الدين والتعليم
(١) خضوع الحياة الاجتماعية للدين
كان الصراع بين المسيحية والوثنية حادًّا عنيفًا منذ القرن الأول للميلاد، ولقِيَ المسيحيُّون كثيرًا من ألوان التعذيب والمِحَن إلى أن اعتنق الإمبراطور قسطنطين الديانة المسيحية وأصبحت الدينَ الرسميَّ للدولة. ومنذ القرن الرابع الميلادي وصروح الوثنية تنهار وتَضيق دائرتها وينتشِر الإيمان بالله خالِق كل شيءٍ في أوروبا وفي غرب آسيا وفي شمال إفريقية، وهي جُملة العالم المعروف في ذلك الزمان. وبقِيَت جزيرة العرب يعبُد أهلها الأوثان ويسجدون للأصنام، وظلَّت ربوع فارس تستضيء بهياكل النار.
وشهد العالَم في مُستهل القرن السابع ظاهرة جديدة شيَّعت وثنيةَ العرب ومجوسية الفرس إلى الفناء الأخير، تلك الظاهرة هي الديانة الإسلامية بما حملت معها من هدْم للآلهة المصنوعة وتوحيد لله الواحد القهَّار. ولكن الإسلام ببساطته وروحه العملي واتجاهه الواقعي كان سريع الانتشار، فلم يمْضِ زمن طويل حتى كانت أجزاء العالم المعروف تخضع للأديان الثلاثة: الإسلام والمسيحية واليهودية.
ولم يكن من السهل أن ينتقل الناس من عهدٍ إلى عهد دون حاجة إلى ما يُثبتهم في العهد الجديد، ويهدِم العهد القديم. والانتقال من القديم إلى الجديد هو الثورة بعَينها، تحمل بين طيَّاتها معاول الهدم وبذور البناء. وفي النفس حنين فطري إلى الماضي الذي يُمثل بنيان الحياة الأولى، وسُلطان التقاليد هو سلطان الزمان. لهذا قضى الناس زمنًا طويلًا يلتفِتون إلى الماضي، ويعودون إلى الذكريات الغابرة فيتمَّثلون الآلهة في أوثانها، فينهض المؤمنون لإخفات أصوات المُلحِدين وآراء الزنادقة الكافرين، واستعمل أهل الإيمان في حربهم سلاحَين: لسان الحق يُزهِق الباطل ويشيد بآيات اليقين، ويقيم الحجَّة على المُخالفين وأهل العناد، والسلاح الثاني سيف القوة يُكمِّم الأفواه ويعذِّب الكافرين.
بذلك كان الدين في الغرب والشرق هو الشغل الشاغل للأذهان، واستمرَّت المسيحية والإسلام في حربهما للكفر والإشادة بالإيمان طوال القرون الوسطى.
وأخذ المسلمون كما أخذ المسيحيون يُلقنون أبناء الأجيال أسرار الدين وحِكمة العقيدة ويطبعون الناشئة على الدين الجديد عن طريق التعليم.
تلك هي البيئة الاجتماعية التي استنارت بضوء الدين، ونور الإيمان واليقين؛ فخضع الناس في كل عملٍ من أعمالهم الظاهرة، وفي كل نزعةٍ وكل اختلاجة باطنة لتعاليم الدين.
ما الدين الإسلامي وما عقيدتُه وأسراره، ودعوته وأعماله، وما الديانة المسيحية علمًا وعملًا؟ هذا هو الذي شغل أذهان المُفكرين في ذلك العصر.
واختلف رجال الدين وأصحاب الرأي وقادة الفكر في النظر إلى الدين وشرْح أصوله وبيان مُختلف مناحيه. لذلك نرى أن كلَّ مُفكر في الإسلام بدأ يعرض العقيدة الإسلامية على النحو الذي يعتقِد أنه الحق والصواب. فلا يخلو كتاب في الفقه أو الحديث أو التاريخ أو الآداب أو الفلسفة من مُقدمة تُفصِح عن عقيدة صاحب الكتاب، وقد تطُول هذه الخطبة وقد تقصُر، ولكنها على أي الحالات تبدأ بالبسملة والحمد، فتذكُر اسم الله الرحمن الرحيم، شهادةً بالتوحيد واعترافًا بالإيمان والتسليم.
وهكذا بدأ القابسي بذِكر اسم الله، ثم أخذ في شرح الإيمان والإسلام.
والكلام في الإيمان والإسلام هو بيان لِما يَفهمُه القابسي عن الديانة الإسلامية، وشرح للعقيدة الإسلامية على طريقة أهل السُّنَّة. وفي ضوء هذه الحدود ينبغي للصبيان أن يفهموا الدين، وينبغي للمُسلمين أن يقوموا بالتعليم.
ولم يكن تفصيل القول في الإيمان والإسلام أثرًا من التقليد الأعمى الذي يقوم به بعض الكُتَّاب مُقتفِين أثر السابقين وعادة الأوائل، كما كان يفعل الشعراء في الإسلام من ابتداء قصائدهم بالبكاء على الأطلال والدِّمَن كصنيع الشعراء في الجاهلية، ولكن القابسي اضطر إلى إعلان الرأي عن الإيمان والإسلام لِما بين الدين والتعليم من صِلة وثيقة، بل صلة ضرورية، هي علاقة الأصل بالفرع والغاية بالوسيلة.
وهي صِلة لم يصنعها القابسي، ولم يفرضها على التعليم فرضًا، ولكنه استمدَّها من الحياة نفسها، حيث كان الدين سائدًا في عصره — كما أسلفنا القول — كلَّ لونٍ من ألوان الحياة الاجتماعية.
