آراء المُسلمين في التربية والتعليم
- الأول: أن المستشرقين الذين كتبوا في التربية الإسلامية، ومن تبِعَهم من المؤلِّفين في الشرق، درجوا على تقرير آراءٍ مُعينة في التعليم قالوا عنها إنها آراء المُسلمين أو العرب فيما يختصُّ بأغراض التعليم، ومناهجه، وطرقه، وأحواله. وهذا التعميم خطأ؛ لأن أمور التعليم اختلفت باختلاف الأقاليم، واختلاف أشخاص القائلين بها. وقد نجد اتفاقًا على بعض الأمور، ولكنهم اختلفوا في أمور أُخرى كثيرة مما جعلنا نفرد لكل مُفكرٍ منهم كلمة خاصة تجمع رأيه، وتُبين ما امتاز به.
- والثاني: أن الآراء التعليمية لمُفكرٍ ما وحدةٌ مُتماسكة في ذهن صاحبها، فقد يذكر منهجًا خاصًّا يُلائم الغرَض من التعليم الذي يذهب إليه، وكذلك طريقة التعليم التي سلكها في تحقيق ذلك المنهج، فلا يصحُّ أن ننقل جزءًا من مذهب مُفكر في التعليم ونترك سائر ما ذكره في هذا الصدد
- والثالث: أننا نذهب إلى أبعد من ذلك، فنقول: إن مذهب المفكر في التعليم جزء أو صدى لمذهبه العام في الحياة أو فلسفته، إذا كانت الفلسفة هي النظر الشامل للحياة. وقد التزمْنا هذا المنهج في بحثنا، فبدأنا بذِكر مذهب القابسي، وهو مذهب أهل السُّنَّة، ثم بيَّنَّا أن طريقته في التعليم تُلائم هذا المذهب. وجمهور الفقهاء كانوا على مذهب أهل السُّنَّة، وهذا هو السبب في التشابُه الشديد في الرأي بين المُتقدمين والمتأخرين فيما ذكروا من فصولٍ متناثرة خلال كتُب الفقه، وكتب القرآن التي تعرَّضت لموضوعات التعليم. وإلى جانب هؤلاء ظهر في البيئة الإسلامية طوائف أخرى تُفكر بطريقة مُختلفة عن جمهور أهل السُّنَّة، كالمُعتزلة والفلاسفة والمُتصوِّفة وغيرهم؛ وسنرى في هذا الفصل أن ما نذكُره من مسائل التعليم المُستندة إلى صاحبها هي صدًى لمذهبه العام.
لهذا كله آثَرْنا أن نجمع أشهر آراء المسلمين في التربية، أو آراء أشهر المُربين في الإسلام في مكانٍ واحد، لتكون الموازنة بينهم وبين القابسي الذي يُمثل فريق الفقهاء بارزة جلية.
(١) إخوان الصفا والتعليم
وقد نظروا إلى التعليم والتربية نظرًا عقليًّا لا عمليًّا.
وأصحاب (رسائل إخوان الصفا) مُخطئون في فهم أفلاطون؛ لأن معنى رأيه «العلم تذكُّر والجهل نسيان.» أن النفس كانت تعيش مع الآلهة في عالَم المُثُل فعندها معرفة بكلِّ شيء، ولمَّا اتَّصلَت بالجسد نسِيَت، فإذا انكشف عنها ستار المعرفة، فإنها لا تكسِب شيئًا جديدًا، بل تتذكَّر ما كانت تعرفه في عالَم المُثل قبل اتصالها بالجسد.
ومذهب إخوان الصفا شبيه بمذهب لوك الذي يَعتبر أن أصل المعرفة هو الحواس، وأنه لا شيء في العقل لم يكن قبل ذلك في الحواس.
فإذا كانت المعرفة مُكتسبة، فكيف الطريق إلى تحصيلها؟
- (١)
الأبرار والرحماء، يشترط فيهم صفاء جوهر نفوسهم وجودة القبول، سِنهم خمس عشرة سنة.
- (٢)
مرتبة الرؤساء وذوي الرياسات، عمرهم ثلاثون سنة، يشترط فيهم مراعاة الإخوان وسخاء النفس.
