بيئة القابسي الدينية وطريقته في التأليف
(١) المذهب السائد في شمال أفريقيا
القابسي صورة للعصر الذي عاش فيه، بل صورة للإقليم الذي أظلَّتْه سماؤه. وإذا أردْنا أن نفهمه، فعلَينا أن نفهم البيئة التي نشأ فيها. فالإنسان مُتصل بالبيئة يتأثَّر بها ويؤثر فيها. وعندنا أن تأثير البيئة في الفرد أقوى من تأثير الفرد فيها. وبعض المُفكرين يسبقون عصرهم وهؤلاء هم قادة الفكر، وهم قِلة إلى جانب أغلبية المجتمع. وقد يمرُّ عصر — بل عصور — دون أن يجود الزمان بهؤلاء الأحرار الذين يستطيعون التخلُّص من سلطان المُجتمع ليُفكروا دون تقييدٍ أو جمود، وليحكموا عقولهم في سبيل إصدار الحُكم الصحيح الخالِص من أثر الأهواء والتعصُّب للشائع المعروف. فهذا أرسطو وهو المُعلم الأول، ألَّف في جميع العلوم، لم يسلَم من ربقة البيئة وسُلطان المجتمع. فقد أجاز نظام الرقِّ وعَدَّ الأرقاء أقلَّ في الطبيعة الإنسانية من غيرهم، والطبيعة البشرية واحدة في جميع الناس.
كانت البيئة السائدة في القرن الرابع بيئةً دينية، إسلامية في الشرق، ومسيحية في الغرب، أهمُّ ما يُميزها خضوع الناس في مناحي تفكيرهم وأحوالهم لسُلطان الدين. هذه سِمة العصر كله.
ويحسُن أن نتتبع نشأة هذه البيئة الدينية منذ ظهورها إلى أن اتَّخذَت لونًا خاصًّا في شمال أفريقيا، وفي القيروان على وجه الخصوص، وهي المدينة التي وُلِد القابسي ونشأ فيها، إذ كان هذا التحوُّل لازمًا لفَهم البيئة التي نتحدَّث عنها.
جاء في كلام الله تعالى المُنزَّل على نبيه محمد ﷺ أن الدين الإسلامي هو الدين الذي يجب اتباعه: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ (آل عمران: ١٩)، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ (آل عمران: ٨٥)، ولذلك كانت غاية المُسلمين أن ينشروا دينَهم في جميع البلاد. وكانت وسيلتُهم إلى تحقيق هذه الغاية الدعوة والغزو. وقد عمل النبي ﷺ والذين آمنوا معه من العرب بهذه العقيدة الدينية والسياسية؛ لأنهم كانوا يعملون في سبيل الله، ويؤمنون بما جاء على لسان رسوله.
وقد قوَّتْ هذه العقيدة عزائم المُسلمين، وحفَّزتهم إلى دعوة الشعوب المختلفة إلى اعتناق الإسلام، بل دفعتهم إلى غزو هذه الشعوب، وإلى فرض الدين الإسلامي على أهلها. ذلك أن الشروط التي اتَّبعها الغزاة من العرب في فتوحاتهم هي قبول الإسلام أو الجزية أو القتال: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (التوبة: ٢٩).
وانتهى بذلك كثير من الشعوب المختلفة إلى الدخول إلى الإسلام.
وامتدَّت الفتوحات شرقًا وغربًا في دائرةٍ مركزها جزيرة العرب: فسقطت دولة الفرس، وغُلِبت الروم، وأخذت العرب فلسطين والشام.
وبذلك استقرَّ المُسلمون في تلك البلاد استقرار مَنْ يلتصق بالأرض ويتَّخِذها له وطنًا.
فإذا قُلنا إن كبراء العرب عادوا إلى وطنهم، فإن هذا الخلق الذي خرج من المدينة ومن حولها، لم يعُد منهم إلا القليل، على حين مكَث أغلبهم وبنى واستقر؛ ذلك أن المعيشة في جزيرة العرب لا تسهُل حتى على أهلها، لقلَّةِ مواردها وقسوة الجو فيها.
وبقيت أئمة المُسلمين وكبار الصالحين رمزًا قويًّا للصدر الأول من الإسلام، وتبعث في الخلَف روح الاستمرار على الاقتداء بالأوائل، وبث تعاليم الإسلام، والتمسُّك بأهداب الدين القويم.