(٢) العقيدة الإسلامية عند أهل السُّنَّة
غير أن ماهية الدين كانت مَوضع خلافٍ بين المسلمين، وقد استطارت الفِتَن بين أهل المذاهب المختلفة إلى درجة أنهم كانوا يُكفِّر بعضهم بعضًا.
وعقيدة الديانة الإسلامية كما يفهمها القابسي، وكما يُريدُها وكما ينبغي أن تذيع في الناس عن طريق التعليم تتلخَّص في خمس:
الإيمان، والإسلام، والإحسان، والاستقامة، والصَّلاح.
فالدين عنده نظَر ينتهي إلى عمل. وليس الدين هو الإيمان فقط أو الإسلام فقط، أو الإحسان والاستقامة والصلاح فحسْب، وإنما هو كل ذلك مُجتمعًا. فالشخص الذي ينتحِل الإسلام ينبغي أن يكون مُؤمنًا ومُسلمًا ومُستقيمًا ومُحسنًا وصالحًا.
هذا الطريق في فهم الدين يختلف عن رأي كثيرٍ من أصحاب الفِرَق الإسلامية الذين نظروا إلى المُسلم من جانبٍ واحد لا من هذه الجوانب مؤتلِفة. وعندنا أن القابسي لم يضع العقيدة الدينية أو مبادئ الدين في ناحيةٍ وأداء المُسلم لها في ناحيةٍ أخرى، ولكنه مزج بينهما ونظر إلى الدين في سلوك المُسلم، أو نظر إلى سلوك المسلم في دينه، وهذا الاتجاه في التفكير هو الذي يجعله يدمج الإيمان في الإسلام ولا يفصِل بينهما.
هذه النظرة تركيبية لا تحليلية.
فهي تركيبية؛ لأنه يجعل سلوك المرء وحدةً لا تتجزأ، بل أكثر من هذا يُوحِّد بين سلوكه الخارجي الظاهر، وبين إيمانه الباطن وعقيدته الداخلية، بين التصديق بالقلب وعمل الجوارح، بين الإيمان والإسلام.
أما غيره من المُتكلمين والفقهاء فقد حلَّلوا المعاني المنطوية تحتها أعمال المُسلم في ظاهره وباطنه، وقسَّموا الأعمال المختلفة إلى كبائر وصغائر فيما يختصُّ بالمُحرَّمات، وتجاوزوا عن الصغيرة وكفَّروا مُرتكب الكبيرة، واختلفوا فيما بينهم على هذا التقسيم اختلافًا كبيرًا.
وعندنا أنهم بهذا التحليل قد جزَّءُوا شخصية المسلم، وتكلَّموا لا عن شخصٍ يعمل، بل عن معانٍ منفصلة لم يرتفعوا بها إلى الوحدة التركيبية الواجبة بعد التحليل الجدلي.
فالقابسي على هذا الرأي الذي يجعل من الدين وحدة، ومن الإيمان والإسلام جملةً لشيءٍ واحدٍ.
والإيمان والإسلام جاء بيانُهما في حديث الرسول المشهور، فالإيمان أن تؤمن بالله وملائكته ولقائه ورسُله والبعث الآخر، والإسلام هو العبادة التي تجتمِع في إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت.
على أي شكلٍ تكون هذه العبادات؟
إنها مفروضة على أي الحالات، ولا مَحلَّ للبحث في تاركها. وإنما السؤال أيؤديها المُسلم كيفما اتفق، أم يُقبل عليها ويُنفق فيها حياته؟
يطالب القابسي أولًا بإحسان عبادة الله في كل ما يتعبَّد الإنسان، وذلك يكون بالإخلاص في هذه الأعمال، على أن يذكُر الإنسانُ اللهَ حين العبادة كأنه يراه، فإن لم تكن تراه أيها العبد فإنه يراك. وهذا هو المقصود الصحيح من ذِكر الله لا كما يفعل المُسلمون في العصر الحاضر في حلقات الأذكار يُرَدِّدون فيها اسم الله ترديدًا آليًّا، وينسَون بعد ذلك المعنى السامي من ذكر الله وهو الرقابة على الأعمال. فالغرض من الإحسان هو نوع العبادة التي يؤديها المرء خالصة لله تعالى.
أما الاستقامة فهي مُداومة المُقام في الدين، ولا يُنكِّب عنه يمينًا ولا شمالًا، ولا يلتزِم منه ما لا يُطيقه، فالدين يُسر. والقابسي يجري مع روح الإسلام الواقعي الذي ينشد التوسط، ويلتزم الحدود البشرية، وللإنسان بعد ذلك أن يزيد في العبادة بما يطيق، وهذه هي صفة الصالحين، وقد رتَّبَهم القابسي درجاتٍ أدناها أن يَسْلَم العبد من الخطايا، وأوسطها الاقتصار على أداء الفرائض واجتناب المحارم مع حُسن العبادة، وأرفعها أداء النوافل بعد استكمال الفرائض وهؤلاء هم الأولياء. «فما سَلِم العبد من الخطايا فهو من الصالحين، وما زاد بعد ذلك من طاعة ربه زاد خيرًا.» ١٤-أ.
فنحن نرى أن القابسي يشرح الدين بما يلائم المجتمع بأسره، ويتفق مع الطبيعة الإنسانية دون مغالاة أو إسراف.