- (٣)
رتبة الملوك وذوي السلطان، وهي القوة الناموسية الواردة بعد ملوك الجسد بأربعين سنة.
- (٤) الرتبة الرابعة «وهي التي ندعو إليها إخواننا كلهم في أي مرتبة كانوا، وهي التسليم وقبول التأييد، ومشاهدة الحق عيانًا، وهي القوة الملكية الواردة بعد خمسين سنة من مولد الجسد.»١٢
وقد نبَّه إخوان الصفا في غير موضعٍ إلى أهمية التربية والتعليم والمحافظة في طبع النفوس بالآراء والسجايا، مما يصعُب محوه بعد ذلك. ولكنهم أغفلوا مع ذلك حلقةً أولى في التعليم، تُعتبر من بنيانه كالأساس، وهي مرحلة تعليم الصبيان حتى سِن الخامسة عشرة.
وفي هذا النص إشارة إلى منهج تعليم الصبيان في المشرق، وليس فيه خلاف عن المنهج المتبع في المغرب.
(٢) ابن مسكويه
وتكلم أحمد بن محمد بن مسكويه عن تعليم الصبيان في كتاب «تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق». وقد درج في هذا الكلام على طريقة الفلاسفة، ولكنه كأغلب الفلاسفة المسلمين، أخذ عن الفلسفة اليونانية دون أن يتبع فيلسوفًا بعينه، ولكنه أخذ من كل مذهب ما أعجبه، ومزج الآراء بعضها ببعض.
الحق والخير والجمال هي الغايات التي يتطلَّع إليها الإنسان. وهذه الثلاثة هي بذاتها مُثُل أفلاطون الأخيرة.
وتنقسم النفس إلى ثلاث قوى: النفس الناطقة، والغضبية، والشهوانية. والناطقة هي القوة التي بها يكون التفكير والنظر في حقائق الأمور، والغضبية هي التي يكون بها النجدة والإقدام على الأحوال، والشهوانية يكون بها طلب الغذاء والملاذ.
والمعلومات بعضها مُكتسب، وبعضها فطري.
«فإن النفس وإن كانت تأخذ كثيرًا من مبادئ العلوم عن الحواس، فلها من نفسها مبادئُ أُخَر، وأفعال لا تُؤخَذ عن الحواس البتة. وهي المبادئ الشريفة العالية التي تنبني عليها القياسات الصحيحة.
وإذا أردنا التعبير عن هذا الرأي بأسلوبٍ آخر، نقول إن مادة المعلومات مُكتسبة، أما صورتها ففطرية.
والأحوال الخلقية بعضها مكتسب وبعضها فطري، «فمنها ما يكون طبيعيًّا من أصل المزاج، ومنها ما يكون مُستفادًا بالعادة والتدريب، وربما كان مبدؤه بالروية والفكر ثم يستمر عليه أولًا فأولًا حتى يصير ملكة واختيارًا.»
«ولهذا اختلف القدماء فقالوا مَنْ كان له خلق طبيعي لم ينتقل عنه، وقال أخرون ليس شيء من الأخلاق طبيعيًّا.»
وقد اختار ابن مسكويه المذهب الثاني وهو أننا: «ننتقل بالتأديب والمواعظ إما سريعًا وإما بطيئًا. ولأن الرأي الأول يؤدي إلى إبطال قوة التمييز والعقل، وإلى رفض السياسات كلها، وترك الناس همجًا مُهمَلين، وإلى ترك الأحداث والصبيان على ما يتفق أن يكونوا عليه بغير سياسة ولا تعليم، وهذا ظاهر الشناعة جدًّا.»
فالصبي قابل للتعليم والتأديب.
ثم وصف بن مسكويه العلوم والفضائل التي يأخُذ الناس بها أنفسهم منذ الصبا.
في هذا المنهج نجد ابن مسكويه يمزج بين الدين والفضيلة والعِلم على الأخص علم الحساب والهندسة، وهذا شبيه بالفيثاغوريين.
والكلام في هذا الفصل ينصبُّ على التربية والتأديب، لا على كسب العلوم. وقد كانت عناية الروم والفرس مُتجهة في الغالب إلى تهذيب الخُلق وتعليم الأدب.