على أن استتباب الأمر، ونشر الإسلام، وتمكين الدين واللغة العربية من النفوس شغل الدولة الأموية كلها. ذلك أنَّ الثورات لم تنقطِع في عهد الأمويين كما رأينا، بسبب قُرب العهد بالشعوب المفتوحة من تقاليدها وعاداتها الموروثة.
بذلك تمَّ إسلام البربر، وأصبحت لُغتهم هي العربية، كما حدث للفُرس وغيرهم من الشعوب غير العربية.
وعُني العباسيُّون بتثبيت الإسلام بعد ان انقضى نحو قرنٍ من الزمان على الفتح، نسِيَ خلاله البربر — وهم أهل شمال إفريقية — تاريخهم ودينهم. وأقبلوا على الدين الجديد، وتشبَّعوا منه، وأُشرِبوا حبه وتثقَّفوا بثقافته، وأصبحوا ركنًا من أركانه يَذودون عنه باللسان والقلم والسيف.
انقضى نحو قرنٍ من الزمان منذ الفتح حتى إسلام البربر، وانقضى نحو قرنٍ آخر تفقَّه فيه أهل شمال إفريقية، حتى برز منهم علماء يُشار إليهم ويُعتدُّ بهم، منهم علي بن زياد، وابن أبي حسان، وابن غانم، وابن أشرس.
ولم يكن في المغرب من أئمة العلماء من يأخذ الناس عنهم. ولم تكن حلقات العِلم في مساجدها مما يُشبع نهَم طلاب التبحُّر في العلم. وإنما كان سبيل طلاب العلم أن يرحلوا إلى مواطِنِه يُثقِّفون أنفسهم، ويُشبعون نهمَهم، ويَروون غُلتهم. والطريق الطبيعي الذي لا بد لأهل المغرب أن يسلكوه إذا أرادوا طلَبَ العلم هو الرحلة إلى مصر، ومنها إلى البلاد الشرقية خصوصًا الحجاز، فقد كانت مصر مركزًا من مراكز العلم، ظهر فيها الشافعي، وهو أحد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب الذين يَأتمُّ بهم المُسلمون، ويعتمِدون عليهم في الفقه وتفسير العقائد والعبادات. وانتشر أيضًا مذهب مالك، وكان له في مصر تلاميذ كثيرون نذكُر منهم أشهب، وابن القاسم، وأصْبغ بن الفرج.
أما البلاد الشرقية الأخرى التي كان المغاربة يتوجَّهون إليها فهي مكة والمدينة. وكانوا يذهبون إليهما بحكم الضرورة: في مكة الكعبة التي يحجُّ إليها كافة المسلمين ليؤدوا فريضة الحج التي أمر الله بها، وفي المدينة قبر النبي ﷺ، يزوره الحُجَّاج، ويشهدون مهبط الوحي، والبيئة الأولى التي ينبع منها الدين.
في مصر ومكة والمدينة من العلماء المُتمكِّنين في العلم غنية لمن يطلُب التوسُّع في أسرار الدين، والتفقُّه في أحكام المُعاملات والعبادات والتشريع.
وسحنون هو الذي نشر مذهب مالك بالمغرب.
سمع سحنون من ابن القاسم وابن وهب وأشهب وابن عبد الحكم وسفيان بن عيينة. قال سحنون: «خرجتُ إلى ابن القاسم وأنا ابن خمسٍ وعشرين، وقدِمتُ إلى إفريقية ابن ثلاثين سنة.»
وكان سحنون ثقةً حافظًا للعلم، اجتمعت فيه خلال قلَّما اجتمعت في غيره من الفقه البارع، والورَع الصادق، والزهادة في الدنيا.
صنف سحنون «المدونة»، وعليها يعتمِد أهل القيروان، وعنه انتشر علم مالك بالمغرب.
وتُوفي سحنون سنة ٢٤٠ للهجرة.
كان محمد إمامًا في الفقه، ثقةً عالمًا بالذَّبِّ عن مذاهب أهل المدينة، عالمًا بالآثار. وكان الغالب عليه الفقه والمناظرة. وكان يُحسن الحجة والذبَّ عن أهل السُّنَّة والمذهب.
وكان ابن سحنون إمام عصره في مذهب أهل المدينة بالمغرب جامعًا لخلالٍ قلَّما اجتمعت في غيره من الفقه البارع، والعِلم بالأثر والجدل والحديث، والذبِّ عن مذهب أهل الحجاز.
