيدة تمر بالخاطر؛ فتُكبر القوم تارةً، وتحطُّ من قدرهم أخرى؛ إذ كان يتجلى جبروت الإنسان وبطشه بأخيه الإنسان، وتسخيره فيما لا ينفع. وقد قرر الخبيرون أن السور أضخم عمل أنجزته يد الإنسان يفوق الهرم وحدائق بابل المعلقة، وهو يطوق الصين من الشمال مبتدئًا من البحر — عند شاي هاي كواي على خليج لياو تونج — إلى ممر كيايو في التبت، وطوله في استقامة ١٢٥٥ ميلًا، وبتعرجاته وشعابه ١٥٠٠، وعلوه يتراوح بين ١٥ و٣٠ قدمًا، وعرضه في أعلاه ١٥، وفي أسفله ٢٥، به ٢٥ ألف برج حربي، و١٥ ألف برج للحراسة، وكأن الصين قد اختصت في بناء الأسوار حتى قال بعضهم: إننا لو جمعنا أسوارهم كلها لطوقنا الكرة الأرضية! أمر بإقامته الإمبراطور «شي هوانج تي»؛ الذي اعتلى الملك سنة ٢٢١ق.م، ومحا نظام الإقطاع، وقسَّم البلاد إلى مديريات، وكان كلفًا بالمباني الضخمة؛ من بينها قصره الذي وسعت ردهته عشرة آلاف نفس. رأى هذا العاهل منامًا أنذره أن الخطر مقبل من الشمال — وقد أيَّد التاريخ ذلك؛ فإن كل ما قاسته الصين من المغيرين جاء من تلك الناحية — فأرغم من الناس ثلث الرجال القادرين في الصين كلها، وكثيرًا ما عاقب العلماء وألزمهم بالعمل في السور؛ لأنهم ناوَءُوه، وقيل: إنه أحرق كتب العلم وفلسفة كنفوشيوس؛ لمَّا أن رأى الناس يجلونها ويكبرون العلماء أكثر من إكبارهم للبراطرة. ويطلق القوم على السور أحيانًا اسم «أطول مقابر الدنيا»؛ لكثرة من ماتوا في بنائه. ولم يتم بناء السور إلا في عهد ليو بانج؛ من أسرة هان. وفي عهد أسرة منج، دُعم السور وزيد في طوابيه. ولعظيم هذا العمل أحاطه الناس في جميع العصور بخرافات لا تزال عالقة بالأذهان؛ منها أن الإمبراطور كان ساحرًا ماهرًا، وكان يمتطي جوادًا سماويًّا اختط طريقه، وكان له سوط سحري استطاع به أن يزيل الجبال، وينظم صرف مياه الهوانج هو، وكان يستخدم مردة الجن في جلب الأحجار. ويخال البعض أن كنوز البراطرة دُفنت بين طيَّاته. والكثير يعتقد أن السور أقيم سدًّا في وجه الجن لا الآدميين! ويؤيدون ذلك بكثرة المعبودات البشعة التي توضع على منافذ السور كلها! ومما أثار دهشتي أن السور يختط أوعر المسالك؛ إذ يسلك الجبال والربى العاتية. وهذا يتطلب مجهود الجبابرة، وقال البعض: إن الأبراج كانت تقام أولًا ثم يوصل ما بينها. وعند ممر نانكاو الذي وقفنا قبالته، كان يعلو السور فوق مستوى البحر بنحو أربعة آلاف قدم. وفي البقاع التي كانت تتهدده الرمال أقاموا سلسلة من أسوار خارج بعضها؛ فهو في امتداده هذا غالب ثلاث صعوبات: الجبال الشاهقة، والصحاري الرملية المجدبة، وطبقات الأرض الهشة (اللويس). والعجيب أني لما زرتُ مقبرة هذا الإمبراطور في مدافن أسرة منج، رأيت الناس يقذفونها بالحجارة؛ فخلتهم يذكرونه بانتصاره على الصخور التي أقام بها سوره العظيم، على أني علمت أنهم يأتون ذلك حطًّا من شأنه، واحتقارًا له؛ إذ امتهن تقاليد أجداده، وأهان العلم وأهله، حتى إنهم لم يلقبوه بباني «السد»؛ بل بمبيد الكتب العلمية! ويذهل المرء كيف استطاع الإمبراطور أن يزود السور بالجنود لحراسته على طول امتداده. ومن العجيب أنه لم يغنِ عنهم في الدفاع فتيلًا؛ إذ اخترقه جنكيز خان سنة ١٢١٢، وكذلك لم يردَّ غارات المانشو بعد ذلك. ولا يعزو القوم ذلك إلى ضعف في السور نفسه؛ بل إلى خمود الروح العسكرية بين أفراد شعوب الصين الزراعية، على أني لمَّا ألقيت على السور نظرة الوداع مرَّ بخاطري مظهر الهرم الأكبر، فبدا السور بجانبه ضئيلًا لم يشعرني بالرهبة والذهول التي يوحيها هرمنا.
قمتُ من بكين مودعًا تلك البلدة التاريخية الجميلة التي يروقني أن أقيم بها سنوات؛ فهي أصدق ما تعطي الزائر فكرة عن الصين وأهلها. وقد سلكت سبيلي إلى تين تسن، فشنغهاي، وكنت من قبل أعتزم الذهاب إلى هنكاو، ومنها في رحلة نهرية في اليانج تسي إلى شنغهاي، لكن هذا النهر الجبار غدر بالمدينة فأغرقها، وأغار على سكة الحديد فتعطلت. سار القطار خلال أراضي «اللويس» الصفراء ذائعة الخصب؛ تلك التي كانت تبدو في بعض الجهات وكأنها رمال الصحراء تمامًا. ولقد تخلفت في تين تسن يومًا كاملًا فلم ترقني كثيرًا؛ لأنها مدينة غالبها أفرنجي عظيم الامتداد، آهل بالجماهير الغفيرة من صنوف شتى، وهي ثغر تجاري غاصُّ الحركة، دائب الجلبة والضوضاء.