(٣) غلو المُتكلمين والمُتصوفة
فمذهب الأشاعرة يوفِّق بين رأي المعتزلة العقلي وبين رأي أهل السُّنَّة النقلي، ذلك أن المعتزلة في مسائل الاعتقاد لم يقبلوا ما جاء في الكتاب والسُّنَّة قبولًا أعمى بل أثبتوا الوحدانية والصفات لله بالعقل، ثم تكلَّموا في القضاء والقدر كلامًا أثبتوا فيه الحرية للإنسان، وأن أفعال العباد مخلوقة لهم، وهذا ما دعا الأشاعرة أن يُخففوا من هذا التطرُّف العقلي، ويقِفوا من إرادة الله موقفًا وسطًا، وأن ما يُصيب الإنسان فمِن الله.
ونحن نرى ألفاظًا جديدة دخلت إلى الإسلام هي المُجاهدة والمُشاهدة والغيب والشهادة، وهذه كلها من مصطلحات المُتصوفة التي استحدثوها ممَّا لم يكن للمُسلمين الأوائل عهدٌ بها. وقد انتهى أمر المُتصوفة فيما بعد إلى فَهم الإسلام على نحوٍ مُعقد بلغ من درجة تعقيده أنهم أوجبوا معرفة الطريق على قُطب من أقطابهم، وذلك لصعوبة الوصول من غير مُرشِد يأخُذ بيد المسلمين، ويرتفع بهم في درجات المقامات، ومُختلف الأحوال.
تقدَّم المعتزلة والأشاعرة وأهل السُّنَّة والمتصوفة إلى الشعب يعرضون بضاعتهم العقلية، فوجد العامة أن ما يُلائمهم منها هو بضاعة أهل السُّنَّة لسهولة فهمها، وبساطة عرضها، وخُلوِّها من التعقيد والالتواء، ومُلاءمتها للطبائع البشرية جميعًا، ففيها العمق لمن يريد التعمُّق، والوسط لمن يرغب في التوسُّط، والحث على مُداومة العبادة لمن يريد الارتفاع إلى درجات الصالحين. ولا ننسى إلى جانب ذلك أنَّ شخصية الرسول حُجة في تدعيم الرأي، وأن الاعتقاد في الآراء يستنِد إلى شخصية قائلها إلى حدٍّ كبيرٍ إلى جانب ما في هذه الآراء من قيمةٍ ذاتية، فاستناد أهل السُّنَّة إلى الآيات القرآنية وإلى أحاديث الرسول قرَّبَهم من أفهام العامة وعقولهم وقلوبهم.
والعمل في الحياة أسبق من الجدل، وأدعى إلى الفطرة السليمة، وأبعَثُ إلى الشعور بلذَّة طبيعية غير مصنوعة.
والناس في حاجة إلى العمل في الدنيا لكسب المعاش، وإلى التفكير في الآخرة التي تُقرِّر أحوال المعاد، فهم يعملون لدُنياهم ودينهم. على أن الاستغراق في شئون الدنيا مما يصرِف عن الدين ويفقد المرء معه نعيم الآخرة. والانصراف التام إلى أمور الدين يُبعد الإنسان عن الدنيا فيعجز عن الكسب، بل يعجز عن الحياة. والطريقة المُثلى هي الجمع بين الدين والدنيا بما يُحقق المصلحة في الجانبَين. وسيرة الرسول نفسه خير شاهد على ذلك، فإنه إلى جانب التعمُّق في العبادة كان يرعى الأغنام ويشتغِل بالتجارة، وكذلك كان الصحابة. وفي القرآن إشارة إلى هذا الجمع بين شئون الدين والدنيا في أكثر من موضع: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا (القصص: ٧٧).
وجدال المُتكلمين يُبلبل الأفكار، ولا ينتهي الجمهور منه إلى الاطمئنان الديني، وبعد فهو جدل لا نهاية له. وطريقة أهل التصوُّف تدفع إلى استغراقٍ في العبادات يصرِف عن الكسب. وأحوَجُ الناس إلى تحصيل القُوت هم العامة، فلا ضِياع لهم ولا مال موروث. فإذا مال العامة مع المُتكلِّمين أضاعوا دينهم، وإذا تصوَّفوا ضيَّعوا دُنياهم. أما مذهب أهل السُّنَّة فإنه يُثبتهم في العقيدة، ويقدِّم لهم الدين في صورةٍ بسيطة، ويضمَن لهم سلامة الدين. وهو إلى جانب ذلك لا يصرِفهم عن العمل بل يحثُّهم عليه ويُرتِّب لهم قواعد السلوك ووجوه الكسب الحرام والحلال.
ولم نذكُر في هذا الصدد طائفةً أخرى من المُفكرين هم الفلاسفة فهؤلاء كانوا بعيدين كل البعد عن عقل الجماهير، وقد انطوَوا على أنفسهم، وقصَروا دراسة الفلسفة على فئةٍ خاصة، ولم يُحاولوا إذاعتها في الناس كافة لمَعرفتهم بصعوبة الآراء الفلسفية على الأفهام، ونستثني من الفلاسفة إخوان الصفا الذين تقرَّبوا إلى الجمهور برسالتهِم المعروفة.
فسمَّوا مذاهب المُعتزلة العقلية، ومغالاة المُتصوِّفين في مسالكهم الروحية، وصعوبة الآراء الفلسفية، كل أولئك قرَّب بين أهل الحديث وبين العامة، وهي استجابة طبيعية لتأثير مذهب أهل الحديث المُلائم لنفوسهم. ولهذا كان تعليم الشعب في أيدي مَنْ يفهمون الشعب ويفهمون عقليته ونفسيته.