على يد هؤلاء انتشر مذهب مالك في المغرب خلال القرن الثالث، وأصبح هو المذهب السائد في تلك الأنحاء، واتَّبعَه الفقهاء جيلًا بعد جيل. ولهذا لم يكن من الغريب أن ينشأ القابسي مالكيًّا؛ لأنه وُلِد في المغرب فتأثر بالبيئة الغالبة في عصره، وهي بيئة تَبنِي الفقه الإسلامي على أساسٍ من القرآن والحديث، ولذلك اصطلح العلماء على تسميتهم بأهل الحديث.
(٢) منهج الفقهاء من أهل الحديث
ولم يكن بين المسلمين في القرن الأول من الهجرة خلاف كبير على أحكام المُعاملات والعبادات، لبُعدهم عن الحضارة، ولبساطة المعيشة بما يُشبه فطرة العرب في البداوة، وقربهم من عصر الرسول، وإدراكهم للصحابة الذين صحبوه وسمِعوا عنه، وشهِدوا أفعاله في شتى المناسبات، ووعَوا آثاره عن سلوك المسلم الكامل الإسلام.
فلمَّا توغَّل المسلمون في الحضارة، وتفرَّعت مطالب الحياة، وظهرت ألوان من المعاملات لم تكن معروفة في عهد النبي، تصدَّر الأئمة للحُكم عليها من الناحية الشرعية بما يتفق مع الدين، ويتأثر هَديَ الرسول الأمين.
هذه الأحكام الجديدة تُسمَّى في الفقه بالاجتهاد، ويُسمَّى الأئمة الذين يُصدرونها بالمُجتهدين.
قال صاحب (المِلَل والنِّحَل): «ثم المجتهدون من أئمة الأمة محصورون في صنفَين لا يعدوان إلى ثالث: أصحاب الحديث، وأصحاب الرأي. وأصحاب الحديث وهم أهل الحجاز، هم أصحاب مالك بن أنس وأصحاب محمد بن إدريس الشافعي، وأصحاب سفيان الثوري، وأصحاب أحمد بن حنبل، وأصحاب داود علي بن محمد الأصفهاني. وإنما سُمُّوا أصحاب الحديث؛ لأن عنايتهم بتحصيل الأحاديث، ونقل الأخبار، وبناء الأحكام على النصوص، ولا يرجعون إلى القياس الجلي والخفي ما وجدوا خبرًا أو أثرًا. وقد قال الشافعي: إذا وجدتُم لي مذهبًا، ووجدتم خبرًا على خلاف مذهبي، فاعلموا أن مذهبي ذلك الخبر. ومن أصحابه أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، والربيع بن سليمان الجيزي … وهم لا يزيدون على اجتهاده اجتهادًا، بل يتصرَّفون فيما نقل عنه توجيهًا واستنباطًا، ويَصدرون عن رأيه جملة، ولا يُخالفونه البتة.
وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي يتَّفِقان في الاعتماد على الكتاب، أي القرآن؛ لأنه الأصل الأول من أصول الفقه، ولا وجهَ للخلاف فيه لأنه تنزيل العزيز الحكيم.
ولكنهما يفترِقان عند الأصل الثاني، أي السنة، فأصحاب الحديث وعلى رأسهم مالك يأخذون بالحديث، وأصحاب الرأي لا يعتمدون عليه كثيرًا.
وهناك بعض الفقهاء لم يجوزوا القياس، واكتفوا بالكتاب والسنة والإجماع، وهم أهل الظاهر. قال الشهرستاني: «ومن أصحاب الظاهر مثل داود الأصفهاني وغيره ممَّن لم يجوِّز القياس والاجتهاد في الأحكام، وقال: الأصول هو الكتاب والسنة والإجماع فقط، ومنع أن يكون القياس أصلًا من الأصول … وظنَّ أن القياس أمر خارج عن مضمون الكتاب والسنة.»
أما مالك فلم يكن يلجأ إلى القياس إلا قليلًا، والأغلب اعتماده على الكتاب والسنة وعمل أهل المدينة والإجماع.
«قِيل لمالك قولك في الكتاب الأمر المُجتمع عليه، والأمر عندنا وببلدِنا، وأدركتُ أهل العلم، وسمعتُ بعض أهل العلم.