وقد وقف القطار طويلًا على تسنان فو فوق نهر الهوانج هو «الأصفر» زاخر المياه، عكر اللون، في تدفق مخيف؛ ذاك الذي عرفه القوم مبعث أشجان الصين منذ القدم؛ لكثرة ما أصابهم وأتلف من أبنائهم ومتاعهم بسبب فيضانه الغامر المباغت، على أن فيضه هذا العام كان أقل خطرًا من اليانج تسي.
وهنا باغتنا ريح صرصر كأنه إعصار «التيفون» هز أرجاء القطار، وسرعان ما أظلم الجو وتفتحت أبواب السماء عن وابل غامر، وقصف للرعد مخيف، ولم تنكشف إلا بعد ساعتين. وكنت أرى المزارعين في الحقول يسيرون وسطها وعلى رءوسهم مخاريط من خوص، وعلى جسومهم رداء من قش منفوش يبدو كأنه الفرو الثقيل، فيظهر الواحد وكأنه من مردة القنافذ المنفرة المضحكة. ضمتني مائدة العشاء إلى جمع من الشباب الصيني المثقف، وكان يقدم لهم الطعام على النظام الصيني، وعجبت لما علمت منهم أن من أحب الأغذية لديهم زعانف السمك وأحشاءه، ولحم الكلاب والفيران والضفادع والثعابين وأوكار طير الخطاف؛ لأنها من مجموعة أعشاب مائية تروقهم كثيرًا! وأجل اللحوم لحم الخنزير! فإذا سمعته يتحدث عن اللحم انصرف إليه، ويعجبهم دهنه الثقيل! وقد يشرب الرجل منه ثلاث «سلاطين»! وعند الطعام تقطع هذه اللحوم كلها مختلطة إلى شظايا صغيرة جدًّا وتمزج بالحساء! وترى الواحد منهم يتصيدها من الإناء بعصيه! وقد يمزج الحساء ببعض الأعشاب والخضر الجافة في غير طهي جيد. والعناية بالضيف تبدو في الإكثار له من الدهن الطافي فوق الغذاء والحساء. ويجب أن يناوله المضيف كل ما يطلب بيديه الاثنتين، وإلا عد ذلك من قلة الذوق، كذلك يناوله بين حين وآخر ما يتصيده من إنائه هو من شظايا اللحم. وطعام الغني يطلب أن يكون من الأرز والخضر والخنزير والسمك. أما الفقير فالأرز القفار، وإن لم يتيسر له فالقمح أو الشعير أو الذرة أو بعض الخضر، ويندر وجود اللحم؛ لذلك يأكلون لحوم الحيوان الملقاة مهما كان الحيوان! وأساس غذاء العمالِ و«الكولي» نوعٌ من الفول مُغذٍّ كاللحم، ويختتم الطعام بالحساء — عكسه عندنا.
أما أحب أنواع الحلوى فالكريز يطفو في عصير القصب، والتسلي بنوى المشمش و«اللب» شائع بين الجميع. أما الأواني فكلها من «السلاطين»، وليس للسماط ولا «الفوط» وجود قط. وفي نهاية الطعام، تقدم فوطة مبللة يمسح الجميع بها أفواههم. وعجيب أن يشتهر طهاة الصين بلذة ما يطبخون، على أنه لم يرقني من طعامهم شيء سوى ذاك الخليط من اللحوم المختلفة! ولعل تلك الشهرة راجعة إلى أنهم يكثرون من استخدام التوابل والمواد الحريفة بالنسبة لطهاة اليابان.
تحدثت إلى هؤلاء الشبان فكانت حماستهم القومية بالغة يصبون جام غضبهم على الأجانب، وبخاصة اليابانيين؛ فهم الذين يفرقون بين أبناء الأمة الصينية، ويثيرون فريقًا على فريق، ويمعنون في إتلاف أخلاق الصينيين بالمال والنساء. ويساعدهم على ذلك احتلالهم لمنطقة سكة حديد منشوريا؛ تلك التي يهربون منها الذخائر والأسلحة للثائرين من أهل الصين، على أن الحكومة الصينية الوطنية تقبض على الحالة، وستُوفَّق قريبًا إلى القضاء على تلك العصابات الثائرة التي تجري وراء المنفعة الذاتية. وهم مختلفون في طريقة توحيد الصين؛ فالبعض يرى إقامة مجموعة من حكومات مؤتلفة تكون ولايات لها ما للولايات المتحدة الأمريكية من السلطان، والبعض يرى توحيد الصين كلها في جمهورية واحدة؛ لأن في هذه الطريقة الآن خطر ميل رؤساء المقاطعات إلى الاستقلال والدس للغير. ومن عقبات قيام حكومة واحدة اختلاف اللغات بين مقاطعة وأخرى، تلك التي كان يساعدها رؤساء المقاطعات؛ كي يتم لهم استقلالهم، ولو تم النصر للحكومة القومية أنقذت البلاد من شفا الإفلاس؛ لأن مرافقها اليوم معطلة. وكانت قد بدأت حركة صناعية بمعاونة الأجانب، وبخاصة الأمريكيين، لكنها عطلت اليوم؛ لأن هَمَّ الحكومة منصرف إلى التجنيد وتموين الجيوش التي تؤلَّف من بين الطبقات الفقيرة؛ وهذه تتخذ الجندية مرتزقًا، والحكومة لم تؤت بعد السلطان الكافي فتجعل التجنيد إجباريًّا؛ لذلك لا يتطوع أحد من السراة، بل من الفقراء المعوزين.