وقد عُني الفقهاء من أهل السُّنَّة بالتعليم ليشبَّ العامة على معرفة الدين علمًا وعملًا؛ لأن معرفة الدين لا تتمُّ إلا بنوع من التعليم، سواء أكان هذا التعليم صادرًا من الوالد إلى أبنائه بالتلقين، أم أخذًا عن شيخٍ بعَينه يتطوَّع لتعليم الصبيان شئون دينهم. وفي كِلتا الحالتَين لا يتحقَّق نشر الدين بين الناس، لانصراف الآباء إلى أعمالهم، وقِلةٌ من يتطوعون بالتعليم. لهذا أجاز الفقهاء قيام المُعلمين للتعليم بالأجر.
والتعليم الذي نقصده هو تعليم الصبيان، لأننا بصدَد الكلام عن تعليم الصبيان فقط. ونوع التعليم هو الدين لأنه المقصود في ذلك العصر.
ولم يكن من السهل على المُتكلمين المُتعمِّقين في فهم العقيدة الإسلامية أن يقوموا بتعليم الصبيان، ولم يكن جدَلُهم ممَّا تستسيغه هذه العقول الناشئة، وطريق المُتصوِّفة وعر يصعُب سلوكه على الرجال، وهو مُستحيل على الصبيان.
لهذا انتهى تعليم الدين الصبيان إلى أيدي أهل السُّنَّة.
ولم يُحاول أهل السُّنَّة تغليب مذهبهم بالقوة أو العنف، أو يفرضوه فرضًا على الناس، وإنما نجحوا حين أخفق غيرهم، لقُرب مذهبهم من البداهة وبساطة الفِطرة.
والتعليم على مذهبهم مُخالف بطبيعة الحال لألوان التعليم التي صوَّرها أصحاب المذاهب الأخرى، والتي نعرِض لها في فصلٍ آخر، لنُبين أن التعليم ظِلٌّ للمَذهب العقلي أو النقلي الذي يعتقده صاحبه.
ويرجع السرُّ في وقوع تعليم الصبيان في أيدي أهل السُّنَّة إلى أسبابٍ كثيرة، منها أن كثيرًا من المُفكرين في الإسلام ترفَّعوا عن تعليم الصبيان، وتركوا هذا الأمر لغيرهم. وقد صرَّح بذلك أصحاب رسائل إخوان الصفا الذين بيَّنوا طريقة التعليم مُبتدِئين بالشباب في سِنِّ الخامسة عشرة.
وأهم هذه الأسباب هو عُمق المذاهب الإسلامية الأخرى التي تدِقُّ على أفهام الصبيان.
وإذا كان الغزالي قد عاب على المُتكلمين إسرافهم في مُطالبة العوام بمعرفة أسرار الإيمان بأدلةٍ عقلية عميقة يصعُب على أذهان العامة بلوغها لقصور أفهامهم، فإننا نَعيب على الغزالي وعلى المُتصوفة أن يَقصُروا طريق الإيمان على الكشف والصفاء، ممَّا لا يتيسَّر للدهماء.
وقد نشأ عن وقوع تعليم الصبيان في أيدي أهل السُّنَّة نتائج كثيرة في الحياة العقلية للمُسلمين.
فإذا شئنا أن نبحث في عِلة ركود الحركة العقلية عند المُسلمين بعد القرن السادس بعد أن ظلَّت هذه الحركة قوية مُزدهرة منذ القرن الثاني في التأليف والترجمة في شتَّى العلوم والمعارف، بما كان يُبشِّر بأن يحمِل المسلمون لواء العلم والحضارة في العالَم أجمع، فينبغي أن نتلمَّس أسبابها في بذورها الأولى عند الصبيان الذين انطبعت نفوسهم على طريقةٍ خاصة في فهم الدين يصعُب التحوُّل عنها.
ومن النتائج التي ترتبت على اضطلاع أهل السُّنَّة بالتعليم العام جمود التعليم ووقوفه عند طريقةٍ لا يتطوَّر عنها، والسِّرُّ في ذلك أن غايتهم القصوى هي حفظ القرآن، وغرَضَهم هو تلقين أصول الدين، مع الابتعاد عن تعليم أي مسألةٍ من مسائل الدنيا إلا ما قضَتْ به الضرورة. ونقول: إنه انتهى الحال في الكتاتيب بصورة عَملية إلى حفظ القرآن والكتابة والقراءة فقط. ولطول العهد بهذه الطريقة التي دارت مع الزمان، واتَّبَعَها الناس قرنًا بعد قرن، آمنوا أنها الطريقة الوحيدة التي ينبغي اتِّباعها. ولَمَّا كان القرآن ثابتًا لا يتغيَّر، ولمَّا كان الصبيان لا يتعلَّمون في الأغلب إلا القرآن، فإنك قد تدخُل الكتاتيب في القرن الرابع، فلا تجِد فيها فارِقًا عن الكتاتيب في القرن الرابع عشر إلا في بعض أمور شكلية.
(٤) الغرض من التعليم
الغرَض من تعليم الصبيان عند القابسي، وعند فقهاء أهل السُّنَّة جميعًا هو معرفة الدين، عِلمًا وعملًا.
والقابسي ينظُر إلى الحياة، ولا يبتغي منها إلا وسيلة إلى الآخرة، فهو يُسرف في نظرته الدينية، ويجعل الإنسان يستغرِق جميع أوقاته، وجميع أعماله في سبيل الدين وباسم الدين.
وليس هذا المَوقف غريبًا عن القابسي وهو التقي الصالح، الورِع الحافظ للقرآن والسُّنَن وأصول الدين وأصول الفقه.