ولا ننسى أن الروم كانت دولة أرستقراطية انعزلت فيها الطبقات بعضها عن بعض، على عكس الإسلام الذي سوَّى بين الناس في الحقوق، ومحا فوارق الطبقات.
قال ابن مسكويه نقلًا عن هذا الكتاب: وأحوج الصبيان إلى هذا الأدب أولاد الأغنياء والمُترفين.
لذلك كانت آداب السلوك التي ذِكرُها بأهل الطبقة الرفيعة أليق.
ونفس الصبي ساذجة لن تنتقش بعد بصورة، ولا لها رأي وعزيمة تُمليها من شيءٍ إلى شيء. فإذا نُقِشت بصورة قبِلَتْها نشأ عليها واعتادها. وهذا يطابق الرأي الذي ذهب إليه من قبل، وقد ساد هذا الرأي بنصِّه عند أغلب المفكرين في الإسلام.
وأوْلى الآداب بالتقديم أدب المطاعم، التي تُراد للصحة لا للذَّة، ولدفع الجوع وحفظ صحة البدن. ولا يُرَغَّب الصبي في الألوان الكثيرة، وإذا جلس مع غيره فلا يُبادر إلى الطعام، ولا يُحدِّق إليه شديدًا، ولا يُسرع في الأكل.
أما الحلوى والفاكهة فينبغي أن يمتنع عنها البتة إن أمكن، وإلا فيتناول أقلَّ ما يمكن، فإنها تستحيل في بدنه وتُكثِر انحلاله. ونقول إن هذا الرأي لا يتفق ومبادئ الطب الحديث.
«فأما النبيذ وأصناف الأشربة المُسكرة فإيَّاه وإيَّاها، فإنها تضرُّه في بدنه ونفسه، وتَحمِله على سرعة الغضب والتهوُّر والإقدام على القبائح. ولا يحضر مجالس أهل الشرب إلا أن يكون أهل المجلس أدباء.» وهذا الرأي أجنبي لا إسلامي؛ إذ المُعلم ينهى عن الخمر لأن الدين حرَّمها، ولا ينصح البتة بحضور مجالس الشراب. ثم إن هذه المجالس يجتمع فيها الخاصة لا العوام، وهذا يطابق ما ذكرناه من أن هذا الفصل يُعالج تأديب الصبيان في الطبقة الرفيعة.
ويُمنع الصبي من النوم الكثير؛ فإنه يُقبِّحه ويغلظ ذهنه. ولا يتعود النوم بالنهار ألبتة، ويُعوَّد الحركة والمشي والرياضة.
فالغاية من هذه الآداب كلها هي أن يتعوَّد الخشونة ويصلُب بدنه. ولذلك: «يُؤاخَذ باشتهائه المآكل والمشارب والملابس الفاخِرة. ويُعلَّم أن أولى الناس بالملابس المُلوَّنة والمنقوشة النساء اللاتي يتزينَّ للرجال، وأن الأحسن بأهل النُّبل والشرَف من اللباس البياض.»
وأبلغ مما سبق في التعوُّد على الخشونة والرجولة: «أنه ينبغي إذا ضربه المُعلم ألا يصرخ وألَّا يستشفِع بأحد، فإن هذا فعل المماليك، ومن هو خَوَّار ضعيف.»
ومع ذلك فالصبي «يؤذَن له في بعض الأوقات أن يلعب لعبًا جميلًا ليستريح إليه من تعب الأدب.»
ومما يجري مجرى الرجولة والأدب أن يحفظ الأخبار والأشعار التي تُعوِّده الأدب: «ويحذَر النظر في الأشعار السخيفة، وما فيها من ذكر العشق وأهله، وما يُوهمه أصحابها أنه ضرْب من الظُّرف، وَرِقَّةِ الطبع. فإن هذا الباب مَفسدة للأحداث جدًّا.»
وطريقة التأديب إذا وقع من الصبي مُخالفات هي التغافُل أولًا، ثم التوبيخ، ثم الضرب؛ «لأنك إن عوَّدتَه التوبيخ والمكاشفة حملْتَه على الوقاحة.» ويُمدح بكل ما يظهر منه من خلق جميل.