اللغة الصينية: ويرى مثقفو الصين أن لغتهم غنية بآدابها؛ فميدان الشعر زاخر، والإيجاز في التعبير إلى التعمق في المعنى من خصائص لغتهم. وكنت أرى بعضهم يقرأ في كتب الأدب وهو مأخوذ من شدة تأثره بالمعاني التي يتلوها، ويبالغ بعضهم فيقول: إن لهم كتبًا تقرأ في الصيف، وأخرى في الشتاء، فتحدث معانيها في نفوسهم ما تتطلبه مناسبات الزمن! والتأدب في الكتابة أمر يراعى بكل دقة؛ فمثلًا تبدأ الكتابة هناك من اليمين في أسطر رأسية — أما اليابانية فمن اليسار، وقد تكتب أفقيًّا أو رأسيًّا — وإذا كان الخطاب للأبوين وجب كتابة الاسم في أعلى الصفحة إلى اليمين، ثم يترك هذا السطر كله احترامًا، وكلما ذكر اسم الأب أو خطابه في أي مكان من سطر آخر ترك باقيه إجلالًا. وهذا يجب اتباعه في الكتابة لمن هم أكبر سنًّا ومقامًا. أما بين الأصدقاء فيكفي ترك مسافة كلما ورد الاسم، والهوامش تكتب في أعلى الصفحات، والتأدب في الخطاب يراعى بكل دقة، خصوصًا مع من هو أكبر سنًّا ومقامًا؛ فمثلًا يعدونه منتهى الذوق أن يجري الحديث بين اثنين كما يلي:
– كم سنك المشرَّفة؟
– عشرون عامًا ممضَّة لا خير فيها.
– ما اسم عائلتك الموقرة؟
– عائلتي الفقيرة تُسمى …
– ما مهنتك النبيلة؟
– مهنتي الوضيعة …
– كم طفلًا ماجدًا عبقريًّا عندك؟
– عندي كذا من صغار الحشرات.
– كم قطعة فضية عندك — يقصد البنات؟
– ثلاث بائسات.
ولغتهم الكتابية رسوم رمزية بسيطة كأن يرسم تخطيط يحكي الإنسان ليدل على كلمة رجل، ويرسم طائر ليدل على «عصفور» وهكذا، ثم أخذوا في تبسيطها لكي تلائم الكتابة «بالفرشة» التي تجيد رسم الخطوط أكثر من الأقواس والنقوش؛ لذلك أصبحت اليوم سهلة بالنسبة لما كانت عليه من قبل. وللكتابة هناك شكلان: عادي دارج تتصل كلماته بلياب متعاقبة، وزخرفي يكتب بتكلُّف وفي رونق جميل. ولغة الكتابة يفهمها جميع أهل الصين، لكن منطقها يختلف باختلاف الأماكن، بحيث إذا خاطب صيني من كانتون أخاه من شنغهاي أو من بكين لم يفهم الواحد الآخر؛ لذلك يلجئون إلى الكتابة. وفي مجلسي هذا كان أحدهم من كانتون وكان يعرف الإنجليزية، وآخر من شنغهاي ويتكلم الفرنسية، وتعجب إذ تعلم أنني أنا المصري الأجنبي عنهما كنت أقوم بوظيفة المترجم بينهما! على أن العجب يزول إذا علمنا أن الصين بلاد مترامية؛ فكل مقاطعة تفوق مملكة أوروبية في مساحتها وسكانها، إلى ذلك صعوبة وسائل الاتصال في تلك البلاد.
والحكومة الحالية تحاول توحيد لغة الكلام، وقد أخذت تنشر لغة «الماندرين» في المدارس والمصالح، فهي اللغة الرسمية اليوم — وكلمة ماندرين معناها الوالي أو الحاكم — وهي أسهل اللغات الصينية مأخذًا؛ فالشخص يكتب ما يسمع بالضبط.
وحساب الشهور لديهم قمري، ولو أن الحكومة الحديثة أدخلت الحساب الشمسي، لكن الفلاحين لا يعرفون إلا السنة القمرية، وليس للشهور عندهم أسماء، بل يحصونها بالنِّمَرِ — الشهر الأول والثاني … إلخ — وفي الأساليب الكتابية الراقية يضعون اسم زهرة لتدل على الشهر؛ تقويم زهري، وتلك الزهور يكاد يحفظها الجميع بحيث لو كُتبت إحداها عرف الواحد منهم الشهر الذي ترمي إليه. أما تاريخ السنة فيقاس بالنسبة للحكام؛ كأن يقال مثلًا: اليوم السادس من الشهر الخامس من السنة العاشرة للإمبراطور فلان. وهذا العام يقاس بالسنة العشرين للجمهورية، وتحسب أعمارهم بالطريقة عينها.