ولم يكن القابسي في حقيقة الأمر إلا مرآةً للعصر الذي عاش فيه، يصِف ما يفعل الناس ويُثبتهم في هذا العمل الصالح. وكان العصر كلُّه عصر دين تَغلَّبَ على النزعات المادية، وكان الناس قريبي العهد بالزمن الأول الذي عاش فيه الصحابة والتابعون فلم ينسَوا ما كانوا عليه من سيرة روحية ترمي إلى ابتغاء مَرضاة الله، والعمل للدار الآخرة.
وتمييز الغرَض في الذهن ضروري لتحديد وسائل العمل، وكان الغرَض من التعليم واضحًا في ذهن القابسي، وفي ذهن مَنْ تقدَّموا من قبل منذ عصر النبي. كانوا يقصدون إلى تعليم المُسلمين الدين، مما لا يتيسَّر إلا بمعرفة بعض المبادئ التي تُكتَسَب بالتعليم.
ومن هذه المبادئ القراءة والكتابة، لا على أنها غاية في ذاتها يُكمِّل الإنسان بها نفسه، بل على أنها سبيل إلى سهولة تحصيل عُنصر عام من عناصر الدين وهو القرآن، ولذلك افتدى النبي عشرةً من أسرى بدر بتعليم أبناء المسلمين القراءة والكتابة. والقرآن هو كتاب المسلمين الذي يجمع في آياته قواعد الدين، وأسرار العقيدة. وإذا كان لأصحاب الديانات المختلفة كتُب سماوية أو غير سماوية، فإنها لم تبلُغ مبلغ القرآن في تأكيده أنه كلام الله وتنزيل العزيز الحكيم، ممَّا يجعله أكثر قداسة، وأبعد عن الشكوك والرِّيَب، وأدعى إلى القبول. ومعرفة القرآن ضرورية لمعرفة الدين، حيث لا تتمُّ الصلاة إلا بقراءة شيءٍ من القرآن فيها. والصلاة مفروضة على المُسلمين لأنها ركن من أركان الدين، ولذلك يقول القابسي كما يقول الفقهاء: «وقد أُمِر المسلمون أن يُعلِّموا أولادهم الصلاة والوضوء لها.» ويقول أيضًا: «إن حُكم الولد في الدين حُكم والده ما دام طفلًا صغيرًا. أفيدَع ابنه الصغير لا يُعلمه الدين؟ وتعليمه القرآن يؤكد له معرفة الدين.» وهذا كله واضح الدلالة في أن الغرَض الأول من التعليم هو معرفة القرآن والصلاة، أي معرفة الدين علمًا وعملًا. غير أن القابسي لم يَبسط الموضوع على الأساليب الحديثة، التي تُقدِّم الأغراض ثم تسُوق الوسائل لخدمتها، ولكننا نتلمَّس الأغراض عندَه من خلال ما كتب، ونقول إنَّ تخصيصه فصلًا عن الإيمان والإسلام، لم يكن إلا نوعًا من تحديد الغرض للتعليم. ونتلمَّس أيضًا غرَضه مما كتب عن تعليم البنت، فهو يُريد أن يُعلمها القرآن والعبادات المُختلفة لأنها فُرِضت على المؤمنين ذكورًا وإناثًا. ولكنه إذ يقول إن سلامتَها من تعلُّم الخط أنجى لها، يُبين لنا أن غرَضه من التعليم هو الاقتصار على معرفة الدين ويُضحِّي بتعلُّم القراءة والكتابة إذا خشي فسادها.
ومن هنا اتصل التعليم بالدين اتصالَ الوسيلة بالغرَض.
ومن النتائج المُهمة التي ترتَّبت على هذه الصلة الضرورية، أن الديانة الإسلامية تُسوِّي بين العباد ولا تُفضل عربيًّا على أعجمي إلا بالتقوى، ولا تقصُر معرفة الدين على فئةٍ دون فئة؛ وقد حرص المسلمون من أول الأمر على نشر الدين، والمُساواة بين الناس في مقدار إنسانيتهم. فإلى جانب ما هو موجود في القرآن من النص على هذه المساواة، فإن سيرة النبي والصحابة والخلفاء الراشدين تُبين بطريقةٍ عملية امتناع التفاوت بين الناس في الأقدار والمنزلة الاجتماعية، على العكس من ذلك ساروا سيرة التواضُع والبساطة والإقلال، مما يجعلهم يقتربون من العامة لا من الخاصة أو أوساط الناس. كان النبي يخصف نعلَه ويرقع ثوبه، وقد ثارت فئة من المُسلمين على عثمان بن عفان لأنه ابتنى الدُّور والقصُور مما لم يُعهَد عن رسول الله، ذلك لأن حرص المسلمين كان على السَّبْق في المنزلة الدينية. فإذا كان الجميع سواء أمام الله، فأفضلهم عند الله أتقاهم. ودار الزمن وأثرى المسلمون، وأسلم كثيرٌ من الأعاجم، وأقبلت عليهم الدنيا، وبقِيَ هذا الروح الذي يُعبَّر عنه بالاصطلاح الحديث بالروح الديمقراطي قائمًا، لا يجرؤ أحد أن يُخالفه. ومما يساعد على انتشار هذا الروح ويمنع من تغيُّره ويعمل على بقائه وتثبيته، صلاة الجماعة التي يقِف فيها الغَني إلى جانب الفقير، والأمراء إلى جانب السُّوقة. لكل هذا لم يستطع أحد من المسلمين أن يدَّعي احتكار الدين لنفسه، يبيعه بعد ذلك لمن يريد طلبه، أو يكون واسطةً بين هؤلاء الطالبين وبين الله؛ ومع ذلك فقد درجت في الإسلام في عصور مُتقدِّمة ومتأخِّرة كثير من النظريات يبغي أصحابها احتكار العِلم والدين، مثل بعض فِرق الشيعة، وإخوان الصفا، ومُتأخري المتصوِّفة الذين اصطنعوا نظرية الأقطاب والأولياء يتوسَّطون بين المُريدين وبين الوصول إلى معرفة الله. ولكن جميع هذه التيارات وأمثالها لا تنفي أن يتعلَّم الناس جميعًا القرآن والعبادات الشرعية المفروضة كالصلاة والزكاة، وهي مذاهب يتحوَّل إليها المسلمون بعد مرحلة الشباب لا قبلها؛ لأن فهمها يحتاج إلى سَعة درْك وعُمق تفكير. ويبقى بعد ذلك أن الصبيان ينبغي أن يتعلموا القرآن والصلاة، وأن تعليمهم هذه المبادئ لا يتَّسِع معها الخلاف أو الجدل، وأهم من هذا كله أن الإسلام يتوجَّهُ إلى الجميع فلا بدَّ أن يتعلم الجميع.