هذه هي خلاصة ما ذكره ابن مسكويه في التعليم والتأديب. ومن الواضح أنه تأثر في آرائه بالفلسفة، فأخذ عن أفلاطون، وعن أرسطو، وعن الفيثاغوريين، وعن الفُرس، وجعل من كل ذلك مذهبًا جديدًا في الأخلاق، مُؤتلِفًا إلى حدٍّ كبير.
وهذا الرُّقي يقبله المرء بالتأديب.
(٣) ابن سينا
وآراؤه تدلُّ على حرية شديدة في التفكير، على العكس من ابن مسكويه الذي تقيَّد بآراء أفلاطون وأرسطو، وأراد أن يُطبقها على البيئة الإسلامية، فخرجت لذلك مُغايرة لطبيعة المسلمين. أما ابن سينا فينظر إلى البيئة الإسلامية، ويتحرى الأساليب المُلائمة لها في التعليم والتهذيب، بما يتَّفِق مع العقل السليم.
«إذا فُطِمَ الصبي عن الرضاع بُدئ بتأديبه ورياضة أخلاقه قبل أن تهجم عليه الأخلاق اللئيمة؛ فإنَّ الصبي تتبادر إليه مساوئ الأخلاق، فما تمكَّن منه من ذلك غلَب عليه فلم يستطع له مُفارقة.»
هذه هي نظرية تكوين العادة وصعوبة الإقلاع عنها، وأغلب المسلمين على هذا الرأي، ولهم في ذلك حِكَم مأثورة مشهورة مثل: «التعلُّم في الصغر كالنقش على الحجر.» إلى غير ذلك.
وقد رأينا القابسي أيضًا ينصح بتكوين العادات الحسنة منذ الصغر، ومنها المبادرة بتعليم الصبي الصلاة.
«فإذا اشتدَّت مفاصل الصبي، واستوى لسانه، وتهيأ للتلقين، ووعَى سمعه أخذ في تعلُّم القرآن وصور له حروف الهجاء، ولُقِّن معالم الدين.»
وابن سينا هنا يرجع بالذاكرة إلى نفسه حين كان صبيًّا صغيرًا، فأحضر مُعلم القرآن، ولم يبلُغ العاشرة من عمره حتى أتى على القرآن وعلى كثيرٍ من الأدب، كما ذكر في سيرة حياته.
فهو يريد أن يُنشئ أبناء المسلمين على الصورة التي نشأ هو عليها، ولا يَجِد في ذلك حرَجًا أو مطعنًا، ولهذا أقرَّ هذه الطريقة التي تبدأ بتعليم القرآن والكتابة، كما جرت العادة في الكتاتيب.
ويرى ابن سينا: «أن يُروى الصبي الرجَزَ ثم القصيد.» وهذا الاهتمام الشديد بالشِّعر والنص عليه، دليل على عناية ابن سينا بالفن وأثره في النفس، وقد كان ابن سينا شاعرًا نظم القصيدة العينية في النفس، وله قصيدة في المنطق. وأرجوزة في الطب، وعدة قصائد في الزهد وغير ذلك، فلا غرابة أن يحث على تعليم الشِّعر.
ومن رأي ابن سينا أن يكون التعليم جميعًا في المكتب، لا فرديًّا على مؤدِّب خاص. وكانت عادة الأغنياء والأشراف اتخاذ المُؤدِّبين لأولادهم.
«لأن انفراد الصبي الواحد بالمؤدِّب أجلب لضجرهما.» «ولأن الصبيَّ عن الصبي ألقن، وهو عنه آخَذُ وبه آنَسُ.»
ووجود الصبي مع غيره من الصبيان «أدعى إلى التعلم والتخرُّج فإنه يُباهي الصبيان مرة ويغبطهم مرة ويأنف عن القصور عن شأوهم مرة. ثم إنهم يترافقون ويتعاوَضون الزيارة ويتكارَمون ويتعاوَضون الحقوق، وكل ذلك من أسباب المباراة والمُباهلة والمساجلة والمحاكاة، وفي ذلك تهذيب لأخلاقهم وتحريك لهِمَمِهم وتمرين لعاداتهم.»