كنا نتوقع أن نصل «بوكاو» على الضفة الشمالية ليانج تسي منتصف التاسعة، لكنا وصلناها بعد الساعة الواحدة لكثرة مواقف الطريق بسبب نقل الذخائر والجنود، وبذلك نكون قد قطعنا المسافة بين تين تسن وشنغهاي في خمسين ساعة! أما الإقليم فغني جدًّا بمزارعه وسهوله وأنهاره. وكنت ألاحظ تغيرًا مستمرًّا في لون التربة التي أصبحت هنا سمراء تشوبها حمرة، بعد أن كانت في حوض الهوانج هو صفراء كأنها رمال الصحراء المجدبة، على ما بها من خصب شديد. وكان المنظر كله مصريًّا. أما غالب القرى فأكواخ من اللَّبِن أهلها قذرون تبدو عليهم علائم الفاقة، وغالب الأراضي ملك لطائفة من الأغنياء يحلُّون المدن الكبرى. وكان القوم في قذارتهم يعرضون المأكولات من فاكهة، وبخاصة الخوخ الكبير الحجم والتفاح والبرقوق والكمثرى والبطيخ، كذلك الدجاج المشوي في لون أحمر، وحجم كبير، وبعض أنواع من عجين أبيض يتهافت القوم على التهامه، وعجبت لرخص المبيعات؛ إذ كانت الدجاجة الكبيرة تباع بقرش واحد. وكانت غالب السهول حول القطار غارقة في لجة تحصر المياه بيوتها وقراها التي كانت تبدو وكأنها الجزائر الصغيرة. غدر بتلك المسائح الشاسعة نهر اليانج تسي هذا العام، فأغرقها فأضحى الملايين بدون مأوى. وكنا نمر عليهم يتزاحمون بفلول متاعهم إلى الجسور وجوانب المحاط في شكل يؤلم الفؤاد. وقد فتحت الحكومة لهم اعتمادًا بثلاثين مليون جنيه للإنفاق على أعمال الإنقاذ، وقد أضحى اليانج تسي إلى ٦٠٠ ميل من مصبه بحرًا خِضَمًّا لا شاطئ له. وقد أصاب أبلغ الضرر منطقة هانكاو؛ حيث علا الماء ٥٢ قدمًا، ويقال: إن فيضه هذا العام لم يقع مثله منذ خمسين سنة.
وصلنا بوكاو فبدت مدينة أشبه بمدن المراكز عندنا، ثم أقلتنا السابحة عبر اليانج تسي الخضم المائج بمائه الدافق العكر، واتساعه الذي يفوق النيل بكثير، ورسونا على ضفته الجنوبية في نانكنج القديمة. وما كدنا نبرح السابحة حتى بدت صفوف الركشا وهي غارقة وسط الماء إلى نصف ارتفاعها، وأنَّى لي أن أصف لك موقفي وأنا أركب الركشا يجرها رجل يخوض في الماء إلى وسطه، وهي تتمايل يمنةً ويسرةً في اضطراب مخيف، ورشاش الماء لا بل وموجه يضرب في أقدامي وحقائبي، حتى أتلف لي منها الكثير. ولبثنا نجوب شوارع المدينة على هذا النحو والمياه تكسو الطابق الأول من الدُّور والحوانيت إلى نصف قامة الرجل؛ بل ويزيد. والمدهش أنها كانت مفتحة وحركة البيع والشراء قائمة في نشاطها العادي، والناس يروحون ويغدون خوضًا وهم مستسلمون لقسوة اليانج تسي، وبعد أن اجتزتُ سور المدينة القديمة قصدت نانكنج الحديثة — ومعناها العاصمة الجنوبية — وهي عاصمة فاخرة تكاد تشبه شنغهاي؛ قسم كبير منها أوروبي. ولعل أجمل ما بها مدفن الدكتور سن؛ بطل الجمهورية ومعبود الوطنيين؛ فهو يقوم في بناء من رخام تأخذ روعته بالألباب، على أن القوم كانوا يحرمون التصوير هناك بتاتًا، ولم أدرِ الحكمة في ذلك. ومن آثارها القديمة القيمة برج من خزف أبيض «باجودا» جميل، ثم دار الامتحان التي كانت تتسع لعشرين ألف طالب، وحائط المدينة الذي يتصل بالحائط القديم.
قصدت الأحياء الوطنية من شنغهاي، وهي بقايا المدينة القديمة المسوَّرة، ولن أستطيع أن أصور مبلغ سروري واغتباطي وأنا أسير بين أزقتها التي تحكي خان الخليلي عندنا، وتكاد تختنق بلوحات الإعلان المتلاصقة تزينها بقع ملونة من الخط الصيني الواحدة تحت الأخرى. وهناك تعرض مصورات البلاد الفنية من تصوير وخرط وترصيع وخيزران، ونحاس زخرفي، ومصابيح من ورق صيني ملون، وفي كل تلك الطرق ترى الجماهير الدافقة متلاصقة متكاتفة في مظهرهم الصيني البحت؛ عيون منتفخة، وخدود ناتئة، وأنوف نصف فطساء، وأفكاك بارزة، وقامات قصيرة، وشعر أسود حالك هادل. أما الهندام فللأغنياء والمتوسطين متشابه، وكذلك للرجال والنساء، وإن كان هندام الرجال أكثر جاذبية. والرداء قطعتان: سروال يربط فوق العرقوبين، وهو للنساء أقصر قليلًا؛ لكي يظهر جمال الأقدام الصغيرة المشوَّهة! ويعلوه شبه جمازة (جاكتة) قصيرة، وفوق هذين جلباب فضفاض طويل الأكمام مفتوح من جانبيه إلى ما تحت الساعد، ويشتبك طرفاه بالأزرار، وله ياقة عالية تأخذ بمخنقهم رجالًا ونساءً، ويغلب أن يكون من حرير ثمين للأغنياء، وتطوى أطراف الأكمام لتقوم مقام الجيوب، وإلا حمل أشياءه في منديل قد يتبعه به خادمه. أما الأحذية فمن قماش لا يقي القدمين شر الرطوبة. ولعلها اختيرت كذلك لكيلا تشجع على المشي الذي يعدونه عيبًا يُلجئهم إليه العوز! وغطاء الرأس قلنسوة من حرير. أما الفقراء فرداؤهم كأنه البيجاما الفضفاضة من قماش أسود لامع كالجلد، وقبعاتهم كأنها أطباق الخوص المخروطية المسننة.