فقال: أما أكثر ما في الكتاب فرأي فلَعَمري ما هو برأيي، ولكن سماعٌ من غير واحد من أهل العلم والفضل والأئمة المُهتدى بهم الذين أخذتُ عنهم. وهم الذين كانوا يتقون الله، فكثر عليَّ، فقلتُ رأيي. وذلك رأيي إذ كان رأيهم رأي الصحابة الذين أدركوهم عليه، وأدركتهم أنا على ذلك. فهذا وراثة توارَثوها قرنًا عن قرنٍ إلى زماننا. وما كان رأيًا فهو رأي جماعة ممَّن تقدَّم من الأئمة. وما كان فيه الأمر المجتمع عليه فهو ما اجتمع عليه من قول أهل الفقه والعِلم لم يختلفوا فيه.
وما قلتُ الأمر عندنا، فهو ما عمل به الناس عندنا وجرَتْ به الأحكام، وعرَفَه الجاهل والعالم.
وكذلك ما قلتُ فيه ببلدنا، وما قلتُ فيه بعض أهل العلم، فهو شيء استحسنتُه من قول العلماء.
وأما ما لم أسمع منهم، فاجتهدتُ ونظرتُ على مذهب مَنْ لقيتُه، حتى وقع ذلك موقع الحق أو قريبًا منه، حتى لا يخرج من مذهب أهل المدينة وآرائهم.
فهذا كلام مالك نفسه يتَّضِح منه مذهبه.
وبعد أن استقرَّت المذاهب الفقهية، سرى كل مذهب في جهة من الجهات: «فغلب مذهب مالك على أهل الحجاز والبصرة ومصر وما والاها من بلاد إفريقية والأندلس؛ صقلية والمغرب الأقصى إلى بلاد من أسلم من السودان حتى وقتنا هذا.» أي إلى زمن ابن فرحون صاحب (الديباج) في القرن الثامن.
ونشأ القابسي بالقيروان، فوجد مذهب مالك هو المذهب السائد في بيئته. وأخذه عن شيوخ كلهم مالكيُّون. ثم رحل إلى مصر والحجاز فسمع عن المالكيين، ثم عاد فقيهًا مُحدِّثًا مالكيًّا مُتبعًا لمذهب مالك، وكتابه في التعليم الذي بين أيدينا شاهد على ذلك؛ لأنه يجري فيه على طريقة المالكية، يعتمِد على الكتاب، ثم السنة، ثم عمل أهل المدينة، ثم الإجماع ثم القياس.
(٣) أثر المنهج السابق في التربية عند القابسي
أطلْنا الكلام عن منهج أصحاب الحديث، وفصَّلنا القول في طريقة المالكية التي تعتمِد على الكتاب والسنة وعمل أهل المدينة والإجماع والقياس، لِما لذلك من صلةٍ كبيرة بالموضوع الذي نُناقشه، وهو موضوع التعليم الذي عالجَه القابسي.
وإذا أردْنا أن نحكم على القابسي حكمًا صحيحًا، فينبغي أن نبدأ أولًا بالنظر في منهجه الذي اتبعه في بحث موضوع التعليم، وهو المنهج الذي سار عليه فعلًا، وارتضاه لنفسه؛ لأن الصلة بين المنهج والموضوع صِلة بالغة الأهمية في إخراج الموضوع على نحوٍ مُعين. ومن المُسلَّم به أن كل علمٍ من العلوم لا يمتاز عن غيره باختلاف موضوع العِلم فقط، بل المنهج الذي يُتبَع أيضًا في دراسة هذا العلم.
فالمنهج السليم يؤدي إلى نتائج سليمة في الموضوع، والمنهج الخاطئ، يؤدي إلى نتائج خاطئة. ونعني بالمنهج السليم أن يكون مُلائمًا للموضوع.
فهل كان المنهج الذي اتَّبعَه القابسي هو المنهج السليم الذي ينبغي اتِّباعُه في معالجة موضوع التعليم؟
نأتي أولًا بشواهد من رسالة القابسي تثبت أنه اتبع منهج أصحاب الحديث، ومنهج المالكية على الخصوص، ثم تبيَّن بعد ذلك الأثر الذي أدَّى إليه اتباع ذلك المنهج.
- (أ) وقد بيَّن الله سبحانه في كتابه وصف قارئ القرآن، وذلك في قوله عز وجل إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (فاطر: ٢٩) ١٩-أ.٣٢
- (ب) قال أبو الحسن: والماهر بالقرآن يؤمر بترتيله. قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا … إلى قوله: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (المزمل: ١–٤) ٢٢-أ.