وليس في هذا الكلام جديد عما ذكر القابسي الذي حبَّذ المُخايرة بين الصبيان، وأجاز اتخاذ العريف لِما في ذلك من فائدة في تخريج الصبيان.
وإنما الجديد النصيحة لأبناء الطبقة الرفيعة أن يتَّصِلوا بأبناء الشعب في الكتاتيب مما يدل على تأصُّل الروح الديموقراطي في قلب ابن سينا. ولم يكن ابن مسكويه على هذا الرأي؛ لأن رسالة تأديب الأحداث التي نقلها في كتابه إنما تصِف تعليم صبيان الخاصة فقط، وينصرِف الرأي فيها إلى المؤدِّب وتلميذه، لا المُعلم وصبيانه.»
وقيمة المُعلم عند ابن سينا في خلقه وسيرته، لذلك ينبغي أن يكون: «عاقلًا، ذا دين، بصيرًا برياضة الأخلاق، حاذقًا بتخريج الصبيان، وقورًا رزينًا بعيدًا عن الخفة والسخف، قليل التبذُّل والاسترسال بحضرة الصبي.»
ورأي ابن سينا في العقوبة لا يخرج عما هو معروف عند فقهاء المسلمين، وعما ذكر القابسي، فهو ينصح بالترهيب والترغيب، والإيناس والإيحاش، والحمد مرة والتوبيخ مرة أخرى، والضرب بعد الإرهاب الشديد.
ونُحِب أن نقف قليلًا عند رأيٍ جديد لابن سينا لم يسبقه إليه أحد في الإسلام، وهو من الآراء الحديثة في التربية وعِلم النفس. ذلك هو مسايرة ميول الصبي، ثم توجيه الصبي إلى الصناعة أو المهنة التي تتَّفِق مع ميوله.
ذلك أنه: «ليس كل صناعة يرومها الصبي مُمكنة له مواتية، لكن ما شاكَلَ طبعَه وناسَبَه، وأنه لو كانت الآداب والصناعات تُجيب، وتنقاد بالطلَب والمَرام دون المُشاكلة والمُلائمة، إذَنْ ما كان أحد غفلًا من الأدب، وعاريًا من صناعته، وإذَنْ لأجمع الناس كلهم على اختيار أشرف وأرفع الصناعات.»
«وينبغي لمُدبِّر الصبي إذا رام اختيار الصناعة أن يزِن أولًا طبع الصبي، ويسبر قريحته، ويختبر ذكاءه، فيختار له الصناعات بحسب ذلك.»
ولكن ابن سينا لم يُوضِّح لنا طريقة اختبار الذكاء، وميزان الطبع والقريحة؛ ولعله ترك ذلك لفراسة المُعلم ورأيه. بينما الجديد في علم النفس الحديث هو ابتكار اختبارات الذكاء، واختبارات الشخصية.
(٤) الغزالي
ذكرنا التربية عند إخوان الصفا، وعند ابن مسكويه، وعند ابن سينا، لنُبين ما يراه بعض الفلاسفة في تعليم الصبيان.
ونذكر الآن رأي المُتصوفة، وسنتَّخِذ الغزالي ممثلًا لهم؛ لأنه أوفى مَنْ كتب في هذا الموضوع، ولأن آراءه أوسع انتشارًا من غيره.
وليس غريبًا أن يُنبه الغزالي على قيمة التعليم والمُعلمين، وهو الذي كان مُعلمًا في إحدى مدارس بغداد، ثم اعتزل التعليم وصناعته ليكون مُعلمًا للناس كافة عن طريق كتُبِه التي ألَّفَها، وأكبرُها «إحياء علوم الدين».
وبعد أن طاف الغزالي بجميع المذاهب في الكلام والفلسفة، انصرف عنها، وطعن عليها، وآثر طريق التصوف.
ولكنه اعتنق هذا المذهب عن روِيَّة وتفكير، لا عن اتباعٍ وتقليد.
والعلم الذي هو فرض عين على كل مسلم: اعتقاد وفعل وترك؛ أي اعتقاد بالله، وفعل بما أمر الله، وترك لما نهى عنه.