دخلنا مقصف الشاي المشهور عند الإفرنج — يرجع إلى خمسة قرون مضت — وهو مجموعة من مقاصير الخشب تكسوها السقوف الصينية بأركانها المدببة تتقوس إلى السماء، وهو يقع وسط بحيرة شاسعة نصل إليه بقناطر تسير في خطوط متكسرة إلى اليمين واليسار؛ لكي تدفع عنهم غوائل الجن الذين كانوا — ولا يزالون — يخشونه كثيرًا! والمقصف غاصٌّ بالحركة، مائج بالناس، وهم منكبون على تناول الشاي الصيني الأخضر، ولا أثر للسكر فيه. جلسنا وشربنا ذلك الشاي الذي استمتعنا به وبتلك الجلسة، رغم أن المكان تعوزه النظافة. هنا شعرنا بالحياة الصينية التي تغاير حياتنا في مصر كلَّ المغايرة.
وإلى مقربة منه زُرنا معبدين: أحدهما لبوذا، والآخر لكنفوشيوس، وهي مظلمة الداخل تضاء بها مئات القناديل، ويطلق البخور حول تماثيل بوذا تحفها تماثيل حفظته من المردة والتنين؛ شعار البلاد. وقد أحرق القسيس لأجلنا سلسلة من أوراق مالية زائفة؛ فداءً للآلهة! ثم أطلق حزمة من بخور، وناولنا إحداها تبركًا؛ لأنها تطيل العمر وتسعد الطالع! ورأينا هناك امرأة تصلي للتمثال وهي راكعة، وراحتاها متلاصقتان تشير بهما إلى الآلهة وتعود فتضمهما إلى صدرها، وتسجد مرارًا وهي تتمتم! وهناك مقصورة يؤمها النساء اليائسات من الحمل كي ينفك عقمهن!
ثم انتقلنا إلى حديقة الماندرين؛ أحد الحكام الأقدمين، يتوسطها قصره في الخرط الصيني العجيب، وبه مقصورة للاستقبال، وأخرى للمائدة بجانبها مقعد لتدخين الأفيون الذي كان أساسًا في كل بيت، وثالثة للنوم، وكثير غيرها، كلها تقوم وسط النقائع تغص بالسمك الملون، والصخور المنثورة وكأنها الجنادل والمنحدرات إلى شجر مزهر جميل؛ مما يدل على حياة البذخ التي عاشها أولئك الجبابرة. وفي خارج المدينة تقوم «باجودا» هائلة في طبقات سبع لا تزال من آيات الصين القديمة.
وشنغهاي أثناء الليل تبهر النظر، وتثير الدهش من عدة وجوه؛ فالأضواء والثريات ذوات الألوان الخاطفة تظل مشرقة وضاءة طوال الليل وهي في إشراق كبير؛ فواجهات الأبنية الضخمة تنقشها تلك الثريات في أشكال هندسية متباينة حتى في طرقاتها المختنقة. وعجيب أن تظل الحوانيت مفتحة وحركة البيع والشراء قائمة إلى ساعة متأخرة من الليل قد تكون الثانية عشرة. أما الجماهير الدافقة من كل صوب في كثافة تعيق السير في كل الطرقات، فذاك أمر لم أره في بلد قط حتى ولا في باريس نفسها، وكان يخيل إليَّ أن رواد الشوارع ليلًا أكثف منهم نهارًا، رغم شدة التزاحم في المدينة صباح مساء، وكلهم سائرون وكأنهم البحر المائج. وقد لبثت أجوب تلك الأنحاء إلى الثانية صباحًا ولمَّا تخف كثافة الجماهير. أما ابتذال النساء فحدث عنه؛ فهو يبدو في شكل مروع بين أجنبيات — وبخاصة الروسيات — ووطنيات. كل تلك المظاهر جعلتني أفهم أن للقوم الحق أن يطلقوا على شنغهاي اسم «باريس الشرق»؛ فهي تفوق في ذلك «باريس الغرب». ويلفت النظر، بوجه خاص، ميلُهم جميعًا للاختلاف إلى المراقص التي لا تحصى بين أجنبي وصيني. وقد دخلت مرقصًا صينيًّا، وهنا تجلى التناقض التام والتصادم بين القديم والحديث؛ فالموسيقى تدق أنغامًا أوروبية، والصينيون يخاصرون الصينيات، ويعاقرون الخمر وهم يلبسون جلابيبهم الفضفاضة التي تحكي «القفطان». فصوِّر لنفسك منظر شيخ معمم يخاصر غادة ويراقصها! وهؤلاء هم بالطبع النشء الثائر على الرجعية القديمة. ولو أني أرى في ذلك كثيرًا من التطرف الممقوت. ويظهر أن عدوى الأجانب، وبخاصة إباحيي روسيا من جهة، والحروب الأهلية التي بدأت منذ زمان بعيد، هذا إلى تذوق شعب رجعي عتيق لحرية العصر الجمهوري؛ كل ذلك كان سبب ذاك الاندفاع الشائن في تيار المجون.