فالديانة الإسلامية في طبيعتها النظرية من حيث العقيدة، وفي روحها الذي درج على تفسيره رجال الدين في عصوره المختلفة، تدعو إلى نزعةٍ ديمقراطية وتنحو ناحية المساواة.
وقد أثرت هذه النزعة في التعليم أثرًا كبيرًا، إذ إن تأصُّل فكرة الديمقراطية والمساواة الدينيتَين، انتقلتا إلى التعليم أيضًا.
وقد تنبه المسلمون منذ عصر النبي إلى قيمة التعليم في معرفة الدين معرفةً صحيحة. وكان التعليم ضروريًّا في ذلك العهد لحاجة النبي والخلفاء من بعده إلى نشر الإسلام بين سكان جزيرة العرب الذين يدينون بالوثنية، وبين الفرس الذين يدينون بالمجوسية، وبين أهل الكتاب، فلمَّا أسلم أهل تلك البلاد المُختلفة في خلال قرنٍ أو قرنين من الزمان، لم تبطُل الحاجة إلى التعليم، لتفقيه الأبناء شئون دينهم المفروض عليهم.
(٥) إلزام التعليم
وكان التعليم في بَدء الأمر تطوُّعًا في سبيل الله. ثم انتظم التعليم في الكتاتيب والمدارس، وتناول المُعلمون الأجر. فأصبحت المسألة التي تُواجِهُ الفقهاء هي البحث في تعليم الصبيان أواجِبٌ هو أم لا؟ وإذا كان واجبًا، فمَنْ هم المُكلفون بذلك؟ وما هو نوع التعليم الذي ينبغي أن يكتسِبه الطفل؟ إلى غير ذلك من المسائل الطارئة في الإسلام، والتي لم يحكُم فيها فقهاء العهد الأول في الإسلام، وهم المُتَّبَعُونَ في الأحكام.
والمعروف أنه بعد استقرار المذاهب الأربعة في الأمصار، أصبح باب الاجتهاد عسيرًا، بحيث يحتاج الفقيه إلى كثيرٍ من الجرأة في الفكر والاعتدال في الرأي ليخرج على الناس بحُكمٍ جديد.
وقد كان القابسي، على الرغم من اتباعه الدقيق لشيوخه الفقهاء، جريئًا في مسألةٍ من المسائل الاجتماعية التي شقَّ بها الطريق لمن جاءوا بعده؛ تلك هي مسألة إلزام التعليم التي أحسن عرضَها، وساقَها في تطوُّرها مع التاريخ حتى وصل بها إلى العصر الذي يعيش فيه، إلى أن بسطَها الفقهاء الذين خلَفوه بسطًا جديدًا، ولكنه أحس بها إحساسَ مَنْ يلتمِسها التماسًا، ويدور حولها دوَران مَنْ يشعُر بغموض الفكرة.
وإلزام التعليم خطاب للمجتمع بأسرِه لا لبعض الأفراد فيه.
فالقابسي يريد أن يُعلِّم أبناء الشعب جميعًا؛ لأنه يريد أن يَنشُر الدين ولا يحرِم أحدًا.
ولم يرد في القرآن نصٌّ على وجوب التعليم، ولا يُوجِب الحديث مثل ذلك، ولم يُعهَد عن الصحابة والتابعين أنهم أوجبوا على الناس تعليم أبنائهم وإرغامهم على إرسالهم إلى الكتاتيب، أو استحضار المُعلمين لهم، والكِتاب والسنة والإجماع هي الأصول التي يرجع إليها الفقهاء في أحكامهم. وليس غريبًا أن نجد القرآن خلوًا من نصٍّ على التعليم، فلم يكن في العهد الذي نزل به القرآن كتاتيب، إلى جانب أن التعليم في الكتاتيب من الأمور الدنيوية البحتة التي لا يتعرَّض لأمثالها القرآن وإنما يتركه لتصرُّف العباد.
لذلك احتال القابسي للحُكم في هذه المسألة الجديدة التي لم يسبقه إليها أحد. وبين أيدينا كتاب ابن سحنون ممَّا دوَّن عن أبيه في التعليم، فلا نجد فيه ذكرًا لهذا الموضوع.
وأدلة القابسي قوية أخَّاذة تنقلك من فكرةٍ إلى أخرى حتى ينتهي بك إلى أن تعليم جميع الصبيان ضروري واجب، وأن هذا الوجوب هو الوجوب الشرعي، على طريقة الفقهاء.