- (جـ)
«ومن حسن رعايته لهم أن يكون بينهم رفيقًا، فإنه جاء عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ قال: اللهم من ولِيَ من أمر أُمتي شيئًا فرفق بهم فيه، فارفق به.» ٥٤-أ.
- (د)
وقال في تعليم الشعر: «وقد ثبتت الرواية عن رسول الله ﷺ أنه قال: إنما الشِّعر كلام، فحَسَنُه حسن وقبيحه قبيح.» ٤٤-ب.
وقد أوضح القابسي نفسه المنهج الذي اتَّبعَه، فأغنانا بذلك عن محاولة الكشف عما استتر في نفسه، وكيف جرى تفكيره، فقال: «فقد بيَّنتُ لك ما جاء في فضل مَنْ تعلم القرآن وعلمه، كل ذلك عن كتاب الله عز وجل، وعما جاء عن النبي ﷺ تسليمًا.» ١٩-ب.
والقابسي مُحَدِّثٌ ثقة، له كتاب «مُلخَّص المُوطأ» جمع فيه ما صح إسناده من أحاديث «الموطأ»؛ لهذا كان لا يروي إلا الأحاديث القوية، أما الأحاديث الضعيفة السند فلا يرويها. ولا يتحرَّج من الشك في صحة الحديث إذا ضعَّفَه. قال: «وسألت عما ذُكر من أن القرآن في صلاةٍ خير من القرآن في غير صلاة … فاعلم أني سمعتُهُ سماعًا هكذا، ولم أقف على صحَّتِه بهذا المعنى.» ٢٣-ب.
ومن أصوله بعد الكتاب والسنة عمل أهل المدينة. قال في أجر المُعلم: «عن ابن وهب في مُوطَّئه عن الجبار بن عمر قال: كل مَنْ سألتُ بالمدينة لا يرى لتعليم المُعلمين بالأجر بأسًا.» ٣٣-ب.
وهاك مثلًا يُبيِّنُ اعتماده على الإجماع، قال: «وأما إمساك الصبيان المصاحف وهم على غير وضوء، فلا يفعلوا ذلك، وليس كالألواح. وما في نهيهم عن مسِّ المصاحف الجامعة — وهم على غير وضوء — خلافٌ، من مالك، ولا ممَّن يقول بقوله.»
وكذلك لجأ القابسي إلى القياس الشرعي، ومثال ذلك الحُكم على الوالد بتعليم ابنه القرآن قال: «جاء أن رسول الله مرَّ بامرأة في مَحفَّتها فقيل لها: هذا رسول الله؛ فأخذت بعَضُد صبي معها وقالت: ألِهذا حَجٌّ؟ فقال رسول الله: نعم ولكِ أجر. فهل يكون لهذه المرأة أجر فيما هو لصبيِّها حَج إلا من أجل أنها أحضرته ذلك الحج. والذي يناله الصبي من تعليمه القرآن هو عِلم يبقى له بحوزه، وهو أطول غناء.» ٢٦-أ.
وهذا قياس آخر في تعليم الوالد لابنه: «إنَّ حُكم الولد في الدين حُكم والده ما دام طفلًا صغيرًا. أفيدَعُ ابنه الصغير لا يُعلمه الدين، وتعليمه القرآن يؤكد له معرفة الدين.» ٢٨-أ.
والأصل في هذا القياس هو الحديث الذي ذكره القابسي وشرحه: «كل مولود يُولَد على الفطرة فأبواه يُهوِّدانه أو يُنصرانه … فقالوا: يا رسول الله، أفرأيتَ مَنْ يموت وهو صغير؟ فقالوا الله أعلم بما كانوا فاعلين.» ٢٨-أ.
فإذا لم يجد القابسي نصًّا من القرآن، أو حديثًا من السُّنَّة، أو إجماعًا في الرأي، أو قياسًا على أصل من الأصول السابقة، فإنه يحكُم في المسألة بما يرى فيه فائدة المُعلم والمُتعلم، أو يحكُم بالعُرف إذا كان العُرف حسَنًا، وإذا كان العُرف سيئًا لم يُجِزْه.
وبيان المصلحة في سلوك الإنسان، يقتضي التأمُّل في قوانين النفس الإنسانية إذا كان السلوك فرديًّا، والنظر إلى القوانين الاجتماعية إذا كان سلوك الإنسان مُتصلًا بغيره من الناس.