ومن الأندية الكبيرة التي تجمع بين الألعاب الرياضية والمراهنات — تلك التي يتكالب عليها أهل الصين بمختلف أنواعها — مكان اسمه «أوديتوريوم»، لشاب أرمني الأصل مصري الجنسية، يدر عليه ربحًا طائلًا. وهو يوظف فيه جمهورًا كبيرًا من هواة الرياضة. وقد حذا حذوه كثير من المصريين أصحابه. وما كنت أتوقع أن أسمع عن مصري يغامر بنفسه وماله في مثل تلك المنشآت في أقاصي الأرض. وهذا الشاب «هايج أسديان» مهذب مثقف، كان من أساطين الرياضة في مصر، وظل زمانًا بطل الملاكمة عندنا، وهو من كبار مشجعي الحركة الرياضية اسمه يرن في أرجاء شنغهاي، ويعرفه الجميع؛ مما جعلني فخورًا أن من المصريين من بدأ يطلب العمل ولو في الصين.
أما قيمة شنغهاي التجارية فعظيمة؛ فهي العاصمة التجارية للصين، والمصرف الطبيعي لغلات اليانج تسي؛ أغنى أحواض الصين وأكثفها سكانًا، ويزيد عدد قاطنيها على مليون ونصف، وهي بلدة حديثة العهد؛ إذ كانت قبل سنة ١٨٤٢ مرسًى صغيرًا لخفاف الزوارق، على أن مرفأها عرضة لأن تطمره الرواسب من النهرين؛ لذلك تطلبت التطهير على الدوام. وقد كابدت باخرتنا طويلًا من قلة العمق حتى أمنت الوقوف على الشاطئ. وقد أقام القوم سدًّا عند تلاقي النهرين؛ كي يحول جزءًا من تيار يانج تسي ورواسبه الكثيفة إلى البحر مباشرةً، بدل أن يسيل إلى هوانج بو فيسدَّ الميناء.
وقد كنت ألمس الكساد التجاري من أثر الأزمة الحالية؛ إذ كانت المبيعات تعرض بكافة الطرق وبأثمان بخسة. خذ مثلًا الحرير الذي كان يباع المتر من أنواعه الجيدة الجذابة بما بين خمسة قروش وعشرة! ومما زاد الأزمة سوءًا هنالك إهمال الزراعة في السنوات الأخيرة، وهي مورد تسعين في المائة من الناس؛ لأن المنتجين أصبحوا غير آمنين على إنتاجهم فآثروا إهمال الأراضي، إلى ذلك كثرة طغيان مياه الأنهار، وتوالي القحط، ونزول سعر الفضة؛ وهي أساس عملة الصين، وبخاصة بعد أن فكرت الهند في العدول عنها إلى الذهب، فباعت مقادير كبيرة منها للصين، فكان ذلك من أسباب انحطاط سعرها هناك. يضاف إلى ذلك الأثر السيئ للحرب الأهلية التي أثقلت كاهل البلاد بالنفقات، ودعت إلى إهمال الإنتاج. وزاد الحالةَ سوءًا عدمُ اطمئنان السراة على أموالهم؛ لذلك نقلوها إلى بلاد الشواطئ فتكدست هناك. كذلك أوقف الممولون الأجانب إرسال فوائد أموالهم إلى بلادهم؛ لكيلا يخسروا فرق التبادل المالي بسبب نزول قيمة النقد الصيني. كل ذلك زاد في تكديس الأموال فانحطت الفائدة، وضوعف نزول قيمة النقود الفضية، حتى كان الريال يساوي أربعة قروش ونصف.
وجو هنج كنج متوسط الحرارة غزير الأمطار، التي لم تكد تنقطع زهاء الثلاثة الأيام التي أقمتها بها. وإن أَنْسَ لا أنسى منظر الربى الرائع إبان الليل؛ فكأنه برج سماوي بثُرَيَّاته الوضَّاءة تنتشر على جوانبه في غير حصر. وكنا نعجب للكثير من السكان الذين يقطنون زوارقهم حتى قيل إن نحو خمسين ألفًا يعيشون فوق الماء في كانتون وهنج كنج. وفي مؤخر الزورق قبو من خشب أو قماش ينامون فيه ويعدون طعامهم. وترى الأطفال الذين لا يكادون يستقيمون على سوقهم كلٌّ يمسك بسنارته، أو بسلة من شباك الخيط يدلي بها إلى اليم، وسرعان ما يقيمها وبها قنصه من السمك؛ وهو غذاؤهم الرئيسي. وتلك المدينة كسائر بلاد الصين مكتظة بالسكان؛ إذ لا تزيد مساحتها على ٣٥٦ ميلًا مربعًا، لكنها تُؤْوي من السكان ٦٦٢ ألفًا. احتل الإنجليز الجزيرة سنة ١٨٤١، ثم ضمَّت لها منطقة «كولون» سنة ١٨٦٠، وزيدت مساحتها حتى اتصلت بكانتون.