ذلك أن معرفة العبادات واجبة بنص القرآن، ومعرفة القرآن واجبة أيضًا لضرورتها في الصلاة، وأن الوالد مُكلف تعليم ابنه القرآن والصلاة لأن حُكم الولد في الدين حُكم أبيه. فإذا لم يتيسَّر للوالد أن يُعلم أبناءه بنفسه فعليه أن يُرسلهم إلى الكُتَّاب لتلقِّي العلم بالأجر، فإذا لم يكن الوالد قادرًا على نفقة التعليم فأقرباؤه مُكلفون بذلك. فإذا عجز أهله عن نفقة التعليم فالمُحسِنون مُرَغَّبون في ذلك، أو مُعلم الكتَّاب يُعلِّم الفقيرَ احتسابًا أو من بيت المال.
النتيجة التي يريد أن يصِل إليها القابسي هي تعليم جميع أبناء المسلمين؛ أغنياء وفقراء. وهذا هو التعليم الإلزامي بعينه أعلنَه القابسي في القرن العاشر الميلادي أي في صميم القرون الوسطى التي كان أهل أوروبا يعيشون فيها مع الجهل والظلام.
وتختلف فكرة الإلزام التي نبسطُها عند القابسي عنها في الدول الحديثة؛ ووجه الخلاف راجع إلى تطوُّر النُّظُم الاجتماعية، وتطوُّر الفكرة عن الدولة ووظيفتها. والرأي الحديث أن الدولة مُكلفة تعليم جميع أبناء الشعب حتى سِن مُعينة دون أجر، فالتعليم واجب على الدولة تُنفق عليه من خزائنها. ومن ناحيةٍ أخرى على الشعب واجب العِلم، وهو واجب قانوني يُعاقَب صاحبه بالغرامة إذا لم يُؤدِّه. ولم تُفصَّل الحقوق والواجبات في العصور القديمة هذا التفصيل، وإنما كانت الحقوق والواجبات كلها دينية، والعقاب عليها مُستمدًّا من الدين، ويقوم الحاكم أو الوالي بتنفيذ هذه العقوبات. أشار القابسي إلى شيءٍ من ذلك إذ سأله سائل عن حالة الوالد الذي يمتنع عن إرسال ابنه إلى الكُتَّاب يتلقَّى الدين والعِلم «هل للإمام أن يُجبره؟» فأجاب القابسي أنْ ليس للإمام أن يُجبره، وإنما يُوعَظ ويُؤثَّم. وإذَنْ فقد عُرِضت المسألة على بساط البحث، وأوشكت أن تتمَّ أركان الإلزام من ناحية الدولة، لولا تردُّد الفقهاء في الحُكم؛ لأن عقاب الوالد في حالة الامتناع عن إرسال ابنه إلى الكُتَّاب يحتاج إلى دليلٍ شرعي من الكتاب أو السنة أو الإجماع، وليس فيها مثل هذا النص.
على أن المسألة اتَّجهَت وجهةً أخرى هي تطوُّع الأغنياء والأمراء بالإنفاق على الكتاتيب وإجراء الأموال عليها لتستمرَّ على الحياة، وإذا تيسَّر افتتاح الكتاتيب وإقامة المُسلمين فيها بالأجر، فليس ما يمنع الناس من إرسال أبنائهم إليها، ويحلُّ عمل الأمراء محلَّ الدولة. هؤلاء هم المُحسِنون الذين أشار إليهم القابسي. وقد كانت هذه العادة مُتَّبعة فعلًا بتأثير حثِّ الفقهاء الناس على طلب العِلم والتعليم، والإشادة بفضل العلم.
وفي كتب التاريخ والتراجِم إشارات كثيرة إلى المساعدات العظيمة التي قام بها الأمراء لافتتاح الكتاتيب.
ولم يقِف الأمر عند هذا الحد، بل تطورت الفكرة إلى شيءٍ أسمى من ذلك وأكثر استقرارًا وأشدَّ ضمانًا لحياة الكتاتيب، وفي حياتها حياة لتعليم الصبيان، تلك هي رصد الأوقاف على الكتاتيب والمدارس، وبذلك تتمُّ حلقات هذه السلسلة الطويلة في تاريخ التعليم، والجهاد في سبيل نشره وإلزامه؛ إذ تبدأ بالتطوُّع ثم تَستقرُّ شيئًا فشيئًا مع الزمان حتى تنتهيَ إلى الوقوف عند الأوقاف المرصودة على التعليم.
(٦) تعليم الإناث
وتتمُّ هذه الحلقة في إلزام التعليم بإشراك البنت إلى جانب الولد في هذه الفضيلة. وقد أقرَّ القابسي هذا المبدأ لها، واعترف بحقِّها في التعليم وهو يُقرر ذلك في سبيل الدين؛ لأن المؤمنين والمؤمنات مُكلفون جميعًا بنص القرآن، ولا تتيسَّر معرفة الدين إلا بنوع من التعليم.
ولم يكن تعليم المرأة في الإسلام بدعة، فالمعروف أن كثيرًا من النساء نبغنَ في العلم والأدب والشعر، وجاء ذِكرهن ونوادرهن في كتب الأدب والتاريخ، ولكن المسألة هي إلزام تعليمهنَّ لا على سبيل الزينة بل على الوجوب الديني. فإذا أفتى الفقهاء بوجوب تعليمهن بأسانيد دينية، فليس ما يمنع من تعليمهن كما يتعلم الصبيان، وليس ما يمنع من ذهابهن إلى الكتاتيب في الصغر. فانتشار التعليم في البنات روح جديد لم يكن معهودًا في الزمن الأول للإسلام. أما الذي كان معروفًا في بدء الإسلام، وقبل الإسلام، فهو أن عددًا قليلًا يُعَدُّ على أصابع اليد الواحدة من النساء كُنَّ يعرفن القراءة والكتابة؛ والأمر في ذلك يُشبه عدد الرجال الذين كانوا يقرءُون ويكتبون عندما أقبل الإسلام.