واتباع العُرف، على الأخص إذا كان حسنًا، من الأمور الاجتماعية التي لا يستطيع الباحث أن يصرِف النظر عنها. لذلك اتبع المُشرعون التقاليد. قال القابسي: «وكذلك المعلمون عندي في هذه العادات — إذا كانت مُستحسنة في الخاصة — فانتشارها على ما وصفنا يُوجبها.» ٧٤-أ.
وهكذا نرى القابسي يتأمَّل النفس الإنسانية، ويفحص عن سلوك الناس في المجتمع، ويعتمد على العُرف السائد، كلَّما أراد أن يُصدِر حُكمًا جديدًا لا يستند إلى أصلٍ من الكتاب أو السنة أو الإجماع.
ومن أمثلة الحُكم القائم على معرفةٍ بالنفس ما جاء عن وجوب الرفق في معاملة الصبيان وعدم العبس. «فكونه عَبوسًا أبدًا من الفظاظة المَمقوتة، ويَستأنِس الصبيان بها، فيجترِئون عليه. ولكنه إذا استعملها عند استئهالهم الأدب، صارت دلالة على وقوع الأدب بهم ويأنسوا إليها.» ٥٤-أ. وذكر في مكان آخَر أنه ينبغي أن يتجنَّب المُعلم الشتم؛ لأن «الألفاظ القبيحة إنما تجري من لسان التَّقي إذا تمكَّن منه الغضب وليس هذا مكان الغضب.»
وقد يذكر حُكمًا من غير بيان الأسباب التي تدعو إلى القول بهذه القاعدة. مثال ذلك ما جاء عن الحفظ حيث قال: «ومن الاجتهاد للصبي ألا ينقُلَه من سورة حتى يحفظها بإعرابها وكتابتها.» ٥٩-أ.
ومن المسائل التي تدلُّ على بصر بالأمور الاجتماعية ما ذكره عن الجمع بين الجنسَين في التعليم، وعن الاحتراس من البالِغين. فقال: «ومن صلاحهم ومن حُسن النظر لهم ألا يُخلَط بين الذكران والإناث.» وقال: «إنه لينبغي للمُعلِّم أن يحترس بعضهم من بعض إذا كان فيهم مَنْ يُخشى فساده.» ٥٧-أ.
وقد أجاز القابسي العُرف في مواضع كثيرة كما جاء عند الكلام في البطالة: «وأما تخلية الصبيان يوم الخميس من العصر فهو يجري أيضًا عُرف الناس.» ٥٧-أ.
«وكذلك بطالة الأعياد على العُرف المُشتهر المُتواطأ عليه.» ٦١-ب.
أما إذا كان العُرف غير مُستحسَن فإنه يُنبِّه على وجوب الابتعاد عنه. ومثال ذلك ما ذكره عن صنيع المُعلمين الذين يبعثون الصبيان في مناسبات الزواج والولادة لطلَب الهدايا، إذ: «لا يحلُّ للمُعلم أن يُكلف الصبيان فوق أُجرته شيئًا.» ٦٢-ب.
فأنت ترى أن ابن خلدون ينصُّ على أن الفقهاء الذين جاءوا بعد الأئمة «لم يكن لهم سبيل إلى الاجتهاد والقياس.» وإنما كان سبيلهم «التنظير والتفريع.»
والقابسي يجري على هذه النظرية كما يُصرح بذلك قال: «فقد بيَّنتُ لك وجوهَ جواز أخذ الإجارة على تعلُّم القرآن، وما يجوز أن يُعلَّم بالأجر، وما يُكرَه من ذلك للمُعلم والمُتعلم، وما اختلف أصحابنا فيه من كراهية له أو توسعة.» ٤٧-ب.
أما الجمود فهو نتيجة التقييد ومنع حرية الرأي. ذلك أن المجتمع يتطوَّر مع الزمن، وتتغيَّر عقليته، وتختلف أساليب مَعيشته. وهذه هي سنة الحياة: التطوُّر والتغيُّر والحركة. إذَنْ فلا بدَّ من منهج عقلي يختلف عن ذلك المنهج النقلي ليُلائم مظاهر الحياة الاجتماعية الدائمة التغيُّر. ولكن منهج أصحاب الحديث بما يعرضه من أصول ثابتة ينتهي إلى الوقوف عن مُسايرة الحياة. وهذا هو الجمود.