وعجيب أن تُموِّن أرضُها الفقيرة جرانيتية التربة هذه الجموعَ الغفيرة! وعاصمة المستعمرة مدينة فكتوريا التي يطلق عليها اليوم هنج كنج، وسكانها وحدها ٣٤٠ ألفًا تتوجها قمة فكتوريا، وعلوها ١٨٢٠ قدمًا، ويدير حكومتها حاكم عام، ويعاونه مجلس تنفيذي من تسعة، ومجلس تشريعي من أربعة عشر. وللمستعمرة نقودها الخاصة وإن كانت تتبع نظام النقود الفضية؛ ولذلك كان سعر عملتها قد هبط هبوطًا مروعًا كسائر بلاد الصين. وذلك من حظ الزائر الأجنبي؛ لأنه يجد الحياة هناك رخيصة جدًّا، وهنج كنج كلمة معناها الماء العذب أو النهر المُعَطر؛ لكثرة مسايلها الدافقة في خوانقَ متلويةٍ. وكان يسميها البرتغاليون قديمًا «لادرون»؛ أي جزائر اللصوص؛ لما كان لأهلها من سمعة سيئة في القرصنة إذ ذاك.
وهذا هو المكان الوحيد الذي استطاع الفرنسيون أن يدخلوا منه بلاد الإمبراطورية السماوية، كما كانت تسمى الصين من قبلُ؛ تلك التي ظلت محوطة بالأوهام والأسرار والأقاصيص التي زادت البلاد إبهامًا. وكانتون التي تواجه هنج كنج أكثف سكانًا؛ ففيها مليون ونصف. وهنا بدأت ثورة الصين ضد نظمها القديمة، فطُرد حكَّام المانشو وبدأت الجمهورية الحديثة هنا؛ لأن أهلها أقل رجعية من سكان الشمال.
قمت من هنج كنج مودعًا بلاد الصين؛ تلك التي عرفت بشدة تمسُّكها بالقديم؛ إذ يوقنون أن أجدادهم بلغوا الكمال، كما أيَّد كنفوشيوس لهم ذلك؛ فالأسلاف هم المثل العليا عند الصيني؛ لذلك قعد عن التجديد، وخمد عقله، وعجز عن استثمار أرضه الخصبة؛ تلك التي تركت تحت رحمة الفيضانات تارةً، والجفاف أخرى، وأسرف في قطع الغابات حتى عراها عما كان يقيها شر التقلُّبات المناخية هناك. ونظام العائلة هناك يُبنى على الرهبة؛ فالرباط العائلي توثِّقه التقاليد والدين والقانون لحد جعل الإخلاص للعائلة دون غيرها واجبًا. وقد قضى هذا على التعاون بين العائلات، فلم يحدث في تاريخ الصين أن أبناءها تعاونوا مرة على إصلاح بلادهم في أية ناحية؛ ولذلك ثبتوا عند تأخرهم القديم. ولعل أسوأ أثر لتلك العزلة وذاك النفور بين العائلات قتل الشعور الوطني؛ إذ لا يضحي الصيني صوالح عائلته الخاصة في سبيل الصالح القومي العام؛ ولهذا لا تعطف مقاطعة هناك على غيرها من جاراتها قط مهما أصابها من نكبات، ولم يؤلفوا جبهة متضامنة ضد المغيرين والمعتدين؛ سواء من الداخل أو من الخارج — وهنا الفرق الرئيسي بينهم وبين اليابانيين — فالعائلة أساسها الأب، وهو شبيه بالإله! سلطته لا تُعارض، حتى لقد كان من حقه بيع أولاده وقتلهم! أما الأم فكَمٌّ مُهملٌ ليس لها على أولادها سلطان، وبخاصة الذكور، حتى شب الولد لا يستمع إلا لأوامر أبيه. أما البنت فمضطهدة بائسة! لذلك لا يسأل الوالد أذكرًا رزقت أم أنثى؛ بل: أدرة أم طينة؟! والزواج هناك مبكر جدًّا، والعزوبة تكاد تكون معدومة؛ لأن البقاء هكذا جريمة اجتماعية في ظنهم، والقاعدة الزواج من واحدة، لكن للزوج الحق في اتخاذ ما شاء من الخليلات على قدر ثروته! فكلما كان غنيًّا فاخَر بكثرة محظياته وبيوته التي ينفق عليها! وكثيرًا ما نرى من السُّراة من يحوذ عشر نسوة، ومن بينهم رئيس الجمهورية الحالي! والزوجة الرسمية يُدفع لها مهر بنسبة ثروتها، ومتوسط المهر مائتان من الجنيهات. وإذا ما دخلت بيت زوجها دفعت مبلغًا مساويًا له، ويتسلم الزوج المبلغين لاستثمارهما. والعادة أن العائلات الكبيرة ترفض أن تعطي فتياتها كخليلات مهما كان مركز الزوج. وأقل ما يُدفع مهرًا للخليلة مائة جنيه. وكنت أعجب من شبانهم حتى المثقفين وهم يتكلمون عن الخليلات وكأنه أمر طبيعي! وبعضهم يؤثرهن على الزوجة؛ لأن فيهن شيئًا من الحرية والتجديد وضمان النسل الكبير! والعادة أن الزوج إذا مات لا تتزوج أرملته، بل تظل طول حياتها. أما الزوجة فإن ماتت فللزوج أن يتزوج من غيرها! والميراث يقسم بالتساوي بين الذكور من الأبناء، سواءً في ذلك أبناء الزوجة الشرعية والخليلات! أما النساء فلا يرثن إلا إذا أوصى الأب بغير ذلك! والزوجة خادمة لزوجها ولأمه! ولا يتحسن مركزها إلا إذا وضعت ذكرًا، فإن خلفت أنثى فيا ويلها! والمرأة العقيم يجوز