مقدمة الطبعة الثانية

تلقَّى الجمهور هذه الرسالة التي طبعتها عام ١٩٤٥م لقاءً حسنًا، فنفدت الطبعة في نهاية ذلك العام، وتهافت الطلَب على هذا الكتاب، وبخاصة من المُشتغلين بالمسائل الإسلامية وتاريخها. وكنتُ أفتش في أوراقي، فرأيتُ خطابًا من الدكتور سارتون أرسله إليَّ عام ١٩٤٧م يطلُب نسخة من هذه الرسالة، ولم أستطِع تلبيةَ طلبه لنفاد الكتاب. وفي هذا العام تقابلتُ مع المستشرق الدكتور كلفرلي الذي جاء يُلقي محاضرات في الفلسفة والتصوُّف الإسلامي بالجامعة الأمريكية، ورأيتُ أنه مُهتم بالتربية في الإسلام، وجاء ذكر رسالة القابسي، وعجبتُ أنه لم يطلع عليها مع أهميتها. وقد أرشدني إلى مقالةٍ كتبها الأستاذ جولدزيهر في دائرة المعارف عن التربية الإسلامية، وعرض فيها للقابسي، وقال إنه كان يودُّ العثور على رسالته. ومنذ عامَين التقيتُ في مؤتمر ابن سينا بمعالي الأستاذ علي أصغر حِكمت الذي كان وزير الخارجية بإيران، وتحدَّثْنا في أهمية تعليم المسلمين في الوقت الحاضر وكيف كان العرب في أوج حضارتهم يباشرون هذه المهمة وينشرونها بأيسرِ سبيل. ورغَّب كذلك في الاطلاع على رسالة القابسي.

هؤلاء بعض مَنْ لقيتُ منهم العناية الفائقة بهذا الفن، ولمَستُ منهم الرغبة الصادقة في اقتناء كتاب القابسي عن التعليم. ومِن أجل ذلك رأيتُ أن أدفع بالرسالة إلى المطبعة لتشهد النور مرةً أخرى بعد عشر سنوات.

ولم أكن قد قدَّمتُ لهذه الرسالة — وهي رسالة الدكتوراه — اكتفاءً بتقديم أُستاذي المغفور له مصطفى عبد الرازق الذي كان له الفضل في توجيه نظَري إلى أهمية هذا الموضوع، وإلى المُضيِّ في بحثه. وكانت عناية مصطفى عبد الرازق بالبحوث الإسلامية في شتَّى نواحيها عظيمة، صرَف إليها جهده، وحثَّ تلاميذه على كشف غوامِضها، مع الاهتمام بنشر التراث العربي القديم، وإحياء مجد العروبة والإسلام.

وقد أحدثتُ تعديلاتٍ طفيفة في هذه الطبعة الثانية، وأضفْتُ في آخر الكتاب رسالة ابن سحنون «آداب المُعلمين»، وهي أيضًا من الرسائل النادرة في التربية، نشرَها الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب باشا في تونس عام ١٣٥٠هجرية، ونفدَتْ طبعتُها منذ زمنٍ طويل، ولا يعرفها إلا عدد قليل.

وترجع أهمية رسالة القابسي إلى أنها الوحيدة — فيما نعلم — التي تُفصِّل أحوال تعليم الصبيان تفصيلًا فنيًّا دقيقًا، على حين أن سائر ما كتبَه العرب في التربية لا يتجاوز نصائح، أو مبادئ عامة، أو شذراتٍ متناثرة في بطون الكتب الأدبية والتاريخية، لا تكفي في إلقاء الضوء على هذا الجهاز عظيم الخطَر في الحضارة، وهو الذي نُسميه بالتربية أو التعليم؛ لهذا السبب كان البحث كله، أو يكاد، دائرًا حول القابسي وآرائه.

ولا نِزاع في أن العرب قد بلغوا في القرون الأولى الإسلامية درجةً عظيمة من الحضارة انتشرت من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. ولا حضارة بغَير علم، ولا عِلم بغَير تعليم، ولا تعليم بغير نظام مُعين يُرتب الصِّلة بين المُعلمين والتلاميذ، ويُفصل المناهج وطرُق التربية وسائر ما يتصل بالتعليم من أدوات.

وقد انتهت الحضارة الإسلامية التي كانت مُزدهرة ومُنتشرة ومتفوِّقة على الحضارة الأوروبية إلى الضعف والانحلال، وعمَّ الجهل، وانتشرت الأُميَّة، وأصبح الشرق في موقفه اليوم أشبَهَ بأوروبا في العصر الوسيط حين كانت تعتمِد على العلوم المُنتشرة عند العرب في حياتها الثقافية. ولكن الشرق العربي أخذ يتنبَّه ويستيقِظ منذ نصف قرن حتى يستعيد مجدَه السابق. واتَّجهت النهضة وِجهتَين: الأولى تأخُذ بالحضارة الأوروبية تنقلها كما هي وتعتمد عليها في ثقافتها، والثانية تلتفِتُ إلى الماضي تسعى إلى إحيائه ومعرفة الأساليب القديمة التي اتَّبَعها أجدادنا في تثقيف أبنائهم.

ونحن في حاجةٍ إلى القديم والجديد معًا؛ لأنَّنا لا نستطيع قطع الصِّلة بالماضي الذي لا نزال نعيش في دِينه ولُغته. لا يزال ديننا الإسلام، وكتابنا القرآن، ولُغتنا العربية. ونحن في حاجة اليوم إلى تعليم أبنائنا اللغة العربية والقرآن الكريم. ويجدُر بنا أن نعرف كيف كان أجدادنا منذ ألف عام يُعلمونهما، فقد يُفيدنا ذلك في موقفنا الحاضر، ويُعيننا على حل مشكلة تعليم الأطفال اليوم الكتابة والقراءة والدِّين، وهي مشكلة معروضة على بساط البحث، وهي مَوضع تفكير علماء التربية.

وقد رأيتُ أن أُضيف إلى عنوان الكتاب في طبعته الأولى عنوانًا جديدًا هو التربية في الإسلام؛ لأن الحديث لم يقتصِر على القابسي وحدَه، بل تجاوزَه إلى غيره كذلك.

والله الموفق إلى ما فيه الخير والصواب.

أحمد فؤاد الأهواني

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