وينبغي ألا يغيب عن بالنا أن طريقة التعليم في الكتاتيب كما وصفها القابسي في كتابه ظلَّت متبعة في أغلب تفاصيلها إلى عهدٍ قريب في كثير من أقطار المُسلمين، ولم يشرع المُسلمون في تغييرها إلا حديثًا عندما اشتدَّ الاتصال بين الشرق وأُمَم الحضارة الغربية. ومَنْ يقرأ كتاب (الأيام) للدكتور طه حسين، يلمح التشابُهَ الشديد بين وصف حياة الكتاب المصري، وعلاقة الصبيان بمُعلم الكتاب، ووصف تلك الحياة والعلاقة كما ذكرها القابسي. ومحور تلك الحياة هو الختمة أو حفظ شيءٍ من القرآن كما هو معروف.
ونعود إلى ذكر بعض الشواهد التي تؤيد الرأي الذي نقول به، وهو أن اتباع منهج أهل الحديث يؤدي إلى التقييد والجمود. وجاء عن مِحور الألواح: «… وحدَّثني موسى عن جابر بن منصور، قال: كان إبراهيم النخعي يقول: من المروءة أن يُرى في ثوب الرجل وشفتَيه مداد. قال محمد: وفي هذا دليل أنه لا بأس أن يلعط الكتابة بلسانه. وكان سحنون ربما كتب الشيء ثم يلعطه.» ٦٠-أ. وفي هذا وصف لِما كان يفعله أهل ذلك الزمان في محو ألواحهم. وقد أجاز القابسي تلك الطريقة؛ لأنه يعتمد في أحكامه على آراء الفقهاء من شيوخه، ولا يحيد عنها إلا بالتنظير والتفريع. ومحو الألواح من الأمور المُتعلقة بالنظافة والقذارة لا بالنجاسة والطهارة. ولا حاجة لِمن يريد الاستدلال على طريقة محوها إلى الاعتماد على آثار السابقين؛ إذ إنه من القذارة أن يلعط الإنسان الكتابة باللسان، وأن يقع أثر المداد على أثواب الرجال، فهو مفسدة للثوب، ولا مروءة فيها؛ لأن المروءة تتعلق بالعطف على الناس ومساعدتهم. وإذا نظرنا إلى هذه المسألة على أنها مظهر من مظاهر العُرف المألوف، فمن العُرف ما هو حسن، ومنه ما هو قبيح. وقد أجاز القابسي من العرف ما رآه حسنًا، وقبح ما استهجنه كما رأينا.
ومثال آخر لهذا التقييد مسألة تعليم المُسلم النصراني أو العكس: «قال ابن وهب سمعت مالكًا سُئِلَ عن الذي يجعل ابنه في كُتَّاب العجم، يُعلمه به الوقف، فقال: لا. فقيل له: فهل يُعلم المُسلم النصراني؟ فقال: لا. فقيل فيُعلم أبناء المشركين الخط؟ فقال: لا.» ٤٧-ب، وفي تعليق القابسي على ما سبق أن: «الكافر نجس، ولذلك يُنهى أن يعلموا الخط العربي، والهجاء العربي؛ لأنهم يصِلون بذلك إلى مسِّ المصحف إذا أرادوه.» ٤٨-أ.
هذه الآراء بدأت منذ عهد مالك أو قبله بقليل، واستمرت إلى عصر القابسي الذي قَبِلَها كما قَبِلَ آراء مالك كلَّها. ومع ذلك فهذه الأحكام عُرضة للمناقشة والنقد. فقد قبل النبي فداء بعض المشركين في غزوة بدر بأن يُعلِّموا عشرة من أبناء المسلمين الكتابة. وظلت صناعة الكتابة وتدوين الدواوين في أيدي الفرس والروم إلى أواخر الدولة الأموية. فلمَّا تمَّ إسلام أهل البلاد المغلوبة، أصبح من الحرام أن يُعلِّم المُسلم النصراني أو يُعلِّم النصراني المُسلم. ولماذا لم يكن هذا حرامًا قبل ذلك؟ وإذ فهِمنا أن النصراني لا يُعلِّم أبناء المسلمين خشية أن يُحوِّلهم عن دينهم، فلماذا يحرم على المسلمين تعليم أبناء النصارى في سبيل نشر الدين الإسلامي؟ وأغرب من ذلك النهي عن تعليم الخط العربي والهجاء العربي الذي إذا تم على ما يشتهون، انقطعت الصلة بين المسلمين وبين غيرهم من أبناء الديانات الأخرى، مما هو مُخالف لطبيعة العمران، وما هو معروف من قوانين الاجتماع. وسلطان الحياة أقوى من سلطان الآراء. وليس أبلغ في دحض حُجة القابسي مما نفعله في العصر الحاضر، من الأخذ عن المستشرقين، وإرسال البعوث الأزهرية إلى شتى أنحاء العالَم لنشر الدين وتأليف لجنة لترجمة معاني القرآن الكريم.