طلاقها، وإلا تبنى الرجل أحد أقربائه. ولا يتنزل الزوج فيجلس مع زوجته وأولاده إلى مائدة الطعام! رغم ما لهذا من الأثر في تربية النشء، كذلك لا يجوز أن يأكل الإخوة مع الأخوات إذا بلغوا السابعة! وإذا أحصى رب العائلة أفراد أسرته أهمل عدد الإناث. ونساء الطبقة الراقية محجبات لا يخرجن إلا محمولات على «الكراسي المعلقة». ويخال البعض أن ذلك راجع إلى عادة تصغير الأقدام التي تعيقهم عن السير. وعندما يرزق أحدهم بمولود يُطلق البخور أمام الدار، وتعلق علامة خاصة ثم يدثر الطفل بثياب آبائه لمدة شهر لكي تتسرب إليه فضائلهم، وبعد الشهر يحلق شعره، ويلبس ملابسه الحمراء، ويؤخذ رأي المشعوذين في اختيار طالع سعيد. وعندئذ تقام وليمة يقدَّم فيها النبيذ والبيض المخضب باللون الأحمر إذا كان المولود ذكرًا، وترسل لكل مدعو بيضة حمراء. وعلى المدعوين تقديم الهدايا والنقود. والعجب أن الطبقات الفقيرة التي لا تكفيهم مواردهم أن تمون عائلة كبيرة يتخلصون من بناتهم. وهناك خارج القرية يقوم شبه برج على ربوة يضع الرجل فوقه طفلته ويتركها! فيجيء الآخر ويلقي بها إلى داخل البرج لتموت! ويضع هو طفلته مكانها! وبذلك لا يقتل الرجل بنته بل طفلة غيره وهكذا! وقد اعتاد الخيرون من أصحاب الملاجئ أن يمروا بتلك الأبراج وينقلوا ما يجدون من الأطفال إلى الأديرة لتربيتهن.
والصيني قد خلف فيه فقره وتوالي النكبات عليه الأنانية والفساد والقسوة، وهو يرى في كثرة الموتى بسبب الأوبئة أو النكبات مخففًا لويلاته! وقد علمت أن نسبة الوفيات في الأطفال هناك ٥٠٪، وعدد من هلكوا بسبب الحروب الأهلية الحالية عشرون مليونًا؛ لذلك شذَّ عن الياباني في أنه فقد روح التعاون، اللهم إلا في التجارة؛ تلك التي يحتكرها عدد من الشركات التي يناهز عددها مليونًا ونصفًا، وهي تتفق على تحديد الثمن الأدنى، وتحديد الإنتاج في جميع البلدان. وتحتم النقابة مراعاة الثمن الأدنى. أما الحد الأقصى للثمن فيُترك لمهارة البائع.
وكثيرًا ما يتساءل الناس: كيف لا تفي مساحة الصين الشاسعة التي تعادل مساحة أوروبا بحاجة أهلها، وهي ذات التربة الخصبة، والأنهار العظيمة، والأيدي العاملة المتعددة التي تقدر بربع سكان المعمورة، والكنوز المعدنية الوافرة التي قيل إن الفحم وحده بها يفوق فحم إنجلترا عشرين مرة؟! كل ذلك ولا تستطيع تلك البلاد تموين أهلها؟! مع أن أوروبا وهي أكثف سكانًا وأصغر مساحةً تمون شعوبها الغنية المعروفة؟! ويظهر أن السبب راجع إلى خمول الصيني، رغم ما عرف عنه من صبر عظيم، فهو ظل متمسكًا بوسائل الإنتاج القديمة في الزراعة، وأضحت بلاده حقلًا للأرز فحسب، مع أنهم أحصوا بالبلاد نحو ١٢ ألف فصيلة نباتية، ولم يُعنَ بالصناعة التي يحتقرها الجميع؛ لأنها عمل يدوي دليل الامتهان لديهم، وهي دعامة النهوض والغنى في أوروبا وأمريكا، واقتنع الملايين منهم بمزاولة مهنة «الكولي» للحمل وجر الأثقال؛ تلك الأيدي التي لو تضافرت على عمل منتج لأتت بالمعجزات، إلى ذلك عنايته بالماضي؛ فهو يبذل كثيرًا على مقابر أجداده ونعش والديه؛ فحياته تفكير مستمر في الموت. وساعد على هذا التأخر نظام الطبقات؛ فالممتازة المحترمة لديهم اثنتان فقط: الحكام، والأدباء! ولا يزال الجاهل يحتقر نفسه ويقدس المتعلمين، وهؤلاء هم الأقلية؛ لذلك فُقد الرأي العام هناك؛ لأن السواد الأعظم هم العامة والجهلة، وانعدمت الطبقات الوسطى رغم أنها خير كابحٍ في البلاد الأخرى لطغيان الطبقة الأرستقراطية؛ لذلك كان لهاتين الطبقتين امتيازات يعترف بها الجميع، وهم يحتقرون العامة، ويترفعون عن محادثتهم! وكثيرًا ما ركب معي أمثال هؤلاء في القطار يحوطهم جمع من الأتباع الذين يخضعون لهم خضوعًا شائنًا، وكانوا يصدرون لهم الأوامر في صيغة الاستعباد الشائن، ويُصعِّرون لهم الخدَّ، ولا يسمحون بابتسامة لأولئك البائسين! ودهشنا مرة لما رأينا أحدهم يمسح لسيده وجهه بقطيلة (فوطة) مبللة، ونحن في القطار وهو لا يكاد يتحرك تِيهًا وعُجبًا! فعلى تلك الطبقات الممتازة تقع مسئولية تدهور البلاد؛ لأنهم بترفُّعهم طوال السنين عاونوا ذاك التأخر الذي أضحى مضرب الأمثال.