وهنا نرى أن الغزالي يقترِب من رأي القابسي وهو رأي أهل السُّنَّة، الذين يجعلون عِلم القرآن والصلاة وبعض النحو والخط من العلوم الضرورية، أما الحساب فليس بِلازِم على المُعلم إلا أن يُشترَط عليه.
- (١)
التعلم الإنساني وهو التحصيل بالتعلُّم من خارج.
- (٢)
التعليم الرباني وهو الاشتغال بالتفكُّر من داخل.
وهذا المذهب في اكتساب المعرفة عن طريق الحسِّ أولًا ثم بالفكر والقياس والحدس، هو مذهب ابن سينا، كما هو مذكور في (النجاة) وغيره من الكتب.
أما التعليم الرَّباني فعلى وجهَين: إلقاء الوحي بأن يُقبل الله تعالى على تلك النفس إقبالًا كليًّا، وينظر إليها نظرًا إلهيًّا، ويصير العقل الكلي كالمُعلم، والنفس القدسية كالمُتعلم، فيحصل جميع العلوم لتلك النفس من غير تعلُّم وتفكُّر.
- (١)
تحصيل جميع العلوم وأخذ الحظ الأوفر منها.
- (٢)
الرياضة الصادقة والمُراقبة الصحيحة.
- (٣) التفكر، فإن النفس إذا تعلَّمَت وارتاضت بالعلم، ثم تفكَّرَت في معلوماتها بشروط التفكر، ينفتح عليها باب الغيب.٣٥
وهذا الرأي هو صورة من حياة الغزالي؛ لأنه لم يتصوَّف إلا في آخر حياته، بعد أن اشتغل بتحصيل العلوم.
ونعود إلى الكلام عن تعليم الصبيان.
- (١)
تقديم طهارة النفس على رذائل الأخلاق؛ إذ لا تصلح عبادة القلب بالعِلم إلا بعد طهارته عن خبائث الأخلاق.
- (٢)
أن يُقلل علائقه من الاشتغال بالدنيا ويبعد عن الأهل والوطن.
- (٣)
ألا يتكبَّر على العلم، ولا يتأمَّر على المُعلم، بل يُلقي إليه زمام أمره بالكلية.
- (٤)
أن يحذَر الخائض في العلم في مبدأ الأمر عن الإصغاء إلى اختلاف الناس، فإن ذلك يدهش عقله، ويحير ذهنه، ويُؤيِسُه عن الإدراك والاطلاع.
- (٥)
ألا يدع طالِب العلم فنًّا من العلوم المحمودة، ولا نوعًا من أنواعه، إلا وينظُر فيه نظرًا يطَّلِع به على مقصده وغايته … فإن العلوم متعاونة، وبعضها مُرتبط ببعض.
- (٦)
ألا يخوض في فنٍّ من فنون العلم دفعة، بل يُراعي الترتيب ويبتدئ بالأهم، فإن العمر إذا كان لا يتَّسِع لجميع العلوم غالبًا، فالحزم أن يأخذ من كل شيءٍ أحسَنه.
- (٧)
ألا يخوض في فنٍّ حتى يستوفي الفن الذي قبله، فإنَّ العلوم مُرتَّبة ترتيبًا ضروريًّا، وبعضها طريق إلى بعض.
- (٨)
أن يعرف السبب الذي به يُدرك الشرف في العلوم، فإن ثمرة علم الطب الحياة الدنيوية، وثمرة الدين الحياة الأخرى، فيكون علم الدين أشرف.
- (٩)
أن يكون قصد المُتعلم في الحال تحلية باطنه وتجميله بالفضائل، وفي المآل القُرب من الله … ولا يقصد به الرياسة والمال والجاه ومماراة السفهاء ومباهاة الأقران. ولا ينبغي أن ينظُر بعين الحقارة إلى سائر العلوم التي هي فرض كفاية.
- (١٠)
أن يعلم نسبة العلوم إلى المقصد، كما يؤثر الرفيع القريب على البعيد، والمُهم على غيره.
- (١)
الشفقة على المُتعلمين، وأن يُجريهم مجرى بنيه.
- (٢)
ألا يطلب على العلم أجرًا، ولا يقصد به جزاءً ولا شكورًا.