عن البلاذري: «قال النبي للشفاء بنت عبد الله العدوية من رهط عمر ابن الخطاب، ألا تُعلِّمين حفصة رُقية النملة كما علَّمْتِها الكتابة؟» وكانت الشفاء كاتبةً في الجاهلية.
هذا ما كان من شأن المُتعلمات في فجر الإسلام، وقد استمرَّت هذه السُّنة مُتبعة جيلًا بعد جيل، فكان الأمراء يُعلمون بناتهم في داخل القصر ويجلبون لهنَّ المُعلمين والمُؤدِّبين.
ونستدل ممَّا كتبه القابسي أن البنات كُنَّ يتعلمن في الكتاتيب حيث قال: «ومن صلاحهم ومن حُسن النظَر لهم ألا يُخلَط بين الذكران والإناث، وقد قال سحنون أكرَهُ للمُعلم أن يُعلم الجواري ويخلطهنَّ مع الغلمان؛ لأن ذلك فساد لهنَّ.» ٥٧-أ.
واختلاط الجِنسين في التعليم من المسائل الشائكة التي واجَهَها العالَم من قديم الزمان، ولا يزال يُواجِهها حتى الآن في العصر الحاضر. والأقوال في هذه المسألة مُتضاربة، هل نجمعهما في التعليم، أم نفصِل بينهما، وأي الأوقات أنسب لفصلهما؟
مما سبق يتَّضِح لنا أن معرفة الدين هي الغاية القصوى والمطلوب الأول، وتحقيقًا لهذه الغاية وجب التعليم ومعرفة القراءة والكتابة، لا في دائرة ضيقة، بل في أوسع دائرة بحيث تشمل جميع أفراد الأمة ذكورًا وإناثًا.
(٧) مناقشة الغرض من التعليم
ولم يذكر القابسي من الأغراض التي يبتغيها الإنسان حين يتعلَّم إلا الغرَض الديني.
وكِلاهما يأخذ هذه الأغراض من شتَّى المؤلفات العربية، مثل تعليم المُتعلم للزرنوجي، وجامع بيان العلم لابن عبد البر، وإحياء العلوم للغزالي، وكشف الظنون لحاج خليفة، ومفتاح السعادة لطاش كبري زادة، ورسائل إخوان الصفا.
والرأي عندنا أنه لا يُوجَد أغراض للتربية عند العرب تعمُّهم على وجه الإطلاق، وإنما الصواب أن نذكُر صاحب المذهب ثم نذكر الغرَض من التعليم الذي يُلائم هذا المذهب. فطريقة التعليم مُستمدَّة من مذهب صاحبها.
والغرض من التعليم عند القابسي، وهو من فقهاء أهل السُّنَّة، غرض ديني يقصد منه إلى تعلم القرآن ومعرفة العبادات المفروضة.
وقد أوجزْنا القول في فصلٍ آخر عن التربية عند العرب، وعرَضْنا هذه المذاهب المختلفة، لنُبين أن الاختلاف في أغراض التعليم ووسائله عند المُسلمين إنما يرجع إلى اختلاف هذه المذاهب العقلية.
على أن القول بأن من أغراض التعليم عند العرب كسب المنزلة الاجتماعية قول جريء يحتاج إلى دليل.
ولا نريد أن نستقصيَ جميع كُتَّاب المسلمين لتصحيح ما أخذه عنهم الباحثون في التربية، والرأي عندنا أنهم جميعًا جعلوا الغاية من التعليم غايةً دينية، وأكَّدوا هذه الغاية تأكيدًا لا يقبل الشك، وإذا كان بعضهم وجد أن التعليم يُحقق أغراضًا اجتماعية أو عقلية أو مادية، فإن هذه الغايات الأخيرة تأتي في المرتبة بعد الغاية الدينية، وليست مقصودة لذاتها، ولم يَفُتْهم النص على إيثار الدين على الدنيا في جميع الأحوال.
هذا إلى أن البحث في التعليم عمومًا يختلف عن البحث في تعليم الصبيان، والغرَض من تعليم الصبيان هو معرفة الدين قبل كل شيء. ولذلك أوجبوا تعليمهم.
وإذا نظرنا إلى المواد التي كان يتعلَّمُها الصبيان في الكتاتيب تَبيَّن لنا أن الغاية التي حددت هذه العلوم هي الغاية الدينية، وأول هذه العلوم هو القرآن الذي يحفظه الصبي قراءةً وكتابة، فالكتابة ليست مقصودة لذاتها من حيث فائدتها الاجتماعية أو العقلية أو المادية، بل لسهولة حفظ القرآن وتقييده، للرجوع إلى المكتوب المُقيَّد في أي وقتٍ يشاء الصبي، والنحو والعربية الغرَض منهما قراءة القرآن على الوجه الصحيح وحُسن فهمه. وقد نص القابسي على أن تعليم الحساب ليس بلازمٍ إلا إذا اشتُرط عليه. وقد بحث الفقهاء بعد هذا العصر في تعليم الحساب، والتمسوا له علةً دينية هي الفائدة في معرفة المواريث وقِسمتها كما هو وارد في الشرع، فإذا كانت هناك ضرورة لتعلُّم الحساب فهي إذَنْ ضرورة شرعية لا اجتماعية أو مادية.
لقد بدأ القابسي كتابه بفصلٍ عن الإيمان والإسلام، واختتمه بفصلٍ في القراءات والكلام عن فضل المُقرئين، وبهذا يبدأ الصبيُّ مؤمنًا مُسلمًا وينتهي قارئًا للقرآن.