هل المنهج الذي اتبعه القابسي يصلُح في كشف حقائق هذا العلم؟ هل هذا المنهج يُعتبر من مناهج العلوم الاجتماعية ومظاهر الحياة الإنسانية في الماضي والحاضر، سواء أكانت صادرة عن شعور أم عن لا شعور؟
التعليم هو دراسة الإنسان لا الطبيعة أو الرياضة. فهو فرع من العلوم الاجتماعية.
ويُتَّبع في بحث العلوم الاجتماعية طرُق ثلاث.
-
(١)
طريقة الاستقراء التي تبدأ بالمشاهدة الخارجية وتنتهي بكشف القوانين، كما نفعل في بحث العلوم الطبيعية.
-
(٢)
منهج علم النفس الذي يعتمد على الاستقراء من جهة، وعلى التأمُّل الباطني من جهةٍ أخرى، وعلى مناهج تجريبية وإحصائية من جهة ثالثة.
-
(٣)
المنهج القياسي لنستمد النتائج من المُقدمات التي نحصل عليها بالطريقتَين السابقتَين.
فلا سبيل للباحث في تربية الصبيان وتعليمهم إلا اتباع الطرق السابقة إذا شاء أن يصل إلى نتائج صحيحة. لأننا لا نعلم سلوك الصبيان وأحوالهم وتدرُّجهم في النمو العقلي والجسماني إلا بالمشاهدة، وهي الطريق الأول للمعرفة. ولا نقول إن الأقدَمين كانوا لا يُبصرون ولا يشهدون، ولكننا نقول إنهم لم يُهذبوا طريقة المشاهدة، ولم يضعوا لها القواعد التي تضبطها، وجهلوا طرق التجربة التي تُقرِّر الحقائق العامة، ولا يكون تحقيق الفروض المُوصلة إلى القوانين إلا بها. ولا بدَّ لنا من موازين تُضبط بها أمثل الطرُق في التعليم، والتجربة هي الميزان والنتائج العملية أصدق لسان وأنطق من كل برهان، وأحكم من الجدل العقلي الذي لا ينتهي إلى نهاية.
أما القابسي فإنه عكس الطريق، فبدأ من حيث كان ينبغي أن ينتهي؛ لأنه يعتمد على أصول ثابتة من الكتاب أو السنة أو الإجماع يُفرِّع عليها ما يريد من أحكام، والأصح أن ينظر إلى أحوال الصبيان لينتهي بعد ذلك هذه الأحكام.
ولا نلوم القابسي على سلوك هذا المنهج الخاص، وإنما اللوم على العصر كله، فمن العسير أن يتخلَّص المرء من البيئة العقلية التي شبَّ فيها ونشأ عليها. وقد صوَّرْنا هذه البيئة لبيان طبيعة التكوين العقلي للقابسي. وكان الفكر مُقيدًا بالأغلال من ناحيتَين: منطقيًّا ودينيًّا. فمن الناحية المنطقية انصرف العلماء عن بحث الطبيعة والإنسان بالاستقراء، وهو الطريق الصحيح للمعرفة. والمنهج الديني يخضع صاحبه لمبادئ لا يستطيع أن يحيد عنها، خشية الخروج على تعاليم رجال الدين، وما يجرُّه ذلك من الاتهام بالكفر والزندقة، فكان العلماء يرَون من السلامة لأنفسهم أن يتقيَّدوا بما ذكر الأوائل حرفًا بحرف، فهو طريق مأمون سليم العاقبة.
ونحن نرى أن القابسي لو تجرد من قيود هذا المنهج، وانطلق في حرية البحث كما فعل في بعض الأجزاء اليسيرة من كتابه، لكان لبحثه شأن غير هذا الشأن.