- (٣)
ألا يدع من نُصح المُتعلم شيئًا، وأن يُنبه أن الغرَض من طلب العلوم القُرب من الله دون الرياسة والمنافسة والمباهاة.
- (٤)
أن يزجر المُتعلم عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن، ولا يُصرِّح، وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ.
- (٥)
ألا يُقبِّح في نفس المتعلم العلوم التي وراءه، كمُعلم اللغة إذ عادته تقبيح علم الفقه.
- (٦)
أن يقتصر المُتعلم على قدْر فهمه، فلا يلقي إليه ما لا يبلغه عقله.
- (٧)
أن المُتعلم القاصر ينبغي أن يُلقي إليه الجلي اللائق به، ولا يذكر له أن وراء هذا تدقيقًا وهو يدَّخِره عنه؛ فإن ذلك يُفتِّر رغبته في الجَلي، ويشوِّش عليه قلبه.
- (٨)
أن يكون المُعلم عاملًا بعِلمه، فلا يُكذِّب قوله فعله.
في القواعد السابقة بعض المبادئ في التعليم تُعتبر من أسمى ما وصل إليه علماء التربية. وأهمها الترابط بين العلوم، والبدء بالأهم فالمهم، وبالواضح قبل الغامض، وبالأسبق في الترتيب.
ونأخذ على الغزالي ما يَعيبه على المُعلم من أخذ الأجر على التعليم، فهذا من الآراء المثالية التي لا تتفق مع الواقع. وهذا يختلف عن رأي القابسي.
ولكن الغزالي بسط هذه المبادئ العامة في إيجازٍ دون أن يخوض في تفصيل شئون التعليم والتربية. فلم يتكلم عن المنهج، أو مكان التعليم، أو اليوم المدرسي؛ أو العقاب، أو اختيار الصبيان إلى آخر ما جاء في رسالة القابسي.
وبعدُ فإننا نرى أن رأي الغزالي في التعليم جزء من مذهبه في التصوف، وهو مخالف بعض الشيء لمذهب أهل السُّنَّة.
فهو يتَّفِق معهم في الغرَض وهو معرفة الله تعالى، ومعرفة العبادات التي أمرنا بها، وأنواع الأفعال التي نهانا عنها.
(٥) الزرنوجي
ومن الكتب الذائعة الذكر عند العرب «تعليم المُتعلم طريق التعلُّم» لبرهان الدين الزرنوجي المُتوفى سنة ٥٩١ﻫ. وقد تُرجِم هذا الكتاب إلى اللغة اللاتينية.
وعندنا أن السِّرَّ في شهرة هذا الكتاب راجع إلى عنوانه من جهة، وإلى أنه كتاب خاص بالتربية والتعليم فقط، ومثل هذه التآليف الخاصة قليلة عند المسلمين.
والرأي عندي أن قيمة هذا الكُتيِّب ضئيلة الشأن.
فهو صغير الحجم لا يكاد يبلُغ فصلًا من الفصول المؤلَّفة في التربية في كتب الفقه.
ولم يأتِ صاحبه بجديد، وإنما ذكر ما هو معروف متداول، ومزج الآراء بالحكايات وبعض الأشعار والأمثال.
وهذه النصائح وأمثالها هي التي بثَّت في المسلمين روح التواكل والكسل وعدَم الاعتماد على النفس.
وبدأ الزرنوجي ببيان أنَّ طلب العِلم فريضة على كل مُسلم، وهو علم الحال كالصلاة والزكاة وما إلى ذلك، وبعد ذلك ينتقل إلى علم المآل.
وهذا منتهى الغاية في الجمود، والتعسُّف في الرأي دون عِلة معقولة؛ إذ أي عيب في الكتابة بالمداد الأحمر.
ولذَّة العلم من دواعي تحصيل العلم. أما الكسل والنسيان فعلاجهما تقليل الطعام. وينبغي أن يبدأ المُتعلم بما هو أقرب إلى فهمه، ولا يحفظ إلا بعد الفهم.
وقد ضبط علماء التربية الحديثة طريقة التكرار بالتجارب، فوجدوا أن التكرار المُوزَّع على أيامٍ كثيرة، أفضل من التكرار المُستمر. وهذا يشبه ما قاله الزرنوجي، ولكنه لا يعتمد فيه على التجارب.
(٦) ابن عبد البر
ونعرض قبل أن نختم هذا الفصل بما ذكره ابن خلدون، لكتابٍ آخر في التعليم هو (جامع بيان العلم وفضله، وما ينبغي في روايته وحمله) لابن عبد البر النمري القرطبي المتوفَّى سنة ٤٦٣ﻫ.
والجزء الثاني من الكتاب دفاع عن طريقة أصحاب الحديث، وفي وجوب الأخذ بالحديث في إقامة العلم، واتباع السلَف، وأن الرأي سبب في الوقوع في البِدَع.
وبدأ المؤلف بالكلام عن وجوب طلَب العلم معتمدًا على الحديث: «طلَب العلم فريضة على كل مُسلم.» بعد أن خرَّج هذا الحديث من عدة طرق؛ ثم بيَّنَ أن العلم فرض عَين، ومنه فرض كفاية، وأن الأول هو معرفة أصول الإسلام، كالاعتقاد بوجود الله، والصلاة، والزكاة، والحج.
ثم استطرد إلى الآداب التي ينبغي أن يتحلَّى بها طالب العلم، كالصبر والزهد في الطعام والمال والرياسة.
(٧) ابن خلدون
واتبع ابن خلدون — المُتوفَّى عام ٨٠٨ﻫ — مذهبًا مُخالفًا للفلاسفة والمُتكلمين والمتصوفة وأهل السُّنَّة، وهو المذهب الذي ابتدعَه وسبق به عصره، نعني المذهب الاجتماعي.
ذلك أن الإنسان حيوان مُفكر اجتماعي، خاضع في صِلة بعضه ببعض لقوانين اجتماعية، في جميع أمور معاشه وعمرانه.
والقرآن هو أول العلوم التي يتعلمها الصبي؛ لأن تعليم الوُلْدان للقرآن شعار من شعار الدين، أخذ به أهل المِلة، ودرجوا عليه في جميع أمصارهم، لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان … وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصُل به بعضٌ من الملكات.
وهذا مما أخذ به جميع المُفكرين في الإسلام.
وعقد ابن خلدون فصلًا عن ضرر الشدة بالمتعلمين، يدلُّ على بصَرٍ شديد بعلم النفس، لأن: «مَنْ كان مَرباه بالعسف والقهر، سطا به القهر، وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعا إلى الكسل، وحمل على الكذب والخُبث وهو التظاهُر بغَير ما في ضميره خوفًا من انبساط الأيدي بالقهر عليه.» وهذا شبيه بما يذكره علماء التحليل النفساني المُحدثون في وجود عقدةٍ نفسية كامنة في اللا شعور هي التي تحرك أفعال المرء.
والعسف يفسد في الصبي معاني الإنسانية، فيفقد الحمية المُدافعة عن نفسه، ويصير عيالًا على غيره.
لذلك ينبغي للمعلم في مُتعلمه، والوالد في ولده، ألا يستبدوا عليهم في التأديب.
وهذا هو رأي القابسي.
•••
والذين ألَّفوا في التعليم من المُتأخِّرين عن ذلك، لم يفعلوا أكثر من تلخيص آراء المُتقدمين دون ذِكر المراجع التي رجعوا إليها، كما هي الحال في أغلب الكتب المؤلَّفة في العصور المُتأخرة في جميع العلوم الإسلامية.
ومن هذه الكتب (رسالة في رياضة الصبيان) لشمس الدين الإنبابي، و(اللؤلؤ النظيم في رَوْمِ التعلُّم والتعليم) لشيخ الإسلام أبي يحيى زكريا الأنصاري، و(تحرير المقال) لابن حجر الهيثمي، وفضل علم السلف على الخلف لابن رجب البغدادي.
وكل مَنْ رجع إلى هذه الكتب، يستطيع أن يعثُر بسهولة على الأصل الذي استمدَّ منه أصحابها آراءهم. فهي إما لابن مسكويه كما فعل الإنبابي في نقل «رسالة تأديب الصبيان»، أو الغزالي كما فعل الأنصاري في نقل شروط المُعلم والمتعلم، أو ممَّا هو معروف في كتب الفقه والأدب.